الرسمة من تصميم: إسراء صمادي


يتتبّع هذا النص بعضًا من فيض الحياة الثرية والمُثرية لأبي منصور، اسعيّد سلامة السويركي، رجل حرب العصابات وفارس الجبال، من ظَفَر جبال الخليل به بعد ضياعه من أهله وهو فتًى، مروراً بحياته الزاخرة بالمعارك والاشتباكات المحكَمة، والنقلة النوعية التي أحدثها في مجموعته وأسلوب قتالها، وما عزّز ذلك من شخصيته المتراوحة ما بين الرّهافة الشديدة والصلابة، وما بين اندفاعه والحماس المتوثّب فيه، وهدوئه وتخطيطه الروّي أحياناً أخرى، وليس انتهاءً بدهاء البدويّ فيه. انسجمت هذه الصفات لتنتج أسطورة الخليل في سنيّ النكسة وما بعدها. ومع عمله المقاوِم الدؤوب ومجموعته، خابت كلّ محاولات الاستيطان في جبال الخليل إلا بعد ارتقائه شهيدًا ورفيقه في العاشر من تموز لعام 1970.

******

وقف أبو منصور بقلبه المكلوم مُثقلًا بالحزن على قبر رفيقه الشهيد موسى الرجبيّ، قبالة مبنى الدبّويا في مقبرة الخليل، قرأ على روحه الفاتحة، خاطبه ببضع كلماتٍ لم يسمعها سواهما، وكان، من حوله، رفاقُه الذين أمّنوا له طريقًا إلى هذا المكان، حينَها، لم يُرَ أبو منصور بهذا الكمّ من الضعف والقوّة معًا، استجمع قواه ونهض، وقال بحزمٍ: «الليلة، هنا على قبر رفيقنا سنحتفل!»

فهم الرفاق ما يرمي أبو منصور إليه، وكلّهم ينظر إلى الآخر بصمتٍ، قطع هذا الصمتَ أحد الرفاق قائلًا: «يا زلمة، إنت مجنون؟» ردّ عليه: «اسمع، موسى غالي… أبو الغيث غالي وما تحكي معي».

– «إنت بدّك تيجي تقاتل عند باب مقبرة السهلة؟! مش منتبه قدّيش المكان خطر؟!»

استرسل آخر: «يا أبو منصور إنت قائد، والتوتر العالي يضرّ ويغيّب الصواب، وقرارك بدّه يكون أكثر صوابيّة، وما بدنا موسى يلحقه شهداء كثير، وما تنسى إنّه المنطقة مكشوفة». كان أبو منصور قد حزم أمرَه، لم يكن ليتراجعَ، ولم يكن لهم إلّا أن يتّبعوا أمر القائد أبي منصور.

كانت التحرّكات الصهيونيّة تحت مراقبة المجموعة، بشكلٍ دوريّ؛ كان تبديل الدوريات ورديّاتِها يتمّ بين الحادية عشرة والثانية عشرة ليلًا، حينها، اتّجهتْ المجموعة نحو باب بلديّة الخليل القديمة، وكلٌّ منهم يحمل رشاشه، وضعوا حراساتٍ على ظهر الدكاكين والدُّور المُطلّة، كانت الحراساتُ مستمرّةً عند منطقة الساحة، وفي تمام 12:00 ليلًا، في موعد تبديل الورديّات، نزلت دوريّة صهيونيّة لتفرغَ حملها من الجنود، ثمّ تعود، كانت عمليّة تبديل الورديّات تبدأ من أقصى نقطة، يترجّل جنديّان، ويصعد آخران، أربعة يترجّلون، فيقابلهم أربعة يصعدون، كانت تتمّ عمليّة التبديل هذه، كلَّ أربع ساعاتٍ بِحْسبِ الحالة الأمنيّة.

