يستعرض الجزء الأول من هذه السلسلة بعض المحطات المفصلية من تاريخ الصين على مدار مئة عام، بدايةً من الاستعمار الأجنبي للصين في منتصف القرن التاسع عشر، وانتهاءً بالثورة الشيوعية الصينية عام 1949.
“الإمبريالية تهاب الصين والعرب، إسرائيل وجمهورية فوروموزا تشكّلان قواعد الإمبريالية في آسيا. أنتم البوابة الأمامية للقارة، ونحن الخلف. هدفهم واحد…آسيا أكبر قارة في العالم، ويريد الغرب استغلالها…صراع العرب ضدّّ الغرب هو الصراع ضدّّ إسرائيل. وبالتالي، أيها العرب، قاطعوا أوروبا وأمريكا!” – ماو تسي تونغ في أول لقاء مع أحمد الشقيري ومنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1965.
“نحن على كامل الاستعداد لمساعدة الأمم العربية في استرداد فلسطين. قولوا لنا عندما تكونوا جاهزين، وستجدوننا مستعدين. سنمنحكم أي شيء وكل شيء، من المتطوعين للأسلحة.” – زو إينلاي، أحد أهم قادة الحزب الشيوعي الصيني، في زياراته للدول العربية في 1964.
حطّت طائرة أحمد الشقيري في مدينة بكين الصينية في 16 آذار عام 1965. خرج القائد الصيني الشيوعي ماو تسي تونغ (Mao tse-Tung) ليستقبله، ومن خلفه مئات الآلاف من الجماهير يرفعون علم فلسطين وعلم جمهورية الصين الديمقراطية، ويقرعون الطبول والآلات، لتصبح الصين حينها أول دولة غير عربية تعترف بكيانية منظمة التحرير الفلسطينية.وفي ذات المرحلة، موّلت الصين حركة فتح عسكرياً ومادّياً، واستمر ذلك حتى عام 1971[1]. كانت تلك الخطوات الداعمة تتويجاً للعقيدة “العالمثالثية” التي بدأت مع انتشار الثورات والانقلابات في العالم الجنوبي بين الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.
وكان من شأن تلك العقيدة تغيير وجه التنظيم الفلسطيني بشكلٍ كاملٍ؛ فلم تقتصر علاقة الصين بالفلسطينيين على التمويل للحركات الثورية فحسب، بل عمّمت الصين أيضاً فكرها ونظريتها وتنظيمها الثوري على كافة فصائل العمل المقاوم.
وهكذا، لم يكن مستغرباً أن تجد أسماء تتداول في أوساط الفدائيين الفلسطينيين من تلك التي يصعب نطقها اليوم من دون طرح التساؤل الاستنكاري: “ما صلة هذه الشخصيات بمجتمعنا وسياقنا؟”—أسماء مثل ماركس، ولينين، وتروتسكي، وجيفارا، وهوتشي منه، وجياب، والأهم، ماو تسي تونغ. ولم يكن من الغريب أن تجد في معسكرات الفدائيين نسخة من “الكتاب الأحمر” لماو إلى جانب البندقية، يقرؤه الفدائي كجزء من برنامجه التربوي، حيث التربية العسكرية مصحوبة بالتربية العقائدية.
ولم تنحصر هذه الظاهرة في الفصائل اليسارية كالجبهة الشعبية، بل شملت حركة فتح وكافة فصائل المقاومة الفلسطينية. ولعلّ من أهم التجليات التنظيمية الفريدة للماوية الفلسطينية كانت في حالة “الكتيبة الطلابية” المكوّنة من أفراد “يسار فتح”، والتي تحوّلت لاحقاً باتجاه “ماوي-إسلامي”.
وكان من ذلك التأثير، ظهور تساؤلات مثل: “ما دور البرجوازية الصغيرة في الثورة؟”، “هل طبقة الفلاحين طبقة ثورية حقيقية؟”، “هل تناقضنا الأساسي هو التحرر الوطني، ليأخذ التحرر الطبقي مرتبة ثانوية؟”. طُرحت تلك التساؤلات ليس كترفٍ نظريٍّ، بل كأسئلةٍ حيّةٍ حدّدت مسارَ حركة التحرر الفلسطيني، سواء كانت للأحسن أو للأسوأ، وتم نقاشها في صفحات المنشورات الحزبية، الرسمية وغير الرسمية، السرية والعلنية.
