في السّنوات الأخيرة، وفي ظلّ وجود قنوات عربية كبيرة كالجزيرة والعربية، يستغلّ ناطقو العدوّ الصّهيوني هذا الأمر للمُشاركة بمقابلات تلفزيونية فيها، والوصول إلى العرب والفلسطينيين وإقناع العالم العربي والإسلامي بأكاذيبهم عبر التحايل والخداع الإعلامي. وهو نموذج شبيه بعمليات تدمير الصّحف الفلسطينية قبيل النكبة وغزو العقول واستعمارها، بالإضافة إلى تورط هذه القنوات العربية بتطبيع علاقتها مع الكيان الصهيوني، واستضافة مجرميه على شاشاتها.

 

مقدمة

نشأت الحركة الصّهيونية وترعرت كحركة استعمارية استيطانية من داخل الحقل والموروث الثقافي والحضاري الاستعماري الأوروبي، وسعت من أجل إقامة وطن لليهود على الأرض الفلسطينية بوجه امبريالي استشراقي. من أجل ذلك أقامت الحركة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي مؤسّسات ومصانع ومكتبات وجامعات تؤسس للمرحلة القادمة في مشروعها التّوسعي، أي إقامة الدولة. وكان من بين توصيات مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل عام 1897، ضمن البند الثّاني التأكيد على أهمية الإعلام ودوره في التّعبئة والتّثقيف، حيث نصّ البند على ضرورة نشر الرّوح القومية والوعي بين يهود العالم من أجل خلق “الدّولة اليهودية” في فلسطين.

وظّفت الحركة الصهيونية كلّ شيءٍ لخدمة مشروعها، بما في ذلك الإعلام، إذْ وفرّت مساحة مهمة لتشكيل سردية ترتكز إلى حجج وذرائع دينية توراتية بضرورة إقناع يهود أوروبا بالفكرة الصهيونية والهجرة لاستيطان فلسطين. وقامت منذ البداية بالترويج لضرورة الكيان الجيو-استراتيجية في سياق المشاريع الاستعمارية الأوروبية في المنطقة، وعقائديًا من خلال إعادة إحياء التراث الدّيني اليهودي بما يتّسق مع المشروع الصّهيوني في فلسطين، وكمشروع حامي ليهود العالم من “العداء للسّامية”.

لقد شكّل الإعلام رافعةً هامّة للحركة الصّهيونية لجمع شمل اليهود في العالم وتوجيههم إلى فلسطين، كما أنّه اتّخد لاحقًا منحى آخر، يقع في إطار التّبرير للدّفاع عن الحقّ في الوجود الصّهيوني في فلسطين. في العام 1942 تأسّست “هيئة التحرير” حيث جمعت بين رؤساء تحرير الصّحف الكبرى والقيادة السّياسية للتّشاور وتوجيه الإعلام لخدمة المشروع الصّهيوني وبناء الدولة، ومنع نشر ما يمكن أنْ يؤثرَ على الرّوح الصّهيونية المعنويّة.

ويحظى الإعلام اليوم بمكانة رفيعة في المؤسسات الحكومية الصهيونية، إذ تمتلكُ كلُّ الوزارات أجهزةً إعلاميةً، وتعتبر وزارة الخارجية جهازاًا إعلامياً ضخمًا في سبيل ما يُسمى الـ “هسبراه”، وهو اللوبي الصهيوني الذي يعمل دوليًا ومحليّاً في إقناع العالمبالدّعاية الصّهيونية وللتّرويج لإسرائيل، كالمُحاججة حول أخلاقية جيش الاحتلال الصهيوني أو الادّعاء أنّ الكيان الصّهيوني هو “الدّولة الصّغيرة وسط غابة عربيّة، وهي التي تمثل واحة الحريات في الشرق”. وبطبيعة الحال فإنّ الهدف من ذلك تجميل صورة الاستعمار وجعل العدو أمراً واقعاً وطبيعيّاً وأكثر قبولاًفي المنطقة، وتحديداً في الوطن العربي.

