صدر عن مؤسسة مهجة القدس، في كانون أول من عام 2022، كتاب “قبسٌ من نور المسيرة: الشيخ المجاهد بسام السعدي يتذكر”. يقع الكتاب في 235 صفحة؛ تضم أحد عشر فصلًا، إضافة إلى إهداءٍ وتقديميْن لكلٍ من الأستاذ محمد فارس جرادات والأستاذ وليد الهودلي، وخاتمةٍ تعقيبيةٍ لمحرر الكتاب؛ الأستاذ عصري فياض، فضلًا عن فصلٍ أخير؛ وهو ملحق صورٍ متنوعةٍ توثق مراحل مختلفةً من حياة الشيخ السعدي.

هذا كتابُ ذكرياتٍ كما يتضح من عنوانه، يأتي الاهتمام به ضمن اهتمامٍ عامٍ بالتأريخ لفلسطين وعنها، يزداد هذا الاهتمام عند الحديث عن مذكراتِ أحد رموز الحركة الإسلامية في فلسطين، إذ ربما نجد فيها ما يعينُ على فهم تجربة الحركات الإسلامية وما أحاط بها من سريّةٍ ومخاطر عبر عدّة عقود؛ أسهمت في غياب وجود تاريخ رسمي لهذه الحركات إلى حدٍ ما. 

تعود أسباب غياب التاريخ الرسمي لدى الحركات الإسلامية في فلسطين إلى المواجهة المبكرة والمكثفة التي تعرضت لها؛ ما دفع عناصرها لإتلاف معظم الوثائق لدواعٍ أمنية، أو فقدانها في مراحل المطاردة وغيرها، فمثلًا في بحثي المستمر من أجل الحصول على أعداد مجلة “الطليعة الإسلامية”، وهي المجلة الأبرز التي عبّرت عن فكر “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” في بداياتها، كانت الإجابة الأكثر حضورًا لتبرير فقدانها هي الظروف الأمنية وحياة المطاردة. 

كما أخبرني أحدهم، ضمن بحثي حول “تشكُّل الجماعة الإسلامية في السجون”، عن فقدانه لعدد كبير من الرسائل الخاصة بتشكيل الجماعة بينه وبين أفراد في سجن عسقلان حينها، نتيجة هدم منزله وعدم تمكنه من إخراج الرسائل. فيما عبّر آخر عن الأسباب الأمنية التي تقف عائقًا أمام توثيق التجارب بقوله: “هذا تاريخ دم، في ناس أكلت مناسف وحاسبت على فلافل، الكتابة غير ممكنة”. 

إضافةً لأسبابٍ ذاتيةٍ تتمحور حول الخشية من مفاهيم المراءاة والتفاخر من جهة، أو رفض توثيق التجربة لعدم انتهائها من جهةٍ أخرى، في إحالةٍ من بعضهم على استمراريتهم في ذات الدرب؛ إذ في جهودي المتكررة لإقناع أحدهم بكتابة مذكراته تساءل مستنكرًا: “هل انتهت تجربتي كي أكتبها؟”. 

ولعلّ الأسباب الوجدانية تتداخل مع ما هو أمنيٌ في إعاقة توثيق التجارب، فهي مرتبطة بمواجهة البعض صعوبةً في كتابة تاريخ أقرانٍ ورفاق دربٍ استشهدوا. فمثلًا، بالرغم من تجاوز الشيخ السعدي للعديد من مبررات الابتعاد عن “الكتابة عن الذات” التي يسوقها بعض أقرانه، إلّا أنّه أمام إلحاحي عليه ليحدثني عن الشهيد نعمان طحاينة، اكتفى بالقول: “استشهدت أمي ولم أبكِ، استشهد الدكتور الشقاقي فبكيت، استشهدوا أولادي الاثنين وأنا مطارد ولم أبكِ، استشهد نعمان فبكيت، هذا هو نعمان”.

يضاف إلى أسباب الغياب الانغماس في الفعل الميداني بعيدًا عن الإنتاج المعرفي الضروري لمواكبة أيّ مشروعٍ تحرري، والاكتفاء بالكتابة الحماسية التمجيدية، وهو ما نجده يسيطر على بضع كتبٍ يمكن اعتبارها رسميةً من الحركات الإسلامية يغلب عليها الطابع التمجيدي للأشخاص لا كتابةً وتوثيقًا لسيرهم، إضافةً لوجود بعض الكتيبات ذات الطابع التربوي والتعبوي تستهدف العناصر الجدد في الحركة، فرضتها الضرورة التنظيمية وليس الانشغال بالتوثيق والتأريخ للحركة.