وكانت لتلك النقاشات تبعات حقيقية: كصدامات، وتحالفات، وانشقاقات، تمخض عنها ما سُمّي بنظرية حركة المقاومة الفلسطينية، وكانت لها جوانب عديدة، مثل مبدأ حرب العصابات والحرب الشعبية طويلة المدى والتنظيم الثوري اللينيني، وغيرها من المبادئ الثورية. ومرّت هذه النظرية “بأزمة” بعد هزيمة أيلول الأسود، نتجت عنها جملة من المراجعات التاريخية لمنظّري الفكر المقاوم، منهم صادق جلال العظم، وناجي علوش، ومنير شفيق.
وبالرغم من اختلاف المواقف وآليات التشخيص، أجمع المحلّلون أن القصور النظري على الصعيد الفلسطيني لعب دوراً أساسياً في الهزيمة. فقال ناجي علوش إن هذا القصور كان ناتجاً عن فهم مغلوط للماويّة ومفهوم حرب العصابات “والحرب الشعبية طويلة المدى”[2]. بينما قال صادق جلال العظم إنه نتج عن “فجوة بين النظرية والممارسة”، أي نتج عن عدم تطبيق الأسس الماويّة كما يجب.[3] ومن دون الخوض في مسألة درجة صواب تلك التقييمات، ما يجب التشديد عليه هو أنه في لحظة من تاريخنا كان الجنوب العالمي يتجه نحو التحرر من الاستعمار من خلال التجربة الاشتراكية، وأي تقييم لذلك التاريخ من أجل فهم مآلاته يجب أن يبدأ منذ لحظاته الأولى.
وبالرغم من أن هذه الحقبة قد انتهت، فإن روحها ما زالت تعود إلينا من حيث لا نتوقع؛ في مظاهرات حاشدة تخرج ضدّ تخفيض رواتب المعلمين، وفي احتجاجات حول تمرير قانون الضمان الاجتماعي، ولربما في لحظة الاشتباك مع منظومة مكافحة التمرد التي طُوِّرت لإحباط تاريخ فلسطيني حافل بالاشتباك. وإذا استنتج البعض أن التجربة الاشتراكية التي خرجت من رحمها أهم نظريات حرب العصابات والتحرر من الاستعمار قد انتهت، سيبقى بالرغم من ذلك السؤال الأهم: ما هو الحيّ، وما هو الميّت، من تلك الأيام؟ فمسألة التحرر الطبقي وعلاقته بالتحرر من الاستعمار ما زالت تفرض نفسها على ساحة النضال. وعلى ما يبدو فإن كل الأسئلة الأساسية التي طُرِحت قبل نصف قرن لم تتم الإجابة عنها بعد.
*****
تشكّل الثورة الصينية إحدى أهم ثورات الجنوب العالمي أو “العالم الثالث”، وظهرت آثارها في مرحلة حروب التحرير التي خاضتها الشعوب المسحوقة خلال القرن العشرين، وتأثرت الحركات الثورية الجنوبية بالفكر الشيوعي وصبغته الصينية الماوية. من جياب في فيتنام، إلى جيفارا في كوبا، ووصولاً إلى الثورة الفلسطينية في مخيمات الشتات—كل هذه الحركات الثورية استمدت نظرياتها الثورية و تكتيكاتها العسكرية وبناها السياسية من التجربة الصينية، وبالأخص من التجربة الماوية ونظرتها للتنظيم الثوري من جهة، وطريقة خوضها حروب التحرير من جهة أخرى. ولربما نظر كل أحرار العالم إلى الجنوب كمصدر للإلهام الثوري وكنقطة بداية في دحر الاستعمار ومن ثم الرأسمالية العالمية.
تتناول هذه السلسلة من المقالات، “ثورات الجنوب”، هذا الإرث الثوري وتجلياته المختلفة في أبرز ثورات حروب العصابات: الصين وفيتنام وكوبا. لن تقوم هذه السلسلة فقط بتقييم الإنجازات العديدة التي حققتها تلك الثورات، بل ستتطرق كذلك إلى أسباب فشل أو تراجع تلك المشاريع في سياقاتها المختلفة.
يستعرض الجزء الأول من هذه السلسلة بعض المحطات المفصلية من تاريخ الصين على مدار مئة عام، بدايةً من الاستعمار الأجنبي للصين في منتصف القرن التاسع عشر، وانتهاءً بالثورة الشيوعية الصينية عام 1949.
ومن أجل فهم التجربة الصينية بكافة تناقضاتها، ومن أجل تقييم التجربة على كل إخفاقاتها وإنجازاتها، ينبغي العودة إلى شرٍّ لا بدّ منه، وهو الاستفاضة التاريخية في ماضي الصين ونضاله من أجل الخروج من التبعية.