في بداية هذه المقالة نتطرق إلى الاستراتيجيات الاستعمارية الصّهيونية التي استُعملت في مواجهة الصُّحف الفلسطينية قبل النكبة بين الأعوام 1905-1930. وفي الشّق الثاني من المقالة، نتحدث عن التكتيكات والحيل التي يستخدمها النّاطقون باسم جيش وشرطة العدو الصّهيوني، وذلك في مقابلاتهم الإعلامية التي تستضيفهم فيها قنوات عربية مثل “الجزيرة” و”العربية”، وخاصّة في أوقات الحروب، الحروب على غزة أو لبنان.

نحاول من خلال ذلك الربط بين آليات الضّبط والسّيطرة على المجتمع الفلسطيني قبل النكبة من خلال تدمير الصحف، وبين غزو العقول ضمن استراتيجيات التّحدث للإعلام العربي المتلفز اليوم. ونحاول من خلال ذلك فهم وتبيان آليات عمل العدوّ في قطاع الإعلام والصّحافة بهدف إخضاعنا كفلسطينيين وعرب وتقويض قدرتنا على إنتاج إعلام مقاوم، وكذلك بثّ الدّعاية الصّهيونية.

ماذا حصل للصحافة الفلسطينية؟!

بينما كان اليهود يُهاجرون إلى فلسطين لاستيطانها، رأت الوكالة الصهيونية أنّ العلاقات بين العرب واليهود ستشهد توترًا متصاعدًا يُصاحب عملية التّوسع الاستيطاني في فلسطين، وبدأت تعقد اجتماعات وتخطّط كيف تجسّر وتقلّل من حدّة الصّراع. في هذا الوقت كتبت الصّحف الفلسطينية “الكرمل” (حيفا) و”بيت المقدس” (القدس) و”فلسطين” (يافا) حول الخطر الصّهيوني وتهويد المنطقة واستعمارها وحذّرت من خطورة ما يحضر له اليهود.

بينما كانت الصّحف “الأخبار – يديعوت” (يافا) و”النّفير” (حيفا) و”لسان العرب” (القدس) تقدّم موادَ حيادية، أو موادَ لا تهاجم الخطر الصّهيوني بشراسة كما باقي الصحف، واهتمّت هذه الصّحافة بتغييب ما يحصل على أرض فلسطين، وسعَت في المقابل إلى ترجمة قصص وروايات عالمية ووضعها في الصّفحات الرّئيسية، تجنبًا للمُسائلة في المحاكم العثمانية كما كان يهدّد الصّهاينة أصحاب الصّحف. [١]

لم يرُق للوكالة الصّهيونية ما يُكتب فلسطينيًا في الصّحف التي نبّهت للخطر الصهيوني، ومن أجل ذلك عقدت اجتماعات عدّةٍ بين الأعوام 1908–1914، واستمرّت لاحقًا لبحث آليات ضرب الصّحافة الفلسطينية والسّيطرة عليها، وشكّلت لجنةً متخصّصةً في الموضوع. كان الهدفُ ردع الصّحافة الفلسطينية وإحباط عملها “التحريضي” ضدّ اليهود على حدّ وصف اللجنة.2 من بين ما اقترح في هذه اللجنة، إنشاءُ صحيفة يوميّة عربية صهيونية تخاطب الفلسطينيين بالعربية بفكر ووجه استعماري صهيوني. لكن قبل ذلك التاريخ، ظهرت الفكرة بإنشاء صحيفة عربيّة صهيونية يكتب فيها صحافيون صهاينة عام 1905، في مقال رأي في جريدة “هحيروت” الصّهيونية قُبيل تأسيس اللجنة المُختصّة بكثير. أما الاقتراح الثاني للجنة فكان في إحداث ثغرات داخل الصحافة الفلسطينية واختراقها وتمويلها من خلال إعلانات مدفوعة لتمرير رسائل صهيونية. وأما الاقتراح الثالث فكان بمثابة شراء صحافيين وكتّاب فلسطينيين للكتابة لصالح الحركة الصهيونية في الصّحف الفلسطينية.

