انهيار النظرية وتجاوز الحدود

مساء السادس من أكتوبر، قام «بيني غانتس» زعيم المعارضة في الكيان الصهيوني،  والذي يقدّم نفسه كبديلٍ لنتنياهو ضمن الصراع السياسي الذي تعيشه «إسرائيل» منذ سنوات، بزيارةٍ لواشنطن لعقد اجتماعات مع مسؤولين في البيت الأبيض تتعلّق بالجهود التي تبذلها الولايات المتحدة للتوسّط في اتفاق تطبيع العلاقات بين «إسرائيل» والسعودية. [1]   وكان «غانتس» قد وقّع مع المغرب عندما كان وزيراً للحرب في عام 2021 إطار للتعاون الأمني «غير مسبوق» في زيارة كانت الأولى من نوعها لوزير حربٍ صهيوني إلى المغرب بعد تطبيع العلاقات بين البلدين الذي يأتي في إطار موجة التطبيع الأخيرة التي شملت البحرين والإمارات قبل ذلك، وكانت «إسرائيل» تخوض مباحثات مع السعودية تُوّجت بلقاء وزيرٍ «إسرائيلي» بمسؤول سعودي قبيل السابع طوفان الاقصى.

هكذا كان المشهد في «إسرائيل» عشيّة السابع من أكتوبر. ظنّت المستعمرة الصهيونية أنها أحكمت السيطرة على الشعب الفلسطيني. وأنّ حاجتها الوحيدة تتمثل في عقد اتفاقاتٍ مع الدول العربية لتطبيع العلاقات وكشكلٍ من محاصرة إيران وبناء تحالفٍ إستراتيجي يمكّنها من ضمان وجودها في المنطقة. لم يخطر ببال القيادة الصهيونية، ولا دوائر القرار في المستعمرة، أن تُقدِم المقاومة في غزة ممثلةً في حماس والجهاد الإسلامي على تجاوز الحدود والتفكير في العبور نحو ما قبل حدود الـ 1967. شكّل إعلان طوفان الاقصى صدمةً لا يُمكن لـ «إسرائيل» تجاوزها. هيمن على الصحافة «الإسرائيلية» معجم الفشل في وصف ما حدث فجر السابع من أكتوبر. [2] بل وصل الحد بأحد المحللين العسكريين بعنونة مقاله بـ«النظرية انهارت»، [3]  معتبراً أنّه سيكون لما يحدث تداعيات على الشرق الأوسط طوال عشرات الأعوام المقبلة. هكذا عبّر عن أثر هذه الصدمة التي ستظلّ تلاحق الجيش والمجتمع الصهيوني وستجعل الفشل ملاحقاً للعدوّ سياسياً وعسكرياً.

في عامها الخامس والسبعين، تبلغ «إسرائيل» ذروتها ويعتقد العقل الصهيوني أنّ التطبيع مع دول المنطقة هو الكفيل بضمان ديمومة المشروع الصهيوني ووجوده. 

فشل الخيال الصهيوني في توقّع ما يمكن أن تجرؤ عليه المقاومة. كانت فكرة  المستعمرَة الصهيونية أنّ حماس لا ترغب سوى في حكم غزة، وأنّ لا مشروع لها يتجاوز ذلك، وأنّ حصار قطاع غزة يمكّن من الحدّ من قدرات حماس إزاء التفكير فما يتجاوز المحافظة على حكم القطاع. 

يأتي ذلك مع تحول الجيش الصهيوني الى تنظيمٍ عصابي. على الرغم من تفوّق المستعمرة «الإسرائيلية» عسكريّاً وتطور القوة الصهيونية اقتصادياً. لم يستطِع العقل الصهيوني توقع ما حدث ولا حتى استيعاب تلك الصدمة. 

