بدأت «دينا عمرو»، المعروفة باسمها الفني «بنت مبارح»، مسيرتها الفنية عام ٢٠١٨ حين أجرت بحثاً عن أغاني الاستسقاء الصوفيّة التي اندثرت إثر التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها فلسطين بعد النكبة (١٩٤٨) وعن كيفية إعادة إحياء هذه التقاليد والبناء عليها في عروض موسيقية وأدائية. ومنذ ذلك الوقت، وسّعت «بنت مبارح» بحثها ليشمل أشكالاً عديدة من تقاليد الفرجة الأصلية، بما فيها الأغاني التي كانت جزءاً من احتفالات موسم النبي موسى التي هُمّشت بعد النكبة. [1]

تركّز هذه المقالة على عروض «بنت مبارح» الأخيرة التي تبحث من خلالها عن المعاني والإمكانيات الثوريّة التي يمكن أن تنشأ عبر إعادة إحياء الأغاني والتقنيات الأدائيّة التي كانت جزءاً من موسم النبي موسى بطريقةٍ مبتكرة وتجريبية. عرضت «بنت مبارح» أعمالها عن النبي موسى في لندن(٢٠١٩، Cafe OTO) كوترجيك (٢٠٢١، Next Festival BUDA Kortrijk)، و ماردين (٢٠٢٢، The Mardin Biennial). وعلى الرغم من أن هذه الأعمال كانت مختلفة، من حيث المحتوى و تقنيات الأداء (استعمال درجات مختلفة من الارتجال)، والمعاني التي تنتج من عرض هذه الأغاني في أماكن مختلفة (بريطانيا وبلجيكا وتركيا)، إلا أنّها تشترك في النهج الفنيّ والأسئلة التي تطرحها عن مستقبل هذه التقاليد الأدائية وكيفية توظيفها وتطويرها بطريقةٍ ثوريّة. [2]قبل مناقشة عروض «بنت مبارح» يجب توضيح النطاق السياسي والتاريخي الذي تشير إليه هذه العروض.

نبذة تاريخية

كان موسم النبي موسى من أهم المواسم الصوفية الذي جمع آلاف المشاركين من أجزاء مختلفة من فلسطين، خاصةً من القدس ونابلس والخليل وأريحا والقرى المجاورة. ومنذ بنائه من قبل السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في عام ١٢٦٩، كان لمقام النبي موسى أهمية دينية وسياسية تجلّت بشكل واضح أثناء الموسم حين كانت تأتي أعداد كبيرة من الناس لزيارة المقام الذي يبعد ٧ كيلومتر عن مدينة أريحا.[3] و منذ منتصف القرن التاسع عشر أثناء العهد العثماني، احتفل الفلسطينيون بالموسم في القدس وأريحا (مقام النبي موسى) في الأسبوع الذي يسبق عيد الفصح الارثودوكسي.[4] وكانت احتفالات الموسم تبدأ يوم الجمعة بعد وصول موكب أهالي نابلس (الذي كان يضمّ مجموعات صوفية بالاضافة إلى عامة الشعب) وموكب الخليل الذي كان يصل القدس يوم الأحد، وكان زوار القدس يغادرون المدينة يوم الإثنين ليبدؤوا مسيرتهم للمقام الذي يبعد ٢٠ كيلومتر عن القدس. و كان معتاداً أن يجتمع البدو وأهالي أريحا مع باقي الزوار أيام الثلاثاء والأربعاء في المقام الذي كان موقعاً اقتصادياً مهمّاً يخلق فرصاً للتجارة والتفاعل بين فئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني. ولهذا السبب أيضاً، كان للموسم أهمية سياسية، خاصةً في بدايات القرن العشرين حين تحوّلت احتفالات الموسم في القدس عام ١٩٢٠ إلى مظاهرةٍ ضدّ الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني. ولم تكُن هذه أول مرة يستخدم فيها الزوار الموسم للاحتجاج على قرارات سياسية (إذ تظاهروا مثلاً عام ١٩١٠ ضد حفريات بريطانية في حرم المسجد الأقصى وقبة الصخرة)، إلا أن أحداث عام ١٩٢٠ كانت نقطة تحول ليصبح للموسم طابع سياسي واضح، وغدا يوفّر مساحةً لنقد ومعارضة الاستعمار والحركة الصهيونية. وبعد عام ١٩٢٠، تحوّل الموسم إلى مناسبة وطنية عامة كما يمكن ملاحظته من الأناشيد والهتافات السياسية التي كانت تتردّد أثناء الموسم. [5]