أثناء توجّه الدوريّة للتبديل، وبناءً على دراسة حركتهم بشكلٍ مفصَّل، تمّ إطلاق النار على الجنود، مع إلقاء «ملوتوفات» وقنابل يدويّة، اضطرّت الدوريّة للترجّل ومغادرة السيارات، وبهذا صاروا صيدًا ثمينًا للشباب الذين تمترسوا قريبًا من قهوةِ (أبو تيسير المدنيّ)، عند باب جامع بركة السلطان المؤدّي إلى شارع السهلة الرئيسيّ، وهناك حدث الاشتباك.

كانت السيّاراتُ ثلاثًا، بلغت الإصابات، حسبَ ما قُدِّرَ، بين (15 – 18) إصابة، وفي الصباح التالي، أجبر الجيشُ إطفائيّة بلديّة الخليل على غسل الحائط والأرض، كلُّ شيءٍ مُلطّخ بالدم، يومها، أذاع راديو «إسرائيل» والمجموعة تستمع، إنّ هناك خسائر في صفوف العدوّ ما بين (15 – 18)  بين قتيل وجريح، ذكروا كذلك أنّ عددًا من «المُخرّبين» أصيبوا، وفي الحقيقة لم تكن أي إصابات في صفوف الشباب، كانوا قد تمترسوا جيّدًا، بل وامتلكوا سلاحَيْ «ديكتريوف» غزيرَي النيران،  إضافةً إلى الكلاشينات والبنادق والكارلوهات، وكان تسليحهم جيّدًا، فضلًا عن عزائمهم القويّة. 

انتهت الليلةُ، مُعلنةً بَدْءَ مرحلة جديدة من العمل، تمثّلت باستلام أبي منصور قيادة أبطال العودة في جبال الخليل، بعد أسر عبد الرحيم جابر، مرحلة شهدت عنادًا عاليًا ممزوجًا بالمشاعر المتأجّجة على ناحيته الأخرى كما قائدها الذي كان مستعدًّا لمنح روحه دفاعًا عن رفاقه. (1)

استدراكات 

استدراك أوّل: بدايات أبطال العودة في الخليل

ابتدأ عمل أبطال العودة بشكلٍ خاصٍّ في الخليل بين عامي 1963 – 1964، بمجيء الشهيد فايز جابر وصبحي التميمي، وبدآ تشكيل المجموعة وتجنيد الأشخاص فيها، وتأطيرهم؛ إذ اندرج تشكيل مجموعة أبطال العودة ضمن عملية الإعداد للجناح العسكري لحركة القوميين العرب إبّان دخولها إلى فلسطين المحتلة، كان تركيز العمل في هذه المرحلة بعيدًا عن التأطير التنظيميّ بقدر ما كان تدريبًا عسكريًّا، والذي شمل التدّرب على إطلاق النار بالخرطوش والتعرف على قطع السلاح ومواصفات كلٍّ منها، وغيرها من التدريبات العسكرية اللازمة، ثمّ في أيلول عام 1964، انضمّت المجموعة رسميًا إلى «أبطال العودة» وأصبح لهم نادٍ رياضي، ثمّ في الفترة ما بين معركة السموع -والتي حدثت عام 1966- حتى عام 1967، تنامت أعداد المجموعة، وجودًا وحضورًا وتأهيلًا، وتكثيفًا لهذا الوجود، فضلًا عن محاولة كسب أنصار وأصدقاء جدد في مناصبهم ومواقع وجودهم ذات «التحصيل الحاصل»، والتي ساعدت المجموعة وسهّلت عملها.