كما تجدر الإشارة إلى وجود أسباب ذاتية مرتبطة بعدم الاهتمام بالكتب بعد نشرها -رغم قلّتها ومحدوديتها- بحيث أصبحت غير متاحة في المكتبات أو إلكترونيًا. إضافةً لأسباب مرتبطة بمحاربة السلطات نشرَ الكتب عبر مصادرتها بحجة عدم وجود ترخيص لطباعتها، وهو ما حدث على سبيل المثال عام 2019، إذ قام جهاز المخابرات الفلسطينية في رام الله بمصادرة كافة نسخ كتاب “درب الصادقين: حكايات جهادية من بطولات المقاومة الفلسطينية” متذرعًا بعدم وجود ترخيص للطباعة.

أبدى توثيق التجربة لدى الحركات الإسلامية في فلسطين اهتمامًا أكبر بتوثيق التاريخ العسكري، مهملًا العباءة السياسية والاجتماعية التي شكلت البيئة الحاضنة للنهوض بالأعمال العسكرية وشق الطرق أمامها، ومن هنا تكمن أهمية مذكرات الشيخ بسام السعدي، كونها مذكراتٍ تحكي لنا عن المظلة السياسية والاجتماعية المُؤسِسَة والسابقة على الفعل العسكري للحركة، وبذا فإنّ قيام أسماء وعناوين بارزةٍ في الحركات الإسلامية في فلسطين بكتابة مذكراتهم، كالكتاب الذي نتناوله في مراجعتنا، يعني خطوةً للأمام نحو إيجاد تاريخٍ رسميٍّ يعبّر عن الحركات وتاريخها وسياقاتها السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.

الجذور والبذور: من فرحان السعدي إلى فتحي الشقاقي

يفتتح الشيخ السعدي الفصل الأول من الكتاب في الحديث عن نشأته والعوامل التي ساهمت في بناء شخصيته، فمن تاريخ عائلته (السعدي) وقريته (المزار) التي هُجِّر منها أهله، وباستحضارٍ للنكبة والنكسة واللجوء، وباستذكارٍ لأحداث استشهاد أفراد من المخيم، ينساب السعدي بين التاريخ والجغرافيا والتجربة فيقدم لنا مدخلًا حول بطولات الشيخ فرحان السعدي في الثورة الكبرى وما قبلها، إذ إنّ الشيخ فرحان شكّل نموذجًا ثوريًا متدينًا للطفل بسام، وكما تروي المذكرات: “كان الشيخ بسام السعدي يسمع من والدته وجده وجدته معظم قصص البطولة والفداء التي كان يقودها الشيخ فرحان وابن عمه الشيخ نمر السعدي، والشيخ القسام الذي كان يزور الشيخ فرحان والشيخ نمر في نورس والمزار وبسمة طبعون، وكانت والدة الشيخ بسام تحدثه عن الأسلحة والذخيرة التي كانت تأتي إلى الثوار من سوريا، وتخبئها جدته بين أكياس القمح وفي داخل التبن“.

يبين صاحب المذكرات أثر والده عليه في صقل شخصيته، إذ تخبرنا المذكرات :”كان هناك مقامٌ ومكانة لوالده الحاج راغب السعدي بين عائلته وجيرانه ومخيمه، جعل منه وجيهًا، يؤم مجلسه الأقرباء والجيران والأصدقاء… فقربّه والده منه، وكان يأذن له أن يؤم مجالس الكبار معه، يستمع لأحاديثهم، والتي كان يغلب عليها الحديث في السياسة وبطولات المجاهدين، وعلى رأسهم الشيخ فرحان السعدي… بل كان يصطحبه معه في زياراته للأقارب والجيران والأصدقاء“.

ينهي الكاتب الفصل الأول بالحديث عن مشاركات الشيخ الأولى في المظاهرات وما ترتب عليها من اعتقالات، إذ يروي فيها تفاصيل ثلاثة اعتقالاتٍ قصيرة، كان لها أثرٌ في اكتشاف وتلمّس الحاجة لما هو مفقودٌ بالنسبة للشيخ السعدي، فكما يُطلعنا الكتاب: “وأكثر ما كان يستوقفه أثناء فترة الاعتقال والسجن، هو وجود الفصائلية التي تنتمي لمنظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها سواء ذات الميول القومية الوطنية كحركة فتح وغيرها، أو ذات الميول الماركسية، وغياب النموذج الذي ترعرع على سماع تاريخه ومسيرته، فالكراسات والجلسات التثقيفية في غرف المعتقلين لا تأتي على ثورة عز الدين القسام وصولات الشيخ فرحان السعدي والشيخ المجاهد نايف الزعبي إلا مرورًا هامشيًا، وليس كثقافة تعبئة“.

يحدثنا السعدي، في الفصل الثاني من الكتاب، عن مشواره الأكاديمي بعد إنهائه التعليم في المدرسة، وارتهان ذلك للظروف السياسية والعسكرية العامة. كان ذلك بداية عام 1979، أي بعد نجاح الثورة الإيرانية، وإن كان للثورة الإسلامية أثرٌ على الشيخ في انبعاث أملٍ بإسلامٍ مقاومٍ في فلسطين كما يقول، فإنّه يخبرنا عن فقده منحةً دراسيةً في أميركا نتيجة منع الأخيرة قدوم حاملي الجنسيات إليهم سواء الإيرانيون أو الفلسطينيون أو غيرهم؛ على إثر اقتحام طلاب الثورة الإيرانية السفارة الأمريكية في طهران. 