يتطرّق البروفيسور “يعكوف روئي” في مقالة “محاولات المُؤسّسات الصّهيونية للسّيطرة على الصّحافة الفلسطينية بين 1908–1914” إلى الدور الذي لعبه “مناحيم أوسيشكين” والذي نُشرت نصوصه ضمن ملف “برنامجنا – هابروجراما شلانو” مطلع العام 1905، عندما اقترح غزو الصّحف العثمانية وضمّها إلى الصفّ الصّهيوني من أجل الدّعم والتأييد. يُسقِط “روئي” هذه الحالة على حالة الصحافة الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي والمحاولات الحثيثة لضبطها. بالإضافة إلى ذلك، يزعم “روئي” في مقاله [3] أنّه في العام 1910 قرّر المكتب القطري الصّهيوني “أرتسي-يسرائيلي” –Palastina – Amt وهو الجهاز التنفيذي “للهستدروت الصّهيونية” برئاسة “أرتور روبين” بمتابعة وتعقب الصّحف الفلسطينية والمقالات المنشورة فيها، والتي تحرّض ضدّ الصّهيونية والبدء بالكتابة ضدّها وتمزيق ادعاءاتها.

يضيف “روئي” أيضًا أنّه في العام 1911 وبعد اجتماع كلّ الأطراف والأجسام المعنيّة، صدر القرار بكتابة مقالات مضادّة كي تُنشر في الصّحف الفلسطينية. حينها طلب “أرتور” من رئيس “الهستدروت” الصهيونية في أميركا أن يدعمه بالتّمويل لغرض شراء الصّحف الفلسطينية وقراءتها، وترجمتها وكتابة مقالات ضدّها في خدمة الصهيونية، ولغرض شراء صحافيين فلسطينيين، وشراء إعلانات في الصّحف.

ومن جهةٍ أخرى، تردّدت أكثر من مرة الأصوات التي تنادي بإنشاء صحيفة عربية صهيونية للكتابة فيها عن ما قيل أنّه مُميزات الوجود الاستيطاني اليهودي في أرض فلسطين، وما له من مردود وفائدة على الجميع في المنطقة. لكن هذا الاقتراح لم يلاقِ آذانا صاغية، ولم يكن منطقياً في ظلّ تدفّق صحف فلسطينية وعربية جديدة في تلك الفترة، إذْ انشغلت اللجنة الصهيونية بتعقب الصّحف ولم تكن لديها الطاقات والموارد الكافية لتمويل صحيفة يومية، ولذلك كان التّركيز أكثر على اختراق الصّحف الفلسطينية[٤].

وقد حاولت اللجنة شراء الفلسطينيين والعرب بالمال وإسكاتهم، ونجحت في بعض الأحيان في شراء بعض الصّحف مثل صحيفة “الأقدام” في مصر، وصحيفة “لسان العرب” [٥]، التي كان يرأسها إبراهيم النجار، والذي كان يتخذ موقفًا حياديًا تجاه الصهيونية، ويكتفي بتقديم معلومات عامّة حول اليهود و”اليشوف” وعمليات الهجرة. إلّا أن هذا المشروع الصهيوني قد فشل بسبب تمسك الفلسطينيين بحقهم وبدفاعهم عن أرضهم وتوجهاتهم القومية والوطنية، كما أنّ التّمويل الذي حصدته اللجنة لم يكن كافيًا ولم تكن هناك موارد كافية للسيطرة على الصحافة الفلسطينية والعربية.

كما أنّ المسار القضائي الذي خاضته الحركة الصهيونية في محاولاتها غير المُنتهية لدحر الصّحافة العربية عبر تقديم شكاوي لدى القضاء العثماني بتهمة التحريض على الدّين اليهودي، لم تحصد ثمارها. على سبيل المثال، واجهت صحيفة “الكرمل” دعوى قضائية، قامت بعدها بنشر مقال أكّدت فيه على رفض المشروع الصهيوني في فلسطين ووضحت ما ينطوي عليه هذا المشروع من تهجير للفلسطينيين، مع اعتبار الدين اليهودي هو المحرك لهذه للحركة الصهيونية. وفيما بعد ربحت الصحيفة الدعوى، واستمرت في الصدور [٦].