قرن الذل
بدأ التغلغل الاستعماري في الصين عندما هَزَمَتْ بريطانيا قوات الإمبراطور الصيني “داو جوانغ” في حرب بحرية أدّت إلى التوقيع على “معاهدة نانجينج” في 1842. اشترطت المعاهدة قبول الصين القصري بإقحام الأفيون في الأسواق الصينية، بالإضافة إلى جملة من الاشتراطات الاقتصادية والسياسية التي مسّت سيادة الإمبراطورية الصينية. هذا الحدث الذي جاء على إثر هزيمة ما سمي “بحروب الأفيون” أسّس لفترة الوصاية الأجنبية على الصين، وهي الفترة التي أطلق عليها الصينيون اسم “قرن الذل”.
أُجبرت الصين في تلك الفترة على القبول بالمزيد من المعاهدات مع فرنسا، وإيطاليا، وروسيا، والولايات المتحدة وغيرها. جعلت تلك المعاهدات الاقتصاد الصيني والأراضي الصينية ملكاً ليس للصين أو لشعبها، بل لقواتٍ أجنبيةٍ حوّلت الصين إلى “مَكَبٍّ” للبضائع الغربية، وجرّدت الإمبراطورية الصينية من سيادتها على أراضيها. ويقَدَّر لماو تسي تونغ الدور الأساسي بإنهاء “قرن الذل” الذي بدأ بالاستعمار الأجنبي في منتصف القرن التاسع عشر وانتهى مع قيام دولة صينية ذات سيادة في 1949،[4] كونه أحد أبرز الشخصيات التي أخرجت الصين من حالة التبعية الاستعمارية والتراجع الاقتصادي.
ماذا حصل بعد حرب الأفيون؟
أدّت هزيمة “حرب الأفيون” إلى تطورات على صعيد موازين القوى الداخلية في الصين؛ فكانت إحدى تبعات الحرب نشوب ثورات فلاحية ضخمة نتيجة لقسوة الأوضاع الاقتصادية، فقد شكّلت المستعمرات التجارية الأمريكية والأوروبية ضغوطاً على الإنتاج الفلاحي المحلي، وبالأخص الإنتاج الحرفي؛ الذي لم يستطع منافسة المنتجات الغربية. قامت في ظلّ ذلك “ثورة تايبينج” في العام 1850 لاستعادة كرامة الفلاح، وأُجبرت الإمبراطورية على التعاون مع الأسياد الإقطاعيين المحليين لإحباط التمرد، الأمر الذي أدّى إلى تنازل الإمبراطورية عن قدر من قوّتها ومركزية سلطتها.[5] وبعد عشرة أعوام من النصر لصالح الفلاح، قامت القوى الغربية بدعم السلالة الحاكمة، وهُزِمَت الثورة بشكلٍ حاسم في 1865.
وكما في أي مشروع استعماري يوجد من يتعاون معه، وينتفع من عملية النهب؛ فقد صعدت طبقة جديدة من التجار الصينيين المنحدرة من العائلات الزراعية الإقطاعية وقامت بالمتاجرة بالأفيون والسلع القادمة من الأسواق الغربية. أعادت تلك الطبقة استثمار الثروات التي راكمتها، ليس في تطوير الصناعة الوطنية فحسب، بل في الاستيلاء على المزيد من الأرض من خلال تهجير الفلاحين.[6] راكمت هذه الطبقة أيضاً نفوذاً سياسياً من خلال رشوة الحكومة بمنحها حصةً من عوائد تجارة الأفيون.
في هذا السياق من الترهل الاقتصادي والشرذمة السياسية، هُزِمت الصين بحربٍ أخرى مع اليابان التي بدورها رأت في الصين فرصة لاستغلال حالتها الضعيفة. فوقّعت الأخيرة مع اليابان اتفاقية في 1895 بعد هزيمتها الثانية، ومُنحت اليابان حقّ التحكم في تايوان، بالإضافة إلى المزيد من الامتيازات الاقتصادية على حساب الصين. كل هذا أدّى إلى إضعاف الحكومة ومكانة سلالة “تشينغ” الحاكمة، وفقدان ثقة النخب الصينية المتعلمة بالإمبراطورية.
بعد ذلك، تصاعدت المطالب الشعبية والنخبوية بنظام وطني جديد. أدّى ذلك إلى ثورة 1911 التي أطاحت بالسلالة الحاكمة، وأنهت حكم الإمبراطورية. ولكن لم تحل مكان النظام السابق حكومةٌ قادرةٌ على إخراج الصين وفلاحيها من مأزق التبعية، وتوّلت ذات النخب التجارية والإقطاعية المستفيدة من النظام الاقتصادي القائم الحكم، ولكن بشكل لامركزي ومشتت جغرافياً، وبالتالي اندلعت حروب أهلية بين هؤلاء الأسياد (أي بين النخب التجارية والإقطاعية)، ومثّل صراعهم الخلافات بين الجهات المختلفة الغربية الاستعمارية التي انبرت كل واحدة منها لدعم طرف من أطراف الصراع.[7]
لم تحصل أية اضطرابات أخرى إلا بعد عقد من الزمن، عندما تعالت الأصوات المنادية بالوطنية الصينية مرة أخرى، ورددت تلك الأصوات طبقةٌ جديدةٌ من الرأسماليين تضاربت مصالحها مع مصالح التجار الإقطاعيين المرتبطة بالنظام الاقتصادي الاستعماري القائم.
