«منذ البداية، أردتُ أن أخلق بينوكيو عاصياً متمرّداً، وأجعل من العصيان فضيلة»
 «بينوكيو استمرار لفيلمي «العمود الفقري للشيطان» و«متاهة بان»

                                                                                                                                                                      غييرمو ديل تورو

 

لخّص «ديل تورو» ما أراد قوله في  فيلمه الجديد «بينوكيو غييرمو ديل تورو» في مقولة «العصيان الواعي كفضيلة»، وكما يؤكد اسم الفيلم حيث أضاف «ديل تورو» اسمه إليه، إذ ليس «بينوكيو ديل تورو» نسخةً أخرى من رائعة «كارلو كالودي» الكلاسيكية «مغامرات بينوكيو» – 1883 ، والتي تجاوز عددها الـ 60 نسخة، وإنّما إعادة إنتاج لها وعودة لروحها الأصلية لتخليصها من تشويه «والت ديزني».

يحكي الفيلم المصنوع بتقنية تحريك الدمى (Stop-motion) حكاية الدميّة الخشبية «بينوكيو» التي جاءت إلى الوجود على يد النجار «جيبيتو»، الأب مفطور القلب على فقدان ولده «كارلو» بقصفٍ جويّ في الحرب العالمية الأولى 1916، وبقذيفةٍ عبثيّة يخبرنا الراوي بأنّ قرية «جيبوتو» لم تكُن هدفاً مخططاً سلفاً للقصف، وأنّ القذيفة أُلقيت من إحدى الطائرات الحربية لتخفيف حمولتها في طريق عودتها إلى قواعدها.

في لحظةٍ ساخطة، يقرّر «جيبوتو» المؤمن المخمور أن يتوقف عن انتظار إجابة السماء لدعائه بعد عشر سنوات، بأنّ تعيد له فلذة كبده «كارلو»، ويقرّر القيام بدور السماء ويعيد خلق «كارلو» بيده من جذع شجرة الصنوبر التي تظلّل قبره. وهكذا في أجواء «فرانكشتاينيّة» عاصفة وغاضبة، وُلد «بينوكيو» على يد النجار المخمور طفلاً غير مكتمل، أقرب إلى المسخ، بمسامير بارزةٍ من جسده، بعيداً كل البعد عن صورة «بينوكيو» الوديعة في السينما. 

بعد هذه الولادة الصاخبة بدأت رحلة «بينوكيو» المعذّبة المتمرّدة مع والده والمجتمع والسلطة والحياة…


روحانية كائنات ما وراء الطبيعة

منذ البداية، يعلن «ديل تورو» في «بينوكيو» عن استمراره في تصفية حساباته مع «تراوما طفولته» التي سبّبتها له الكاثوليكية؛ في الكنيسة المقصوفة، والكاهن زومبي الهيئة وتمثال المسيح الخشبي المهشّم. ومن يدقق النظر يجد أنّ «ديل تورو» الذي يعتمد في أفلامه على لغةٍ سينمائيّة مركّبة بصرية رمزية ومتحرّرة من هيمنة الحوارات الطويلة، قد استبدل أيقونة الملاك التقليدية في الزخرفة الكنسيّة بقذيفةٍ مجنّحة على إحدى نوافذ الكنيسة. يقول «ديل تورو» في أحد حواراته إنّه قضى 32 عاماً للتخلّص من «تراوما» أول عشر سنوات من حياته التي سببتها تجربته الدينية الصادمة على يد جدته. عادةً ما يعرّف «ديل تورو» ذاته دينياً بالسلب بكونه «كاثوليكياً مرتدّاً»، «لم يكُن الموت هو الشيء المرعب وإنّما ما يأتي بعد الموت»، قائلاً إنّه تخلّص من الإيمان بالكاثوليكية في لحظةٍ مكثّفة من «الرعب الكوني» للإنسان الملقى وحيداً في هذا العالم نحو الموت، أحسّ به عندما اختلس النظر من نافذة مشرحةٍ إلى كومةٍ من جثث الأجنة الملقاة في إحدى زوايا المشرحة، أدركتُ عندها أنّنا متروكون لوحدنا في هذا العالم، وتساءلتُ عن معنى الحياة والموت والخلود، ولم تعد الكاثوليكية قادرة على الإجابة؟ ووجد الإجابة عن هذه الأسئلة في صحبة الكائنات الخيالية / المسوخ من ما وراء الطبيعة التي آنسته وجودياً في عالم بلا كاثوليكية، أو كما قال: هي ما تبقّى من وسيلة للحديث عن المسائل الروحانية في عالمٍ لم تعد ما تقدّمه العقائد من إجابات مقنعة.     