لاحقًا، وبعد انضمام أبطال العودة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أخذ المنضمّون لأبطال العودة هوية جندي في جيش التحرير الفلسطيني حتى عام 1967، وكانوا متطوعين لم يتقاضوا رواتب لقاء عملهم الفدائي.(2)

كان من أوائل المنضمّين للمجموعة: محمد شرف الشريف، وعمر الصوص القواسمي؛ والذي كان هاويًا لإطلاق القنابل اليدوية، وتمّ اختيار مهمّته هذه تبعًا لاحترافه بالجورة، «فبصاوب مزبوط»! (3)

كما كان من أفراد المجموعة «محمد بدوان» الجعبري، وفهمي جابر ومحمد حامد الجعبري، كذلك ياسر الجنيدي، ومحمود جراد القواسمي، ومحمود البوطي «أبو عبد»، ومحمود أبو شرخ، وعبد الله أبو شرخ، وسمير القدسي، وروبين جابر «أبو الفدا»، كما كان مع المجموعة شعيب البكري، ابن خيري البكري، الذي استضاف الثوّار في أرضه، لكنّ عمله الفدائي كان مع الجبهة الخارجية في الأردن بشكل أكبر، واستشهد خلال أحداث أيلول الأسود، فضلًا عن آخرين لم يعرفوهم شكلًا ولا اسمًا، فلم يكونوا منكشفين على بعضهم، بل استخدموا أسماء مستعارة، لإمكانيّة تعرُّضِهم جميعًا للاعتقال والتعذيب، وقد يضطرون للاعتراف.

في تلك الفترة، كانت خلية من خلايا فتح تعمل في الجبال، منهم باجس أبو عطوان، كانوا يلتقون في الجبال، غيرَ أنّ عملًا منظّمًا لم يجمعهم معًا. (4) 

استدراك ثانٍ: عن أبو منصور (اسعيّد سلامة السويركي) 

سرح اسعيّد وهو يلعب -وهو البدويّ من عرب السواركة، الذين قطنوا رفح- وكان آنذاك ابنَ عشر سنوات، وظلّ كذلك حتى قادته أقدامه إلى أطراف غزة نحو الخليل، وتاه هناك في الجبال، وجد نفسه في مكان غريبٍ، مرّ بعض رعاة الغنم من عائلة العويوي ووجدوه، أخذوه في كنفهم وعاش بينهم، كان فطنًا يحمل غرائز البدو بشكل واضح، فعلّموه رعي الغنم، وخلال فترة حياته هذه، عرف جبال الخليل وجنوب البلاد وعرفته، وكان على تواصلٍ مباشرٍ متناغمٍ مع الأرض، وعلى علاقة وثيقة بعائلة حميدان كاتبة بدر، وتزوّج اسعيّد من فتحية القواسمي بتوسّط من عائلة العويوي التي يُحسَبُ اسعيّد كفردٍ منها، ولما شبّ صاحبنا، ترك الرعي وصار تاجر غنم يعمل لحسابه الشخصي.

مع دخول الاحتلال الإسرائيليّ إلى الضفة الغربية عام 1967، انضمّ اسعيّد إلى الدفاع المدني الأردنيّ، وتعرّف على محمد شرف الشريف (دندش فلسطين)، الذي كان مقاتلًا في أبطال العودة تحت قيادة عبد الرحيم جابر، ودعاه لينضمّ إلى المجموعة، وزكّاه لامتلاكه فطنةً وغريزة قوية، فضلًا عن معرفته بالأرض. (5)

ومن عمل أبي منصور كراعٍ، وكما عرف البلاد وعرفته، عرف كذلك أفضل الناس «طينةً» وتخيّر من ينضمّ له في رحلته، ومنهم عبد المنعم ووالده راجح الجعبري الذي عرفهم من تجارة الأغنام، فضلًا عن ياسر الجنيدي، الذي توطّدت علاقته به خلال تهريب الأغنام من ناحية عرب المسالمين، وعلى هذا الأساس كان ياسر يبرّر علاقته القوية باسعيّد، فضلًا عن علاقة الجيرة، إذ تزوَّجَ أبو منصور من حارة الشيخ، ثمّ اشترى أرضًا على تلّة الجنيدي وبنى دارًا حدّتْه فيها دارُ ياسر، تكشف التلة من أعلاها رأس النقب «تل عراد»، ويجثم اليوم عليها برجٌ عسكري يكشف كل المنطقة الجنوبية والبلدة القديمة، وهناك، ما تزال حجرات دار اسعيّد ترتمي على التلّة بعد أن هدمها الاحتلال. (6)