صعود حزبين: القومي، والشيوعي
تشكّل في تلك الفترة حزبان صينيان جديدان، حزب “الكومينتانغ” (Kuomintang) ذو التوجه القومي-الوطني بقيادة “سون ياتسن” (Sun Yat-sen)، والحزب الشيوعي الصيني بقيادة “تشن توهسيو” (Chen Tu-hsiu) و “ماو تسي تونغ”، وطُرحت إمكانية تعاون الحزبين.
أراد الشيوعيون استغلال تحالفهم مع “الكومينتانغ” لنشر الشيوعية في الصين،[8] ولكن تطّلب ذلك أن يتعاونوا مع القوى البرجوازية، مكوّنين تحالفاً من العمال والفلاحين والنخب الرأسمالية التي تعادي التجار الإقطاعيين المتحالفين مع الاستعمار. وقد كانت هذه الاستراتيجية مخالفةً لمواقف القادة الشيوعيين العالميين، من أمثال فلاديمير لينين وليون تروتسكي، وسرعان ما قام تروتسكي بشجب هذا التوجه كونه يتعارض مع نظريته “للثورة الدائمة”، التي اشترطت أن الحزب الشيوعي الثوري الحقيقي هو الحزب الذي يعادي كل القوى البرجوازية ولا يساوم معها.
في نهاية المطاف، برّر الحزب الشيوعي الصيني هذا التحالف الطبقي مع القوى البرجوازية من خلال الادعاء بأن حزب “الكومينتانغ” ليس حزباً برجوازياً، بل هو حزبٌ تجتمع فيه كل الطبقات لمحاربة الغزو الأجنبي.[9] وبالرغم من بعض التحفظات من “سون ياتسن”، أراد حزبه، “الكومينتانغ”، كسب الاتحاد السوفيتي كحليف ضدّ الإمبريالية، وتبنى الحزب – أي “الكومينتانغ”- الحزب القومي – تقنيات التنظيم البلشفية، وأصبح الحزب الشيوعي بمثابة الجناح اليساري ذي التوجه الماركسي داخل “الكومينتانغ” بالمقارنة مع الخطاب الشعبوي الفضفاض لدى سون ياتسن.
في منتصف العشرينات بدأ التحالف الشيوعي-القومي بالتنظيم والتحريض بين العمال الصينيين على مستوى أماكن العمل، خاصة في محافظة “كانتون” حيث كان نفوذ “الكومينتانغ” واسعاً، وبدأت إضرابات ضخمة ومتتالية احتجاجاً على ظروف العمل القاسية والقذرة التي وصلت في معظم الأحيان إلى ستة عشر ساعة في اليوم مقابل صحن أرز وخشبة للنوم.[10]
ونُظِمَت مقاطعةٌ للبضائع الإنجليزية، ومُنعت البضائع من التنقل بين ميناء “كانتون” وباقي المحافظات الصينية. تم ذلك من خلال تنظيم حواجز تفتيش عُمالية لتفقد البضائع، وقام العمال في “كانتون” بتحويل متاجر الأفيون إلى ملاجئ ومطاعم للعمال المضربين.
امتعض رئيس محافظة هونغ كونغ من حالة “الفلتان والفوضى” التي سببت خسارة 250,000 باوند إنجليزي يومياً، ونادى بالتدخل الإنجليزي “المسؤول” لإيقاف “صحوة” العمال والفلاحين. فلقد شُكلت “لجنة إضراب” من قبل العمال ذاتهم من أجل توجيه الإضرابات والتخريب، وسرعان ما أصبحت اللجنة تشبه “حكومة ثانية” بموازاة حكم “الكومينتانغ”، وأخذت طابع مجلس عُمّالي يشكل أحد طرفيّ نظام “سلطة مزدوجة”—حزب “الكومينتانغ” من جهة، و “لجنة الإضراب” من جهة ثانية.[11]
وعلى إثر هذا التحرك الجماهيري الواسع، استطاع “الكومينتانغ” تشكيل حكومة وطنية في حزيران من عام 1925، وانتقل الحزب من الهامش إلى المركز السياسي خلال فترة وجيزة نسبياً.
