ما الذي يجعل الطيّف قلّقاً كلّما هبّ حريقٌ في الغابات؟… لقد اشتعلت غابة “حَجَر الغول” غير مرة، دون أن ينشغل الطيّف مرة بسؤال الفاعل أو المسئول، لم يشتم النار يوماً ولم يشمت في الغابة كذلك، فالنار بالنسبة إليه نعمة ونقمة في آن، نعمة للرعيان والمعّازين لأن حريق الغابة يجعلها بعد أول موسمٍ ماطرٍ أكثر خصوبة بالعشب وشلوح الشجر.

لكن النار نقمة على الصيادين، لأن الصيد في الغابة بعد احتراقها استحالة، فالأنياص إما يخنقها دخان النار أو تهجر أوكارها إلى مكانٍ غير معلوم. هكذا يقرأ صاحبنا الحريق، فالنار تهبّ بحكم أنها من تكوين الغابة لا نقيضاً لها.

إلى الناحية الشرقية من زيتون عين ماهل الوادعة على جبل سيخ، تمتدُ غابة حجر الغول، والممتدة شرقاً إلى حيث أبعد مما يصل نباح الكلب، لتنداح جنوباً حيث ينتصب جبل الطور، وإلى الشمال تحدّها بساتين كفركنا – قانا الجليل- المكرومة بموارس اللوز والرمان.

وعورة الغابة بتلالها المكسوة بالسريس والسنديان، ووديانها المكثوفة بالبطم والملّ والعلّيق جعلتها مقصد المعّازين على مدار أيام السنة، يقول الطيّف مستظرفاً: “راعي المعزى ما بكسب” في إشارة إلى نحافة جسده، فالماعز ترعى الكلأ وهي في حركة دائمة دون توقف، مما يستدعي ذلك جريّ الراعي خلفها على الدوام.

كان الطيّف طوال سنينه معّازاً يطوف الغابة سارحاً بقطيعه فكُنيّ بالطيّف، ولما استفسرناه عن كنيته أجاب بأن صيّادي النيّاص من كنّوه بالطيّف وليس المعّازين، والطيّف لأنه حين يسير ليلاً في الغابة لا يُلمح ُمنه إلا طيفه لشدة حذره وفراسته في الصيد. وهو يعتز بكنية الصيّادين لا المعّازين بالرغم من انتمائه إلى كلا الكاريّن.

صيد النيص رياضة شعبية تعارف عليها أهل جبال عامل منذ مئات السنين. والنيص من القوارض، يشبه القنفذ لكنه أكبر منه حجماً، فقد يصل وزنه إلى ما يزيد عن الـ40 كلغم، أقدامه الأربع قصيرة ولا تعيله على الجريّ سريعاً إلا نزولاً. يكمن مصدر حمايته في ريشه الذي يكسو جسده والمشكول باللونين الأسود والأبيض مما يعطيه ذلك صفة جمالية أيضاً، إذ يعتبره الصيادون طاووس الليل، كما أن ريشه بمثابة أشواكٍ حادةِ الرأس كالإبر وهي كافية لقتل كبش إذا ما انغرست في جسده. ومن ريشه انبثقت أسطورته المتداولة والتي تقول إن النيص يرمي أشواكه ليخلّص نفسه وقت الخطر، وهذا الاعتقاد يثير تهكم الصيادين، فهل من كائن يمكنه قذف شعر رأسه؟ يتساءل صاحبنا.

يتميّز النيص بجلده المكوّن من طبقتين الأولى ثابتة، والثانية متحركة، فمنها ينبت ريش النيص، والصيّادون يسموّنها “العباءة” لسمكها. والنيص لا يخرج إلا ليلاً، وهو حيوانٌ عاشبٌ خصوصاً في فصلي الشتاء والربيع، وفي الصيف والخريف يتغذى على البصوليات والثمار مثل الخروب والبلوط ولحاء الشجر كذلك.

تختلف طرق اصطياد النيص في الجليل من قريةٍ إلى أخرى، لكن الطيّف يعتبر صيده بواسطة الكلاب المدربة والعصا الطريقة الأمثل التي تجعلها رياضة لا استرزاقاً أو طمعاً باللحم.