  في اليوم التالي، بدأ «بينوكيو» مشواره في التعرّف على الحياة وفهمها، مغنّياً متسائلاً مهشّماً كلّ ما تقع عليه يداه، «كل شيء جديد بالنسبة لي»، ومنبوذاً من أبيه «جيبيتو»، ومتمرّداً على أوامره في الوقت ذاته. يوصله عصيانه لأوامر أبيه إلى كنيسة القرية، التي ما زالت آثار القصف قبل عشر سنوات ظاهرةً عليها؛ كوة في جدارها، وذراع التمثال الخشبي للمسيح المصلوب المهشمة. في الكنيسة بدأت رحلة التساؤل المتهكم، مقلّداً هيئة المسيح المصلوب: أبتي، لماذا يحبون المسيح ويكرهونني مع أنّنا الاثنين مصنوعان من خشب! 

 وتوالت أسئلة «بينوكيو» البسيطة الصعبة معاً ومنها ما معنى الموت للأموات وللأحياء؟

 ينقل «ديل تورو» بينوكيو إلى تجربته الروحية الأولى لملاقاة «جنيّة الموت» المخيفة الرئيفة والتي تعرّف بينوكيو على قصة خلقه وحقيقة أنّ أختها «جنيّة الخشب» منحته حياةً لا يستحقها وضدّ الطبيعة حزناً منها على أبيه، وبأنّه لن يكون فتىً حقيقياً مثل «كارلو»، وأنّه محكوم عليه بالخلود، وسيموت مراتٍ ومرات، وفي كلّ مرةٍ سيعود فيها إلى الحياة. فرح «بينوكيو» لمعرفته بخلوده، ولكنّ «جنيّة الموت» نبّهته إلى أنّ الخلود يمكن أن يكون لعنةً وعبئاً؛ يعيش الأبد محكوماً بفراق من يحب، وبأنّ الحياة ثمينة لأنّها قصيرة فانية. يقول «ديل تورو» إنّ إضافة «جنيّة الموت» على قصة «بينوكيو» الأصلية هي من تأثير ثقافته المكسيكية، محيلاً إلى الشاعر المكسيكي عربي الأصول «خايمي سابينس» (خايمي الصبغيني) الملقّب بشاعر الحياة والموت:

«طوال حياتي وأنا أسمع صوتاً يهمس في أذني: «عِش عِش عِش، كان هذا صوت الموت». 

ما بين الحياة والموت تنقّل «بينوكيو» إلى أن أوصلته «جنيّة الموت» بحنانٍ أموميّ إلى أن يختار الفناء بقراره.

 «أردتُ أن أخلق عالماً يتصرّف الكلّ فيه كدمى ما عدا الدمية ذاتها»

يكمل «ديل تورو» في «بينوكيو» رحلة الطفولة المتمرّدة والمتألمّة في فيلميه السابقين؛ «كارلوس» في «العمود الفقري للشيطان» (The Devil’s backbone 2001) و«أوفيليا» في «متاهة بان» (Pan’s Labyrinth 2006) في سياقٍ اجتماعيّ سياسيّ شموليّ (فاشية فرانكو في إسبانيا في فيلميه السابقين، و فاشية موسوليني في بينوكيو)، وهي الرحلة التي بدأها بتأثير فيلم «روح خلية النحل» 1973 للمخرج الإسباني «فيكتور إريثه». وكما «كارلوس» و«أوفيليا»، فإنّ أخاهم الجديد «بينوكيو» يعاني اليتم وآلام الحياة السياسية والمجتمعية وويلات الحرب والفاشية، ويعيش مرحلةً حدّية بينيّة على عتبة الانتقال من مرحلةٍ إلى مرحلة، من الطفولة إلى «النضج»، في عالم يتوحّش فيه الكبار البالغون أو يكونوا عاجزين عن حماية وإرشاد الأطفال، وتصير فيه الكائنات الخرافية والمسوخ رفيقاً ومرشداً، تعينهم على اتخاذ القرارات و«النضج» ولكنّه «نضج» مغاير لنضج الكبار؛ نضجٌ جوهره التمرّد والعصيان والقدرة على رؤية الواقع على حقيقته، التي يعجز عن رؤيتها الكبار. وهنا تكمن أصالة «ديل تورو» الأهم في نسخته من «بينوكيو»، حيث لا «ينضج» ولا يتغيّر وإنّما يقوده عناده وعصيانه إلى تغيير الكبار وإنضاجهم.  