الشرخ الطبقي في ثورة 1925-1927
“كان يقول سون ياتسن أن لا يوجد في الصين أغنياء وفقراء، بل فقراء والأفقر منهم. لو عاش لفترة أطول (فقد توفى في يناير من عام 1925) لرأى ماذا يحصل عندما تتضارب رغبة “الفقير” بأن يصبح “أقل فقراً” مع رغبة “الأقل فقراً” بأن يصبح غنياً.” – من كتاب “مأساة الثورة الصينية” لهارولد آيزاكس.
هكذا ظهرت بواكير ما يُعرف بثورة 1925-1927 الصينية. أتى محركها الأساسي من الأسفل –من العمال والفلاحين وحركتهم الجماهيرية–، وكان موجهها الأساسي ذلك الائتلاف الشيوعي-الوطني تحت مظلة “الكومينتانغ” بالإضافة إلى “لجنة الإضراب” المُشكَّلة من العمال.
ولكن، كما أشرنا سابقاً، حوى هذا الائتلاف أيضاً أصحاب رؤوس أموال صينيين وأسياد إقطاعيين من الريف، ممن رفضوا سياسة “سون ياتسن” في التعاون مع الحزب الشيوعي والاتحاد السوفيتي، معتقدين أن الموقف الشيوعي الرافض لوجود النفوذ الاستعماري يشكل خطراً على مكانة “الكومينتانغ” الدولية، وأن التوصل إلى “حل وسط” مع القوى الاستعمارية هو الخيار الأنسب.
شكّل هؤلاء منظمات “لإنقاذ الحزب” من التأثير الشيوعي؛ فقد بدأوا ينتبهون إلى أن الحراك العُمّالي لم يهدد فقط الرأسمال الأجنبي، بل الرأسمال المحلي أيضاً. وهكذا لم يمضِ وقت طويل قبل أن يبدأ الرأسمال المحلي بالتعاون مع الرأسمال الأجنبي لاحتواء الحالة.
ولكن هذه الطبقة لم تكن الجهة المحافظة الوحيدة داخل “الكومينتانغ”، فقد ظهر في تلك الفترة أَثَرُ القائد الوطني “تشيانغ كايشك” (Chiang kai-Shek)[12]. تولى تشيانغ حكم جيش مقاطعة “كانتون” في آب 1925، ودَعَمَه الاتحاد السوفيتي هادفاً لمساعدة تشيانغ في السيطرة على الحزب كاملاً.[13] حقق تشيانغ ذلك الهدف في 20 آذار 1926 في انقلابٍ داخلي على القيادات اليسارية داخل الحزب،[14] وتم تصفية واعتقال أعضاء “لجنة الإضراب” العُمّالية والقضاء على الحركة النقابية في “غوانغزو”.[15] رفض الاتحاد السوفيتي قطع التمويل عن “الكومينتانغ” نظراً لاستثماره فيه كحليف استراتيجي، وبالتالي اعتبر ستالين أي توجه معادٍ “للكومينتانغ” داخل الحزب الشيوعي الصيني “تطرفاً يسارياً” يجب أن يُنبذ.[16]
وفي ذات الوقت، طَهَّر تشيانغ شمال الصين ممن تبقى من “أسياد الحرب”، منجزاً إعادة توحيد الصين في 1928. ومن ضمن هذه الحملة التطهيرية، قام تشيانغ في 12 نيسان 1927 بتصفية كل الوجود الشيوعي في “الكومينتانغ” بشكل كامل خلال أحداث “مجزرة شانغهاي”، أُعدِم فيها عشرات الآلاف من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني. حيث أن هذا الحدث أسس للحرب الأهلية الصينية التي لم تنتهِ إلا بعد عقود من الزمن في عام 1949.
عودة العصابات إلى الريف
دعمت الأممية العالمية وستالين أفعال تشيانغ، بينما قام ما تبقى من الحزب الشيوعي الصيني بمواجهة “الكومينتانغ” عسكرياً، وشُكِّلت عصابات مسلحة تحت اسم وحدات “الجيش الأحمر” بقيادة ماو تسي تونغ وغيره. اضطر الحزب الشيوعي نقل تنظيمه العسكري إلى الوسط الفلاحي الريفي في الصين، بحكم خسارة قاعدته العُمّالية التي ضُربت في مجزرة شانغهاي، الأمر الذي أقلق بعض أعضاء “المعارضة التروتسكية” داخل الحزب، بمعنى أنهم اعتقدوا أن القاعدة الفلاحية لن تشكل بديلاً مناسباً للعُمّال[17]. ولكن سرعان ما تجاهل باقي الحزب ذلك التخوّف وأعلن أن الثورة الزراعية هي شعار المرحلة والمنبع الجديد للحراك الثوري.[18]
لم يساعد هذا التوّجه الجيشَ الأحمر في بدايات الحرب الأهلية، خاصةً عندما باءت محاولة الشيوعيين لغزو مدينة “تشانغشا” بالفشل؛ نظراً لعدم التحامهم مع عُمّال المدينة، الذين وصل عددهم إلى 500,000 عامل (لم تكن في المدينة قاعدة فلاحية). وهكذا عادت العصابات إلى الريف مما أسس لبدايات بلورة العقيدة العسكرية لحروب العصابات الريفية.
