مقالٌ لموسى السادة يغوص عميقاً في تاريخ العلاقات السعودية الصهيونية، يحاجج فيه أنّ المشهد الراهن ليس وليد تجربةٍ ووعيٍ معاصرَيْن، إنّما تتويجٌ لسياقٍ تاريخي طويل من تمثيل السعودية دولةً وظيفيةً تخدم المصالح الغربية. قراءة مثرية
توطئة
تبحث هذه الورقة في سياسات علاقات السعوديّة بالكيان الصهيونيّ، متتبّعةً إرثها التاريخيّ بخصوص ذلك، وصولاً إلى المشهد اليوم. ترى المقالة أنّ المشهد التطبيعيّ اليوم ليس وليد تجربةٍ ووعيٍ معاصرَيْن، إنّما تتويجٌ لسياقٍ تاريخيٍّ طويلٍ من تمثيل السعوديّة دولةً وظيفيّةً تخدم المصالح الغربيّة. لكنّ الفارق أنّ سياساتها التطبيعيّة حيال العدوّ لم تكتسب شكلاً متجانساً على مدار العقود الماضية، إنّما تُرجمت إلى أشكالٍ وتعقيداتٍ وتأطيراتٍ مرجعيّةٍ متنوّعةٍ، وفقَ ما يقتضيه الظرف التاريخيّ.
تنطلق هذه المقالة من فكرتين رئيستَيْن، أولاهما ترويجُ السعوديّة التاريخيّ لمكانتها الاعتباريّة المقدّسة لإحراز التنافس الشكلاني على تبنّي قضية فلسطين، بهدف إزاحة تياراتٍ أخرى كانت تشغلها فلسطين. ومن جهةٍ أخرى، شكّلت هويّتها الدينيّة مرجعيّةً هامةً على صعيد إعادة إنتاج التطبيع من بوّابة نزع القوميّة عن الصراع، وتحويله إلى دينيٍّ محض، وبالتالي الدعوة مؤخّراً إلى التسامح والاعتدال الدينيَيْن مع الصهاينة بوصفهم “يهوداً” حصراً.
وثانياً، تأدية السعوديّة دوراً مزدوجاً يجمع بين مظلتيْ الطائفيّة والليبراليّة، اليوم، بهدف شرعنة التطبيع وجعله أكثر علانيّةً. بالتالي، تبحث المقالة، من جهةٍ، في السياسات الطائفيّة التي كرّستها المملكة، بغية إحلال “عدوٍّ” بديلٍ عن العدوّ الوجوديّ الأوّل للإرادة العربيّة. وتضيء، من جهةٍ أخرى، على التحوّلات الاقتصاديّة والسياسيّة التي أفرزتها السياسة الليبراليّة السعوديّة، اليوم، وانعكاساتها على طبيعة صياغة العلاقة ما بين السعوديّة والدولة الصهيونيّة، إذ اقتضى لحاق السعوديّة الجديدة بركب الحداثة الغربيّة، وإنماء هويّتها العصريّة ضمن سيرورتها، نظرةً حصريّةً إلى العدو بوصفه كياناً “متنوّراً” تجب الاستفادة منه، تزامناً مع تصوير الالتزام بقضية فلسطين شأناً رجعيّاً خشبيّاً يقوّض الرؤيّة الليبراليّة للمملكة ذات الخطاب الانعزاليّ.
مدخل
في البداية، وجَب تبيان موقع المملكة العربيّة السعوديّة في السياق التاريخي والجيوسياسي للمنطقة العربية. نشأت الدولة السعوديّة الثالثة تحت إشراف المستعمِر البريطاني بشكلٍ مباشرٍ. وفي ظلّ صراع الأخير مع الدولة العثمانيّة، وأفول دوره المهيمن في المنطقة، وانتقاله إلى الولايات المتحدّة الأمريكيّة، انتقلت الدولة السعوديّة كذلك من ظلّ هيمنة الإمبراطوريّة البريطانيّة إلى نظيرتها الأمريكيّة. انتقالٌ كرّسه اللقاء الشهير بين الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفيلت” على متن السفينة الحربيّة “كوينسي” في شباط 1945؛ أيّ قبل النكبة بأقلّ من ثلاث سنوات.
يحيلنا هذا التموضع التاريخي للمملكة حديثة النشأة في ظلّ المعسكر الغربي إلى دورها السياسي والاقتصادي منذ الأربعينيّات حتى يومنا الحاضر، إذ تقاطعت نشأتها مع سياق تأسيس الدولة الصهيونيّة على الأراضي العربيّة في فلسطين، وذلك من جهة الرعاية والدعم الاستعماري الغربي في الحالتين. فعلى الرغم من عدم تمثيل الإنجليز وجهاً استعمارياً غازياً للأراضي السعودية، إلا أنّهم أضفوا الشرعيّة على الدولة أثناء مخاض ولادتها، إذ وقّعوا اتفاقية “دارين” الحدوديّة مع الملك عبد العزيز عام 1915، ليعترفوا بموجبها بمملكة نجد كدولةٍ على الرغم من افتقارها للبنية البيروقراطيّة المنظّمة، حيث كانت هذه المملكة عبارةً عن جيشٍ قبائليٍّ يتوسّع جغرافياً عبر حملاتٍ عسكريّةٍ. وعليه، وانطلاقاً من هويّة السعودية كدولةٍ وظيفيّةٍ شكّلتها المصالح الغربيّة، يمكننا أن نقلب التساؤل القاضي بالبحث عن أسباب تطبيع المملكة العربيّة السعوديّة في الوقت الراهن، إلى البحث في كيفيّة تمكّن المملكة طويلاً من التوفيق بين دورها الغربي والعداء والخصومة المعلنة مع الكيان الصهيوني.
الدور السعودي في الصراع العربي الصهيوني
تاريخيّاً، تمحورت السياسة والاستراتيجيّة السعوديّة حول كيفية حماية وتمكين حكم العائلة المالكة -آل سعود- وإطالة عمر هذا المُلك أطول مدةٍ ممكنةٍ، وهو أمرٌ تتشارك فيه مع معظم الممالك تاريخيّاً. لذلك، اتّسمت سياستها بالبراغماتيّة بأقصى درجاتها في التعامل مع تغيّرات المحيط العربي، أو حتى الإسلامي. تعاملٌ مؤطّرٌ ضمن مساحة الحركة المرِنة التي تتيحها القوى الغربية لحلفائها، وترسمها تفاعلات قواعد اللعبة الإقليميّة.
انطلاقاً من ذلك، يمكننا تقسيم الدور السعودي في الصراع العربي الصهيونيّ إلى ثلاث مراحل: مرحلتان سبقتا نهاية الحرب الباردة، ومرحلةٌ تلتْ تسعينيّات القرن الماضي، والتي تعبّر السياسة السعوديّة اليوم عن أوجها. امتدّت المرحلة الأولى منذ بداية النكبة مروراً بالناصرية إلى نهاية حرب تشرين/أكتوبر، أعقبتها المرحلة الثانية ما بعد اتفاقيّة “كامب ديفيد”، وصولاً إلى المرحلة الراهنة منذ انتصار المعسكر الغربي، ومؤتمر “مدريد” و توقيع اتفاقيّة “أوسلو”، وما تسمّى اليوم بـ”صفقة القرن”.
المرحلة الناصرية إلى نهاية حرب أكتوبر
استوجب الوقع المدوّي للنكبة على الشعب العربي مشاركة الجيش السعودي في تلك الحرب، ليقدّم العديد من شهدائه المتحدّرين من مختلف المناطق، خصوصاً الحجاز، والجنوب من مناطق عسير وجازان ونجران.
مثّلت المرحلة الزمنيّة التي أعقبت النكبة وصولاً إلى ما قبل نكسة حزيران عام 1967، أوجَ التضامن العربي الرسمي مع فلسطين، كقضيةٍ عربيّةٍ، إذ ساهم طغيان المدّ القومي واليساري وخطاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر على المجال السياسي العربي، في خلق مزاجٍ جماهيريٍّ عربيٍّ معادٍّ للصهيونية.
وصل هذا التغلغل إلى داخل المملكة ليأخذ أشكالاً عدّةً من التضامن، سواءً المرعيّة من الدولة كحملات التبرعات الماديّة، أو الشعبيّة كالتجمّعات والإضرابات العماليّة [1] التي خاضها العمّال العرب، ومن ضمنهم السعوديون، في مناطق شركة الزيت العربيّة الأمريكيّة (أرامكو) شرق المملكة. كانت هذه الإضرابات والتجمّعات أول تجسيدٍ للأثر الثقافي والسياسي الذي جلبه العمّال العرب، من مدرّسين وتقنيّين وغيرهم، خصوصاً الفلسطينين بعد النكبة، حيث شكّل جميعهم النواة الأولى للبنية البيروقراطية السعودية الحديثة.