قلة قليلة من حاول صيد النيص قنصاً بالبارود لأن ذلك غير ممكن في الليل، والطيّف يمقت استخدام البارود، فذلك برأيه يحوّل الصيد إلى جريمة. أما الأقفاص فهي طريقة تقليدية أخرى تعارف عليها بعض الصيّادين من خلال نصبها بالقرب من وكر النيص، لكن صاحبنا يعيب عليها أنها منزوعة من متعة التجوال والتفرّس ليلاً.

ومن أهل الجليل من استخدم أفخاخ صيد الضباع في صيد النيص، والفخة صنعٌ يدويٌّ من الحديد المشكول بشكلٍ دائريّ يحفر لها الصيّاد في الأرض ناصباً إياها بالقرب من وكر النيص.

 أما الطريقة الأكثر قِدماً وعراقة في الجليل هي الصيد ببناء “الدربزان”، والدربزان فخ من الحجارة يتم بناؤه على باب وكر النيص مباشرةً، حيث تُرفع الحجار على شكل موقد نار شبه مسقوف وفي داخله يوضع حجر مستدير الشكل بطريقة يبقى معلّقاً فيها بين سقف “الدربزان” وأرضية باب الوكر، وفي اللحظة التي يخرج فيها النيص يجد نفسه داخل الدربزان بعد أن يسقط الحجر المعلّق متدحرجاً ليسدّ باب الوكر خلفه، ليبقى النيص حبيس وضعية لا يستطيع فيها الخروج من “الدربزان”، ولا العودة إلى داخل الوكر.

إن كل وسائل الشرك والقنص لا تروق للطيّف، فالذي يستهويه هو مطاردة النيص بكلاب الصيد وضربه بالعصا، لأن على الصيّاد أن يمنح طريدته فرصة النجاة والهرب، وإلا لِمَ هي أدبيات الصيد؟

يعرف الطيّف غابة حجر الغول كما يعرف راحة يده، فقد عُرف بفراسته إلى حدّ تمييزه أثر الضبع من أثر أنثاه. لأحد أودية الغابة رهبة خاصة في الليل، لذا تستوكره النياص أكثر بحكم تكوينه الطبيعي بالأوكار. كما أن عتم ليله يجعل المرء يتحسس أصابع كفه دون أن يراها، ولريح الليل فيه رعشة موحشة، وهبوب قادر على اقتلاع ذنب الحمار في ليالي كانون. إنه “واد الغار”، هكذا سماه الصيادون يقول الطيّف، لأن للصيّادين معجمهم الخاص في تعريف الأماكن وأسمائها.

فالأسماء التي يطلقها صيّادو النياص على الأودية والتلال غير تلك التي يطلقها الرعيان أو البسّاتين عليها، ومرد ذلك إلى الليل الذي يجعل للبرّية وهورة ورهبة تبعث صيّاديها على إعادة تعريفها وتحديد أسماء مواقعها على نحو مختلف. فحجر الغول تسمية ليّلية للغابة تعارف عليها الصيّادون، بينما فلاحو القرية ورعيانها يسمونها غابة “عين محسن” نسبة لعين الماء فيها التي يقصدها الرعيان في النهار، فيما العين لا تعني للصيّاد شيئاً في الليل، بل على العكس يقول الطيّف، فإن الاقتراب من عيون الماء ليلاً سذاجة قد توقع الصيّاد في كمائن دوريات أمن المستوطنات والمتربصين. فالصيّاد المحترف هو الذي يدخل الغابة ويخرج منها دون أن  يلمحه أو يشعر به أحد.

لكلب الصيد منزلة خاصة عند الصيّاد، لأنه الكائن الوحيد الذي يمكنه اقتحام النيص، فليس من الحيوانات من يجرؤ على مهاجمة النيص بسبب ريشه القاتل، وحتى الكلاب الضالة لا تفعل ذلك. في حين كلب الصيد يمكنه ذلك لأن صاحبه من يضمن له اقتلاع الريش المنغرس فيه،

كما أنه لا يهاجم النيص إلا إذا تأكد من وجود الصيّاد إلى جواره. يقتفي الكلب أثر النيص حتى يجده، ثم يزلغط نابحاً كما يقول صاحبنا لتنبيه الصيّاد، حتى أن لنبحة الكلب على النيص نبرة خاصة يستطيع الطيّف تمييزها عن أي نبحة أخرى يطلقها الكلب على الكائنات الأخرى.