يستمر الشيخ في حديثه عن مشواره التعليمي، فيحدثنا عن حصوله على منحة في جامعةٍ إيطالية وسفره إلى هناك وتعلمه اللغة الإيطالية ثم عودته إلى فلسطين ليزور أهله، وعدم تمكنه من السفر لتقديم امتحان القبول، فكما يخبرنا الكتاب: “حاول بسام العودة إلى إيطاليا للمشاركة فيه… إلّا أنه اصطدم بقرار سلطات الاحتلال القاضي بمنع أهالي مخيم جنين وبرقين من السفر خاصة الشباب والرجال منهم، بحجة اعتقال خلية فدائية تابعة لحركة “فتح” مكونة من عدد من شبان المخيم وقرية برقين المجاورة“. 

يأخذنا صاحب المذكرات بعد ذلك إلى تجربته في تعلم المحاسبة في الأردن، وأبرز ما حدث معه هناك، وكان له إسهامٌ في ترسيخ شخصيته، وهو ما سيرد معنا لاحقًا حول أثر هذه التجربة على تجربته في العمل التنظيمي، إذ يروي الكتاب: “ولكونه شابًا متدينًا، فقد كان لذلك اليوم الذي التقى فيه بالشارع وبشكل عرضي بمجموعة من رجال الدعوة والتبليغ الأثر في نفسه، فسرعان ما استجاب لطلبهم الانضمام ومؤازرتهم… وقد دامت هذه العلاقة لأكثر من عام ونصف، قبل أن ينهي دراسته العلمية“. 

يصحبنا الشيخ في الفصل الثالث من الكتاب إلى رحلة تعرُّفِه على فكر الشقاقي وزيارته في غزة وانتمائه رسميًا لحركة الجهاد الإسلامي، وبدايات العمل الدعوي السري، فنقرأ في الكتاب حول بدايات تعرفه على فكر الشقاقي: “شاءت إرادة الله أن يجيء ذلك اليوم الذي يذهب بصحبة الشاب حسام أبو سرية لسوق المدينة، فيلتقي حسام هناك بشاب من سيلة الحارثية يعرفه اسمه خالد جرادات، والذي لم يكن يعرفه الشيخ بسام من قبل، وجرى نقاش بين حسام وخالد… خلال المناقشة كان الشيخ بسام يميل لتأييد أفكار خالد جرادات، فتنبه لذلك خالد جرادات، وتعرف عليه أكثر، وطلب من الشيخ بسام تحديد موعد لزيارته في المخيم فرحب الشيخ بذلك… وما هي إلا أيام وإذا بخالد جرادات يطرق باب الشيخ بسام وهو يحمل له هدية فريدة وهي عبارة عن ثلاث نسخ من مجلة “الطليعة” التي كانت تصدر في لندن، وتعبر عن فكر حركة الجهاد الإسلامي …“.

ينتقل الشيخ بنا ليخبرنا عن بداية نشاطه التنظيمي والدعوي، إذ يروي الكتاب: “شرع بالدعوة داعيًا لفكرة حركة الجهاد، داعيًا من كان يرى فيهم أملًا في الإصلاح والتحول، ولكونه لا زال متأثرًا بنهج جماعة الدعوة والتبليغ، فقد توجه لشبان لهم ماضٍ في مسالك غير مرغوبٍ فيها في المجتمع، بقصد إصلاحهم وتوجيه طاقاتهم نحو المحتل…“.

لا يتوانى الشيخ عن اعترافه بإشكالاتٍ وقع فيها، إذ يقول: “هذا الأسلوب الخاطئ تنظيميًا في ظل وجود حركات منافسة سواء أكانت وطنية أو إسلامية رأت في ذلك التصرف ما يثير نقدًا لهذا التجمع الجديد، فشرعوا بالنقد لهذا التجمع لكونه يحمل فكرة جديدة منافسة حملت بعض الأخطاء التنظيمية في انتقاء العناصر نظرًا لقلة المعرفة في هذا الباب“. لم تكن هذه الملاحظة قراءةً ما بعديةً للأحداث، بل ترتب عليها وقتذاك تجميد التنظيم في مخيم جنين فترةً من الزمن، كما يخبرنا الشيخ.

التأسيس والبناء: المطاردة، والسجن، والإبعاد

يتحدث الشيخ في الفصل الرابع عن أدواره في انتفاضة الحجارة التي تنوعت ما بين السياسي والاجتماعي، إذ يخبرنا الكتاب: “…يرتب الصفوف، ويشحذ الهمم، يلقي البيانات، ويقود المواجهات، وينظم الإضرابات، ويعطي الجلسات في المساجد، ويسعف العائلات التي فقدت المُعيل بسبب الاعتقال، ويزور الجرحى، ويقدم واجب العزاء لذوي الشهداء، ويشارك في المسيرات، وينسق مع ممثلي باقي الفصائل، ويبتكر وسائل جديدة للمواجهة“.