انسحب هذا الأثر الثقافي المحمّل بالأفكار القومية واليسارية والماركسية على السعوديين مع مرور الزمن، لتنشأ تياراتٌ سياسيّةٌ سعوديّةٌ كالحزب الشيوعي السعودي وحزب البعث السعودي والجبهة الوطنية وغيرها، والتي جمعتها علاقاتٌ قويّةٌ بنظرائها في العراق وسوريا وفلسطين.
دفع هذا المزاج العربي المهيمن والمعادي للصهيونيّة الخطابَ الرسمي السعودي إلى التنافس مع نظيره الناصريّ في إعلان التضامن العربي مع فلسطين. تمّ ذلك في ضوء استدعاء المكانة الإسلامية المفترَضة للمملكة، إذ توجّب الوقوف مع الشعب الفلسطيني تحت عناوين نصرة شعبٍ مسلمٍ، وعبْر استنفار الهويّة الإسلاميّة، ومنح الصراع صبغةً دينيّةً صرفة. وعليه، برزت مواقفُ كثيرةٌ لملوكٍ سعوديين، خصوصاً الملك فيصل تجاه القضية الفلسطينية، والتي ما تزال رهن التداول حتى يومنا هذا بوصفها إرثاً سعوديّاً لملكٍ دعم القضية الفلسطينيّة يوماً. بل وصل الأمر حدّ المبالغة بالقول إنّ اغتيال الملك فيصل حلّ على خلفية هذا الموقف، وهو أمرٌ عارٍ عن الصحة، إذ جاء اغتياله ضمن الصراعات الداخليّة السعوديّة بين المحافظين وقادة كوكبةٍ من التغييرات الاجتماعيّة في تلك المرحلة.
لا يُمكن فصل موقف المملكة المُعنوَن إسلاميّاً عن الاستنفار الديني المدعوم أمريكيّاً لمناهضة الشيوعيّة والتيارات التقدمية اليسارية، وذلك عبْر دعم التيارات الإسلاميّة، أهمها جماعة “الإخوان المسلمون”. فاستعانت المملكة بالخطاب الديني والتكفيري للحشد ضدّ الناصريّة، ولعلّ أبرز الشواهد وأكثرها انتشاراً العنوانُ العريض لمجلة “عكاظ” السعوديّة في الخامس من أيّار 1962: “جمال عبدالناصر كافرٌ بالإجماع”.
ومؤخّراً، أقرّ الأمير الحالي والملك الفعلي محمد بن سلمان بتلك الحقيقة، قائلاً في لقاءٍ صحفيٍّ إنّ تأجيجهم للوهابيّة كان خدمةً للأمريكيين. [2] ويضيف على ذلك وزير شؤونه الخارجية، عادل الجبير، في كلمةٍ ألقاها في أحد المراكز البحثيّة في واشنطن: “في الخمسينيّات والستينيّات تعاونّا لإسقاط الأنظمة الراديكاليّة ممثّلةً في ناصر وأسقطناها. وفي السبعينيّات والثمانينيّات فعلنا نفس الشيء، ونقلنا مصر من الكتلة المرتبطة بالاتحاد السوفيتي إلى المعسكر الغربي. وفعلنا نفس الشيء في الصومال، كما تعاونّا لإسقاط الاتحاد السوفيتي”. [3]
كان الموقف السعودي تجاه فلسطين في تلك المرحلة والمراحل التي ستليها ضرورةً عمليّةً للتوفيق بين الميل باتجاه التيار الجماهيري العربي المتضامِن مع فلسطين تحت مظلّة القيادة المصريّة وتجنّب الصدام معه من جهةٍ، وبين خدمة الأجندات الغربيّة خلال الحرب الباردة من جهةٍ أخرى، كالسماح بالتمركز العسكري الأمريكي على ضفاف الخليج، وتحديداً في قاعدة الملك عبد العزيز الجويّة في الظهران تحت ذرائع تأمين تدفّق النفط، وضمان احتكار شركات الأسلحة الأمريكيّة للسوق السعوديّة. [4]
تباينت نسب هذا التوفيق بين الميل للمعسكر الغربيّ ومسايرة الدور العربي الذي قادته مصر وفقاً للتجاذبات الإقليميّة، لتصل لأسوأ مراحلها خلال حرب اليمن التي اندلعت عام 1962، والصدام المصري السعودي المباشر فيها. انعكس الأخير على التموضع السعوديّ الذي لجأ بدوره إلى الدعم الأمريكي والبريطاني، بل وحتى سلاح الجوّ الصهيوني الذي نفّذ طلعاتٍ جويّةً وألقى أسلحته للمقاتلين اليمنيين الملكيين. [5] ولكن، سرعان ما تراجعت حدّة هذا التجاذب مع انتهاء حرب حزيران، ليلتقي الملك فيصل بالرئيس المصري جمال عبد الناصر إبّان قمّة الخرطوم الشهيرة.
أسّست قمة اللاءات الثلاث (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) لزخمٍ عربيٍّ رسميٍّ جديدٍ في محاولة لملمة آثار هزيمة الخامس من حزيران المدويّة، و الدخول في حرب الاستنزاف. لم يكُن الخطاب الرسمي السعودي بعيداً عن هذا الزخم الذي تصدّره الملك فيصل، غير أنّ هذا المسار في الخطاب الرسمي السعودي توازى مع مسارٍ آخر رعته المملكة منذ منتصف الخمسينيّات، والذي تمثّل في محاولة التيارات الإسلامية المدعومة سعودياً استغلالَ الهزيمة في خضمّ صراعها الأيديولوجي المناكف للناصريّة، وأخذَ شكل إعادة طرح أسئلة الهوية والحضارة ومدى القرب والبعد عن شؤون الدين والدنيا.
بلغ أوج المسار الرسمي السعودي مع حرب تشرين/أكتوبر لعام 73، عبْر عملية حظر النفط التي قادتها المملكة، حين قامت منظّمة الدول المصدّرة للنفط بقيادة السعودية بحظر تصدير النفط للولايات المتحدة الأمريكيّة وهولندا على خلفية دعمها وتسليحها الكيان الصهيوني. أنتج الحظر أزمة محروقاتٍ في مختلف الولايات الأمريكية، بما مثّل أقسى تباينٍ بين القيادة السعودية والغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة.
ومع إعلان بدء الحظر، وأثناء خطابٍ دعا فيه للجهاد والدّفاع عن المقدّسات، [6] مرّر الملك فيصل مناكفةً أيدولوجيّةً مع القومية العربيّة، بالقول: “نريدها قومة، نهضة، إسلامية، لا قوميّة ولا عنصريّة ولا حزبيّة”. عنونت جريدة الحياة السعودية يومها “الملك فيصل يردّ على استمرار الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل: وقف تصدير النفط السعوديّ إلى أمريكا”، مبرزةً خبراً مفاده أنّ القوات السعودية تحرز تقدّماً على جبهة الجولان. وتزامن ذلك مع نشر مختلف الصحف إعلاناً للجهاد، دعت فيه الداخلية السعودية المواطنين والمقيمين للجهاد والدفاع عن الدين.
استمرّ الحظر لمدّة ستة أشهرٍ لتتضاعف أسعار النفط ثلاثة أضعافٍ، وتلجأ الكثير من الدول الغربيّة إلى ترشيد استخدام الطاقة والمحروقات. فعلى سبيل المثال، حدّدت فرنسا سرعة السيارات القصوى بتسعين كيلومتراً في الساعة على جميع الطرق الفرنسية لترشيد استخدام الوقود، بينما لجأت كلٌّ من بلجيكا وهولندا إلى منع استخدام السيارات يوم الأحد واستبدالها بالخيول والعربات. وقد نتج عن تبعات هذا الحظر ما سُمِّي بـ “الصدمة النفطية” (Oil Shock)، والتي انعكست على شكل تأسيس الدول الأوروبية المستهلِكة وأمريكا وكالة الطاقة الدولية عام 1974، لتفادي أيّ صدماتٍ أخرى.
أثّر حظر النفط على مسار الحرب أيضاً، فتمكّنت القوات المصريّة والسوريّة من إحراز تقدّمٍ، خصوصاً على الجبهة المصريّة وتحرير سيناء. كما شكّل إحدى أهم الرافعات التي تُستخدم للدور السعودي المساهِم في القضية وجزءاً من إرث الملك فيصل، وحرصت المناهج التعليميّة على ذكر “استخدام المملكة لسلاح النفط الفعّال ضدّ الدول الداعمة لإسرائيل” تحت عنوان الجهود التاريخيّة للمملكة نصرةً للقضيّة الفلسطينيّة.
