بخفّةٍ ورشاقة تنسال صفحات الكتاب من بين يديك، لا تدرك كيف انتهى، تماماً كما بدأت، لا تعرف أين وقفت! وكيف سِرت؟ بلغةٍ شاعريّة توحي بالبساطة تنتقل من قصيدةٍ لأخرى، لا ترغب بانتهاء السابقة، وأنت ممتلئٌ بشوقٍ لقراءة اللاحقة. شعرٌ للصدمة، أو لنقُل شعرٌ لاستعادة البداهة الغائبة فينا، عن علاقتنا بمَن حولنا، شعرٌ يدعونا لأن ننظر بأعين الطفولة المندهشة نحو كلّ ما يدور في هذا العالم. كتابٌ شعري، كلّ قصيدةٍ بداخله بصوت أحد سكان المدينة. إنّه سيرة سكّان، لكنّه أيضاً سيرةٌ بعيونٍ إنسانيّة تحكي نفسها بمونولوج وجوديّ حول كلّ شيء. [1]تبدأ بقصيدة «أنت» اللامحدد اللامنتمي لأيّ شيءٍ سوى صفتك الأولى، بشريّ في هذا الكوكب. في القصيدة الأولى التي تتحدّث عن أوّل ليلةٍ لنا في هذا العالم، تذكّرنا الكاتبة بالكون الشاسع الذي أتينا إليه، قبل أن ننتمي لقرانا ومدننا وأحيائنا وجماعاتنا: 

«ما يحيطُ بمكانِ ولادَتِك/ ليستْ المدن والبلدات المحاذيّة/ ولا حتى الدولَ أو القارات المُجاوِرة/ إنّها المجرّات والكواكب». في هذا الطفل وليلته الأولى على وجه الأرض، نُبصر الإنسان قبل أن يُسمَّى وينتمي إلى شيءٍ سوى العالم. ثمّ سرعان ما تأخذنا الشاعرة خلال القصيدة إلى «أنت» الإنسان المغترب الذي جئتَ إلى هذا العالم بفرح، لتقفَ اليوم بتأمّل: «ستظنُّ أنّك تملكُ هذا العالم حينها/ أو أشياء فيه مثل أختِك أو أولادِك/ وستكون قادراً على شنّ الحرب/ أو اقتلاعِ الغابات/ ومعَ ذلك ومهما كُنتَ قاسياً/ في لحظاتٍ قليلةٍ من عمرك شيءٌ ما سيهزّكَ/ ويذكّركَ بموطِنك الأوّل/ مرأى التلال مثلاً».

ثم تُوصل [الشاعرة] قصيدتها الثانية بالأولى، وقد كنتُ أتمنّى أن تسمّيها «بيتاً»، تخلع معاطفنا وأحذيَتنا نحنُ القرّاء. تصدمنا وتكشف لنا عبقريّة جمال الليل، وغرابة وغموض الأشجار «الليلُ انتشرَ في كُلِّ مكانٍ الآن/ حتى النباتات تبدو كأنّها تعرفُ ذلك وبدأت تُنصِت/ ويكفي أن تجلسَ هنا دون أن تفعلَ شيئاً لتبدو جميلاً». تُحيِي الطبيعة وتُشعلها بالغموض، وكأنّها تقول لنا إنّنا لن نلتقي بها إلا حين نتأمّلها كلغز. تبعث الحياة في الحجارة والشوارع والمقاعد والمدينة، وتقول لنا إن أردتم أن تشعروا بأنّ المدينة لكم، أو بيتكم اكتشفوا الإنسان الذي بداخل هذه الأشياء.