يصِف هارولد آيزاكس المشهد العسكري آنذاك، حيث ظهرت بدايات تكتيكات حروب العصابات التي طورها ماو تسي تونغ لاحقاً:
“لم يُكتب في كل تاريخ حروب الفلاحين ما هو أروع من بطولات الجيوش الحمراء الصينية المشتبكة في حرب أهليّة مع أعداء بأعداد أكبر منهم بخمسة وستة وسبعة أضعاف، ومدججين بسلاح أكثر تطوراً منهم بألف ضعف. على مدار خمس سنوات أحبطت قوات الجيوش الحمراء خمس حملات عسكرية “للكومينتانغ”. فقد تفوقوا – “الحمر”- بسبب دعم الشعب لهم، وتحركاتهم السلسة، ومعرفتهم بالمكان، وهزموا عدة وحدات من أفضل جنود تشيانغ كايشك، وسلّحوا أنفسهم فقط بالأسلحة التي التقطوها من أعدائهم”.[19]
وبموازاة هذا الأسلوب العسكري، اتخذ الحزب نهجاً معيناً في التعامل مع شريحة الفلاحين، ومَيَّز بين “الفلاح الغني” و “السيد الإقطاعي”؛ حيث سُمح التعامل مع الفلاح الغني لأن أمواله وارتباطاته التجارية كان لها دورٌ مفصليٌّفي إبقاء البؤر الريفية الشيوعية حيّة وفعالة. وحددت هذه الظروف قدرة الحزب الشيوعي على تنفيذ سياسته المعلنة بخصوص منح “الأرض للحرّاثين” من خلال سلبها من الأغنياء، حيث رُفعت شعارات التحوّل الزراعي والثورة الريفية من دون تطبيق الخطاب على أرض الواقع.[20]
ومن جهته ، طمح الفلاح الغني لأن يصبح قائداً في ثورة الفلاحين، وهَدَف إلى ضم ثروة الأسياد إلى ثروته.[21] وتجسد هذا في احتكار الفلاحين الأغنياء للأرض والأسواق، مما أدى إلى انتشار البطالة ورفع الأسعار وتدني المستوى المعيشي للفلاح الفقير. فيما بعد، أخذت القوات الشيوعية بالتلاشي، وتشتت سيطرتها على معاقلها إثر عدوان “الكومينتانغ” المتكرر.
انتصار الثورة الشيوعية الصينية عام 1949: الجبهة الوطنية والكفاح المسلح
بالرغم من سكب الدماء الذي نتج عن الحرب الأهلية، أُجبر الحزب الشيوعي في منتصف الثلاثينات على تغيير سياسته تجاه “الكومينتانغ” نظراً لبداية الغزو الياباني للصين، وقام ماو تسي تونغ بعرض “يد الصداقة” لتشيانغ كايشك في 1936 على شرط أن يحارب اليابانيين. وبعد مفاوضات بين الطرفين، عاد الحزب الشيوعي إلى طرف “الكومنتانغ” لتتشكل “جبهة وطنية” تجمع بين الطرفين في تناقضها مع القوى الخارجية، وعُلِّقت الحرب الأهلية لفترة وجيزة.[22]
وفي تلك المرحلة أكّد ماو أن استراتيجية “الجبهة الوطنية” و”الكفاح المسلح” تشكّلان سلاحا الحزب الشيوعي من أجل سحق العدو. إلا أن تلك الجبهة لم تصمد لفترة طويلة، وأخذت بالتفكُّك التدريجي بين بداية ومنتصف الأربعينيات أثناء العدوان الياباني للصين الذي كان قد بدأ منذ أيلول من عام 1937. حُسم الأمر في 1945 عندما استسلمت اليابان مع تدخل أمريكا والاتحاد السوفيتي في مجريات الحرب الصينية-اليابانية، فعادت التناقضات القديمة بين الشيوعيين و”الكومينتانغ” واندلعت الحرب الأهلية الصينية مرة أخرى.[23]سُجِّلت أساطير عسكرية خلال الحرب، وخاض طرفا الصراع معارك طاحنة عصفت بالصين وسببت خسائر بشرية هائلة في صفوف المقاتلين والشعب. وفي نهاية المطاف، انتصرت القوات الشيوعية وأعلن ماو تسي تونغ قيام جمهورية الصين الشعبية في تشرين الأول 1949، وانسحب تشيانغ كايشك وقواته إلى تايوان، وبدأ ماو بمشروع تنمية الصين وخلق نظام اشتراكي.