ويُمكن القول إن عملية الحظر مثّلت أقصى حالات المساهمة السعودية في الصراع مع العدوّ الصهيوني، ليتبعها مسارٌ تنازليّ لعب خلاله إرث الملك فيصل دوراً في صناعة محض مجدٍ تاريخيّ. مجدٌ استغلّته السعودية لتمرير البدء بمسارٍ تنازليّ منذ نهاية السبعينيّات على مبدأ أنّه أدّى قسطه من المشاركة في الصراع، بشكلٍ مشابهٍ، وإن كان بنسبٍ مختلفةٍ، لاستغلال الملك حسين لمعركة الكرامة وأنور السادات لحرب تشرين/أكتوبر. (سنأتي على ذكر مرحلة السبعينيّات والظروف الذاتية والموضوعية لهذا التباين)
بدأ استغلال زخم حرب تشرين/أكتوبر مباشرةً، ليشهد النصف الثاني من عقد السبعينيّات نقلةً نوعيّةً في مواقف الأنظمة العربية من الصراع مع العدوّ الصهيوني، والتي سعت للوصول إلى تسويةٍ مع الصهاينة وفقاً للمصالح الذاتية لكلّ نظام. انعكس ذلك أيضاً على قرارات المؤتمر الوطني الفلسطيني في عام 1974، والتي تبنّت إنشاء دولةٍ فلسطينيةٍ على جزءٍ من فلسطين، وهو ما عارضته بعض الفصائل الفلسطينية، وليتمّ تأسيس جبهة الرفض، بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وانتهى العقد بتوقيع اتفاقية سلامٍ بين مصر والعدوّ. أما الصراع، فتحوّل إلى مسألةٍ حدودية.
ما بعد “كامب ديفيد”
لم تكُن العوامل التي استند إليها الرئيس المصري الراحل أنور السادات، والممهّدة للتطبيع واتفاقيّة “كامب ديفيد”، معزولةً عن نتائج مسار السياسات السعودية في التحشيد الإسلامي المعادي لناصر، خاصةً بتحويل هزيمة الـ 67 إلى أزمةٍ ثقافيةٍ وهوياتيةٍ في الأمّة، تزامناً مع رفع شعار “الإسلام هو الحل”. بدأت المعادلة الساداتيّة للتطبيع من استغلال التقدّم العسكريّ في حرب تشرين/أكتوبر، وبثّ الخطاب الانعزالي عبر أسطورة “الهوية المصريّة” والمصالح “القوميّة” لمصر، إلى جانب محاباة “الإخوان المسلمون”، واللعب على الغرائز كإطلاق لقب “الرئيس المؤمن”، وصولاً إلى الجانب الاقتصادي وتحرير الاقتصاد المصريّ وبدء العهد النيوليبرالي.
كانت طبيعة الردّ السعوديّ على “كامب ديفيد” مزيجاً من الاعتبارات الذاتيّة وأخرى رسمتها ظروف المرحلة الزمنية. فمن جهةٍ، وبالذات بسبب احتلال مدينة القدس، لعب البعد الديني دوراً أساسيّاً في موقف المملكة وقيادتها من أيّ مسارٍ تسووي؛ لم تكُن إشكالية السعودية، والنظام العربي الرسمي عموماً، في جوهر فكرة التطبيع، إنّما في شروطه وظروفه وفقاً لمنظور مصالح كلّ نظامٍ.
ومن جهةٍ أخرى، شكّلت فترة نهاية السبعينيّات صعوداً كبيراً للحركات الإسلامية التي تصدّرت المشهد، وقد كان للسياسة السعودية أثرٌ كبيرٌ في تغذية هذا الصعود على مرّ العقود، لتمثّل مطلع الثمانينيّات ذروة عمليات التحشيد السعودية للجهاد العالميّ على خلفيّة استنفار الجهاديّين لأفغانستان، والوقوف ضدّ الثورة الإسلاميّة الفتيّة في إيران.
تُضاف إلى ذلك العوامل الداخليّة من عملية اقتحام الحرم المكّي بقيادة جهيمان العتيبي، والتي هزّت بدورها الداخل السعودي. تعاملت السعودية مع تلك الهزّة عبر تبنيها، لتبدأ بدعم ما يُسمّى بالصحوة، وهي عملية تحشيدٍ ممنهجةٌ للتيارات الدينية السعودية أمّمت خلالها الدولة جميع الحركات الإسلاميّة وضمّتها ومكّنتها لأجهزتها البيروقراطية بشكلٍ غير مسبوقٍ.
وحتّى في أوج خطابها الدينيّ المُعادي للناصريّة، تغلغل الخطاب التقدّميّ واليساريّ في البنية البيروقراطية السعودية وفي المجال الاجتماعي العام؛ من تأسيس الوزير حافظ وهبة الجبهة الوطنية للتحرير في عهد الملك سعود، إلى تخطيط مجموعةٍ من ضبّاط سلاح الجوّ القوميّين للانقلاب عام 1969، [7] وأوّل وزير نفطٍ سعوديّ عبد الله الطريقي، والذي أطلق عليه الأمريكيون لقب “الشيخ الأحمر” تهكّماً لميوله القومية و اليسارية. [8]
وعلى الرغم من تشكيل عقد الثمانينيّات أوجَ الخطاب الإسلامي الجهادي السعودي، تمّت عمليّاً عملية تحييدٍ لفلسطين، مع الإبقاء عليها للضرورة الدينيّة في صُلب الخطاب الديني، [9] والذي زاد أوجه مع الانتفاضة الأولى. [10] إلّا أنّ هذا الخطاب كان توازياً مع بدء المسار الدبلوماسيّ السعوديّ الذي يقوده ولي العهد حينها، فهد بن عبدالعزيز، للوصول لتسويّةٍ.
وممّا يميّز مسار التنازل السعودي هو حرص المملكة على بعدها العربي والإسلامي، ورهن أيّ خيارٍ تسوويّ بقبول وصدارة الفلسطينيين له وبوضع مدينة القدس والحرم القدسي. فعلى عكس مصر التي جنحت للانعزال وتمرير التطبيع كمصلحةٍ مصريةٍ، لم تكُن القيادة السعودية في وارد تحمّل تكلفة ذلك حينها، بل هدفت الاستراتيجية السعوديّة إلى حصر التمثيل الفلسطيني بشخص ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، والحصول على اعترافٍ رسميٍّ أمريكيّ بمنظمة التحرير، ثمّ التوصّل لتسويةٍ تمهّد لتطبيع الوجود الصهيوني فيما عدا الضفة الغربية و غزة و”إحلال السلام”. وفي لقاءٍ جمعه بأحد أعضاء “الكونجرس” أثناء زيارته للمملكة في آب 1975، قال ولي العهد فهد بن عبد العزيز إنّ السعودية تسعى للسلام شريطة اعتراف “الإسرائيليين” بالفلسطيني. أمّا بشأن القدس، فقد أجاب في لقاءٍ آخر جمعه بالأمريكيين في عام 1976 بأنّ مسألة السيادة “الإسرائيلية” على المدينة مرتبطةٌ بمواقف العديد من الأطراف العربية وغير العربية. [11]
وفي مقابلةٍ صحفيّةٍ مطوّلةٍ خُصص جزءٌ كبيرٌ منها للحديث عن القضية الفلسطينية، [12] كشف سفير المملكة السابق لدى “واشنطن” ورئيس الاستخبارات العامة سابقاً، بندر بن سلطان، المزيد من التفاصيل حول طبيعة مسار التسوية المرعي سعودياً، والذي أضاع الفلسطينيون خلاله “فرصاً تاريخيّةً” رعتها المملكة على حدّ وصفه. عمل الملك فهد بن عبد العزيز مع مختلف الإدارات الأمريكية، من “كارتر” إلى “كلينتون”، على بناء صيغ تنازليةٍ قُدّمت لياسر عرفات، جوهرها اعتراف منظمة التحرير بقراريْ مجلس الأمن 242 و338. وبدورها، ستعترف الإدارة الأمريكيّة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثلٍ وحيدٍ للشعب الفلسطيني وتفتح مكتباً رسميّاً لها في العاصمة الأمريكية. وينقل بندر بن سلطان أنّه وفي لقاءٍ جمع الملك فهد -ولي العهد يومها- مع ياسر عرفات لتقديم عرض “كارتر”، ردّ عرفات فرحاً: “أنت حرّرت فلسطين، حرّرت القدس”.
ومع تولّي فهد المُلك ووصول “ريغان” للرئاسة الأمريكيّة، تراكمت الجهود السعودية خلال الثمانينيّات لتسوية الصراع بالتعاون مع الإدارة الأمريكية. وبينما تكفّل الملك فهد بتقديم الدعم المالي لجماعات “الكونترا” المدعومة أمريكيّاً لمكافحة الشيوعية في “نيكاراغوا”، سعت المملكة إلى رسم بنودٍ جديدةٍ للمفاوضات في العاصمة السويسرية “جنيف”. ركّزت هذه الجهود على الحصول على اعترافٍ أمريكيّ بمنظمة التحرير برئاسة عرفات، وإيجاد صيغةٍ “مقبولةٍ” لوضع القدس. وأثناء أهم أحداث ذلك العقد من اجتياح لبنان وحصار بيروت إلى الانتفاضة الأولى، كان الإبقاء على منظمة التحرير المؤطّر الرئيس للسياسة السعودية، وإن عنى ذلك خروجها من بيروت وافتقادها لبنيتها المسلّحة، طالما بإمكانها لعب دور الممثل الوحيد القادر على الجلوس على طاولة المفاوضات.