وفي قصيدةٍ أخرى، تدعونا الشاعرة لنعود إلى الطفولة بما تعنيه من إحساسٍ عالٍ بالغرابة والدهشة من أصغر الأشياء. ثمّ تتناول موضوع الحبّ والفقد برشاقةٍ لغويّةٍ مثيرة. تكتب الشاعرة عمّا يعنيه أن نعيش تجربة الفقدان في الحبّ. وكأنّها تذكّرنا بأنّ الحبّ لا يتوقف عن تغييرنا حتّى بعد أن ينتهي. كلّما فقدنا شيئاً، سقط منّا شيءٌ لا يمكن أن يعود، لنعودَ حاملين وجوهاً جديدةً غير تلك الوجوه التي حملناها قبل هذا الفقد. ينتهي الحبّ، ولكن لا تنتهي طاقته بأنْ يبدّلنا ويُعيد تشكيلنا وكأنّه بهذا الشكل يظلّ فينا، أو تظلّ قوّته الجوهرية حيةً بداخلنا حتّى بعد أن يموت. ثمّ تجعلنا الشاعرة نفكّر بالحب من لحظة نهايته، ونختبرُ ألمَه مرتين، حتّى وإنْ كنّا مررنا في عذابه مرّةً واحدة، وذلك في اللحظة التي يتبادرُ لنا فيها بأنّ أطفالنا سيختبرون ذات الأمر مستقبلاً، فتقول داليا: «هذا موجعٌ ومُخيف -أن تعرف بأنّ على طفلك أن يختبر يوماً كل هذا الألم/  أنّه سيتمنى لو لم يُولد».

في قصيدتها الرابعة تعيدنا لتوق امتزاج الإنسان بالطبيعة، لإدراكه بأنّه جزء منها وغريب عنها في نفس الآن «هناك تلال عرفناها طوال حياتنا ولكنّنا سنظل نشعر أمامها بأننا أغراب في هذا العالم». وتدعونا للانذهال بما نراه يومياً على جانبي الطرقات وتحديداً طريق أريحا-رام الله، ربما لأنّ الانذهال هو أكثر ما يقرّبنا من هذه الكينونات الساحرة: «أنتَ لا تستطيع رؤيتها/ الكدمات على عينيّ من النظر نحو التلال/ إنّها في الداخل/ تحت الجلد/ في المكان الأقرب لما يُسمّى الروح». تتأمّل داليا «التلال» المتراصّة كبذرة ولادة،  كطريق الإنسان الطويلة والوعرة والجميلة في آن. وترى في الطبيعة هذا الكيان القادم من أعماق الزمن، وكمسارِنا من سحيق الزمن إلى اليوم «أستطيعُ أن أفهمَ بأنّ كل شيءٍ بدأ من هنا/ من أرضٍ جرداء وقاحلة/ كلّ شيء بعد ذلك محض صدفة».

في أخرى، تعود للربط بين المكان والزمان، وكيف يصبح المكان للحظةٍ توثيقاً للزمن، «فنكتشف العمر الذي مرّ» عبر علاقتنا مع الحيّز. تذكّرنا داليا بالتفاصيل التي تعجّ بها الأمكنة، وكيف تحوي بثراء سيرة المدينة وتجارب الحياة فيها. وكأنّها تقول إنّه من غير الممكن أن نكتبَ سيرة المدينة وسكّانها دون أن نراهم كقصائد، ودون أن نرى ما حولنا كشعر. لا تتوقّف الشاعرة عن التلاعب باللغة وتطويعها وتركيب المجاز والاستعارات، بل تُكملُ ذلك في نقلنا بين زمنين (الماضي والمستقبل). فالمعلّمة تهرب من حاضرها إلى الماضي الصاخب، المفعم بالتحرّر والرفض والمجابهة وما تخلقه الحالة التحرّرية من شعورٍ بالكينونة والطمأنينة. والوقوع في الحبّ بالنسبة للشاعرة هو لحظة الثورة ولحظة الانتفاضة، وكأنّها تقول بوضوح إنّ الثورة ما هي إلا لحظة حب. تقول القصيدة التي بصوت معلمّةٍ في «مدينة ر»: «أنا الآن محشورةٌ بين أجسادٍ كثيرة/ ومع ذلك لا أشعرُ بالضيق/ ورغبتي بالصراخ في وجهِكَ تلاشتْ تماماً/ حتّى وجهك بدأت أنساه/ أشعر بالطمأنينة/ لا أحد يقولُ شيئاً ويقصد شيئاً آخر هنا/ وضوحٌ مذهلٌ/ يجعلني قادرةً على الحبّ/ «لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ الانتفاضة»/ «لنْ نركع»/«نموتُ واقفين كالأشجار». يبدو استحضارها كلحظةٍ تُشِعرُ الإنسانَ الفلسطينيّ بآدمّيته من جديد. اللحظة تنتهي، ثمّ تسائلنا جميعاً «إلى أين تذهبون؟».