في ذات الفصل، يروي الشيخ تفاصيل دقيقة وموسعة حول عملية التنكيل التي تعرض لها إثر اعتقاله نتيجة دوره في انتفاضة الحجارة، وكان لذلك التنكيل أثره على الشيخ في رفض الاعتقال بعد ذلك، إذ عاد من الموت كما يصف، واختار المطاردة. 

وكما يروي السعدي، فإنّه ورغم صعوبة ظروف المطاردة، إلّا أنها مكّنته من ممارسة دوره في انتفاضة الحجارة والتأسيس لما بعدها، إذ تخبرنا المذكرات: “ما ميز المطاردة الأولى للشيخ أمران، الأول قيادة التنظيم وترتيب صفوفه في المخيم والمحافظة على وتيرة تصعيد المواجهة مع الاحتلال، والأمر الآخر العمل الاجتماعي والإغاثي …، بجهود شخصية من خلال توظيف الصدقات والتبرعات وأموال الزكاة التي كان الشيخ بسام يتلقاها من الداخل الفلسطيني، ومن رجال الأعمال والتجار في محافظة جنين…“.

يختتم الشيخ الفصل الرابع بالحديث عن تفاصيل اعتقاله بعد المطاردة الأولى والتي استمرت اثنين وثلاثين شهرًا، كما يروي بعض تفاصيل الحياة اليومية في الأسر، ومما ترويه المذكرات عن الأسر هو الحديث اليومي العام بين الأسرى، إذ يروي الشيخ بثّه قصصًا ومواقف حصلت معه أثناء المطاردة على الأسرى “من منطلق تعميق التجربة لدى الآخرين وتوعيتهم بحسن التصرف عند المطاردة…“.

أما الفصل الخامس من المذكرات، فيذهب بنا إلى رحلة الإبعاد إلى مرج الزهور، إذ يفتتح السعدي هذا الفصل بالحديث عن الأيام الأولى للإبعاد والظروف التنكيلية التي تم بها، وعدد ونوع الشخصيات التي أُبعدت، وطبيعة الوفود والشخصيات من العالم التي قَدِمت للاطلاع على أحوالهم ودعمهم، وهو ما يسنده بصورٍ متنوعة في الفصل الأخير من الكتاب.

رغم شقاء الإبعاد وصعوبته الذي يتوسع الشيخ في وصفه، يأخذنا السعدي ليحدثنا عن الفعاليات والإبداعات التي قام بها المبعدون سواء المسرحيات أو مسيرات العودة أو الجامعة العلمية. كما يسرد العديد من المواقف التي تبيّن مدى انخراطهم مع البيئة المحيطة بهم، إذ يسرد علينا: “وفي موسم قطف الزيتون شارك المبعدون في مساعدة أهل المنطقة ومن كافة الطوائف… تطوعًا، … وفي مجال التعليم، أخذ سكان بعض القرى يرسلون بعض أبنائهم وأطفالهم إلى مخيم المبعدين لكي يتلقوا دروس التقوية في معظم المواد الدراسية على يد المبعدين بشكل طوعي، … وقام المبعدون بإنشاء عيادة لعلاج المبعدين وسكان القرى المجاورة الذين جاؤوا بشكلٍ متواصل لتلقي العلاج…، وكانت هذه العيادة ترسل الأطباء إلى قرية مرج الزهور وبعض القرى الأخرى لعلاج كبار السن وغيرهم، وكانت تصرف لهم الأدوية المتوفرة بكثرة …“.

ينهي الشيخ الفصل الخامس بالحديث عن عودته من الإبعاد والظروف التي تمت بها، ثم ينتقل للحديث عن دوره الاجتماعي والإغاثي بعد الإبعاد، إذ يقول: ” …لم يغفل الدور الاجتماعي والخيري والدعوي والإصلاحي…، مضيفًا نوعًا جديدًا هذه المرة لأسر الشهداء عامة، عندما شرع في جمع قوائم أسماء الشهداء في محافظة جنين وبياناتهم من أجل إيصالها إلى مؤسسة “الشهيد” في لبنان، والتي طلبت منه ذلك أثناء وجوده في مرج الزهور، من أجل تبني هذه الأسر… الأمر الذي تطور لاحقًا ليكون عبر مؤسسة نظمت هذه الأمور في داخل فلسطين…“.