“إسرائيل” في صالون بيتنا

يتطرق “يونتان جونان” في مقال نشر في إحدى مجلات معهد أبحاث الأمن القومي إلى تكتيكات ناطقي الجيش الصهيوني في الخطابة عبر القنوات العربية [٧]، ويخبرنا في البداية أنّه مع التّطور التكنولوجي وازدياد عدد القنوات وتوسعها وانتشارها خارج الحدود المحلية إلى كافة العالم، أصبح من السّهل استضافة شخصيّات سياسية بارزة حتى وإنْ كانت تعتبر عدوّاً للقناة أو للبلد المُضيفة لها. على سبيل المثال، أجرى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مقابلة على قناة CBS الأمريكية قبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وأجرى رئيس السّلطة الفلسطينية الرّاحل ياسر عرفات مقابلة على القناة “الإسرائيلية” الأولى إبان الانتفاضة الثّانية.

في السّنوات الأخيرة، وفي ظلّ وجود قنوات عربية كبيرة كالجزيرة والعربية، يستغلّ ناطقو العدوّ الصّهيوني هذا الأمر للمُشاركة بمقابلات تلفزيونية فيها، والوصول إلى العرب والفلسطينيين وإقناع العالم العربي والإسلامي بأكاذيبهم عبر التحايل والخداع الإعلامي. وهو نموذج شبيه بعمليات تدمير الصّحف الفلسطينية قبيل النكبة وغزو العقول واستعمارها، بالإضافة إلى تورط هذه القنوات العربية بتطبيع علاقتها مع الكيان الصهيوني، واستضافة مجرميه على شاشاتها.

في إحدى مقابلاتها الإعلامية لقناة العربية، تحدثت “أفيطال ليبوبيتش” التي شغلت حينها منصب الناطقة باسم جيش الاحتلال بالإنجليزية، قائلة: “الشّعب الفلسطيني ليس عدو إسرائيل، بل الإرهاب هو العدو”. وفي مقابلة أخرى لقناة الجزيرة تحدّث “أفيخاي أدرعي” الناطق بالعربية باسم الجيش: “عندما نوّجه صواريخنا إلى غزّة فإنّنا نقصد الإرهاب، ولم نوجه قذائفنا نحو المدنيين”. “ليفوفيتش” في مقابلة أخرى قالت: “الجيش الإسرائيلي هو جيش أخلاقي ويتعامل مع غزّة بموجب القانون الدّولي ولم يستخدم أية أسلحة محرّمة دوليًّا”.

في هذا الجانب سنُحاول فهم الاستراتيجيات والتّكتيكات التي يتعبها ناطقو جيش الاحتلال عند مشاركتهم في مقابلات تلفزيونية عبر قنوات إخبارية عربية كالجزيرة والعربية وتحديدًا في أوقات الحروب، بالإضافة إلى فهم تأثير تلك المشاركات على المتلقّي العربي والفلسطيني.

يُسمّى هذا النوع من المقابلات (Accountability interview ) او مقابلات المُحاسبة، والتي يواجه فيها المُستضاف على نشرة الأخبار أو في البرنامج التلفزيوني أسئلة بخصوص أحداث معينة تفترض أنّه يتحملُّ مسؤولية ما تجاهها. في مثل هذا النوع من المقابلات وبالذات في حالة حديثنا عن مقابلة لناطق باسم الجيش الصهيوني على قناة عربية، فإنّ المذيع عادة ما يحظى بدعم المشاهدين. وفي ذات الوقت، يكون المُستضاف – الناطق باسم الجيش الصهيوني – مُهدَّدًا بالمقاطعة أو الانتقاد في أي وقت. يقول “بنويت وليام” [٨] أنّهُ فيما يخصّ المقابلات التي تدور في صلب مناطق صراع، تمّ تطوير استراتيجيات خطابة إعلامية تبدأ بالإنكار وتنتهي بالاعتذار وما بينهما، وذلك من أجل إعطاء شرعية لما يدافع عنهُ المُتحدّث. وقد يلجأ المُتحدّث كذلك إلى أسلوب “الخطابة الدّفاعي”، والذي يُفيدُ باستعمال العنف ليس بشكل مفرط وفقط للضّرورة.