تجري عملية النضج هذه في حالةٍ متطرّفة من العنف الممارس على الأطفال والكبار معاً في ثلاثية ديل تورو «العمود الفقري للشيطان» و«متاهة بان» و«بينوكيو»، قتلٌ وتعذيب وتهديدٌ واقعيّ الملامح والتفاصيل، ويتعرّض «بينوكيو» ومن حوله لعنفٍ عسكري عارٍ من قصف وإطلاق نار وتفجيرات ودهس وتهشيم، ولكن كلّ هذا العنف الطافح لا يكسر أبطاله/ أطفاله، ولا يبقيهم «ديل تورو» متلقين سلبيين للعنف، وإنّما أيضاً يمارسونه بذات الوضوح والأدوات الدموية ضدّ الاشرار . «التراوما» المركّبة التي يعيشها أطفال «ديل تورو» لا تصنع شخصياتٍ مصدومة مذعورة مشلولة وإنّما يظهر أثرها (أيّ التراوما) كقوةٍ تحويليّة فردية، وقوة تغييريّة مجتمعيّة، وقوة إدراكيّة لمعرفة العالم على حقيقته، تحفّز الذاكرة على إظهار التاريخ المطمور المنسيّ، ولكنّه في الوقت ذاته فاعل راهن في الواقع. 

الخيالي ما بين «ديل تورو» و«ابن عربي»   

كعادته في أفلامه القائمة على الفانتازيا يوزع «ديل تورو» سرده السينمائي على زمانين/ بُعدين، تاريخي اجتماعي وخيالي أسطوري، منفصلين ومتّصلين يتنقل الطفل بينهما، كما أضاف في «بينوكيو» طبقةً أخرى من الخيالي جعلته أكثر تعقيداً وتركيباً، فبطله دمية تعيش في سياقٍ اجتماعيّ سياسيّ محدّد، إيطاليا الفاشية تحت حكم «موسوليني»، وهناك بعد ثالث وهو عالم الكائنات الروحية، وأرواح الأسلاف التي ترقب حياة البشر ونادراً ما تتدخل فيها، «جنيّة الخشب» التي منحته الحياة، و”جنيّة الموت» التي تعلّمه سرّ الحياة والموت ومعنى الوجود.  

في ثنائية الواقع/الحقيقة والخيال في سينما «ديل تورو»، لا يظهر الخيال انسحاباً أو مصنوعاً للهروب من الواقع الأليم، بل هو عالمٌ حقيقيٌّ متوارٍ ومواز، لا يُصنع وإنّما يدخل إليه الأطفال بـ «حاسة الطفولة» أو الخيال المتحرّر من أوهام الكبار، الطفولة هنا أداةٌ معرفيّة وموقع يمكّن الإنسان من رؤية ما لا يرى، المحجوب أو الكامن. يبدو عالم «ديل تورو» الخيالي في أفلامه قريباً من فلسفة الخيال عند الشيخ الأكبر «ابن عربي» وتحديداً «الخيال المتّصل»، الذي يصفه «أوسع المعلومات» بما هو «البرزخ» المابين، حيث الفرق والجمع ما بين المتحقّق والممكن، يولج إليه في لحظة الغيبة عن المحسوسات، وحيث تتّخذ المعاني/الحقائق المطلقة صوراً محسوسةً وتتجسّد الموجودات الروحية، وحقيقة الخيالي متجاوزة لموارد المعلومات أو المحسوسات، في الخيال المتّصل تؤخذ الصور من الحسّ ويجليها في المحسوس فهو كالمرآة.