بالإضافة إلى الأناشيد السياسية، كان الموسم يحتوي العديد من الطقوس والأشكال المسرحية التي كانت جزءاً من الاحتفالات في القدس وأريحا مثل حلقات الذكر، وسيف و ترس، وأشكال مختلفة من الدبكة والسحجة والأغاني الصوفية ومسرحيات كركوز وصندوق العجب بالإضافة إلى سباقات الخيل واحتفالات الختان (بالمقام)، و غيرها. [6] ولا بدّ من الإشارة إلى أن الكثير من تقاليد الفرجة التي كانت جزءاً من موسم النبي موسى مثل مسرحيات الكراكوز والطقوس و الأغاني الصوفية قد هُمّشت بعد النكبة، وكان لإقامة دولة «إسرائيل» والتغيّرات السياسية والاجتماعية التي تلتها دور مباشر في القضاء على هذه التقاليد، حيث لم يعد ممكناً للفلسطينيين أن يحتفلوا بموسم النبي موسى احتفالاً جماهيرياً يجمع آلاف الناس بعد عام ١٩٤٨.       

النبي موسى في أعمال «بنت مبارح»

كما ذُكر سابقاً، بدأت «بنت مبارح» بحثها عن النبي موسى في عام ٢٠١٩. في ذلك الوقت، وحتّى بعد عرضها الثاني لأغاني مستوحاة من موسم النبي موسى في بلجيكا، لم تكُن زيارة «بنت مبارح» للمقام ممكنةً لأسباب سياسية تتعلّق بالقيود المفروضة على السفر من قبل الحكومات بسبب وباء الكورونا (كوفيد ١٩) والإجراءات البيروقراطية العنصرية المفروضة على المهاجرين لبريطانيا. و بما أنها لم تكُن قادرة على زيارة المقام، قرّرت «بنت مبارح» استحضار النبي موسى في كل الأماكن التي كانت تقطنها من خلال غناء أناشيد كانت تمثل جزءاً من الموسم، ورواية قصص عن المقام (من تأليفها)، وعرض فيلم الذي كان يشكّل خلفية لعروضها الذي يحتوي على صور من الموسم قبل ١٩٤٨، فضلاً عن مشاهد مختلفة مصوّرة في لندن/بلجيكا التي كانت تذكّرها بالمقام، ولقطات من احتفال نظّمته السلطة الفلسطينية للموسم عام ١٩٩٤. [7] على سبيل المثال، استخدمت «بنت مبارح» في عروضها الهتافات السياسية التي كانت تنشد في احتفالات موسم النبي موسى في القدس ما بين أعوام ١٩٢٧-١٩٣٣ و منها:

شبو على الخصم اللدود    نار الوغى ذات الوقود 

نحن الأولى فتحوا البلاد    دانت لنا كل العباد [8]

تحتوي عروض «بنت مبارح» أيضاً على أدعية وأغاني دينية كانت تنشد في الموسم قبل النكبة، مثل: 

يا زوار موسى

سيروا بالتهليل

زرنا النبي موسى

عقبال الخليل 

يا زوار موسى 

زورا بالعدة 

زرنا النبي موسى 

عقبال الحجة   [9]

 تصف «بنت مبارح» أعمالها عن النبي موسى كبحث عن «الأماكن التي تقطن داخلنا»، حيث توجد أماكن نُمنع من الوصول إليها ولكنّها تبقى معنا في الذاكرة الجماعية التي يمكن من خلالها إعادة إحياء أماكن و تقاليد مفقودة. تطرح عروض «بنت مبارح» أسئلة مهمة عن كيّفية تخطّي الحدود (السياسية والجغرافية و الفنية) التي تفصلنا عن إرثنا الثقافي والديني والسياسي. ولا شكّ أنّ الكثير من خسائر الإرث الثقافي و الديني الفلسطيني كانت نتيجة النكبة حيث لم يعُد ممكناً لآلاف الفلسطينيين الوصول إلى المقامات الصوفية التي كانت جزءاً مهمّاً من الهوية المحلية والحياة الاجتماعية والدينية.[10] ولهذا السبب بالتحديد، تمثّل العودة لهذه التقاليد وإعادة إحياء الثقافة الفلسطينية الأصلية المهدّدة من الاستعمار الاسرائيلي وانتشار الفكر الوهابي، جزءاً مهمّاً من المقاومة الثقافية يتحدّى الحدود الجغرافية والمتخيلة التي تفصلنا عن إرثنا الثقافي والديني ويعيد تذكيرنا بتاريخنا المشترك وإمكانية استخدام هذه التقاليد المهمّشة للعمل الثوري (كما حدث عام ١٩٢٠).