انتصار المعسكر الغربيّ: دفعةٌ كبيرةٌ لمسار “السلام”
شكّلت بداية التسعينيّات مرحلةً جديدةً ليس في المنطقة العربيّة فحسب، بل حول العالم بأسره، وانقلبت موازين القوى العالمية مع بداية ما سُمّي بالقطبية الأحاديّة الأمريكية. دفع خروج الولايات المتحدة منتصرةً من الحرب الباردة الكثيرَ من النخب العربية والمثقفين للجنوح لمسارٍ عنوانه خطاب الواقعيّة السياسيّة، ومفاده أنّ الانتصار الغربيّ يأذن بمرحلةٍ جديدةٍ وجَب التكيّف معها، وبالتالي وجَب تحسين شروط الهزيمة أمام المدّ الليبرالي الجديد.
تمثّلت هذه المرحلة في مؤتمر “مدريد” واتفاقيّة “أوسلو”، وأعطت نهاية الحرب الباردة دفعةً مختلفةً لمسار السلام والتسويّة. عاشت البنى الثقافية والسياسية المشتبكة مع العدوّ، من أحزابٍ و كتّابٍ ومثقفين، حالة انحسارٍ. فيما ساهمت مشاهد القوة العسكرية الأمريكية إبّان حرب الخليج، والمشاركة العربية الرسمية في استعادة الكويت، في بدء تمرير الخطاب الواقعيّ على المستوى الإعلاميّ، ليُعاد تعريف القضية وفقاً للخطاب الرسميّ العربيّ من قضية العرب إلى قضية “أشقائنا” الفلسطينيّين. تُرجم ذلك أيضاً في انعقاد مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب عام 1996، تحت عنوان “مؤتمر صنّاع السلام”، والذي عمل كغطاءٍ ضدّ عمليات المقاومة المسلّحة، سواءً في جنوب لبنان أو العمليات الاستشهاديّة الفلسطينية. وعلى نفس المنوال، استغلّت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، موقف ياسر عرفات ومنظمة التحرير من حرب الخليج وغزو الكويت لبثّ موجة تقسيمٍ وأحقادٍ منظّمةٍ ضدّ الفلسطينيين.
ارتبط هذا التغيّر في الخطاب الإعلامي الرسمي العربيّ، والسعوديّ تحديداً، مع ظروفٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مغايرةٍ على المستوى الداخلي في المملكة. فمن الناحية الاقتصادية، كان للتدخل الأمريكي في حرب الخليج تبعاتُه على بنية السوق السعوديّة عبر انفتاحٍ أكبر على الشركات الأمريكية و الغربية، وهو أمرٌ لعبت اتفاقية “أوسلو” دوراً في تطبيعه. واختُتم العقد بجملة إصلاحاتٍ في قوانين الاستثمار الأجنبي تُوِّجت بتأسيس الهيئة العامة للاستثمار في نيسان 2000. [13]
ترافق هذا الظرف الاقتصادي مع تمايزٍ كبيرٍ للتيارات الإسلامية بعد مواقفها من استجلاب القوات الأمريكيّة للمشاركة في استعادة الكويت، وموجات اعتقالاتٍ لرموزها. وانعكس ذلك على دعم المملكة للتيارات الإسلاميّة في الخارج، خصوصاً خلال العشريّة السوداء في الجزائر، حين قال الملك فهد للجنرال الجزائري خالد نزار: “هؤلاء ليسوا مسلمين، عليك بالعصا، بالعصا”. [14] كما شهدت تلك الحقبة انخفاضٌ عامٌ للخطاب الديني السعودي الذي كان المحرّك الأساس لاتّخاذ مواقف مرتبطةٍ بالقضية الفلسطينية، ممّا أتاح فسحةً أكبر للتيّارات الليبرالية السعودية، والتي تمكّنت ولأوّل مرةٍ منذ عقود من تأسيس جريدةٍ رسميةٍ تُنسب إليهم، وهي جريدة “الوطن”، وما يحمل اسمها من إيمانٍ بفكرة الوطن والوطنية بعيداً عن الأممية الإسلامية، لتلقّب الصحيفة بـ “الوثن” ضمن دوائر الإسلاميين.
أثّرت كلٌ من الظروف الدولية والداخلية على التعامل السعودي إزاء مباحثات السلام خلال التسعينيّات، والتي لعبت فيها المملكة دوراً رئيسياً كحلقة وصلٍ بين إدارة “كلينتون” وعرفات. دورٌ تمحور حول ترسيمٍ حدوديٍّ مع الكيان الصهيوني يُفضي لدولةٍ فلسطينيةٍ ما، مع ترتيباتٍ أمنيّةٍ وحلّ مسألة اللاجئين بقانون “إعادة لمّ شملٍ للعوائل”، وفقاً لبندر بن سلطان. وقد كشف الأخير عن حوارٍ دار بينه وبين الملك فهد لدى سؤاله عن مصافحة رئيس الوزراء الصهيوني “إسحاق رابين” ووزير خارجيته “شمعون بيريز” في حفل تدشين مباحثات السلام في البيت الأبيض، فأجابه الملك: “انجنيت أنت؟ أبو عمار يسلّم عليهم وأنت ما تسلّم؟ كلنا تعبنا عشان فلسطين، كيف حلال على أبو عمار يسلّم وأنت حرام عليك تسلّم؟ سلّم مثل غيرك”. [15]
تزييف الذاكرة واغتيال القضية
اصطدم هذا المزاج الجديد الذي تمّ تخليقه في التسعينيات بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، انتفاضة الأقصى. حفّز مشهد استشهاد محمد الدرّة موجةَ غضبٍ جماهيريّةً عربيّةً امتدّت إلى الخليج، متجاوزةً أحقاد التسعينيّات المصطنعة. ففي المملكة السعوديّة حيث يُمنع التظاهر منعاً باتاً، خرجت التّظاهرات العفويّة تضامناً مع الانتفاضة، وتحديداً في المناطق الشرقية، [16] وأصيب العديد من المتظاهرين برصاص القمع، بينما اعتُقل وعُذّب المئات. كما انطلقت حملاتٌ شعبيّةٌ لمقاطعة البضائع الأمريكيّة، ما أجبر شركاتٍ عديدةً على نفي أمريكيّتها في الصحف ووسائل الإعلام.
في المقابل، لم يغيّر المشهد موجة تقريع الذات والخضوع للواقع القاضي بعجز النظام العربي الرسمي عن المواجهة، واقتصار الدور الجماهيري على التظاهر والشجب على الشاشات. وفي ظلّ هذا المناخ المحبِط، أعلنت المملكة العربيّة السعوديّة عن المبادرة العربية عام 2002، والتي أحدثت نقلةً نوعيّةً في طبيعة الخطاب العربيّ الرسميّ المعلن، لتّتخذ مسألة تغيير جوهر الصراع إلى مسألةٍ حدوديةٍ غطاءً مشرعناً على شكل مبادرةٍ عربيةٍ رسميةٍ وافقت عليها جميع الأنظمة دون استثناء.
ترافقَ ذلك مع ضخّ السعودية المنح الماليّة للسلطة الفلسطينيّة، والتي سُوّقت في الإعلام السعودي كاستمراريةٍ لدعم القضية، وساهمت بدورها بشكلٍ مباشرٍ في بناء البنية التحتيّة وتكوين شبكة علاقاتٍ ومصالح مادّيّةٍ مع طبقةٍ برجوازيّةٍ فلسطينيّةٍ في داخل الضفة، تمهيداً للتسوية والتطبيع. وصلت مجمل التبرّعات والمنح إلى ما يقارب الستة مليارات دولارٍ منذ بداية الألفية. [17] ولم تنتهِ المسألة عند هذا الحدّ، بل مارست السعودية عمليات كيّ وعيٍ منظّمةٍ بخصوص الصراع مع العدوّ “الإسرائيلي” في المنطقة، والتي اكتسبت أشكالاً عدّةً.
التطبيع الإعلامي
أجبر الرفض الجماهيريّ لمسار التسويّة، كالذي تمّ التعبير عنه في الانتفاضة الثانية، النخبَ العربيّة الحاكمة على التفكير باختراق الوعي العربيّ وإعادة تشكيله حيال العدو من بوّابة الإعلام. اتّجه الإعلام الخليجي، بجناحيه السعودي “العربيّة” والقطري “الجزيرة” إلى الإقرار بـ “إسرائيل” كحقيقةٍ واقعةٍ على خريطة فلسطين، إذ حمل هذا رمزيّة تشكيل ذاكرة الأجيال العربيّة الجديدة على هذا الأساس. وقد نشطت المحطّتان في استضافة شخصياتٍ وصحفيّين وعسكريّين صهاينةٍ، تحت ذرائع ليبراليّةٍ من قبيل الحياديّة والمهنيّة، والرأي والرأي الآخر.