كان للعصابات الصهيونية دور أساسي في تأسيس نواة «إسرائيل» تاريخيّاً، وما رافقه من توسع المذابح والمجازر تاريخياً، وهو ما اتقنته «إسرائيل» منذ بداياتها الأولى التي تعود لها دائماً. قام الاستعمار الصهيوني الاستيطاني على العصابات التي اعتمدها الصهاينة بما ضمن له تقدّماً أساسيّاً، خاصةً في المرحلة التي واجهت فيها «إسرائيل» الجيوش العربية في حروبها. فيما بعد، لئن ظلّ مكون عقل العصابة محورياً لكن اتجهت لتصبح مؤسسة حديثة عبر جيش نظامي حديث. بالطبع، دائما ما تلجأ «إسرائيل» لشكلها الأول؛ أيّ العصابات المسلحة، إذ تمثّل ممارسات وحدات المستعربين وهجمات المستوطنين معالم الحنين الجنيني الصهيوني لبدايات التأسيس. لكنّ الفرق أنّ الحالة العصابية الحالية اليوم تختلف عن بدايات المستعمرة الصهيونية. إذ أن الجيل المؤسس للمشروع الصهيوني كان جيلاً من المقاتلين العقائديين يدافعون عن الفكرة الصهيونية. أمّا الجيل الحالي فلا يستطيع أن يكمل بتلك الروح القتالية التي يفتقدها وغير المستعد لأن يضحي من أجل الفكرة الصهيونية بعد حالة الرفاه الاقتصادي التي بلغتها المستعمرة.

الواقع يتجاوز الخيال وكسر أسوار السجن

مثّل حدث عبور المظليين والمشاة والغزيّين صباح السابع من أكتوبر الأراضي المحتلة عام 1948، وما اعتدنا تسميته بغلاف غزة، تجاوزاً للواقع وخيالاً استطاع فيه هذا الواقع الذي صنعته هذه السواعد أن يتجاوز الخيال. كيف لهؤلاء المحاصرين تجاوز كلّ حدود العقل التي أصبحت حواجز تحاصر العقل الفلسطيني والعربي. كما كتب الأسير وليد دقة الذي نحتاج ما خطّه بقلمه في السجن، في نصّه المعنون «السيطرة بالزمن». إذ يشير انطلاقاً من تجربة الأسير الفلسطيني وإضرابات الجوع التي يخوضها الأسرى داخل سجون الاحتلال إلى كون الأسرى يصرّون في إضراب الجوع  «بإرادة تتجاوز حسابات العقل الأداتي إلى حسابات العقلانية (التي تشمل العقل والروح والقلب والجسد) التي تشكّل أدوات تفكيره. وهذه العقلانية لا تقرّ بحسابات العقل التي تكرس الواقع، ولا تغيّره، وإنّما تأخذ الواقع الموضوعي وترتقي به. ترفض عقلانيَّتهم النزول إلى الواقع، والبقاء هناك، وإنّما النزول بهدف الارتقاء إلى مصاف أرقى. هذه العقلانية تشمل الاعتبارات الأخلاقية والقيمية والإنسانية والوطنية العامة، وقيم الذات الخاصة، التي تحول العقل مع الجسد والقلب إلى أكثر من حاصل جمع ميكانيكي». [4]

ما أنجزته المقاومة في غزة فجر السابع من أكتوبر انطلق من وصول من نفّذ وخطّط في غزة من قيادة المقاومة إلى تجاوز حسابات العقل باعتبارها العامل الذي صنع ثقافة الهزيمة عربياً وفلسطيناً. نحن أمام عقلانية مختلفة. نبتت في الحصار، بين السجن الصهيوني المصغّر والسجن المفتوح قطاع غزة، ولدت هذه الروح التحرّرية وأعادت للمشروع الوطني الفلسطيني وللعربي عموماً قدرته على التحرّر بتجاوز واقعية الهزيمة. هنا يكمن الفرق بين الواقع كإطار انطلاق لتغييره وبين الواقع كحكم مؤبّد. 

السجن الذي يقبع فيه آلاف الأسرى والأسيرات خرج منه يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في غزة، وهو الذي أعاد بناء الحركة منذ خروجه من السجن في عملية وفاء الأحرار لتبادل الاسرى بعد أن قضى 22 سنة في السجن، وهو الذي تعتبره «إسرائيل» المطلوب رقم واحد في غزة إضافةً للضيف القائد العام لكتائب القسام. 