يطلعنا السعدي في الفصل السادس من الكتاب على تجربته في جمعية الإحسان ودورها الاجتماعي والإغاثي إذ يقول: “كان لجمعية الإحسان دورٌ كبيرٌ في تنظيم العمل الاجتماعي بشكل أفضل، حيث ساهمت ورعت حلقات القرآن الكريم في مساجد المدينة والمخيم وقرى المحافظة، وقد وصل عددها إلى اثنتين وثلاثين حلقة للذكور والإناث، وتعود فكرة إنشاء تلك الجمعية للأخ شريف طحاينة، وقد عرض عليّ الأمر فوافقت كوني صاحب خبرة في العمل الاجتماعي والزكاة والصدقات، مما جعل الجمعية فاعلة من اللحظات الأولى، وقد قامت بدورٍ مهم في دعم الفقراء والمحتاجين، وكذلك توزيع المواد التموينية والحقائب والقرطاسية على الطلاب الفقراء، وشكلت نقطة التقاء للكثير من المجاهدين الذين توثقت بينهم الروابط أكثر“.

كما يمر، ذاكرًا، في سياق الحديث عن الدور الاجتماعي والسياسي والفكري، على عدة مؤسسات تابعة للجهاد الإسلامي وقتذاك، إذ يروي: “ولا ننسى دور الاتحاد الطلابي في جنين، وكذلك جمعية البراء للفتاة المسلمة التي كانت ترأسها الأخت المجاهدة منى قعدان، كذلك مركز الدراسات والإعلام الذي أداره الدكتور عماد أبو الحسن، وقد جاءت فكرة هذه المؤسسات من الشهيد القائد المفكر نعمان طحاينة والأستاذ المجاهد محمد فارس جرادات (أبو مؤمن)… وافتتحوا مؤسسةً بإدارة أنور حمران، وسميت “مؤسسة السبيل” تعنى بالخدمات العامة، وقاموا بإنشاء مؤسسات أخرى تابعة للحركة، مثل روضة أطفال في الحي الشرقي في المدينة، ونادٍ رياضي جرى استئجاره من صاحبه بقصد إيجاد متنفس رياضي لشباب الحركة وغيرهم من الشبان، وكذلك تشكيل فريق رياضي للأشبال…“.

معمعة الثقال: انتفاضة الأقصى، والتحقيق العسكري، والإضراب عن الطعام

يخصص صاحب المذكرات الفصل السابع للحديث عن انتفاضة الأقصى وبعض مجرياتها في جنين ومخيمها وريفها، وعن استعدادات حركة الجهاد الإسلامي لانتفاضة الأقصى يقول: “فكان كوادر الجهاد الإسلامي في محافظة جنين أمثال إياد حردان وأنور حمران قد عملوا مسبقًا، وبشكل سرّي للتحضير لمثل هذه المرحلة من خلال تجنيد خلايا متشعبة في المدن والقرى والمخيمات حتى في صفوف الأجهزة الأمنية الفلسطينية من خلال عناصر تعمل ضمن تلك الأجهزة…“. 

ثم يعرّج على الظروف التي عاشها إياد الحردان في سجون الأجهزة الأمنية ودوره من هناك في إشعال وقود المواجهة العسكرية، وصولًا إلى اغتياله وما رافقه من حالة جماهيرية غاضبة على الأجهزة الأمنية كونه استشهد عبر تفجير الهاتف العمومي الذي اعتاد استعماله بعد خروجه من باب المقاطعة، كما يسرد الشيخ بعض العمليات العسكرية التي خرجت من جنين بعد اغتيال الحردان، إذ يقول: “… فكانت عملية الثنائي الاستشهادي علاء الصباح وأسامة أبو الهيجاء بتاريخ 25/5/2001، والتي كانت في مدينة الخضيرة، وعملية الاستشهادي نضال أبو شادوف في جنوب حيفا والتي كانت بتاريخ 16/7/2001 من نفس العام، وعملية الثنائي يوسف السويطات ونضال الجبالي، والتي نفذت بتاريخ 28/10/2001، في مدينة الخضيرة، وعملية محمد نصر الحارس الشخصي لإياد الحردان والذي نفذ عملية استشهادية في “كريات موسكن” قرب حيفا“.

يحدثنا السعدي عن تطورات الأحداث في جنين، مدينةً ومخيمًا وقرى، إذ يقول: “بعد الحردان تسلم دفة القيادة الأسير ثابت المرداوي حيث قاد العمل بذكاء، فوثق العلاقة مع طوالبة والأسير الشيخ علي الصفوري وأخذ ينسق ويتواصل مع باقي أذرع العمل المقاوم في المخيم وفي المحافظة…“. كما يتوسع الشيخ في ذكر تصاعد حالة الانتفاضة والاعتقالات وقصف المقاطعة وهدم البيوت في جنين، وما رافق ذلك من اعتقال الأجهزة الأمنية لبعض رموز العمل العسكري من جهة ورموز التنظيم من جهةٍ أخرى، ودوره المستمر في إبقاء حالة من التوازن مع الأجهزة الأمنية.