يقول ابن عربي في فتوحاته المكيّة عن حقيقة الخيال: «يحكم بحقيقتِه على كلِّ شيء وعلى ما ليس بشيء، ويتَصَوَّر العَدَمَ المَحْضَ والمحَالَ والواجِب والإِمكان، ويجعل الوجودَ عدَمًا، والعدمَ وجودًا».

 بهذا، فإنّ الخيالي في سينما «ديل تورو»، كما عند ابن عربي، مرتبة وجودية لا وجوداً متوهماً، وأما كونه فعلاً خلّاقاً فمن حيث طبيعة فعله في التصوير والتكثيف والتلطيف للمعاني والحقائق الكونية عند «ديل تورو» أو للخيال المنفصل الإلهي عند ابن عربي.       

«بينوكيو»: ضدّ المدرسة وضدّ «النضج»

 الطفولة والنضج ما هي إلا تشكيل وبناء أيديولوجي اجتماعي تاريخي متغيّر، لا حقائق مستقلّة عمّا يقال عنها وما يُراد بها ومنها في كلّ زمان ومكان. في اللقاء/ الصدام الأول ما بين «بينوكيو» و«البوديستا»، المسؤول السياسي الفاشي والحاكم الإداري للقرية والمكلّف «بالحفاظ على أخلاق القرية» بحسب «جيبوتو»، يقول الأخير مبرّراً تصرفات وأقوال «بينوكيو» الفظّة «إنّه مجرد دمية»، فيجيب «البوديستا» إذا كان دمية فأين الخيوط التي تحرّكه ومَن يتحكم به؟ هنا لا يتأخر جواب «بينوكيو»: من يتحكم بك أنت؟ قبل أن يزجره «جيبيتو» بقول «لا أحد يكلّم البوديستا هكذا!». ليشخّص «البوديستا» مرض «بينوكيو»: «إنّ هذه الدمية تعاني من التفكير المستقلّ ومتمرّدة، عليك معالجته بإرساله إلى المدرسة».

يرسل «جيبوتو» «بينوكيو» إلى المدرسة التي يزدان جدارها برسمٍ لموسوليني!

يصل «بينوكيو»، الشخصية الوحيدة في الفيلم التي ترفض التصرّف كدمية والشخصية الأكثر ارتباطاً بالكذب في التراث الغربي، إلى قناعةٍ مفادها بأنّ المدرسة تعلّم الكذب الذي يرفضه، فيقرّر عدم دخولها بعد شعوره بالارتباك من شرح الصرصار «كريكيت» لما تقدّمه المدرسة من معرفة. لا يظهر رفض «بينوكيو» للمدرسة في هذا السياق بصفته فعلاً متمرّداً على أوامر الكبار فقط، وإنّما بصفته أيضاً، ولعلّه الأهم، رفضاً للمدرسة كجهاز أيديولوجي تخييلي للسلطة حيث التحرّر منها نجاة الوعي الطفولي من حرب السلطة ضدّ المجتمع وضدّ تخيّل واقعٍ مضادٍ لها.

وبحسب المنظومة الفكرية «الأناركية» لـ «ديل تورو» فكلّ سلطة أو مؤسسة أو بنية اجتماعية هي فاشية من حيث كونها نظاماً شمولياً، فالفاشية ليست إيديولوجيا متطرّفة متجسّدة في حالةٍ تاريخيّة محدّدة (إسبانيا فرانكو وإيطاليا موسوليني) وإنّما هي نمط، والفاشية هي الاسم للنموذج المثالي للسلطة . ولهذا، على أيّ بديل أو وجودٍ مضادٍّ لها أن يبدأ من تخيّلنا لواقعٍ مغايرٍ لها.

يفرّق «ديل تورو» في حواراته ما بين الأفكار والأيديولوجيات؛ المدرسة والإعلام والأسرة و«صناعة الثقافة» تقدّم رؤيةً للعالم كأيدلوجيات أو نسخة الخيال التي تريدها وتكوّنها السلطات كمثالياتٍ يجب التسليم بها وبافتراضاتها، بينما تقدّم المسوخ والكائنات القادمة من وراء الطبيعة العالم كأفكار للنقاش تتّسع للمتناقضات والرؤى الذاتية، تناقش الجانب المظلم من الحياة، كالألم والخوف والنبذ والموت كلّ ذلك في جوٍ تعليميّ حواريّ يحفّز الفضول الطفولي ولا يقمعه، ومن هنا فهي صيغة للمعرفة مضادّة للأيديولوجيات. 