لا يجري كلب الصيد خلف النيص عند مطاردته بل إلى جانبه، وفي ذلك تكمن حِرفية الكلب، فالكلب الغشيم يطارد النيص خلفه مباشرة وعند أول وقوف مفاجئ يفتعله النيص يصبح الكلب في خبر كان. كم من كلابٍ افتقدها أصحابها أثناء تدريبها تاركين إياها تنزف بين أشجار الغابة.

أما الأهم في كلب الصيد من اقتفاء أثر النيص، فهو في قدرة الكلب على تنبيه صاحبه من الكمائن والمتربصين أو قاطعي الطريق، فتراجع الكلب المفاجئ عن اقتفاء الأثر باتجاه صاحبه إشارة منه يستطيع الصيّاد التقاطها كإنذار لتغيير وجهة الطريق. “كلب الصيد بطلعلوا يقعد بالديوان”، يقول الطيّف متبسماً.

للصيد طقوس وأدبيات متعارف عليها بين الصيّادين، فالصيد لا يجوز إلا من بداية أيلول وحتى نهاية كانون الثاني من السنة، حيث تكون الإناث قد انتهت من إرضاع صغارها، والصيد محرم في الربيع لأنه موسم تكاثر النيص، وفي الأشهر الحرم كذلك مثل رمضان.

ولا يمكن صيد النيص في موسم الصيد إلا في الليالي المعتمة فقط، ففي الليالي التي يظهر فيها القمر لا يبتعد النيص عن وكّره إلى مسافات بعيدة. ومن أهم أدبيات الصيد يقول صاحبنا أنه لا يجوز إخراج النيص من وكره إذا ما قُدر له الإفلات من كلاب الصيد وعصا الصيّاد، فعلى الصيّاد أن يتوعده في مناسبة أخرى لا أن يطارده داخل وكره. والأهم من كل ذلك أن يُلزم الصيّاد نفسه على إخلاء الناحية حيث يصطاد إذا ما تبين أن صيّادين آخرين يصطادون فيها. وهذا عُرفٌ متعارف عليه بينهم.

من على كتفِ تلٍ مطلٍ على حجر الغول يقف الطيّف نافثاً دخان سيجارته وقد غدا في حيطان السبعين من عمره، محاولاً خدش ذاكرته عن ذلك الإيقاع البطيء للزمن الليّلي الذي جدل علاقته بالمكان. فوحده الليل من يمنح المكان استقلالاً حرمه إياه نهارُ دوريات الطارئين. ليس الليل استكشافاً للمكان بقدر ما يعني اكتشاف الإنسان لذاته في علاقته مع الطبيعة والمكان.

 والصيد أغوى كثيرين من فلاحي الجليل ليفتحهم على عالمٍ من خبايا وخفايا الوقائع والأسرار، تماماً مثلما هي الأوكار. وصدر صاحبنا موكور بالتفاصيل، ففضل الغانم الذي ظنّه الناس يمتهن التهريب، كان الطيّف أول من كشف أن فضلاً قاطع طريق لا مهرّب، وحكاية شيخ مقبرة التل يتمنّع الطيّف عن قصها في إشارة منه لحقيقتها، وعن فتحي الشهيد آخر مطاردي الحكم العسكري والغموض الذي يلّف استشهاده ومكان دفنه فالّكل يعرف أن السر كلّه عند الطيّف، أما عن ابن السمّوعي وموته الغريب في إحدى ليالي الصيد، فتلك حكاية تطول.

كانت المرة الأخيرة التي استيقظ فيها عالم الصيد والصيّادين في مخيلة الناس، الصيف الماضي في عرس ابن الأرملة يوسف، حين اندس الطيّف إلى داخل حلقة الدبكة على غير عادته ليرد على لعّاب اليرغول منشداً:

نيص التل الحوراني يا نيص التل *** فل الخِل وخلّاني يا نيص التل

وتل الحوراني من تلال خاصرة حجر الغول التي عرفها الصيادون بأوكارها العامرة قبل أن يغطيها غبار إسمنت المستوطنات.