يذكر الشيخ قصةً تعكس حجم خطورة الثالوث طوالبة والمرداوي والصفوري، إذ يقول: “ذات يوم اتصل العقيد أبو الفتح نائب قائد منطقة جنين، بالشيخ بسام وقال له: أريد أن أتحدث معك بشيء غاية في الأهمية، سأرسل لك سيارة لتحضرك حالًا، ذهب الشيخ من فوره فقال له العقيد أبو الفتح: يا شيخ، لا نريد أن يحصل لنا ما حصل ليوغوسلافيا، يمكن لليهود أن يهرسونا كالبيض، “الإسرائيليون” أبلغوا الأمريكان الآن، أن هناك اجتماعًا ثلاثيًا يجري الآن بين الثلاثة ثابت مرداوي ومحمود طوالبة والحاج علي الصفوري، وأنّ “الإسرائيليين” والأمريكان يقولون إنّ في اجتماع ثلاثتهم سيكون التحضير لعمل كبير حتمًا، وإنّ الرئيس ياسر عرفات قد اتصل بنا لنبلغكم أنه يجب التهدئة، ووقف العمل المسلح. قلل الشيخ بسام من تهويل العقيد، قائلًا: أصدقاء يلتقون، لا داعي لكل هذا الخوف“. 

تنتقل بنا المذكرات للحديث عن الاجتياح الأول (28 شباط 2002) لمخيم جنين، وما جرى فيه من سيطرة على المخيم وارتقاء شهداء وإصابات كثيرة بعد مواجهاتٍ عنيفة بالأسلحة الرشاشة والعبوات، والذي أدى إلى انسحاب مقاتلين من فتح وحماس عبر ثغرة لخارج المخيم نحو مدينة جنين، وهنا يسرد الشيخ طلب ممثلي فتح وحماس في المخيم إقناع الشيخ لمقاتلي الجهاد الإسلامي كي ينسحبوا نحو المدينة خشية على حياتهم، واقتناعه بذلك: “اقتنع الشيخ بذلك، وقام بإجراء المشورة عبر الهاتف مع بعض قيادة الحركة وكوادرها منهم عبد الحليم عز الدين ونعمان طحاينة، فكان الرأي أنه لا مانع من الانسحاب، فقام الشيخ بالانسحاب بمرافقة عدد من المقاتلين من تلك الثغرة، وعاد للحديث مع الباقين، ومنهم الحاج علي الصفوري والشيخ محمود طوالبة… فخرج الحاج علي والشيخ بسام ومعهم عدد من المقاتلين بعد أن تحدث مع الشيخ محمود… وعده باللحاق به سريعًا إلى جنين“.

لكنّ الشيخ طوالبة لم يخرج من المخيم كما يتضح، أما من خرجوا “فقد باتوا ليلتهم في أحد منازل الحي القديم في المدينة، ليستيقظوا صباحًا على قناة الجزيرة وهي تجري مقابلة عبر الهاتف مع الشيخ محمود طوالبة يعلن من خلالها دحر الهجوم على المخيم، وقال لقناة الجزيرة الفضائية: “لقد صدّ الهجوم عن مخيم جنين بعون الله” فشعر كل من خرج بنشوة الانتصار، وعادوا بأعداد أكثر“.

بعد ذلك يأخذنا صاحب المذكرات للحديث عن الاجتياح الثاني (آذار 2002) والذي ارتقى فيه اثنان وعشرون شهيدًا إذ يقول: “الضابط الصهيوني الذي كان مسؤولًا عن اجتياح المخيم في يومه الأول وقتها صرح للإعلام “العبري” أنه تمكّن من تطهير المخيم من كل المقاتلين، فجاء تصريح طوالبة صفعة له، فقامت قوات الاحتلال بالإغارة ثانيةً على جنين ومخيمها وريفها؛ من جديد بشكل أكثر شراسة وقسوة”. 

يكمل الشيخ حديثه عن أثر الاجتياح الثاني في خلق حالة من الاستعداد للمواجهة وتطوير شكل العمل العسكري بما يتناسب مع شراسة المعارك وحجم المواجهة، ويروي فيها عن دور الحاضنة الشعبية للمقاومة في مخيم جنين، إذ: “وصل حد تسليم البيوت بمفاتيحها للمقاومين من قبل الأهالي دون أي مقابل“، كما يتحدث الشيخ عن تكتيك فتح ثغرات بين البيوت لسهولة التنقل بعيدًا عن القناصة والطائرات، إذ يروي: “لاحظ المجاهدون والمقاومون… أنّ وحدات الجيش الصهيوني كانت تتنقل من بيت لبيت في كثير من الأحيان خلال تسللها للمخيم عبر فتحات تحدثها في جدران البيوت المتلاصقة، لتفادي رصاص المقاومين فقرر المجاهدون والمقاومون اتباع نفس الأسلوب…“.

يستمر السعدي في سرد تفاصيل حول شكل الإعداد للمواجهة المرتقبة، فيتحدث عن مصانع لتصنيع “الأكواع” والعبوات الناسفة، وشراء كميات كبيرة من الرصاص وتوزيعها على المقاومين، وتجهيز مركز إسعاف، إضافةً إلى تفخيخ كل شيء في أزقة المخيم. بعد ذلك، ينتقل الشيخ للحديث عن اجتياح نيسان 2002 ويسرد تفاصيل متنوعة من المعارك اليومية.