تأتي هذه المساعي بهدف سبغ المشروعيّة على الوجود الإعلامي للعدو كدولةٍ بنظامٍ “ديمقراطيٍّ” وشعبٍ وعلَمٍ وفرقٍ رياضيّةٍ، وتحويل قضيّة عداءٍ محقٍّ إلى قضيّةٍ سجاليّةٍ تتطلّب الإنصات إلى الطرفَيْن، كأيّ قضايا أخرى تحمل رؤىً متعدّدةً! كما فتحت منصّاتٌ عربيّةٌ مساحاتها للصهاينة أنفسهم للترويج للدعاية الصهيونيّة.
تجاوز هذا الترويج مسألة الصراع العربي الصهيوني وسرديّة السلام بين طرفَيْن، إلى شكلٍ آخر موضَع الطرفين السعودي والصهيوني معاً في مكانهما الطبيعي في خدمة السياسات الغربيّة. وبعدما كان العنوان بالأمس مواجهة الخطر الشيوعيّ، أضحى اليوم الخطر الإيراني، متّخذاً صبغةً طائفيّةً بوصفه خطراً شيعيّاً.
ولعلّ إحدى أبرز هذه المقابلات وأكثرها جرأةً -الأولى من نوعها على منصةٍ سعوديّةٍ محليّةٍ- هي مقابلة صحيفة “إيلاف” الإلكترونيّة مع المدير العام لوزارة الخارجيّة الصهيونيّة “دوري غولد”، [18] في كانون الأول 2015؛ أيّ بعد حوالي ثمانية أشهرٍ من تولّي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم خلفاً للراحل عبد الله، عرّاب المبادرة العربيّة.
إنّ ما يميّز المقابلة ليس توقيتها فحسب، أو هويّة منصّة “إيلاف” كإحدى أبرز منصّات الطبقة الليبراليّة السعوديّة، والتي كانت قد حجبتها المملكة في فتراتٍ سابقةٍ ضمن سلسلة صراعاتٍ ما بين المحافظين والليبراليين. بل إنّ أكثر ما يميّزها يعود إلى المحتوى، إذ خلا الحديث خلال اللقاء من أيّ تطرّقٍ لفلسطين، بل تمّ التركيز على الأوضاع الإقليميّة، وكأنّ كيان العدو فاعلٌ طبيعيٌّ في المنطقة العربيّة. والأدهى من ذلك كان الحديث عن المصلحة العربيّة الصهيونيّة في مواجهة “الخطر الإيراني” بطائفيّةٍ جليّةٍ على اعتبار الشيعة العرب طابوراً خامساً لإيران!
دفعةٌ لمسار التطبيع في العهد السعودي الجديد
لفهم النقلة النوعيّة في مسار التطبيع السعودي الراهن، ومن خلفه الخليجي، والمعنوَن بـ “صفقة القرن”، وجَب فهم طبيعة الطبقة الحاكمة الجديدة في السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان، فضلاً عن موضعة الانقلاب الاجتماعيّ الذي أحدثته هذه الطبقة، وتراكماته، في سياقه التاريخيّ.
شهدت المملكة منذ التسعينيّات، ومن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول تحديداً، صراعاتٍ داخليّةً بين تيّار المحافظين -الوهابيّة- وتيارٍ ليبراليٍّ نافرٍ من الضوابط الاجتماعيّة الصارمة المفروضة من قبل الإسلاميين، بل وناقمٍ على الصورة العالميّة -أمام الغرب- التي يكرّسها واقع إحكام الإسلاميين على مفاصل الدولة، وما إلى ذلك من تكريس صورة المملكة المتعلّقة بالتشدّد و”الإرهاب” والارتباط بتنظيم القاعدة. وكلا التيارين ممتدّان من دعم إحدى أجنحة الحكم في العائلة المالكة.
مثّل بروز الملك عبد الله، منذ أن كان وليّاً للعهد مع مرض أخيه فهد، رافعةً للتيار الليبراليّ الصاعد أخيراً، ليقود جملةً من التغييرات الاجتماعية الأكثر تحرّراً، من إعادة هيكلةٍ للجهاز البيروقراطي بوجوهٍ أقلّ تشدّداً، إلى السماح بالمزيد من الامتيازات للنساء، خصوصاً في قانون العمل، وبناء أوّل جامعةٍ سعوديّةٍ مختلطة. إلا أنّ التوجه الأكثر ليبراليةً للديوان الملكي الجديد، برئاسة خالد التويجري، كان يصطدم بجناح أخيه نايف بن عبد العزيز القابض على أقوى المؤسّسات الأمنية في البلاد؛ وزارة الداخلية، والذي قادها أثناء موجة هجمات تنظيم القاعدة بداية الألفيّة. وعلى إثر ذلك، وطّد نايف علاقاته مع التيّارات الإسلاميّة وعمل على كسب ودّها وحماية مكتسباتها.
وانطلاقاً من هذه الخلفيّة، تسلّم الأمير الشاب -مواليد الثمانينيّات- محمد بن سلمان مقاليد الحكم الفعليّة، ليعكس المعادلة ويُشرف على الانتصار الكاسح لتيّار الليبراليّين، مُقصياً بذلك الإسلاميين من المشهد العام تماماً. إلّا أنّ ولي العهد الجديد، وعلى عكس عمّه الملك السابق عبد الله، خلق الظروف المؤاتية لإحكام قبضته وإنهاء أيّ تباينٍ في مؤسّسات الدولة، واحتكار القرار في الديوان الملكيّ. فقد أقصى بن سلمان ابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد ومن وزارة الداخلية، وعيّن حفيد الأمير نايف، الأمير عبد العزيز بن سعود، وزيراً للداخلية، في محاولةٍ للإبقاء على الوزارة في ظلّ سيطرة جناح نايف، ولو شكليّاً، ثمّ أعاد هيكلتها معلناً عن تأسيس رئاسة أمن الدولة المرتبطة بالديوان الملكي بشكلٍ مباشرٍ كمؤسّسةٍ تتحكّم بالملفات الأمنية فعليّاً.
مكّنت تلك الإجراءات هذا التيار الليبراليّ السعوديّ، والذي يعدّ امتداداً للطبقة البرجوازيّة الليبراليّة، ويقارن ازدهاره بوضع نظرائه في باقي دول الخليج، فضلاً عن اعتباره تمكين الإسلاميين عائقاً أمام ازدهاره. في المقابل، سمح تمكين هذا التيار الليبرالي وإنهاء وجود الإسلاميين ومريديهم من المجال العام، وخصوصاً الإلكتروني، بجرأةٍ أكبر لحديث رموزه عن التطبيع بتدرّجٍ دون مواجهة حملاتٍ مضادّةٍ على منصّات التواصل، بدءاً من مقالات الصحفي السعودي أحمد عدنان الذي عنون إحداها عام 2015 بـ”إسرائيل التي خسرناها”، ووصولاً إلى كتابات العديد من رموز هذا التيار التي تنادي بتطبيع العلاقات والاعتراف بـ”إسرائيل”، كتغريدة تركي الحمد، أحد أعرق الليبراليين السعوديين: “سيُقال متصهين، ليكُن، ولكنّ صهينةً من أجل بلدي خيرٌ من قوميّةٍ أوردتنا المهالك”.
شكّل حلم الاندماج والتموضع على هامش المركز الغربي حلماً أزليّاً للطبقات الحاكمة الخليجيّة، سواءً على الصعيد السياحي أو الاقتصادي كتشييد المراكز المالية، أو الرياضي كاستضافة الأحداث العالمية من مثل كأس العالم وبطولات التنس والخيل، ووصولاً لعقد مؤتمراتٍ عالميّةٍ وبيئيةٍ ومناسباتٍ أخرى كمعرض “إكسبو” المقبل في دبي. ومن أجل بلوغ هذا الحلم، وجَب على دول الخليج تمكين شبكة علاقاتهم في الغرب، والتي تقتضي إرضاء اللوبيّات الصهيونيّة في واشنطن.
لعب الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودي السابق، دوراً فعّالاً في ذلك، حتى قبل وصول الملك سلمان للحكم. فقد حرص الفيصل على الحضور والمشاركة في ندوات مراكز البحوث الأمريكية مع العديد من الصهاينة، والتقى مع وزيرة الخارجية الصهيونية “تسيبي ليفني”، كما حضر في عام 2017 ندوةً لمنتدى “سياسة إسرائيل”، أحد أهم تفرّعات اللوبي الصهيوني، متحدّثاً مع رئيس الموساد السابق، “إفرايم هليفي”. وفي هذا الصدد، كشف رئيس صندوق الوقف اليهودي، “جيفري ستيرن” ،عن لقاء الفيصل بالرئيس السابق لمجلس الأمن القومي “الإسرائيلي”، الجنرال “يعقوب عميدرور”، حيث مازحه قائلاً: “بأموال اليهود وعقول العرب كلّ شيءٍ يُمكن تحقيقه”. [19] أمّا في أوساط النخبة السعودية، فكان يتمّ تبرير هذه اللقاءات العلنية بأنّها لا تحمل صفةً رسميّةً، و بأنّ الفيصل يمثّل نفسه.