المشهد كما يظهر من تلّة الجنيدي، حيث يطل على الخليل القديمة ومقبرة الخليل، وتظهر في الأفق جبال عراد، التقطت في 8 شباط 2021

وهكذا أصبح رفاق الجبال رفاق السلاح كذلك، وبعد انضمامه، بقي أبو منصور يعمل سرًّا في المجموعة، حتى إنّ فتحية زوجتَه لم تعلم شيئًا عن عمله، وكان يغيب ثلاثة أيّامٍ ثم يعود، ولم تكن تعلم أين ذهابُه ورواحُه، كان يوصيها: «ديري بالك على حالك وعلى الأولاد» ويمضي.

في تلك الفترة، انضمّ عدد كبير إلى المجموعة المنضوية تحت الجبهة الشعبية مع جورج حبش، وكان الجميع يتناقل أخبار مجموعة عبد الرحيم، وتردّد اسم أبي منصور كثيرًا، ولم يكن على ألسنتهم إلا سيرته، والمعارك التي خاضها وأوقع خلالها خسائر بالعدو، لكنّ فتحية لم تكن تعلم أنّ أبا منصور هذا هو زوجها اسعيّد نفسه! 

ذات يومٍ، جاء محمد شرف الشريف وجلس على قلعة (صخرة) مقابل دار أبي منصور على تلة الجنيدي، ورأى فتحية، ونادى عليها وسألها: «أجا اسعيّد؟» 

– لا لم يأتِ، من أنت؟

– أنا رفيقه وكنت معه.

أعدّت له قهوة، فإذ باسعيّد قادم، وأول ما وصل، انبرى لسانه عن سؤالٍ قلِق: «إن شاء الله حكيت لها؟»

– «آه حكيت لها»، أنّبَه أبو منصور على ذلك. تقول فتحيّة: «والله قلبي كان حاسسني»  ولم تتفاجأ كثيرًا بما سمعت، بل كانت تتوقّع ذلك؛ فقد كان أبو منصور يحمل في جيوبه على الدوام الفلفل الأسود! تجده وتستغرب، ثم تقول له: «أعطيني إياه أطبخ فيه»، فيرفض ويُدرك فضولها ويسكته فيقول: «بأن الفلفل الأسود جيّد لتضليل كلاب الأثر»، أثارت إجابته الشكّ في نفسها، وزادت الطين بلة.

ومن حينها، وقفت فتحية إلى جانب اسعيّد في طريقه التي اختارها، وذات مرّة، رمى عمر الصوص -جار اسعيّد- حجرًا على سطح دارهم مُنبّهًا، سمعته وخرجت له، فسألها: «اسعيّد هون؟»

– «نعم»

– «خليه يطلع، الجيش طوّق المنطقة».

ولما كان أبو منصور مُتعبًا ونائمًا أيقظَتْه، أخذَ سلاحه ومضى مُسرِعًا من المنطقة، لكنّه نسي وراءه قنبلتين، تنبّهتْ لهما فتحيّة، ثمّ دسّتهما بكوّةٍ في الحائط بطرف الخزانة من الداخل، ولما جاءوا وفتّشوا الدار، ولم يجدوا اسعيّد أو ما يؤكّد «تورّطه» بما أدلى به العميل الذي كان معهم، والذي كان وجهه مغطّى، قال لها الجندي بنبرة تخويفٍ: «إحنا رايحين نمسكه مثل العصفور، بس إنت حرام رح تعيشي أرملة وهذا البيبي رح يربى يتيم»، ظلّت فتحيّة متماسكة ولم تأبه بما قال، وحين عاد أبو منصور وسألها عن القنبلتين، ضحك كثيرًا عندما علم بالمخبأ، لفطنتها وسرعتها في التصرُّف.