ينتقل الشيخ للحديث عن استشهاد محمود طوالبة، وما سبقه من محاولات عدة فاشلة لاغتياله، إذ يقول الشيخ: “كان طوالبة يحمل حقيبة محشوَّة بالمتفجرات شديدة الانفجار تزن حوالي اثني عشر كيلو غرامًا، وكان يريد تفجيرها في حال اقتحمت قوات الاحتلال عليه وعلى من معه في المنزل، وكان يخطط أيضًا لأسر جنود إن تمكن من ذلك؛ للمساومة عليهم في فك الحصار عن المخيم، وقد صدّ هجومين على ذات المنزل خلال الساعات التي تواجد فيها في ذلك البيت…“.

ويضيف: “بدأ المنزل يتعرض لقصف الطائرات بشكلٍ جنوني، دخل الصاروخ الأول الغرفة التي كان فيها طوالبة وشادي النوباني وعبد الرحيم فرج، وكان إياد أبو الليل عند باب الغرفة، يقول إياد: فقدت الوعي لفترة ثم أفقت، فوجدت جثة مقطعة حولي، فعرفت عبد الرحيم فرج من سن الذهب البادي من ثغره، أما الشهيد طوالبة فلم أستطع أن أشخصه، ووجدت شادي النوباني يجلس على الكرسي على بعد مذهولًا ولم يمسسه سوء، فسألته عما جرى، فقال: لا أعرف…“.

بعد ذلك يتحدث الشيخ عن كمينٍ محكم نفذه المقاتلون نجم عنه قتل 13 جنديًا وإصابة 7 آخرين، ساردًا تفاصيل إعداد الكمين وأثناءه وبعده، ويضيف قوله لأشقائه عندما سمعوا خبر وصول شارون للمكان: “سيهدم شارون المخيم أو المنطقة التي وقع فيها الحادث، أو ربما يفتح الشوارع العريضة للسيطرة عليه، فهذه سياسته المتمثلة بسياسة “الحلق” التي كان ينتهجها في قطاع غزة عندما كان يتعرض لهجومٍ في نهاية الستينيات والسبعينيات“، وهو ما حدث بالفعل.

يتحدث الشيخ عن اعتقاله وظروف التحقيق التي مرّ بها على إثر تنفيذ هنادي جرادات عملية استشهادية في يومه الرابع من التحقيق؛ إذ تعرّض لتحقيقٍ عسكريٍ كما يصف: “وقف ستة من عناصر المخابرات خلفه وهو مقيد اليدين والقدمين، وجلس أمامهم ضابط مسؤول يدعى أبو حبيب أجلسوه على كرسي دون خلفية ظهر، وشرعوا بثني جسمه إلى الخلف حتى أصبح جسده كدائرة مكتملة، وسط صراخ من الألم وانقطاع النفس، ثم قام أحدهم برفعه بشكل سريع ورميه للخلف عدة مرات وبشكل متواصل، وعندما كان يشعر “أبو حبيب” أن الشيخ قد اقترب من الموت، كان يشير لهم أن توقفوا، ثم يتقدم المحقق راني ويضع إبهامه المتصلب كالخنجر في جوف صرته حتى يكاد أن يفقأها، ثم يضع إبهامه المتصلب من جديد في يسار بطنه ويمينه ووسطه، ويطحن به أحشاءه، وأيضًا يقوم بذلك في جنبيّ رقبته، ثم يعود الباقون لثنيه للخلف مرة أخرى، وسط صراخ الشيخ وغثيانه وبين تلك الحركات أسئلة تكتب على لوح مقابل: من هم الاستشهاديون والاستشهاديات القادمون؟ أين هي المتفجرات؟ أين المختبرات والمعامل؟“. كما يذكر الشيخ أنّ التحقيق العسكري معه انتهى بعد تهديدٍ من سرايا القدس حال تعرض حياة الشيخ السعدي للخطر.

في الفصول الأخيرة من الكتاب، يشرع الشيخ السعدي بتناول تجربته في السجن، إذ حُكم بعد التحقيق العسكري 5 سنواتٍ تلاها 33 شهرًا في الاعتقال الإداري، وما إن خرج للحرية مدة 55 يومًا حتى عاد للسجن مرةً أخرى، تلتها مطاردةٌ استمرت 55 شهرًا، ثم اعتقالٌ استمر عاميْن، تلته حريةٌ لمدة 30 شهرًا، وصولًا إلى اعتقاله الأخير والذي ما زال فيه.

كما يسهب الشيخ في الحديث عن حياته اليومية بالأسر من أنشطة اجتماعية وعلاقات تنظيمية ووطنية، إضافةً لحديثه عما هو ذاتي لديه في إدارة يومه عبر القراءة وغيرها، وصولًا للحديث عن عدة إضراباتٍ قصيرة شبه جماعية، إضافةً للحديث عن وثيقة الأسرى وما جرى حولها من إشكالات. كما يتوسع الشيخ في الحديث عن إضراب الشيخ خضر عدنان عام 2012، وما تلاه من إضرابات جماعية أو شبه جماعية أو فردية وكان له ارتباطٌ بها.