خلق التغيير في موازين قوى التيارات داخل المملكة في السنين الماضية، وما رافقه من نقلةٍ نوعيةٍ في السياسة السعودية المعادية لتيارات الإسلام السياسي، ظروفاً مغايرةً لتفشّي وظهور خطابٍ تطبيعيّ أكثر فجاجةً، ليمرَّر التيار الليبرالي التطبيعي من منظور التسويق لنفسه كالمتحرّر من “الكراهية” و”نبذ الآخر”، ولتنقلب الأممية الإسلامية إلى انعزاليةٍ وطنيةٍ سعوديةٍ مصحوبةٍ بموجة خصخصةٍ وفتح الأبواب للاستثمار الأجنبيّ وجملة تغييراتٍ اجتماعيةٍ لتهيئة المجتمع للوجود الأجنبيّ كمستثمرين وسُيّاح.
إنّ مسار التطبيع السعوديّ الجديد هو انعكاسٌ لصعود الطبقة الليبرالية السعودية المتشرّبة للقيم المعولمة، تُكوّن نظرتها للدولة الصهيونية من خلال الإنتاج الثقافي الغربي وترى في العدوّ كياناً متنوّراً وسط محيطٍ من التشدّد و”الإرهاب” الإسلامي. وبهذا، تتحوّل القضية الفلسطينية ومظلوميّتها في وجدان الشعوب العربيّة الى عبءٍ وحاجزٍ أمام التغيير الذي ترنو إليه، ما يقتضي العملَ على تصفية القضيّة بأسرع وقتٍ وبأيّ طريقةٍ ممكنةٍ.
وبموجب ذلك، تتبنّى السعوديّة المعادلة التي أرساها السادات قبيل توقيع اتفاقيّة “كامب ديفيد”، وهي تكريس هويّةٍ انعزاليّةٍ سعوديّةٍ -قوميّةٍ سعوديّةٍ- توازياً مع تنفيذ سياساتٍ نيوليبراليّةٍ تمكّن مصالح الطبقة البرجوازيّة في الدولة والاقتصاد، مقابل تهميش أغلبيّة الشرائح الشعبيّة في نسخٍ مطابقٍ تماماً لتلك المعادلة، والتي لم تسمح ظروف الثمانينيّات من استنساخها سعوديّاً. هذه الطبقة البرجوازية هي عماد التطبيع، وهو ما أشار إليه رئيس وزراء العدو “نتنياهو” بوضوحٍ، قائلاً: “أكبر عقبةٍ أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي”.
ارتأى محمد بن سلمان التخلّص بسرعةٍ من عبء القضية الفلسطينيّة، وهو ما يتّسق مع تسرّعه ورغبته في نقل السعودية إلى النمط الجديد، خصوصاً مع مشروعه في بناء مدينة “المستقبل” في شمال غربيّ المملكة تحت مسمّى “نيوم” في محافظة تبوك، وهو مشروع بناء مدينةٍ حديثةٍ في قلب الصحراء شمال غربيّ المملكة مطلةٍ على خليج العقبة، ويُمكن للواقف على ساحلها رؤية المستوطنين يتجوّلون في شواطئ مدينة أمّ الرشراش المحتلّة بالعين المجرّدة. يعدّ مشروع “نيوم” المعلن عابراً للحدود السعوديّة بمشاركة كلٍّ من الأردن و مصر، وما يقف أمام المشاركة “الطبيعيّة” لدولة الاحتلال هو عدم الوصول لـ”السلام”.
محمد بن سلمان كان قد قال في لقاءٍ سابقٍ: “يجب على الفلسطينيين أن يوافقوا على الجلوس على طاولة المفاوضات، وإلّا فليخرسوا”. [20] جاء ذلك بجانب تسرّع “ترامب” في إرضاء الصهاينة ونقل سفارته للقدس في عام 2018، وما رافق ذلك من غضبٍ شعبيٍّ عارمٍّ، إلا أنّ هذا وضعَ السعودية في الواجهة بحكم العلاقة بالرئيس الأمريكي، خاصّةً الملك سلمان الذي لا يريد الظهور كـ “خادم الحرمن الشريفين” الذي “باع القدس”. وعلى إثر ذلك، أطلق الملك السعوديّ على القمة العربية المنعقدة في شهر نيسان 2018 في مدينة الظهران اسم “قمّة القدس”، مؤكّداً بذلك على استمرار الالتزام الرسمي السعودي ضمن إطار مبادرة “السلام” العربية التي أسّس لها أخوه الملك الراحل عبد الله.
تشارك “جاريد كوشنر” هذا التسرّع مع صديقه بن سلمان، من خلال العمل على تطبيق ما يُسمّى بـ” صفقة القرن” وإغلاق الملف. تعكس نظرةٌ سريعةٌ على فحوى بنود هذه الخطّة التي أعلن عنها “ترامب” بداية العام 2020 التطابقَ الطبقيّ في التفكير بين وليّ العهد ومستشار البيت الأبيض، فكلا الطرفين وُلدا فوق كومةٍ من الثروة، وأرادا حلّاً سريعاً لصراعٍ دام أكثر من سبعة عقودٍ؛ عبر مشاريع عمرانيّةٍ وتنمويّةٍ بمبلغٍ يصل إلى الخمسين ملياراً، يموّلها الديوان الملكي السعودي إلى جانب عددٍ من دول الخليج وفقاً للصحافة العبرية، في مشهدٍ يدلّ على نمط التفكير الطبقيّ الذي يظنّ بأنّ للمال قدرةً سحريّةً لحلّ الصراع وشراء الذمم، دون الأخذ بعين الاعتبار أيّ جوانب معنويّةٍ وغير ماديّةٍ للصراع. لتشترك السعودية مع أمريكا في تمرير صفقةٍ تشكّل، ولأوّل مرةٍ منذ نهاية السبعينيّات، تنازلاً أكبر عن حدود الـ 67، و لتحلّ مسألة القدس عبر تطبيع الزيارة تحت الاحتلال، الأمر الذي أخذ قفزةً نوعيّةً في في الآونة الأخيرة، من وفودٍ خليجيةٍ ذات عناوين فردية إلى زياراتٍ رسميّةٍ.
ومع إعلان “ترامب” عن البنود الجديدة لـ “صفقة القرن” في مؤتمرٍ صحفيٍّ مع “نتنياهو” مطلع هذا العام، وبحضور سفراء البحرين والإمارات وعُمان، كان هناك غيابٌ بارزٌ للسفيرة السعودية. إلا أنّ وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، سارع للتصريح في مقابلةٍ صحفية تلت الإعلان عن الخطّة للتأكيد على جهود المملكة المستمرّة والتزامها للتوصّل إلى اتفاق سلامٍ بين الفلسطينيّين و”الإسرائيليين” ضمن حدود الـ 67. اتفاقٌ، إن حصل، سينتج عنه دمج “إسرائيل” في المنطقة و كامل التطبيع معها وفقاً للأمير السعوديّ.
من الدور الطائفيّ إلى نظيره الليبراليّ
لم يشكّل هذا الانقلاب الليبرالي الذي ترك بصمته على المشهد السياسيّ-الاجتماعيّ في المملكة السعوديّة، قطيعةً مع السياسة السعوديّة في التفكيك الطائفيّ، والذي ما يزال يُستخدم لشرعنة وجود الكيان الصهيوني. بل إنّه استند إلى عقودٍ من منح الصراع مع الصهاينة صبغةً دينيّةً، بغية تمرير مشروع التطبيع الراهن كاستمرارٍ لحملة إقصاء الوهابيّة، وليكون التطبيع مع “اليهود” من بوّابة التسامح والاعتدال الديني، و”الإسلام الحقيقيّ” الذي يروّج له العهد الجديد الحاكم في السعوديّة. ولعلّ مشهد صلاة الوزير السعودي السابق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، محمد بن عبد الكريم العيسى، أمام أحد معسكرات النازيّة لأول مرة في يناير من عام 2020 أحد أبرز الشواهد الأخيرة.
ومن أجل تحصين نفسها من الهزّة التي أنتجتها الثورة الإسلامية في إيران، تبنّت السعودية سياسة بثّ الخطاب الطائفي، والذي كان رأس حربته تيار الصحوة الصاعد يومها. إلا أنّ أحداث المشرق العربي المتتالية، من احتلال العراق وصولاً إلى الحرب الطاحنة في سوريا وانتفاضة البحرين، عُولجت سعودياً بإعادة ضخّ ذلك الخطاب خصوصاً ضدّ الشيعة. خطابٌ جندت له المملكة القنوات والأموال ليساهم بشكلٍ مهولٍ في الانقسام الهوياتيّ الحادّ في المشرق، والذي سرعان ما تمثّل على الأرض بتقسيم المناطق على أسسٍ طائفيةٍ في بغداد ومناطق أخرى من العراق و سوريا.