كانت الدوريات التي تأتي لبيت اسعيّد كثيرة، في يوم آخر، جاءت دوريّةٌ وكان في البيت ثلاث متفجرات، كانت فتحيّة تطبخ الفاصولياء على الببّور، تنبّهت للدورية، سكبت «كيلة» ماء باردة جدًا فوق الفاصولياء ووضعت القنابل في الطنجرة، و«دوّروا لطّشوا ما لقوا أي شيء وطلعوا»، ولما جاء أبو منصور سألها عنهم، ثمّ أخرج القنابل من الطنجرة ونظفها مما علق بها من فاصولياء! قال لها مبتسمًا يشعر بالغبطة: «خلص شو رأيك تتركي الأولاد عند أهلك وتلتحقي معي بالعمل الفدائي؟»

هبّ كل من تمكّن لمساعدة المجموعة بما استطاع، كانت مؤمنة البكري -ابنة خيري البكري- تلبّي طلبات الفدائية هي ووالدتها وفتحيّة «أم منصور»، التي كانت تُوكل بمهامّ مشفّرة إلى عيسى البدوي! وهو نجّار، «روحي عند عيسى احكيله بقولك اسعيّد طلّع النجارة الليلة ضروري»، «بعرف إنه سلاح، هههه جاي تضحك عليّ، مش عليّ يا اسعيّد». كان يحضر البواريد يلفُّها بمشمّعٍ كبيرٍ، ثم يدفنه في الأرض، وعند بالليل، يعود فيأخذه.

أنجب اسعيّد من فتحيّة خمسة أطفال، تُوُفِّيَ أوّلُهم، وبقي له ولدان وبنتان، حين وُلِدَ أصغرُ أطفالِه، حمله بين ذراعيه قبل استشهاده عند دار عمر الصوص -جاره على تلة الجنيدي-، تأمّله، وسأل فتحيّة: «شو بدنا نسمّيه»، فاقترحت اسم «طراد»، ردّ عليها مازحًا: «إنتِ بدك تفاولي عليّ طول عمري أضل مطارد؟! أنا بدّي أسمّيه موسى الرجبي»، ودار جدالٌ حول تسميته، حسمت هذا الجدال والدة أم منصور فقالت لها: «خلص خليه يسمّيه على اسم صديقه الشهيد». (7)

مثّل أبو منصور لأهل الخليل أسطورةً من نوعٍ ما، والعشرات من نساء الخليل كنّ يَحلُمن به، كما سمّت كثيراتٌ منهنّ أبناءهنّ بمنصور، حتى يُكنّى زوجها بـ(أبو منصور)، وهي بـ(أمّ منصور). ومن سيرته الذاتية، أنه عاش فقيرًا وناسَبَ الفقراء، كان ودودًا جدًّا، عندما اعتُقل حماه تألم كثيرًا، وقد وفّر أهل فتحيّة حاضنة اجتماعية لها ولأبي منصور، فأبوها وشقيقها حمدي ضُرِبوا كثيرًا وسجنوا كوسيلة للضغط على أبي منصور، وكان الجيش يعرف ذلك، فكانوا يضعون حمدي على «بوز» الجيب ويسرحون ويمرحون، حتى لا يتمكّن اسعيّد من ضربه، وكان يقول «والله ما كاسر ظهري غير نسيبي اللي قاعد ع الجيب».

جديرٌ بالذكر أنّ صاحبنا التقى بأهله بعد فترةٍ طويلة، حيث ذهبت مجموعة طبّية من الخليل إلى غزة، وهناك رأى أحدهم شخصًا يشبه اسعيّد، فقال له: فيه عنا واحد بالخليل «زيّك خَنْطق منطق»، فأجابه بأنّ لديه أخٌ ضائع منذ زمن، فقدم أهله إلى الخليل والتقوه، وساعة اللقاء، طاحت أمّه بالزغاريد. (8) 

استدراك ثالث: أبو منصور في مجموعة أبطال العودة في جبال الخليل نائبًا لعبد الرحيم جابر

من اليمين، عبد الرحيم جابر، وأبو منصور، وعبد المنعم راجح الجعبري، وموسى الرجبي، يتوسّطهم صحن عنب، تبعًا لما قاله عبد الرحيم جابر، فقد سمّوا على هذا الصورة «استراحة محارب».