حلّل “جونان” في بحثه عددًا من المقابلات التي أجراها النّاطقون باسم الجيش على 3 قنوات: هي الجزيرة، الجزيرة الإنجليزية، والعربيّة، وذلك في أوقات مختلفة منها الحرب على غزة عام 2012، والحرب على غزة عام 2009، والعدوان على سفينة مرمرة، وغيرها من أحداث. بحسب “جونان”، فإن أوّل استراتيجية يلجأ إليها ناطقو الجيش في هذه المقابلات لمواجهة الأسئلة التي تطرح عليها، هي الإنكار. على سبيل المثال، في الحرب على غزة عام 2012، أنكر “أدرعي” عبر إحدى هذه القنوات “وعود الجيش بعمل محرقة للفلسطينيين في غزّة” كما ادّعى المُذيع المُحاور. [٩] وأضاف “أدرعي”: “لم نقصف المدارس، هذا الفعل ليس منّا”.

أمّا الاستراتيجية الثّانية التي اعتمدها النّاطقون في المواجهة، فهي استراتيجية توجيه التّهم لجهة أخرى. مثلًا: ردّ النّاطقُ باسم الجيش على سؤال المحاور في قناة العربية، عند مُهاجمة أسطول مرمرة التّركي المُتّجه نحو غزة عام 2010، بالقول “أنّ المسؤولية تقع على الإرهابيين الذين كانوا يخطّطون لاختطاف جنود وقتلهم”.في حالات أخرى كانت توجّه الاتّهامات ضدّ حركة المقاومة حماس، والادّعاء بأنّها “تستعمل المدنيين كدروع بشرية” أو أنّها” تطلق القذائف من داخل المُستشفيات”، وذلك لتبرير عمليات القصف وإعطائها الشّرعية.

كما يقوم النّاطقون بتوجيه أسئلة ومعلومات للمُحاورين يقدّمونها على شكل حقائق، ويظهر هذا النموذج النّاطقين باسم الجيش على أنهم يمتلكون المعلومات الصحيحة. يقول “جونان” في بحثه أنّ أكثر من نصف المقابلات التي دارت بين ناطقي الجيش والإعلام العربي قام فيها الناطقون بتوجيه أسئلة ومعلومات للمُحاورين. على سبيل المثال، وجّه “أدرعي” سؤالًا للمُحاوِر على قناة الجزيرة بتاريخ 12/10/2014:”اسأل قيادة حماس، أين تختبئ؟ في المساجد وفي المشافي، لأنّها تعلم أنّ إسرائيل لنْ تقصفها”.

وفي استراتيجيات أخرى يستغلّ ناطقو الجيش بعض المعطيات التي تنشرها القناة المُستضيفة، ويأتون بها ويستخدمونها في إثبات وجهة نظرهم وتوجّهاتهم، ممّا يضع المُحاوِر في موقف حرج. في هذه الجُزئيّة بالذّات، نحنُ أمام حيلة وذكاء ناطقي الجيش بخطفهم للكرة من ملعب المُذيع وضربها باتّجاهه مطالبينه بالرّد، أو التّوصل إلى طريق مسدود، ثمّ إلى تسوية واعتذار على الشّاشة بشكل غير علني.

بالإضافة إلى التّحايل على المُشاهد وتلقينه حقائق مشوّهة تخدمُ المشروع الاستعماري الصهيوني وتخدم الأهداف العسكرية الحربية، فإنّ مشاركة شخصيات سياسية أو عسكرية في مقابلات لقنوات عربية لهو مؤشر على قبول دولة العدو في المنطقة، والتعامل معها بشكل طبيعي. عدا عن تطبيع وجود دولة الاحتلال في نُفوس المشاهدين، فإنّ هذه القنوات تُعطي الاحتلال الفرصة والمنبر للدّفاع عن نفسه، وعن مشروعه. فظهور “أدرعي” المُتكرّر على القنوات العربية أشبه باختراق رجل المخابرات بيوت العرب والمسلمين في كلّ مكان، وبهذا يمكن أن نقول أنّ هذه المقابلات أدخلت “إسرائيل” إلى صالونات البيوت العربيّة.