تعقيب ختامي:

يتجلى تداخل الفردي والجماعي في هذه المذكرات في مواضع ومحطاتٍ متنوعة، وهو ما يعني إسهامًا في فهم السياق السياسي والاجتماعي والفكري للفضاء التفاعلي لصاحب السيرة، إلّا أنّ تحقيق ذلك بصورته المثلى يتطلب دورًا أكبر للمحرر في إخراج المذكرات إلى النور.

ففي مذكراتٍ كهذه، تتداعى فيها الأحداث والشخوص والأماكن بكثافةٍ عالية، يجدر بالمحرر إضافة حواشٍ وهوامش تفصيلية تساعد القارئ، البعيد زمنيًا ومكانيًا عن الأحداث وشخوصها وأماكنها، على إدراك السياق السياسي والاجتماعي والفكري، عبر إضافة تراجم للأسماء الأكثر حضورًا في التجربة، مثل: ثابت مرداوي والحاج علي الصفوري وغيرهم، كذلك فيما يتعلق ببعض الأحداث، مثل: الإضرابات في السجون، فهي تحتاج لتوضيحها في الهوامش. أما فيما يتعلق بالأماكن وأسمائها، وما يطرأ عليها من تغيرات، فلابد من تسميتها باسمها الذي كانت عليه في الحدث وليس اسمها الذي تحمله لحظة كتابة المذكرات، وفي الهوامش يتم بيان الاسم الجديد وأسباب تغيره، مثل: مستشفى الشهيد خليل سليمان.

تبقى المذكرات ذاتية ومحدودة، مهما تداخل الفردي والجماعي فيها، إذ هي تعكس رؤية صاحبها للأحداث وتصوراته لها، لذا يجدر بالمحرر الإشارة لتعدد الروايات واختلافها حال وجودها، فمثًلا يقدم الحاج علي الصفوري قراءة مغايرة عمّا قدمه الشيخ بسام السعدي حول العودة إلى المخيم بعد الخروج منه نتيجة الاجتياح الأول؛ يحيل الشيخ بسام السعدي العودة صباحًا للمخيم إلى خروج طوالبة على قناة الجزيرة مصرحًا بصد الهجوم عن المخيم، فيما يخبرنا الحاج علي الصفوري، في شهادته التي وثقها في كتاب وليد دقة حول يوميات معركة مخيم جنين، أنّ العودة بدأت في الثلث الأخير من تلك الليلة، والسبب هو شعورهم بالخطر وأنهم عرضة للاغتيال خارج المخيم.

إنّ راوي هذه المذكرات ليس صاحبها بل محرر الكتاب الأستاذ عصري فياض؛ إذ سرد الشيخ بسام السعدي ذكرياته على مسمع محرر الكتاب، وعمل الأخير على تفريغها وتحريرها وتنسيقها. إلّا أنّ الراوي يلتبس على القارئ في مواضع مختلفة، إذ يظهر فيها الراوي صاحب المذكرات وليس محررها، وهو ما يتطلب بيان ذلك في مواضعه.

ختامًا، تشكّل هذه المذكرات مادةً أوليةً للباحثين والمهتمين بالتاريخ، وعلم الاجتماع، والسياسة، والثقافة وغيرها، إذ تطلعنا على مراحل وجوانب مختلفة من تاريخ القضية الفلسطينية ومفاهيمها؛ فلا تخفى مفاعيل النكبة وانعكاساتها على حياة الشيخ السعدي، فقد مثّل ذلك شرط وجوده ومعنى حياته، الذي ترتّب عليه مطاردةٌ وإبعادٌ واعتقالاتٌ وتعذيبٌ وإضراباتٌ عن الطعام، وشهادةٌ على الاجتياحات وما تلاها من جهودٍ للتخفيف عن الناس كامتدادٍ لمسيرةٍ طويلةٍ من العمل الاجتماعي والإغاثي، وصولًا لما هو وجدانيٌ ونفسيٌ عند استشهاد الأم والأبناء.

كما تقدّم هذه المذكرات إسهامًا في فهم السياق التاريخي الذي يجعل من مخيم جنين اليوم بؤرةً مولدةً للمقاومة وحاضنةً لها وبانيةً لحالةٍ تعبويةٍ حولها، إذ لا تتداخل في أجزاءٍ منها بين الفردي والجماعي وحسب، بل بين سيرة الشيخ بسام السعدي وسيرة مخيم جنين نفسه. فضلًا عن كونها ملهمةً لأولئك الموجودين في الميدان؛ إذ إنّ سيرةً كهذه ليست وصفيةً وتوثيقيةً وحسب، بل هي استدلاليةٌ لمن أراد أن يعرف “كيف يُسقى الفولاذ في بلادنا فلسطين؟”.