هنا يلتقي وعي السجنين، السجن المصغّر وسجن الهواء الطلق. هذه الثنائية التي صنعت الخيال الفلسطيني المقاوم في السابع من أكتوبر.  يؤكّد دقة على كون «نخبنا ليست فاقدة للحيلة. لا، هي فاقدة للإرادة. فاقدة لأي مخيال».  مخيال السابع من أكتوبر مخيال المستعمَر الفلسطيني الذي وُلد  بثنائية السجنين. فشل مخيال المستعمِر الصهيوني في فهم حركة حماس وركَن لعظمة الإنجاز الصهيوني المعاصر. بعد صدمة السابع من أكتوبر، غرّد «آفي ساخاروف» الكاتب الصهيوني والذي سبق أن عمل في وحدة المستعربين بالجيش الصهيوني «كون  المفهوم الذي قيل منذ سنوات إن حماس تريد الحكم في غزة وبالتالي لا تريد التصعيد. لقد ظنوا أنهم يتعاملون هنا مع مجموعة مهتمة بالمال ونسوا شيئًا واحدًا: السنوار قضى 22 عامًا في سجن «إسرائيلي» حتى صفقة شاليط». [5]

هنا، تتفوّق غزة، وتصفع كل المهزومين وأصوليّ الهزيمة. وترفع غزة «لا» التاريخية التي كانت ترفعها الحركة الوطنية الفلسطينية قبل تدجين المشروع الوطني الفلسطيني على مذبحة أوسلو وإنهائه على أن يكون مشروع تحرّر. المقاومة الإسلامية في غزة  تمسكت بتلك «الـ لا» الفلسطينية. ظلّ السؤال عن «لا» الفلسطينية يعود من معسكر المهزومين تاريخياً وهو ليس وليد اليوم. يشير منير شفيق في 1976 لهذا الاستفهام عن «لا» الفلسطينية، [6] وهل كون هذه الـ «لا» التاريخية موقفاً سلبياً؟ وهل تتحمّل مسؤولية نجاح المشروع الصهيوني وقيام الكيان الصهيوني وتوسعه. هنا نحتاج أن نعود لأصل هذه  «الـ لا» باعتبارها «لا» العادلة والمناسبة  الرافضة لمشاريع التسوية.

من يتجرؤون على إشعال الأحداث الكبرى، كما الثورات والمعارك، هم بشر غير واقعيين. قاد «كاسترو» مغامراته التاريخية غير محسوبة العواقب قبل أن ينتصر على «باتيستا» في مغامرات غير محسوبة العواقب. الثورة تستغني ضرورةً عن الواقعية. وتستغني حتى عن تقدير ما يُسمّى بالظروف الموضوعية. «لأن الظروف الموضوعية إذا حلّلتها بشكل علمي، ستكتشف أنها عائق أمامك، وتصبح الظروف النظرية سجنًا. لأنه إذا كانت الظروف الموضوعية والظروف النظرية التي أعطتنا النظام الموجود، فانتهى التحرير». [7]

يصرّ خطاب الهزيمة على مراوحة مكانه. في البقاء في حسابات الأداتية بل يتجاوز ذلك كون أحد إشكالاته هو فقدانه للخيال. هذا الخطاب العربي والفلسطيني يعيش الواقعية باعتبارها حالة تحول دون التفكير خارج الواقع. وهو تفكير في الواقع ليس من أجل تغييره بل من أجل التسليم به. أمّا المقاومة، فهي تنطلق من الواقع نفسه وتصنع إمكانات تجاوزه عبر تجربة تاريخية بدأت بالسكين والاستشهادي حتى العبوة والصاروخ والطائرة المسيّرة. لتأتي لحظة السابع من أكتوبر التي حلّق فيها الفدائيون وتجاوزوا السماء المحاصَرة نحو سماء فلسطين التي تظلّ بالنسبة لهم هي فلسطين نفسها. أمّا خطاب الهزيمة، فيرواح مكانه وعوضاً عن إدانة الاستعمار وترك المستعمَر لاختيار شكل تعامله مع هذا المشروع الاستعماري، فينتصب الخطاب المهزوم عوضاً عن أصواتهم. عنوَن حازم صاغية  مقاله كالتالي «في أن إسرائيل وحماس وإيران يبيدان غزة»، [8] بذلك رفض حتى أن يكون لحماس والمقاومة وغزة خيارها. ويبدأ تحليله المهزوم بإلغاء الوجود الفلسطيني ويلجأ لتبكيم صوت المحاصَرين الذين يراد لهم أن يظلوا رقمًا غير فاعل، وهو ما يلجأ له في تحليلاته التي تحمل طابع الشفقة على المستعمَر. 