يقول «ديل تورو» في إحدى حواراته إنّ الحكايات الأسطورية تمكّننا من تنظيم العالم بصورةٍ مختلفة وربما مضادّة لوعي السلطة، دون أن يضع الحكايات الأسطورية والخرافات في سلّةٍ واحدة؛ إذ يفرّق ما بين الأساطير المشوّشة للواقع القائم والوعي به، والتي تدعو الى المغامرة والمساءلة، وما بين الأساطير والحكايات الخرافية التي تعزّز الوضع القائم وتحافظ عليه. في هذا السياق، يمكننا فهم وصف بعض النقاد لـ «بينوكيو ديل تورو» بأنّها نسخة غير مسبوقة في «سوداويّتها ورعبها من الحكاية الخرافية»، وذلك بالرجوع إلى الناقد السينمائي «جاك زيبس» في معرض تحليله للحكاية الخرافية في أفلام «ديل تورو» السابقة. يقول «زيبس» إنّ ما تقدّمه «والت ديزني» من حكاياتٍ خرافية للأطفال هي نسخة مشوّهة معمولة لغرض التسلية أساساً، ولهذا تقوم على طمس التناقضات الاجتماعية فيها بتعقيم الحكايات الخرافية، ومن هنا فهي تحوّل الخيالي البرّيّ إلى وهمٍ مبهر يعزّز أوهام السلطة السياسية الاقتصادية. 

«النضج»

 تتشارك مسوخ «ديل تورو» الخرافية مع الأطفال في رسم مساراتٍ للنضج مضادّة للسرديات المهيمنة مجتمعياً أو مضادّةً لنسخة السلطة للنضج، والتي تقول بتطوّرٍ خطيّ من الطفولة إلى المواطن الصالح المثالي، يبدأ مسار النضج الـ«ديل توروري» بالعصيان والتمرّد على القوانين والمؤسّسات الأبوية، ولكنّه ليس تمرّداً مشاكساً مقصوداً لذاته، إنّما يبدأ من إجابات الكبار غير المنطقية من وجهة نظر الصغار.

يسأل «بينوكيو» أباه لماذا علينا فعل كذا، يجيبه الأب لأنّه القانون الذي علينا طاعته، سواءً أحببناه أو كرهناه، فيجيب «بينوكيو» بكل بساطة: لماذا؟ (علينا أن نطيع ما نكره). تقوم المسوخ بما يعجز عنه الكبار في صحبة الصغار، من موقع النبذ المشترك لكليهما العقلاني والاجتماعي في لحظة اجتماعهما كأيديولوجيا، فلا تقدّم العالم مثالياً مريحاً معقماً وإنّما ينقصه الكمال المتوهم، فتقدّم نسخةً مضادّة للطبيعة الإنسانية المتعارف عليها، وتطلق الروحي من عقال الدوغما الدينية نحو الكون الفسيح، يتصالح مع حقيقة الموت من حيث كونه حقيقة الإنسان، وتضع الأطفال أمام اختباراتٍ يلزمها اتّخاذ قرار وتتسامح حتّى مع عصيان إرشاداتها، وفي اللحظة ذاتها يؤسّس كلّ قرارٍ يتخذه الأطفال في عالم الخيال لقرارٍ في عالم الواقع القامع سياسياً واجتماعياً. تنتهي عملية التحرّر الخيالي إلى العنف التحرّري قريباً من العنف الفانوني (نسبةً إلى فرانتس فانون) القادر على صنع الإنسان الجديد. يتحرّر الأطفال من «طفولتهم» الاجتماعية ويتحوّلون إلى فاعلين سياسيين، كما المسوخ التي هي أيضاً فاعلة سياسياً، في التغيير السياسي الاجتماعي هنا قلب للطفولة من موقعٍ للممارسة السلطوية؛ عنفاً وتأديباً ووعظاً وتربية، إلى موقعٍ لرفض السلطة وتحريض الآخرين على رفضها. وإن كان مبتدأ الرفض والعصيان موقفاً فردياً، فإنّه لا يلبث إلى أن يتحول إلى فعلٍ جماعيّ عبر علاقة الصداقة والحب. 