بناءً على ما ذكرناه سابقًا، وبعد أن أصبحت المجموعة منضويةً تحت أبطال العودة، تمّ الاتفاق على أن يكون عبد الرحيم جابر قائدًا للمجموعة، في حين اختير اسعيّد ليكون نائبًا له، وأعطاه عبد الرحيم جابر اسمه الحركي «أبو منصور». (9)

وهو يحدّثني عن انضمام أبي منصور للمجموعة، أخرج عبد الرحيم جابر من عبّه صورةً أصلية لأبي منصور وصورةً أخرى له، كان قد قصّهما من ألبومٍ كبير له كما يظهر من أطراف الصورة، وكتب تاريخ التقاط الصورة على قصاصةٍ صغيرةٍ ألصِقت على كلٍ منهما. 

احتضان محمد خيري البكري للتجربة

كانت أرض عائلة البكري محطًّا للثوار في منطقة الخليل على مدار محطات الصراع مع المستعمر، بدءًا من الجد منير البكري الذي استضاف فيها فدائيّي ثورةِ عام 36، حتى عام 1948، وانتهاء بابنه خيري البكري الذي استضاف فيها فدائيّي الجبهة الشعبية في منطقة الخليل ما بين عام 1966 حتى عام 1970، تقع هذه الأرض على أطراف الخليل من الناحية الشرقية والملتصقة بطرقها نحو دورا جنوبًا، ويطّا وسعير وبني نعيم شرقًا، والقريبة من حلحول شمالًا، لعلّ كثافة وجود السِّيَر في الأرض ساعدها لتكون مثوى ثابتًا للفدائيين على مرّ هذه المحطات، تحتضنهم وتشتبك معهم، تواريهم داخلها وتحنو عليهم، ولذا أُطلِق عليها وبكلّ عفوية «إمّ الفدائية». (10)

* سيرة أبي منصور «سيّدة السِّير» التي كان يخبّئ فيها احتياجاته ويغيّر ملابسه
**صورة عامة للمكان، التُقطت بتاريخ 30 حزيران 2021

جنّد خيري البكري كلّ عائلته وكل ما يملك في سبيل المجموعة، فكان لزوجته دورٌ مهمٌّ في تأمين مأكل ومشرب الفدائيين، عدا عمّن شارك فيها من عوائل الفدائيّين، وجنّد ابنته مؤمنة لنقل المعلومات والطعام والسلاح أحيانًا للفدائيين، وأولاده الصغار لعبوا دورًا شبيهًا كذلك، كان ميسرة الشبل، ابنه ذو الـ 13 عامًا، دينامو المجموعة، فضلًا عن شباب العائلة الذين انضمّوا لها كفدائيين، ومنهم ابنه شعيب البكري، وابن عمه برهان البكري، وعبد الوهاب داري البكري.(11)

وهكذا، شهِدَتْ «إم الفدائية» تَجَهُّزَ المجموعةِ للانطلاق لكثيرٍ من المعارك، وشهدت مواعظ وإرشادات القائد، كما شهدت احتفالاتهم بالدبكة والزغاريد بعد كرّهم إليها عقب كل موقعةٍ، وما أكثر الوقائع!