في المستعمرة الصهيونية تطرح المقارنة مع ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023 و حرب السادس من أكتوبر 1973. وتحضر فكرة انهيار الرؤية «الإسرائيلية» في غزة سياساً بشكلٍ متكرّر. بعد 51 عاماً، وبعد يومٍ واحد على اندلاع حرب «يوم الغفران». يرى العقل «الإسرائيلي» أن ما حدث كارثي ويشكّل فشلاً كبيراً جداً تتحمّل نتيجته ومسؤوليته القيادة السياسية والأمنية «الإسرائيلية». [9 ] 

خلق وقع هذه الصدمة حالة تحفّز لدى القوى الإمبريالية الغربية التي هرعت لتأكيد إسنادها لـ «إسرائيل». والفارق هنا في من النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه المقارنة. إذ تعلم «إسرائيل» هنا أن طوفان الاقصى لا يمكن أن يؤدّي لتوقيع اتفاق سلام يجعل النصر بطعم الهزيمة، كما منعت تسليح الجيش المصري في سيناء وتحديد عدد القوات المسموح بتواجدها هناك. وهو ما وقع بعد حرب 1973. فبعد أربع سنوات من ذلك بدأت المفاوضات التي أدّت لتوقيع السادات ورابين اتفاقية كامب ديفيد في 1978 وتطبيع العلاقات بين مصر و«إسرائيل».

تقف غزة باعتبارها العقبة أمام مشروع التسوية الذي سعت من خلالها «إسرائيل» لتصفية قضية استعمارها لفلسطين. كان «اسحاق رابين» أحد قادة الكيان الصهيوني الذين استشعروا ذلك بوضوح. تشهد مقولته على ذلك عندما قال: «أتمنى أن أستيقظ ذات يوم وأجد أن غزة غرقت في البحر». لم يُغرق البحر غزة. العكس ما يحدث الآن تغرق غزة مستعمِرها أيّ «إسرائيل». وتضع هذا المشروع الاستعماري أمام مواجهة لم يستطع تخيّلها أبداً. فشل الخيال الصهيوني سياسًّا وعسكريًّا في تخيّل ما أنجزته غزة. فعلى الرغم من إحكام الكيان الصهيوني الحصار لخنق غزة منذ سنوات. استطاعت غزة خرق الحصار وكسر بوابات السجن. لتكبّد العدوّ أقوى ضربةً في تاريخه من حيث المباغتة وإرباك أقوى قوة في المنطقة. هذه القوة التي زرعها وبناها الغرب هنا في قلب العالم العربي.

لذلك، تزداد وحشية آلة القتل الصهيونية عبر السعي المحموم لإبادة غزة بشكل كامل. بالطبع، كل ذلك يحدث مع علم العالم الغربي. وليس بصمته، وإنما بدعمه. ليس العالم الغربي فقط حتى الأنظمة العربية الوظيفية من ممالك وجمهوريات تدعم هذه الإرادة الصهيونية. هذا العالم الغربي هو الذي صنع «إسرائيل». ورعاها كابن مدلّل. كل ذلك يحدث بدعم العالم. الآن كما دائماً يتلقى هذا الابن المدلّل كل أشكال الدعم. الأسلحة التي تسقط على سماء غزة تأتي من هناك، ومن هنا من قواعد الدول الغربية، وأساساً أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، في المنطقة في ممالك ومشيخات النفط والغاز والذلّ.

تمثّل مجازر جيش الاحتلال في غزة التي تستهدف المستشفيات والكنائس والمساجد والمخابز والأحياء استمراراً لهذا النهج الصهيوني في القتل. ترتكب المجازر في غزة على الهواء مباشرة. كل العالم يشاهد المجزرة ويشارك فيها. تستعمل «إسرائيل» في غزة التكنولوجيا والعتاد التي طوّرتها عبر تجربتها التاريخية في القتل والإبادة بدعمٍ غربي وأمريكي منقطع النظير لم ينقطع عبر تاريخها. هكذا تأسست «إسرائيل»، كمشروع غربي في المنطقة. 