يقول المخرج الكولومبي «خوان كارلوس فارغاس» عن أطفال «ديل تورو»: 

«الطفولة أداة لكشف وتعرية لاإنسانية عالم الكبار، أو الطبيعة اللاإنسانية للعالم، أطفال «ديل تورو» يجمعون ما بين كونهم ضحايا وشهود وأبطال في رحلةٍ لاكتشاف العالم أو فهمه، وعادةً ما يمرّون في تجارب ويتجاوزون عقبات، وعادةً ما يأخذون قراراتٍٍ تؤدّي بهم إلى الثورة والعصيان وبعقلٍٍ مفتوح وعبر علاقاتٍ قوية مع كائنات من وراء الطبيعة تعينهم في رحلتهم، في المحصلة والأهم، يصلون إلى القدرة على اتخاذ والالتزام بخيارات يبدو البالغون عاجزين عن اتّخاذها. ويمكننا فهم ذلك سيكولوجياً من حيث كون الأطفال لم يكتمل تكوّن أناتهم العليا وبكون آلياتهم الدفاعية للتحايل على الواقع ضعيفة».

في «بينوكيو» يقدّم «ديل تورو» فلسفته «الأناركية» متجسدةً في مانيفستو سينمائي كرنفالي الهيئة، يتّخذ شكل الوجود الكلي الضدّ أو «إجراءً جذرياً للحقيقة» بتعبير «ألان باديو»، النافي بكليته لأبويّة السلطة السياسية والتخيّلية والتعليمية والدينية والإعلامية الإشهارية وصولاً للعلاقات الأسرية، يقول «ديل تورو»: عندما تروي قصّة فإنك تنظّم أو تعيد تنظيم العالم بطريقةٍ ما. 

ولكن يبقى السؤال/ التحدّي: هل ستستهلك الفرجة كلّ هذه الطاقة الثورية وتلقي بها في هاوية العدم؟ الفرجة بصفتها وحشاً شريراً أخطبوطياً خيالياً واقعياً قادراً على التهام كلّ شيء وربما وحوش «ديل تورو» ذاتها! 

(مغارة بان، بانياس الحولة، تشرين الأول 2019، خالد عودة الله)

 «بينوكيو ديل تورو» الفلسطيني:

كلّما وقفت أمام «مغارة بان» التي ينبع من تحتها نهر البانياس ويحمل اسمه شمال فلسطين، تذكّرت «ديل تورو» الطفل الذي لا يريد أن ينضج والمناصر للحقّ الفلسطيني، وكائناته وتحفته السينمائية «متاهة بان»، «بان» إله البراري والحقول، الهلنستي الكنعاني، الذي حاربته الإمبراطورية البيزنطية وانتصرت على هياكله ولكنّ صرخته ونايه بقيت تعزفها الريح والأنهار…

(من المثير أن نتخيّل نسخة فلسطينية من «بينوكيو ديل تورو» في واقعٍ مركّب السلطات الشمولية، «وطنية» واستعمارية، في واقع “التراوما” الاستعمارية، وتراوما «السلطة الوطنية» التي لا تقلّ فاشيةً عن فرانكو وموسوليني ولكن لا أحد من الكبار يجرؤ على تسمية الأمور بمسمّياتها، وقد تحوّلت الفاشية إلى كرنفال اجتماعيّ رتيب من الأنوف الطويلة من لحمٍ ودم، في واقعٍ يمارس فيه النظام التعليمي الشمولي «الوطني» والاستعماري، بالتوازي والتناوب، أقصى درجات القمع والتدجين بمستوياته المختلفة، وفي واقعٍ تبدو فيه كلّ مساعي التحرّر للكبار لا تصل إلى جذر السلطة/ السلطات، أو تحدّي منطقهاـ

 أيّ طفل سيكون وأيّ كائنات خرافية «متوحّشة» ستصحبه في رحلته لكشف الواقع المتوحش وإعادة تنظيم عالمنا من جديد لفهمه والتحرّر منه ؟