محطّات في نضوج الفكر الثوري: الكفاح المسلح والحرب الشعبية
مرّ فكر ماو تسي تونغ بعدة مراحل من التطور بين الأعوام 1934 و 1949، أي بين الحروب الأهلية والحرب مع اليابان وانتصار عام 1949. كانت “المسيرة الطويلة” عام 1934 أول حدث أثبت فيه ماو قدراته كقائد عسكري، وساهمت التجربة في إرساء حجر الأساس لنظرية حرب العصابات الماوية؛ حيث قامت قوات الجيش الأحمر الصيني بانسحابٍ عسكريٍّ ضخم من مقاطعة “جيانغشي” والهروب إلى الغرب والشمال لتجنب الإبادة من قبل قوات “الكومينتانغ”، واستغرقت المسيرة التي بدأت بنصف مليون جندي مدة 370 يوماً، قاطعين 9000 كيلومتر عبر الجبال والأنهار، وهم يخوضون معارك مع قوات تشيانغ كايشك على الطريق. لم ينجو من المسيرة الطويلة إلا حوالي 20,000 جندي من أصل نصف مليون، ولكن عندما وصلوا إلى مدينة “يانان” قام ماو بإعادة بناء قواه، ووصل حجمها بعد عشرة أعوام إلى 900,000 جندي في الجيش الأحمر، واكتسب شرعية واسعة بعد أسطورة “المسيرة الطويلة”.
وتعتبر مرحلة التمركز في “يانان” الفترة الحاسمة في تكوين فكر ماو العسكري، قام فيها بقراءة متمعنة في الأدبيات الماركسية والشيوعية، وأضاف ملاحظاته ومساهمته في إعادة صياغة الماركسية واللينينية على أسس صينية، أو في مشروع “جعل الماركسية صينية” كما يقال.[24] سيتم التطرق إلى نظريته الاقتصادية والاجتماعية في الجزء الثاني من هذه السلسلة. أما فيما تبقى من المادة بين أيدينا سنصف كيف طوّر ماو نظريته العسكرية حول حرب العصابات و”الحرب الشعبية طويلة المدى”.
حرب العصابات والحرب الشعبية
في فترة تواجده في “يانان”، كتب ماو كراسه الشهير “حول حرب العصابات” في 1937، وفي 1938 قدّم سلسلة من المحاضرات تحت عنوان “حول الحرب طويلة المدى”. رسم ماو من خلالها الظروف الموضوعية التي تحيط بالصين في حربها مع الاستعمار الياباني، وبناءً على قراءته لتلك الظروف الخاصة استنتج جملة من التوجهات الاستراتيجية العسكرية التي تأخذ نقاط ضعف وقوّة العدوّ والقوات الصينية بعين الاعتبار.
إذن، طوّر ماو استراتيجية حرب العصابات بناءً على واقع المواجهة مع الجيش الياباني، وهذا الواقع اتسم بحالة تبعثر لقوات الجيش الياباني في مناطق جغرافية واسعة، الأمر الذي أدى إلى تطوير ماو للاستراتيجية التالية: “في هذه الظروف توجد للعصابات ثلاثة أدوار رئيسية: أولاً، أن تشن حرباً على الخطوط الخارجية، أي أن تضرب العدو من الخلف. ثانياً، أن تقوم بإنشاء قواعد. وأخيراً، أن توّسع منطقة الاشتباك”[25]. هذه المقولة باختصار تشكّل نواة التوجه الاستراتيجي لحرب العصابات.
أما بخصوص العامل الزمني، فقد أكد ماو أن حروب المستضعفين لن تنتهي بنصر سريع، بل تخاض على فترة زمنية ممتدة، وبالتالي يجب أن تتبنى القوات التحررية التوجه الاستراتيجي نحو “إطالة” الصراع، وإنشاء بنى سياسية تنشر “ثقافة ثورية” في أوساط الجماهير. هكذا لا يقتصر نشاط العصابات على الكفاح المسلح فحسب، بل أيضاً يشمل ما يعرّفه ماو “بالكفاح السياسي”، حيث تمارس القوى التحررية “السياسة” على مستوى الحياة اليومية عند الشعب. هكذا تضمن العصابات خلق حواضن شعبية تحوي القوى المقاتلة، والتي تسعى للذوبان بين الجماهير والاحتماء بهم وبدعمهم.[26]
ما هي آليات الكفاح السياسي؟ كيف تُخلَق البنى الاقتصادية والمادية والمعنوية التي تنتج تلك الحواضن الشعبية؟ باختصار، هذا يكمن في مهمة خوض الصراع الطبقي، أي هدم العلاقات الطبقية التي تضع الشعب في علاقات استغلال واستبداد. وفي الفكر الماوي بالأخص، يتم التركيز على مهمة بناء الوعي الطبقي المقاتل من خلال عمليات توعية جماهيرية، أي التركيز على الأيديولوجيا.[27] سنعالج هذا الجانب من الممارسة الماوية في الجزء الثاني من السلسلة.