هجوم مسلّح على معسكر المجنونة

كانت هذه المعركة من أوائل المعارك التي خاضتها المجموعة، وقعت هذه الحادثة عند معسكر المجنونة الواقع على أطراف دورا، على الطريق الواصل بينها وبين مخيّم الفوار، في الخامس من كانون أول/ ديسمبر عام 1967م، كان هذا المعسكر يتبع، فيما سبق، للجيش الأردني، وبعد احتلال الضفة الغربية عام 1967، استولى عليه الاحتلال وجعله مقرًّا للقوات الخاصة التابعة للواء «غولاني»، والذي كان مركزًا أساسيًا للاحتلال في المدينة، وقد كانت هذه القوات إبّان وصولها تداهم المنازل وتوقف الناس وتفتّشهم، وتُسيّر دوريات ليلية تنكّل بأهل البلاد، ومن هنا جاء قرار المجموعة بضرب هذا المعسكر والهجوم عليه ردًّا على كلّ ذلك. (12)

وخططّ عبد الرحيم جابر وأبو منصور لهذا الهجوم المسلّح، فالمعسكر يقع في منطقة منبسطة محاطة بالجبال من ثلاثة اتّجاهات، إلا من الجهة اليتيمة الشمالية، قرّرت المجموعة أن تتقدم إلى الموقع وتنسحب منه خلالها، (13) كانت الطريق المؤدّية لهذه الجهة وعرةً جدًا، ولن تتمكّن آليات الجيش والنجدات من دخولها وملاحقة المجموعة بعد انسحابها، تشكّلت المجموعة من اثني عشر مقاتلًا مقسَّمين إلى ثلاث مجموعات، الأولى: عبد الرحيم جابر، وعبد الوهاب البكري، ومنير جابر وماجد السلايمة، وتكوّنت الثانية من: محمد أبو عقر، وبرهان البكري، وعبد جابر، وموسى الرجبي، أما المجموعة الثالثة فتضمّنتْ شعيب البكري ومحمد الحوساني وفضل امريش وعبد الحسيب المحتسب. (14)

تقدّمت المجموعتان الأولى والثانية؛ من كَرما، وهي قرية في الجهة المقابلة، شرق غرب، ومن حدب الفوار والتي كانت مهمّة كلٍّ منها إطلاق النار على المعسكر من ناحيتها، في حين أوعز لفدائيٍ من كل مجموعة بالبقاء عند سياج المعسكر؛ حمايةً لظهور الشباب وتأمين عودتهم خلال الثغرة، أما المجموعة الثالثة، فتقدّمت من جبل أبو هلال المُطِلّ على المعسكر، والتي أعطيت مهمة إلقاء القنابل اليدوية وإطلاق النار تجاه مهاجع الجنود في المعسكر، فضلًا عن إطلاق النار أثناء انسحاب المجموعتين الأولى والثانية والتغطية عليهما قبل انسحابها أخيرًا، وهناك ومن مواقعهم، اشتبكوا حوالي ساعة مع المعسكر، رد الجنود ببعض طلقات النار العشوائية، والتي أصابت شعيب البكري في ساقه، لكنّه أكمل قتاله، ثم توقفت نيران العدو ولم يجرؤ على المواجهة، وأطفأ الأضواء في المهاجع ولم يُسْمَع لهم حٍسٌّ ولا أي ردّ أو دفاع. (15)

لمّا كرّ أصحابنا ووصلوا إلى منطقة الحرايق «عند دوار التحرير اليوم»، وضعوا أسلحتهم وعدّتهم على ظهر البغلة، ومن النوادر أن أحد المقاتلين، وكان اسمه عبد الحسيب زلوم، كان يزن أكثر من 100 كغم، توقّف في الطريق وكان التعب قد أنهكه، قال: «من شان الله أنا مش قادر، يا إمّا بتحملوني أو بضل هون».