في قصيدة أخرى، تنتزعنا الشاعرة من جلودنا، تدعونا بطريقةٍ لعوبةٍ لأن نتخيّل بأن نكونَ أشخاصاً آخرين. امرأةٌ أو شخصٌ يعبر الطريق، شخصٌ لا نعرف عنه شيئاً ولم نتبادل معه سوى نظراتٍ سريعة. سرعان ما تتحوّل القصيدة التي بدأت بهذه الفكرة العابرة إلى محاولةٍ للقبض على ما يصنع سرّ آدميتنا، وتساؤلٍ عمّا يجعل منّا بشراً. القصيدة التي تبدأ بـ «هناك أشخاصٌ لا نعرفهم أبداً/ ولكنّهم قد يمشون أمامنا لثوانٍ في الشارع/ هذا لن يستمرّ طويلاً/ فالفتاة ذات الحذاء ستنعطف نحو اليمين»، تصل إلى نقطةٍ تصبح فيها الحقيبة المدرسية سبباً غامضاً لتتبّعها الشاعرة وهي تحاول أن تفهم «ماذا يعني أن تكون حيّاً وتمشي على قدمين/ أن تغفرَ للآخرين ويغفرونَ لك». ماذا لو كانت أنايَ أنت! ماذا لو كنتُ هو! أعيش حياته وسياقه. إنّها دعوةٌ لعيش حيواتٍ متعدّدة في الآن نفسه، وفي عيش حيواتٍ الآخرين أنسنةٌ تذكّرنا بالشخص الموجود داخل كلّ لا أحد. 

في القصيدة الثامنة، تتأمّل الشاعرة في الفراق ووجعَه الكاوي، وتأخذنا لوجهٍ آخر له، فعندما نفقد شخصاً ما، نفارق المكان الذي كان جامعاً لنا، فلا يبقى البيت بيتاً ولا أثاثه ومقتنياته، وتصوِّر قوّة الألم الذي يعترينا في تلك اللحظة بجماليّةٍ منقطعة النظير بقولها: «حضنتني ومشيتْ/ بين يديكَ رأسُك المقطوع/ يبكي». وتضيف «وصحيحٌ أنّني أتألم/ ولا أعرفُ كلمةَ جبل/ ولكنّني أعرف تماماً ماذا يعني أن تكونَ مكانَه/ هائلٌ ووحيدٌ وتصفعك الريح/ يسقطُ عليكَ المطُر لليلةٍ كاملةٍ/ ثم تجفّفكَ الشمس».

في قصيدةٍ أخرى، تقول لنا الشاعرة بشعرٍ لا يجعلنا نتخيّل فقط بل يمنحنا الرؤية والسمع والإحساس عند قراءة مقاطعه، مثلاً: «لم أزحف إلى هناك علي يديّ ورجليّ/ بل على قلبي/ ما أنْ وصلتُ كان قد تفتّتَ تماماً». في هذه القصيدة توثّق سيرة عازف الربابة، الذي كان يجلس وسط المدينة فتُبصر وحدته رغم الازدحام، وتميّز الإيمان الذي يتملّكه وسط الجموع المشغولة بحيواتها، وتلحظ غيابه عندما يغيب. تخاطبه الشاعرة وتحاكيه، وتفهمَه بحسٍّ رفيعٍ ورهيف، تستشفّ معنى الإيمان في الحبّ الذي يتجاوز كلّ الحدود. حين يقول:  «لم أكُن اذهب إلى هناك لأنّ أحداً ينتظرني/  أو لأنّ شخصا قال لي: أرجوك عُد/ لم يهتمّ بي أحد/ حتى الرصيف لم يعبأ/ ولكنني كنتُ أذهب/ هكذا يفعل الذين لا يستطيعون أن يتوقفوا عن الحُبّ: يؤمنون/ دون أن يعرفوا بماذا بالضبط».