في خطابه في «تل أبيب» اثناء زيارته الداعمة للكيان،  ظلّ الرئيس الأمريكي وفيّاً لنفسه ولضمير الغرب الإمبريالي كما كان دائما عبر تاريخه، يطلق عبارته «لو لم تكن هناك إسرائيل في الوجود لعملنا على إقامتها». «إسرائيل» عصابة مسلحة، مشروع غربي في العالم العربي. يمثّل استمرار وجود «إسرائيل» ضرورة للعالم الغربي للهيمنة على المنطقة لذلك.  فإنّ الدعم الصهيوني لهذا الكيان يرتبط بجوهر المشروع الأمريكي والغربي في المنطقة. هذا الدعم الغربي أعلنته القيادات الغربية بشكل واضح.  زعيم حزب العمال البريطاني دافع عن حق «إسرائيل» في قطع الماء والكهرباء عن غزة، وغيرها من التصريحات التي تعوّدنا عليها. لن تنتهي هذه التصريحات حتى يصبح هذا المشروع الغربي مستحيلاً في المنطقة. أحد إمكانات استحالتها تتجسد الآن في عملية المقاومة الواسعة في طوفان الاقصى عبر جعل البلاد المحتلة غير آمنة للصهاينة الذين اعتادوا على رفاهية العيش وغير المستعدين للتضحية بحياتهم من أجل وطن تمّت صناعته. المقاومة في فلسطين تتعامل مع هذه العصابة المسلحة المسماة «إسرائيل» باعتبارها عصابة مسلحة. وهذا المنطق الوحيد الذي يصلح للتعامل مع هذا الكيان/العصابة. أن يكون القتل أكثر عدلاً. أن نكون نِدًّا. أن ننتهي عن استجداء ضمير العالم الذي لا يرى غزة وفلسطين والعرب إلا كحيوانات وأقلّ حتى من كونهم ذلك باعتبارهم لا يستحقون الحياة أصلاً. الحفاة العراة المحاصرين في سجن كبير يسمى قطاع غزة هؤلاء الذين تجاوزوا الهزيمة وانطلقوا منها للعودة للتحرير. أن نكتفي عن تبرير أنفسنا للعالم الغربي الذي يمثل استمرار وجود «إسرائيل» ضرورة لديه. فأي عمل مقاوم بالنسبة له تهديد لوجوده وللنظام الإقليمي. أن نكتفي عن طلب دور الضحية. يمكن الحديث عن ضحايا في تقارير الأمم المتحدة. أما أن يكونوا ندًّا وأن يواجهوا أعتى قوى عسكرية في المنطقة بإمكاناتٍ لا يمكن مقارنتها مع تطور القوة الصهيونية، وأن يثخنوا فيها أو أن يدخلوا عليهم الباب،  فهذا مفتاح لتغيّرات غير مسبوقة. 

المخيال … يتمدّد

بدا وقع السابع من أكتوبر في المنطقة على المستوى الشعبي والسياسي باعثاً لإعادة الحلم إلى الواقع، صمد هنا الخيال معلنا انتصاره. هبّت الجماهير في كل مكان متسلحة بفعل عبور المظليين. بينما لم يشهد موقف الأنظمة العربية تغييراً خارج دائرة التآمر على غزة وفلسطين والمشاركة في الحصار مع جرعةٍ من التنديد المكرور. 

مسح فجر السابع من أكتوبر وما تلاه الغبار عن وجه هذه الأمة، غزة الرقعة المحرّرة الوحيدة. الغرب الذي زرع دولة الكيان. هذا الوحش من غبار، ومن حالفه في تراجع وإلى الهاوية. لم يعُد لدى الحضارة الغربية ما تقدّمه للعرب والشرق وجنوب العالم سوى الإبادة والمجزرة. انسحقت ثقافة المركز الإمبريالي على تخوم غزة كما جيش الكيان ورعاته وحلفه. المخيال الواسع الذي رسمه فجر السابع من أكتوبر وعودة الفعل المقاوم كفعل حركة تحرير قد فتح الباب أول مرة لدخول ساحات أخرى إسنادًا للمقاومة الفلسطينية، بدءًا من لبنان مروراً بالعراق وحتى اليمن، وهو ما لم يحدث سابقاً منذ أن جُعلت القضية الفلسطينية شأناً فلسطينياً وعُزلت فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي خاصةً ما بعد أوسلو. إنّ دخول هذه الجبهات في معركة طوفان الاقصى يرتبط باللحظة التي توسّع فيها الخيال الذي تجاوز حدود المنطقة كما رسمت استعمارياً، وهو ما يعني أنّنا دخلنا مرحلة تنهي هيمنة روح الهزيمة التي كرّستها خطاب النخب والأنظمة العربية.