هكذا أُنهي “قرن الذل” الذي بدأ بالاستعمار الأجنبي وانتهى بدحر القوى الخارجية بعد حروب دامية تحررية وأهلية. اتخذ نظام ماو الجديد التغيير الثقافي والمجتمعي والاقتصادي كالمحرك الأساسي لما وراء الاشتراكية الصينية. ولكن لم تسير هذه العملية بشكلٍ سلسٍ، وعُبِّد الطريق إلى الاشتراكية بالدماء الصينية.
يتبع
[1]John Cooley, “China and the Palestinians.” Journal of Palestine Studies. 1.2. 1971
[2] انظر: ناجي علوش، الخط الإستراتيجي العام لحركتنا ولثورتنا. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1974.
[3] انظر: صادق جلال العظم، دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية. بيروت: دار العودة، 1972. و: ناجي علوش، “رأيان في دراسة نقدية لحركة المقاومة الفلسطينية: هل هي دراسة نقدية حقاً؟” شؤون فلسطينية. بيروت: مركز الأبحاث الفلسطيني، العدد 21. و: منير شفيق، رداً على مغالطات العظم، 1973.
[4 Rebecca Karl, Mao Zedong and China in the Twentieth Century World. Durham: Duke University Press, 2010. pp. 2-4.
[5] Harold Isaacs, The Tragedy of the Chinese Revolution. Chicago: Haymarket Press, 2010, p.5.
[6] المصدر السابق، ص 7.
[7] المصدر السابق، ص 16.
[8] المصدر السابق، ص 47-49.
[9] المصدر السابق، ص 49.
[10] المصدر السابق، ص 56.
[11] Nigel Harris, The Mandate of Heaven: Marx and Mao in Modern China. Chicago: Haymarket Press, 2015, p. 8.
[12] * بعثه سون ياتسن ليدرس العلم العسكري من الجيش الأحمر في الاتحاد السوفيتي، وعاد إلى الصين في 1924 متعاطفاً مع مصالح البرجوازية المحلية ولكن بنفس الوقت مكتسباً قدر من الشرعية في أوساط الشيوعيين نظراً للوقت الذي قضاه في روسيا، وحاول تعزيز شرعيته باستخدام مصطلحات شعبوية وتبنى خطاباً جذرياً.
[13] يُفَسَّر دعم الاتحاد السوفيتي للكومينتانغ على حساب الحزب الشيوعي الصيني بأن ستالين قد استثمر الكثير في العلاقة مع تشيانغ كايشك ولم يريد المخاطرة في تخريب تلك العلاقة من خلال التعويل على انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الصراع، ولذلك أمر ستالين الحزب الشيوعي الصيني في عدة مراحل في التعاون مع الكومينتانغ وعدم الاصطدام معه ونبذ “التطرف اليساري”،وهذا أمر لم يعد ممكناً بعد مجزرة شانغهاي.
[14] Isaacs, p. 79.
[15] Harris, p. 10.
[16] المصدر السابق، ص 11.
[17] يعتقد بعض الماركسيين أن المطلب العفوي الذي يخرج من الفلاحين لا يتطابق موضوعياً مع الشيوعية، بينما المطلب العفوي الذي يخرج من العمال يتلاءم مع هدف الشيوعية لأن مصالحهم تتناقض مع مصالح الرأسماليين، وتحقيق مصالحهم يعني مواجهة الرأسمالية.
[18] Isaacs, p.29.
[19] المصدر السابق، ص 306.
[20] Harris, p. 23.
[21] Isaacs, p. 309[22] Harris, p. 26
[23] المصدر السابق، ص 30.
[24] Karl, p. 53.
[25] ماو تسي تونغ، “حول حرب العصابات” 1937، https://www.marxists.org/reference/archive/mao/works/1937/guerrilla-warfare/ch07.htm
[26] Karl, pp. 57-58
[27] Karl, p. 59 هنا المقصود من” التخلف” ليس المفهوم الثقافي والمعنوي، بل التعريف الاقتصادي التقني البحت، ويتخذ الزراعة البدائية والقطاع الصناعي الضئيل كنمط إنتاجه.