أما التبدّل الجاري على بنيان المدينة فتحاكيه بعلاقة الأجيال ببعضها وعلاقتها بثمار الأرض، تبدأ القصيدة التي بصوت الصحفي الذي يظلّ يكتب عن البنايات الجديدة في مدينة «ر»: «ها هي جدّتي تجلس في البيت/ بين قدميها سلّة تين/ إنها شاردة وهي تقشرها بحذر». وتجلب التين كاستعارةٍ مرعبة، حين لا تصلح إلا للطهو والمربّى فهو يفقد تركيبته الأولى؛ أيّ تمايزه، فيصبح بلونٍ وشكلٍ وطعمٍ واحد، تماماً كما المدينة ببنيانها الجديد، وتقول «هذا المربى الباردة في الثلاجة هو جثثنا/ كل ما يستطيعوا أن يأكلوه منذ فقدوا أسنانهم» .

وفي قصائد عديدة، إن لم يكُن فيها جميعاً، تدعونا للتساؤل حول أبسط القضايا، كيف تظهر وكيف تعمل كيف تختفي، تحدثّنا عن المدينة عندما كانت مليئةً بالأسرار قبل أن تصبحَ معرضاً للاستعراض والمشهديّة، «بابٌ يُفتَح/ شباكٌ يُغلَق/ مرسومٌ يُطبَع/ وشيءٌ يُنسَجُ في العتمة/ سِرِّيٌ سِرِّيٌ كل شيء/ حتى المطر حين يسقطُ: فجأة دائماً/ ودون إنذار كان يبدو كَسِرّ» وهو ما كان مرتبطٌ بظهور الملثّم وحالته الانتفاضة. بحذر المراقب الدقيق، وبإحساسه البديعيّ بما يجري، تقدم لنا الشاعرة بعض دلالات الأمل في مكانٍ يبدو للوهلة الأولى يخلو من الأمل، فهناك «شخصان يتهامسان في ليلة حالكة، بينما الكلّ ينام» وهناك أطفالٌ وقمرٌ ولحظات حبٍ ونباتاتٌ وأدب، و«أشخاص يتهامسون في العتمة» و«هناك من يهتف دوماً من أجل حريّة من لا يعرفه» و«من يستمتع بالغروب». إنّه الأمل المتناثر حولنا، والذي قد نراه اعتيادياً دون التفكير في معانيه العميقة، وفي هذه الحساسية المبالغة للأشياء نلمس خيالاً مبدعاً وثريّاً.

وفي نصٍّ أقرب إلى تقريرٍ سياسيّ، وقائعيّ بلغةٍ شعرية، تقدّم لنا الشاعرة كلّ أسباب اليأس والهجوع التي يجدها الشاب الفلسطيني يومياً، ولكنّها لا تقدّمه هكذا بوجهٍ واحد، بل تعطينا وجهه الآخر، وجهه الكامن، الناشئ، النامي برويّة، والذي ستدلّ عليه بالتربّص وما يعنيه من رفضٍ كامن واستعدادٍ للتمرّد فتقول بصوت الأشجار«ولكن ما لا يعرفونه أنّه مثلما هم يراقبونَنَا ويسجلّون لنا أين نلتقي ومع مَن، ماذا نقول، ومن نشتم وبماذا نحلم، نحنُ أيضاً نراقبكم ونسجلّ لكم كلّ شيء، نحن أيضاً نملك قوائم بكلّ ما فعلتموه. نحن لسنا صامتين، نحن نتربَّص». 

في موقعٍ آخر تتمثّل الكاتبة غضب وصرخات جميع النساء تصرخ بشاعريّةٍ عالية عمّا تعانيه النساء من قمعٍ قوميّ وذكوريّ وعاطفيّ، تصرخ بصوتٍ صارخ «نحن غاضباتٌ جداً» وتدرج أسباب الغضب على كلّ تلك الحدود التي يضعها المجتمع على أجساد النساء، وهي صرخةٌ ثوريّة وشعريّة في آن، فتقول «نحن غاضباتٌ لأننا لا نستطيع أن نخبر الأطفال وهم يسألون عن مدنهم/ بأن يبحثوا عن النجمة الأكثر لمعاناً حتى يجدوها/ كيف تواسي من ماتت مدينته؟/ البشر فقط يصيرون نجوماً/ المدن تصير ركاماً/ لا نقبرها حتى لو تحولت إلى مقبرة».  تصوّر  النساء في هذه القصيدة كموجٍ هادرٍ ينمو في أحشاء كلّ المجتمعات لا في المدينة فقط، وتنتهي القصيدة بعد أن تشخّص كلّ مواطن الظلم والألم بلحظة الثورة، والممكن «نحن غاضبات وسنعرف بعضنا/ نحن الجيش الغاضب جداً/ الذي يكبرُ في كلِّ العالَم دون أن ينتبهَ له أحَد / والذي لم يحمِل أبداً سلاحاً في يدِه/ هكذا سنعرفُ بعضنا/ من جِلدِنا الذي نرتديه بالمقلوب».