كما تأتي لحظة السابع من أكتوبر في قدرتها على تحشيد كل التيارات السياسية ومشاركتها على المستوى العربي والفلسطيني. كل ذلك مأتاه من قدرة صنع المخيال المقاوم  على فتح أفق مخيال تحرري، وأن طوفان الاقصى معركة بدأتها المقاومة ونجحت في خلق لحظة العبور من غزة لفلسطين المحتلة، فيما يسمى بمستوطنات غلاف غزة، وتدمير قدرة الاحتلال على توقع تلك الحركة. إذ تجاوزت المقاومة الاسلامية في غزة كجزيرة معزولة لتكون بوابة للتحرر الوطني بما جعل  المعركة الحالية لا تقتصر كونها جولة أو ردّ للعدوان تعود فيه الأوضاع لما قبله. إذ ترسم خطوط جديدة وقواعد مختلفة في الصراع مع العدو الصهيوني. المحاصرين هنا هم الذين استطاعوا أن يرسموا قواعد اشتباك جديدة. ليخوضوا معركة على عين الله، [10] لم يتوقعها أحد.

يدعونا  طوفان الاقصى لتغيير نظرتنا وسقف توقعاتنا ومن فعلنا لكون المعادلة بصدد التغيّر.  رفضت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أن تكون جزءاً من معركة أي نظام عربي، على عكس منظمات أخرى في تاريخ النضال الفلسطيني. ودفعوا تكلفة ذلك في البداية، ثمّ تمكنوا من تحمّل تلك التكلفة مع بقاء الدعم والعلاقة الاستراتيجية مع إيران. فطبيعة العلاقة بين فصائل المقاومة في غزة بإيران والحرب في سوريا تختلف عن طبيعة دور حزب الله اللبناني. واليوم، تواصل المقاومة في غزة معركتها بإسناد من محور المقاومة ضمن ما تسمح به المعادلة الحالية. بل إن مقاومة غزة هي التي تقود اليوم الساحات الأخرى، بما يجعل غزة هي المحور وبقية الساحات تتدخّل إسنادًا لغزة، إلى حين توسع رقعة المواجهة مع العدو خارج الحسابات السابقة.

لم يبدأ الفشل الصهيوني اليوم. إنّنا أمام عدو راكم الفشل. بدأت الهزيمة الصهيونية لجيش العدو في حرب تموز في 2006 على لبنان، وامتدّت على سبع حروب شنها الاحتلال على قطاع غزة. تمثّل معركة طوفان الاقصى إمعاناً في الإذلال النفسي لمعنويات العدوّ ولفشل المخيال الصهيوني. هذه الهزيمة التي منيَ بها يوم السابع من أكتوبر. سترافق هذا الجيش باعتبارها مفاجأة لم يستطع المجتمع الصهيوني فهمها. أيَ جيشٍ يمكن له أن يفاجَيء. لكنّ عدم تجاوز المفاجأة والصدمة يعني استمرارية لهزيمته. لذلك، يفتح العدو حرب الإبادة المسنودة غربياً بشكل وحشي دون أي أفقٍ سياسيّ.  تارةً يعلن أنه يخوض عملية برية، وتارةً يتراجع ويرفض إطلاق اصطلاح العملية البرية على ما يقوم به جيشه ويعتبرها توغلاً محدوداً، ثم يتقدّم من عدّة محاور فيقرر اجتياح مواقع في الشمال، ومن بعده الجنوب، ويواصل التورّط بالمزيد من الفشل العملياتي،  ويطل فشله مرةً أخرى  أمام جبهته الداخلية ومجتمعه.

تواصل ردّة الفعل العنيفة بالتوسع في المجازر وارتكاب حرب إبادة في غزة مع استمرار الفشل الصهيوني عن تحقيق أي إنجاز يذكر، في الوقت الذي يتكرر في الخطاب الإعلامي الصهيوني هدف القضاء على الحماس بالتوازي مع تحرير الأسرى الصهاينة لدى المقاومة، دون عمل ما يمكن أن يؤدّي لأيّ منهما، بل على العكس المزيد من التعثر.

الإبادة الصهيونية والمجزرة المفتوحة، كلَ الألم والوجع، وجوه الشهداء وكلَ وجوه غزة لن ننساها. ولا تُنسينا أن هذا العدو الصهيوني الفاشل هو وحش من غبار. من أجل دخول غزة، يستعين العدو بالأمريكان،  بأقوى جيش في العالم جيش هزائم الفيتنام وأفغانستان والعراق. يتقدمون نحو المقبرة، يتقدمون لينضمّوا لأسراهم. هذه غزة القبلة الوحيدة، بها النصر والاستشهاد دونها الذل والعار.