شكّلت هذه السياسة ودعم الجماعات الإسلامية في الهلال الخصيب، عبر رسم هذه السرديّة الكبرى لصراعٍ مركزه إيران، تحوّلاً تاريخيّاً للتصوّر الشعبيّ للملايين لأسس الصراع في المنطقة مع تحييدٍ لفلسطين مماثلٍ لما شهدته الثمانينيّات. تقاطع هذا التحول بشكلٍ مباشرٍ مع السياسة الصهيونية للعب على الهويات المذهبية والإثنية في المنطقة، ولتتلقّفه الآلة الإعلامية الصهيونية، إلى جانب مراكز الدراسات الصهيونية. مثلاً، خصّص مؤتمر “هيرتسيليا” سنواتٍ لبحث الخطر الشيعيّ والتحالف مع المحور السني، واستطلع في مؤتمره عام 2015 آراء السعوديين حول “إسرائيل” وإيران، مظهراً أنّ السعوديين يعتبرون إيران عدوّهم الأكبر، لا “إسرائيل”. وفي ذلك، يعبّر 25% من المستطلعة آراؤهم أنّ على “إسرائيل” والسعودية أن تتوحّدا في وجه إيران، فيما عبرت الغالبية (85%) عن دعمها لمبادرة السلام السعودية مع “إسرائيل”. [21]
تستمرّ السياسة السعودية اليوم في ذات النهج متبنيةً ذات السردية، إلا أنّ الانقلاب السعوديّ على التيارات الإسلامية أعاد صياغة نهجها من الأسس الطائفية عبر المشايخ إلى تلاقي المصلحة عبر أسس المصلحة الانعزالية السعوديّة، والتي يشكّل التيار الليبراليّ رأس حربتها.
انفجار الانعزاليّة السعوديّة
شنّ العهد السعودي الجديد حملة إقصاءٍ واعتقالاتٍ لأيّ تياراتٍ تحمل منطلقاتٍ عابرةً للحدود، وفي مقدمتها التيارات الإسلاميّة وكذلك العروبيّة. تأتي الحملة ضمن مساعي المملكة في صياغة هويّةٍ سعوديّةٍ جديدةٍ تقوم على إعادة بناء السرديّة التاريخيّة للدولة في الخطاب الرسمي والمناهج الدراسيّة بشكلٍ متمحورٍ حول السعوديّة وتاريخها المؤطّر في حدودها من بعد إعلان توحيدها عام 1932.
تذهب هذه السرديّة باتجاهٍ مغايرٍ لما تمّ التأسيس عليه آنفاً في المناهج، بوصف المملكة امتداداً للحكم الإسلامي وخلافته. يعمل الاتجاه الجديد على استنساخ خطابات اليمين الغربي الشعبويّة، باجترار مصطلحاتٍ من مثل “السعودية العظمى”، أو “السعودية للسعوديين”، و”المصلحة القوميّة السعوديّة”. يمتدّ هذا الخطاب بشكلٍ مباشرٍ ضدّ القضية الفلسطينيّة -كونها لا تزال في سلّم أولويات التضامن الأمميّ- سواءً من ناحية حملات اعتقال الفلسطينيين والتضييق عليهم. هذا بالإضافة إلى محاربة القضية إعلاميّاً، كإنتاج سرديّات نكران الفلسطينيين للجميل، بل وحتى الحشد الإلكتروني ندماً على حملاتٍ وتبرعاتٍ نُظّمت سابقاً في المدارس السعوديّة تضامناً مع فلسطين، كحملة “ريال فلسطين”، ووصل الحد بإحدى الصحف الرسميّة لتكتب: “بالذاكرة، ردّ السعوديون على نكران بعض الفلسطينيين”.
لم يتوقّف الخطاب الانعزالي السعودي عند مسألة المناوشات الإلكترونيّة ضد الفلسطينيين فحسب، إنما تجاوز ذلك إلى تبنّي السردية الصهيونيّة للصراع، والقاضية ببيع الفلسطينيين أراضيهم، إلى جانب وصف المقاومة الفلسطينيّة بـ “الإرهاب”، أو وصف صواريخ المقاومة بكونها “طراطيع” بغرض التهكّم منها والتقليل من شأنها. أفرز كلّ هذا خطاباً جديداً امتدّ إلى الساحة الخليجيّة برمّتها. فبعدما كانت الأخيرة قد تبنّت التطبيع بطرقٍ ملتويةٍ، كتبرير الزيارات للقدس تحت عناوين “كسر عزلة الفلسطينيين” أو “زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجّان”- وكأنّ الشعب الفلسطيني سجينٌ مؤقّتٌ يحتاج للترويح والتسلية- اتّجهت السياسة السعودية مؤخّراً إلى الجهر العلنيّ بالتطبيع من زيارة المنتخب السعودي لفلسطين للّعب مع المنتخب الفلسطيني في الضفة الغربيّة والصلاة في المسجد الأقصى، إلى لقاءات بعض السعوديين بـ “نتنياهو” وتبادل الزيارات مع شخصياتٍ صهيونيةٍ بين “تل أبيب” والرياض، ووصولاً إلى زيارة الصحفيين الصهاينة وتغطياتهم من داخل المملكة.
يدعو هذا الخطاب الجديد إلى الوقوف مع “إسرائيل” ضدّ الفلسطينيين، انطلاقاً من أنّ المصلحة السعوديّة تقتضي بناء علاقاتٍ مع جميع الدول في ظلّ “مصلحة السعوديين”.
إنّ مصلحة السعوديين التي يتمّ التغني بها هي ما تراه واهمةً البرجوازيّة الليبراليّة السعوديّة مصلحةً لها. يأخذ هذا الخطاب الانعزالي السعوديّ ضدّ القضية الفلسطينيّة بُعداً طبقيّاً فجّاً، وإنْ كان يمتدّ إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى من مواليد “ما بعد أوسلو” من السعوديين، والذين تشكّل وعيهم حيال العالم عبر المنتجات الإعلاميّة والدراسيّة والأكاديميّة الغربيّة. إنّ أحد أبرز دوافع التطبيع للطبقة الانعزاليّة السعوديّة يتمثّل في التقرّب من الكيان الصهيوني، والذي تشكّل تصوّرهم عنه عبر منتجات “هوليوود”، على شاكلة أنّها جنّة الليبراليّة التي تواجه هجمةً من “التطرّف” الإسلامي.
وكحال الكثيرين، يسود تصوّرٌ لدى بعض السعوديّين يعتبر الفلسطينيين في الداخل المحتلّ أصحاب امتيازٍ لكونهم حملة جوازاتٍ “إسرائيليةٍ”، فيما حقوقهم محفوظةٌ في ظلّ “الديمقراطيّة”، غافلين ومستغفلين عن معاناتهم من وطأة نظامٍ استعماريٍّ استيطانيٍّ وتمييزٍ وتضررٍ معنويٍّ وماديٍّ. كما تقتضي “المصلحة الوطنيّة” السعوديّة التعاون مع الشركات “الإسرائيليّة”، كالتعاون الأخير في التجسّس على كوكبةٍ من المعارضين السعوديين في الخارج.
سعوديون ضدّ التطبيع
لم يستجِب جميع السعوديين لحملة التمهيد للتطبيع والتطبيع المباشر، بل أطلق كثيرٌ منهم حملاتٍ إلكترونيّةً تُعيد موضعة فلسطين كقضيةٍ عربيةٍ جمعاء. نبع معظم هذا التضامن من الطبقات المتوسّطة وغير المرتبطة بشبكات علاقة النظام والمصالح الاقتصادية والأسرية المباشرة، والتي ما تزال تتمسّك بالقضية الفلسطينية والعداء القطعيّ للصهاينة، إلا أنّ السلطات السعوديّة سارعت إلى شنّ حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ، استهدفت الناشطين والناشطات المناهضين للتطبيع.
وحتّى هذه اللحظة، ما يزال جميع الناشطين قيد الاعتقال دونما محاكمة، بدءاً من عميد معتقلي التضامن مع فلسطين خالد العمير، والذي سجن مع رفيقه محمد القحطاني لمدّة عشر سنواتٍ ما بين 2009 و 2018، وذلك بعد خروجه في مظاهرةٍ دعماً لغزة، وأُعيد اعتقاله عام 2019 لتقديمه شكوى على الاعتقال الأول. إضافةً إلى المعتقل محمد فهد الربيعة، الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي كانت آخر تغريداته مشهداً لابنة “ترامب” ملطّخةً بالدماء من أمام السفارة الأمريكية في القدس. كما اعتُقل المترجم أيمن الدريس الذي ترجم عدّة مقاطع مناصرةً لفلسطين، والكاتب الصحفي عبد الله الدحيلان الذي قدّم حلقةً في برنامجه على “اليوتيوب” بعنوان الكيان المنبوذ مغطّياً جوانب حملات مقاطعة “إسرائيل”، فضلاً عن مقبل الصقّار الذي حضر حفل تخرجه في الولايات المتحدة متوشّحاً بالكوفية، وآخرهم عبد العزيز العودة، وغيرهم الكثير من المعتقلين الذين ما زالوا قيد الاعتقال التعسفي دونما محاكمةٍ أو توجيه تهم. ولا يوجد سجنٌ رئيسيٌ في المملكة السعودية اليوم، على امتداد المناطق، دون وجود معتقلٍ على خلفية نشاطه ضدّ العدوّ الصهيوني.