خاتمة

تتنوع الاستراتجيات المتبعة ولا نفترض هنا مسحاً كاملاً لكيفية تعامل الناطقين وأجهزة الدّعاية الصّهيونية مع الإعلام والجمهور العربي. ففي طيّات الاستراتجيات المُتّبعة عوامل مختلفة أهمها تعزيز مكانة وتفوّق الكيان العسكري والأخلاقي أمام الجمهور العربي بما يعزّز قُدرة هذا الكيان من تعزيز مُتلازمة “النّقص”، و”الرّهبة” التي استقرّت في وجدان الكثيرين. وتتّخذ تلك الاستراتجية طابعاً تفصيليّاً في سياق الحُروب تلقي المسؤولية الأخلاقية والسّياسية على أكتاف المُقاومة لتُعيد إنتاج الواقع والحقائق بما يتّسق مع مشروع تطبيع الوجود الصهيوني وتعزيز تحالفات إقليمية تخدم تطبيع وجود الكيان في المنطقة.

من الواضح أنّ خطاب رفض التّطبيع بحاجة إلى إعادة صياغة عقلانية مبنية على تحليل لموقع وخطر “إسرائيل” في المنطقة العربية اليوم، بما يتجاوز مقولة التّضامن مع الشّعب الفلسطيني، دون أنْ يُلغيها. كانت وما زالت “إسرائيل” منذ نشأتها مسألة عربية داخلية، هيمنت على مسارات السّياسة والتّدافع على السّلطة، ومسارات التّنمية والاستقلال الوطني، ولعلّ أخطر إشكاليات الوعي والثّقافة السّياسية العربية في مرحلة الثّورات العربية وتحوّلاتها هو تغييب الوعي بموقع “إسرائيل” في انتكاسة هذه الثّورات، بعيدًا عن حديث المُؤامرة.

إنّ رفض التّطبيع في جوهره اليوم هو رفض التطبيع مع القبول بموقع “إسرائيل” مركزاً للهيمنة في زمن الحروب الأهلية العربية، وبهذا ينتفي ما يتداول من إشكاليات وتناقضات الموقف من التطبيع وتآكله، ويتأكد التّشدد في رفض التّطبيع ومحاربة المُطبّعين بناء على هذه الرؤية لراهن “إسرائيل” في المنطقة العربية.

من هنا فإنّ استضافة المتحدثين الاعلاميين والناطقين باللغة العربية على شاشات التلفزة العربية وإعطاء مساحة للناطقين لخوض حرب نفسية  ضد المشاهد العربي تحت مسوّغات “المهنية” أو “الرأي والرأي الآخر” لا يختلف بمضامينه عن نمط شراء الذّمم الصحفية ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948 بل يتعداها خطورة من حيث الشّكل وقدرة الوصول، ولا تخفف حقيقة كون الإعلاميين العرب يدخلون في نقاش ” عنيف” مع  ” الضيوف ” الصهاينة، من خطورة الاستضافة وتصنيفها كتطبيع مع العدو، فقد حولت هذه “الاستضافات العنيفة” الصراع  الدموي إلى نقاش حواري  بين فرقاء برسم التصالح والعيش المشترك.

========================================

الهوامش:
[1] -העיתונות הערבית בארץ-ישראל מאת משה שרת ״העולם״, גיליון ב׳, ינואר 1923.
[2] “عندما كانت في الكملة ثغرة”، “أورن فرسيكو” – موقع “جلوبوس” 19/12/2006.
[3]”محاولات المؤسّسات الصهيونية للسيطرة على الصحافة الفلسطينية بين 1908–1914″،”يعكوف روئي”، ضمن ملف “تاريخ المجتمع الإسرائيلي – صهيون” – 201 –227، 1976.
[4]רחל הרט ,יפו ותל-אביב במראה הכפולה של העיתונות הערבית בשנים 1881—1930.קשר מס’ 39 , סתיו 2009.
[5]محاولات المؤسسات الصهيونية للسيطرة على الصحافة الفلسطينية بين 1908 – 1914″، “يعكوف روئي”، ضمن ملف “تاريخ المجتمع الإسرائيلي – صهيون” –266– 227، 1976.
[6]المصدر السابق.
[7] Public”, Communication Crisis and Discourse Repair Image, “Benoit. L William .186-177. pp): 1997 summer (23, Review R. 
[8]”يونتان جونان”، “استراتيجيات ناطقي الجيش في القنوات العربية”, ضمن ملف الجيش والاستراتيجيات” مجلد 7 العدد 1 2015.
[9] مقابلة ناطق الجيش بالعربية “أفيخاي أدرعي” على قناة “الجزيرة” يوم 17/11/2012 – يوتيوب.