تدرك «بنت مبارح» أهمية النبي موسى السياسية، وتعتبر أعمالها الفنية منهجاً لكيّفية التعامل مع هذه التقاليد، حيث تستخدم عروضها لتقديم تاريخ بديل يشجع الجمهور على إعادة النظر في هذه التقاليد واستكشاف المعاني و الإمكانيات الثورية التي يمكن أن تنشأ من خلال إعادة إحيائها. يجب التأكيد على أن «بنت مبارح» لا تقوم فقط بإعادة إحياء تقاليد اندثرت بعد النكبة، بل تخلق أيضاً أشكالاً جديدة تبني على إرثها الثقافي ويتمّ ذلك من خلال طرق مختلفة مثل إعادة تلحين الأغاني التي كانت تغني في الموسم (الكثير من هذه الاغاني موثقة بشكل مكتوب فقط و بالتالي لا تتوفر لدينا معلومات عن النغمة التي كانت تغني بها)، واستخدام تقنيات فنية كانت جزءاً من الموسم مثل الارتجال لخلق مادة جديدة، و تأليف قصص تعطينا الفرصة لاستكشاف موسم النبي موسى، والتصوّف الفلسطيني بشكل عام، باستخدام نظرة جديدة تؤكّد أهميته السياسية و الدينية. 

يشكل هذا النوع من التجديد جزءاً أساسياً من العملية الإبداعية التي تسمح للتقاليد أن تتغير و تتطوّر و هي تنتقل عبر الأجيال. والفرق الأساسي بين عروض «بنت مبارح» و الطقوس الصوفية هو أنها تقوم بهذه العملية منفردة وهي تشير في نفس الوقت إلى الحاجة للعودة إلى هذه التقاليد على الصعيد الجماعي، كما تشكّل عروضها مثالاً لإمكانية استخدام التقاليد الأصلية لنقد الاستعمار البريطاني ومن بعده «الإسرائيلي»، وحتّى الحكومة الفلسطينية (المشاهد من ١٩٩٤) التي حاولت، ومازالت تحاول، إعادة إحياء الموسم للادّعاء بأنها جزءٌ من حركة المقاومة، كما يُمكن ملاحظته من احتفالات الموسم في ٢٠١٨ و ٢٠١٩ (بالتعاون مع مؤسسة الكمنجاتي، مهرجان Sufi Encounters). [11] 

يجب الإشارة هنا إلى نقطة مهمة بخصوص استخدام تقاليد الفرجة الأصلية للمقاومة الثقافية، حيث أن استخدام التقاليد الأصلية في عروض معاصرة لا يعني أنّها بالضرورة ثورية، بل يعتمد معنى و تأثير هذه التقاليد على كيفية استخدامها في السياق الحالي، كما نبّه «فرانز فانون» في نقاشه عن المقاومة الثقافية في المعذبون في الأرض[12]. و لهذا السبب، لا يمكن اعتبار العروض المدعومة من قبل الحكومة الفلسطينية في مقام النبي موسى جزءاً من حركة المقاومة حيث تحاول استخدام التقاليد و المواقع الصوفية لاكتساب شرعيّة سياسية من خلال استغلال ذكرى النبي موسى في المخيّلة الفلسطينية (خاصةً أنّ الاحتفالات كانت تبدأ في القدس قبل النكبة) بطريقة سطحية لا تتحدّى الاستعمار «الإسرائيلي»، حيث تحتاج الشرطة وقوات الأمن الفلسطينية لإذنٍ من «إسرائيل» للتواجد في المقام الذي يقع في منطقة «ج». يوجد أيضاً تناقضٌ في كيفية تعامل الحكومة مع التقاليد الصوفية حيث تدّعي أنها تريد المحافظة على التقاليد الدينية وفي نفس الوقت تتعامل مع المقام كأنه موقع سياحي و تدعم عروضاً موسيقيةً تتعامل مع التصوف بأسلوب علماني لا يعطي أهمية للسياق الثقافي.[13]    