في قصائد عديدة تُسقط الشاعرة الحياة على كلّ مظاهر الطبيعة من شجرٍ وتلال ومناظر طبيعيّةٍ في دعوةٍ للتوحّد الوجداني مع الطبيعة الأم، تفاجئنا دائماً في كيفيّة إدراك المكان. ثمّ تسحبنا في مكانٍ آخر للسؤال عن الموت والطفولة والهجرة، وتنقلنا من صورةٍ محليّة إلى صورةٍ عالمية، تنقلنا من تلّةٍ إلى دمعة، ومن منشورٍ إلى السيارات المصفوفة أمام الغروب.

تظهر في القصائد بوضوحٍ حالةُ العداء مع الاحتلال التي تتواجد في كلّ زوايا المدينة على الرغم من الهدوء الذي يسودها. وفي قصيدةٍ تخاطب الرجال، تتساءل الشاعرة عن طبيعة التسامح حين تقول «لقد سامحناكم كثيراً/ لقد سامحناكم وأنتم تلفّون أيديكم الضخمة حول رقابنا/محاولين أن تتذكّروا القوة الهائلة التي احتجتوها/حتى تدفعوا خارج بطون أمهاتكم/ بطوننا». تخبرنا عن سكان مدينةٍ ينظرون إلى مدنهم المسلوبة منهم بغصّة، وبكامل الغضب، تخبرنا عن سكانٍ ينامون إلا أنّ أحلامهم وآمالهم وماضيهم يأبى أن ينام. تذهب بنا للحبّ، وكيف يُشفى وجع الحبّ بالحبّ، وكيف يكون الفراق الشعور الأقسى وقعاً على فؤاد الإنسان، تدعونا للتسامح وللغفران، وتتساءل بتحذيرٍ غامض “ماذا سنفعل بكم؟ أيها الجنود الذين يبحثون عن هدنةٍ ليخرقوها، أخوتنا، آباءنا، عشاقنا؟”

تريد منا الشاعرة أن نرى ونتأمل ونندهش من فرط جمال الغيوم، أو اندفاع العصافير الجماعيّ، وفي النهاية تخبرنا كم نحن تعساء سكّان هذه المدينة، كم نحن مغتربين عن أنفسنا وعن الوجود. وربما بعد أن منحتنا رحلةً اختبرنا فيها قوّة الأشياء التي تصنع غنى هذا العالم من الدهشة إلى الحبّ إلى جمال الطبيعة والتفاصيل والانفعال والتلال والبشر والشوارع والثورة والأسرار، نستطيع الآن حين نصلُ إلى آخر قصيدةٍ، والتي تحذّرنا فيها وتخبرنا «كم نحن تعساء» أن نفهم مصدر هذه التعاسة، أن نفهم ما تريد الشاعرة أن تقوله عن تعاستنا. تعاسةٌ يعمّها اغترابٌ عمّا يجعل هذا العالم جميلاً.

نحن في الحقيقة أمام نصٍّ مفعمٍ بقيم التمرد، ومعنى الوجود ومساءلة أسباب الاغتراب. نحن أمام أبياتٍ شعريّة مليئة بالحبّ والأنسنة والبداهة والاندهاش. نحن أمام نصٍّ ينقلنا من الحزن إلى الفرح ومن الغضب إلى الإحباط ومن اليأس إلى الأمل، وهذا أجمل ما فيه؛ أنه يضع كلّ المشاعر البشريّة أمامنا، ويعرّيها ويجعلنا نراها كالأطفال منذهلين. هذا نصٌّ للتأمّل الوجداني والإنساني العميق.

سجن «رامون»
12 نيسان 2022