وعلى الرغم من ذلك، ما يزال التضامن الشعبي مع فلسطين حاضراً في وجدان الجماهير الخليجيّة، وإن كانت نسبة هذا التضامن خاضعةً للأحداث السياسيّة في فلسطين، بل وحبيسة الفضاء الافتراضي، ومتأخّرةً في سلم المشاركات أمام بقية الأحداث في الوطن العربي، كانتفاضة القدس التي انطلقت عام 2015، والعمليات البطولية لشهدائها، أو مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة. إن كلّ أشكال المقاومة الشعبيّة العفويّة في فلسطين ما هي إلا سلسلة الأفعال التي أبقت القضية حيّةً في وجدان الشعب العربي، بل وشوكةً في حلق مشروع التصفية الذي تقوده طبقات رأس المال الحاكمة في كل قطرٍ عربيٍّ؛ “المقاومة جدوى مستمرّةً”، كما عبّر عنها الشهيد باسل الأعرج.
خاتمة
قطعت السياسية السعوديّة تاريخياً مساراً طويلاً أسّس لبلوغ درجات التطبيع الفاقعة اليوم، وذلك ضمن موقعها الطبيعيّ بعلاقتها بالغرب، وارتباطها المباشر بالنظام الرأسماليّ العالميّ. فإنْ كانت قد اتّخدت أشكال التمهيد وجوهاً متعدّدةً، إلا أنّ المحصلة النهائية تُوّجت بالوصول إلى شرعنة وجود الكيان الصهيوني وانتظار تسويةٍ تقبل بها السلطة الفلسطينية لتدمج “إسرائيل” في المنطقة، على حدّ تعبير وزير الخارجية السعودي.
لم تساهم الصبغة الدينيّة للصراع التي كرّستها السعوديّة لعقودٍ عبر خطابات شيوخها على المنابر في تحجيم الصراع ووأده فحسب، بل مثّلت الرافعة التي تبنّتها التيارات الليبراليّة البرجوازيّة الخليجيّة لشرعنة التطبيع من بوّابة خطاب التسامح والاعتدال الديني.
تمثّل الموجة الحالية من تظهير التطبيع الخليجي إلى ما فوق الطاولة مرحلةً من الصراع المديد مع الصهيونيّة، وليس إيذاناً بانتهائه كما يصوّر البعض، أو كما يظنّ قادة العدوّ أنفسهم. فمن الناحية العمليّة، يساهم هذا التطبيع في فضح هذه النخب ومواقفها، ويُظهر للجماهير العربيّة تموضع هذه النخب في مكانها التي تنتمي له في المعسكر الصهيوني. كما يوحي لنا هذا التطبيع بأنّ الصراع الخليجي-الخليجي ما هو إلا صراعٌ على شكل تسوية قضيتنا العربية الأولى، وليس من اختلافٍ بين مشاريع الدوحة والرياض وأبو ظبي بخصوص ذلك.
إنّ الواجب الأخلاقي والمسؤوليّة التاريخيّة على هذا الجيل الذي تسلّم جبهة الصراع ممّن سبقه، يتمثّلان في الحفاظ على إرث الشهداء ورفد مسيرة الدّم بالدماء. لا تقلّ المسؤوليّة التي تقع على عاتق الجماهير العربيّة في الخليج عن غيرها، بل إنّها تتمركز في واجهة المعارك ضدّ هذه النخب التي تعمل على إنهاء الوجود الفلسطيني وحقّه في العودة ليلاقي مصير الهنود الحمر. وما معاركنا هذه إلا معارك فلسطين، وإنْ بعدت نواحينا، وإنْ لم يكن جيلنا من يشهد التحرير، إلا أنّه يتوجّب علينا تسليم شعلة النضال جيلاً بعد جيل حتى إزالة الدولة الصهيونيّة من الوجود.
لتحميل هذه الورقة على هيئة (pdf)، من هنا
*****
الهوامش:
[1] وهي سلسلة إضراباتٍ و تجمّعاتٍ عمّاليةٍ قادها عمّالٌ سعوديون وعرب مطالبةً بتحسين ظروف العمل في شركة الزيت العربية الأمريكية “أرامكو”، والتي انطلقت في عام 1945 وصولاً الى أوجها في عام 1956، حين تظاهر مجموعةٌ كبيرةٌ من العمّال أثناء زيارة الملك سعود للمنطقة الشرقية في السعودية، لتتبعها حملات اعتقالٍ وملاحقاتٌ واسعةٌ استمرّت حتى مطلع السبعينيّات. اُنظر كتاب “الحركة العمّالية شرق السعودية”، الجزء الأول.
[2] “كوشنر ليس في جيب محمد بن سلمان”، (2018) صحيفة الـ “واشنطن بوست”، الرابط.
[3] مؤتمر عقدته مؤسسة “بروكينجز” بعنوان “ماذا بعد في العلاقات الأمريكية السعوديّة؟”، بحضور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. للمشاهدة من هنا.
[4] “في عام 1951، وقّعت “واشنطن” والرياض اتفاق مساعدةٍ دفاعيّةٍ مشترك، والذي أصبح أساساً لمبيعات الأسلحة الأمريكية للمملكة، وأُنشئت على إثره بعثةٌ تدريبيةٌ عسكريةٌ دائمةٌ للجيش الأمريكي في السعودية. وتوثّقت العلاقات بين الدولتين خلال الخمسينيّات والستينيّات بتدفّق الأسلحة الأمريكية الصنع إلى المملكة”. خليل، شيرين (2018). “كيف تحوّل تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية إلى صفقات أسلحةٍ بقيمة مليار دولارٍ”، صحيفة الـ “ميدل إيست آي”، الرابط.
[5] هنالك عدّة مصادرٍ عن المساهمة الصهيونية في اليمن، كهذا المقال الذي نُشر بالعبرية في صحيفة “هآرتس” الصهيونية بعنوان: “عدو العدوّ صديق؟ تورّط إسرائيل في الحرب الأهلية في اليمن”، الرابط.
[6] خطاب الملك فيصل بعد قطع النفط عن الغرب، للمشاهدة من هنا.
[7] Matthiesen. (2014). The Other Saudis. Cambridge University Press.
[8] الشهابي، عمر (2018). تصدير الثروة واغتراب الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية.
[9] مع اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987، “ألقى الملك فهد بن عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين، خطابا بيَّن فيه اعتزازه بما يفعله الفلسطينيون كباراً وصغاراً من أجل إظهار حقّهم وإسماع الدنيا، وحاول في حديثه شحن الرأي العام الخليجي لدعم الانتفاضة مبّيناً أو مذكّراً وجاهة الحقّ العربيّ”. صحيفة الرياض، (2015) الرابط.
[10] “نجدُ الملك فهد يحاول تعبئة الرأي العام الإسلامي لصالح القضية الفلسطينية، ففي جلسة العمل الثانية لمؤتمر القمة الثالث للدول الإسلامية المنعقد في الطائف 20/3/1401، مذكّراً جميع القيادات العربية والإسلامية ببلادهم المغتصبة من قبل يهود”. مرجع سابق.
[11] تسريبات “ويكيليكس”، الرابط.
[12] مقابلة أجرتها “الاندبندت عربية” مع بندر بن سلطان، الرابط.
[13] وأصبحت لاحقاً وزارةً رسميةً، يُمكنكم الاطلاع على صفحتها الرئيسية من هنا.
[14] الملك فهد و”الإخوان المسلمون”، (2018)، الرابط.
[15] مقابلة “الاندبندت عربية” مع بندر بن سلطان.
[16] للمناطق الشرقية في السعودية خصوصيةٌ؛ شهدت تاريخيّاً إضراباتٍ وانتفاضات، وتتّصل جغرافياً بباقي دول الخليج، خصوصاً البحرين التي تشهد حراكاً سياسيّاً مستمرّاً، فضلاً عن خصوصيّتها المذهبيّة وتأثّرها بالثورة الإسلامية الإيرانيّة وتحرير جنوب لبنان على يد المقاومة الإسلامية، وهي عواملٌ ساهمت في تعمّق الاهتمام الشعبي فيها بالقضية الفلسطينية.
[17] تقريرٌ لقناة السعودية حول الأموال التي ضخّتها المملكة في المجالات الإنسانية والتنموية في فلسطين، الرابط.
[18] مقابلة صحيفة “إيلاف” الإلكترونيّة مع المدير العام لوزارة الخارجيّة الصهيونيّة “دوري غولد”، الرابط.
[19] تقريرٌ حول لقاء تركي الفيصل بـ “هيلفي” في مدينة نيويورك نُشر في موقع عرب 48 عام 2017، الرابط.
[20] تقريرٌ حول ما سُرّب على لسان محمد بن سلمان في عام 2018، صحيفة الأخبار اللبنانية، الرابط.
[21] تقريرٌ حول استطلاع “هرتسيليا” آراء السعوديين بشأن إيران نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية عام 2015، الرابط.