وتبرز هنا بالتحديد أهمية عروض «بنت مبارح»، إذ تشكّل أعمالها بديلاً للعروض المنظّمة من قبل الحكومة الفلسطينية والمؤسسات الثقافية (مثل الكمنجاتي). كما أشارت «بنت مبارح» خلال مقابلتنا إلى كون عروضها تنتقد التوجهات المختلفة التي تمّ التعامل من خلالها مع المقام (والتقاليد الصوفية الاصلية عامةً): استغلال الحكومة الفلسطينية للموقع «لبناء الدولة» بطريقة سطحية تتجاهل السياق التاريخي والسياسي الذي يميّز مقام النبي موسى كموقع للمقاومة، والتوجه العلماني الثقافي الذي لا يعطي اهتماماً للمعاني الدينية للمقام ويسعى لتسليع التصوّف الفلسطيني ودمجه في سوق الموسيقى العالمي، والتوجه الفنّي الذي لا يعطي اهتماماً لتاريخ المقام وفقط يريد استخدامه كمساحة عروض، توجه الـ «نوستالجيا»الذي يعيد إحياء التقاليد من دون الابتكار والبحث «في دورها الثوري في نضالنا السياسي و الروحاني»، و التوجه الوهابي الذي ساهم في تهميش التقاليد الصوفية المحلية. عروض «بنت امبارح» مبنية على التساؤل عن كيف يمكن استخدام هذه التقاليد، والإرث الثقافي الفلسطيني عامةً، بطريقة جدية تدعم حركة التحرير وتتحدّى التوجه العلماني والرأسمالي الذي يهمّش تاريخ المقام الديني والثوري. بالإضافة إلى ذلك، تبحث عن طريقة جديدة لتواصل الشتات الفلسطيني مع الأماكن الذي يحرمهم الاستعمار من الوصول إليها والثقافة الأصلية الفلسطينية التي تسعى «إسرائيل» للقضاء عليها (من خلال استحضار النبي موسى في المساحات المتاحة لها).     

ما يميّز عروض «بنت مبارح» هو أنّها لا تحاول استغلال الأغاني والتقاليد التي كانت جزءاً من الموسم لأغراض جمالية فقط، بل تتحاور مع هذه التقاليد من منطلق ديني، حيث تمثّل عروضها نوعاً من التكريم للنبي موسى والتجارب والتقاليد الروحانية المرتبطة بالمقام، وتشارك في تطويرها. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم «بنت مبارح» الأغاني و التقنيات الأدائية التي كانت جزءاً من موسم النبي موسى لحثّ الجمهور الفلسطيني على إعادة استكشاف تاريخه الديني والأدائي واستخدامه في العمل الثوري. و يتمّ ذلك، ليس فقط من خلال غنائها للأناشيد الوطنية التي كانت جزءاً من الموسم قبل النكبة، بل أيضاً من خلال القصص التي ترويها والفيديو في الخلفيّة الذي يتحدّى القوى السياسية والتغيرات الاجتماعية التي أبعدت الفلسطينيين عن أرضهم و تقاليدهم. تعطي عروض «بنت مبارح» الجمهور الشعور بأنّ أمراً ما على وشك الحدوث – كما أنّ على الجمهور المشاركة في العرض، من خلال التفاعل مع وتطوير التقاليد التي كانت جزءاً من الموسم لتكملة العمل. و هنا يجب الإشارة إلى جانبٍ آخر مهم من أعمال «بنت مبارح» وهو أنّ أعمالها مخصّصة للجمهور الفلسطيني، حتى حين تؤدّي عروضها خارج فلسطين. و بالاختلاف عن الكثير من المسرحيين الفلسطينيين الذين يصمّمون عروضهم لجمهور أوروبي أو أمريكي، أحياناً لأغراض التمويل.

 من المؤكّد أن عروض «بنت مبارح» مليئة بالرموز والإشارات الموجهة ثقافياً للمحيط الفلسطيني، و لا يهمّها إذا فوّت ذلك جمهور أجنبي. وهنا توجد أيضاً رسالة سياسية مهمّة برفض الهيمنة الأوروبية والأميركية على الإنتاج الثقافي التي تفرض على الفنانين الفلسطينيين تغيير أعمالهم، لتسهيل التواصل مع جمهور أجنبي مع أن العكس غير صحيح، بل يوجد توقّع أن تكون الثقافة الغربية مألوفة للفنانين الفلسطينيين لمنحهم الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، تساهم عروض «بنت مبارح» في بناء حوارٍ حول تقاليد الفرجة الأصلية التي هُمّشت من قبل الأكاديميين و أكثريّة المسرحيين لأنّها لا تعتبر «مسرحاً» حسب التعريف الأوروبي. وتشير عروضها لوجود وأهمية هذه التقاليد، بل تظهر أيضاً كيف يمكن استخدامها لإثراء الإنتاج الفني وتشجيع العمل الثوري. 

وحتّى كتابة هذا المقال، لم تُتَح لـ «بنت مبارح» فرصة لعرض أعمالها عن النبي موسى في فلسطين، لكنّها أكدت أنّها تنوي القيام بذلك. خلال مقابلتنا قالت «بنت مبارح» إنّ العمل سيكون مختلفاً إذا عُرض في فلسطين. كما ناقشنا أعمال «بنت مبارح» دائماً قيد التطوير، مثل التقاليد الصوفية التي استمرّت في كسب معاني جديدة إلى أن همّشت بعد النكبة. نتطلّع إلى رؤية أعمال «بنت مبارح» القادمة ونحثّ المسرحيين الفلسطينيين على الاستفادة من هذه التجربة الفنية التي تتحدّى الاستعمار الفكري والثقافي. [14]