فردّ عليه أحد الرفاق ممازحًا: «إذا انمسكت أكيد رح تسلّمنا، يا إما بتقوم يا إما بنطخّك». (16) فاضطر صاحبنا لإكمال المسير، حين وصل الفدائيون قواعدهم سالمين، احتفلوا على طريقتهم وعلا صوت رفيقهم أبو نادي بالمواويل والأوف والعلوّاه، وفي الصباح وهم يشربون الشاي على مسمعٍ من إذاعة الاحتلال، أعلن الناطق العسكري أن ثمّة هجومٍ مسلّح نُفّذ على معسكر المجنونة جنوب الخليل، وأنّ هناك بعض الخسائر لم تُحدّد معالمها، كما أعلن بنبرة انهزامية أنهم سوف يلاحقون الفدائيين الذي قاموا بذلك. (17)

ليلة القنابل في القدس

صادفت هذه الليلة تاريخ 21 من حزيران/ يونيو 1968، وضمن مسعى عبد الرحيم جابر في إرباك العدو بضربات عسكرية متتالية ومتزامنة في العمق المحتلّ، تم التخطيط لهذه الليلة مع رفيقه ونائبه أبي منصور، وخلال هذه الليلة، هاجم الرفاق 11 هدفًا في القدس وقراها، وكان عدد الرفاق المشاركين فيها 16 رفيقًا معروفًا، وآخرون من الداخل لم يكشفوا، وقُسّموا إلى 11 مجموعة حسبَ عدد الأهداف، ضمّت كل مجموعة رفيقين، خمسة من هؤلاء الرفاق كانوا يتقنون اللغة العبرية، فعُيّنوا مسؤولين عن مجموعاتهم.  

وعندما ضُربت القنابل الإحدى عشرة مرةً واحدة، أحدثت هزة في الكيان، ودوّت صافرات الإنذار في القدس، نجحت خمسةٌ من هذه القنابل في إيقاع قتلى وجرحى في العدو، في حين تمّ ترتيب انسحاب الرفاق بعد وضع هذه القنابل في أماكنها، ولم يعتقل أيٌّ منهم. (18)

* المصدر: أرشيف المتحف الفلسطيني، وكما ورد فيه من وصف: «صورة يظهر فيها بعض عناصر مجموعة ليلة القنابل والمحطة المركزية، في الصف الأمامي من اليمين يظهر سليم نسيبة بجانبه غسان كمال مسؤول المجموعة ومن الخلف يظهر أبو منصور وهو من قيادات الجبهة الشعبية وقد نفذ مجموعة من العمليات في الخليل واستشهد عام 1970، ويظهر بجانبه محمود جدة ومروان شاهين أبو حرب، أُخذت هذه الصورة في القاعدة العسكرية للمجموعة في بلدة الشيوخ قضاء الخليل خلال فترة التدريب لمقاومة العدو.»

ليلة القنابل في «تل أبيب»

بعد ما اختبرت المجموعة الأدرينالين الذي ضخّته ليلة قنابل القدس في نفوس الفدائيين من جهة، ومن جهةٍ أخرى أثرها في العدو وإرباكه، سعت إلى تنفيذ ليلة قنابلَ ثانية في «تل أبيب» في الحادي عشر من تموز/ يوليو، هذه المرة كانت في وضح النهار، ويمكن لليل أن يحلّ على الإنسان حتّى في النهار، إذا كان رعبًا وخوفًا وانعدامَ أمن، استُهْدِفَتْ ستّةُ مواقع في قلب المستعمرة «تل أبيب»، وهي المحطة المركزية، وأخرى في الباصات، وسينما «هامركاز»، فضلًا عن شارع «هرتسوغ» ومبنى البريد المركزي، ومحطة القطار العسكري، وأخيرًا استَهْدَفَتْ الدوارَ الذي يربط تل أبيب بيافا، كان الرفاق المشاركون هم أنفسُهم مَن شاركوا في ليلة القنابل الأولى، وقد قسّمهم عبد الرحيم إلى سبع مجموعات، في كلّ مجموعةٍ ثلاثة فدائيّين، وفي معظم هذه المجموعات فدائيّون من فلسطين المحتلّة عام 1948م، ستُّ مجموعات أوكِلَ إليها وضع القنابل في أهدافها، أما المجموعة السابعة فكانت مجموعةً للحماية والتغطية على المجموعات الستة، في حين تكوّنت المجموعة الثامنة من مسؤولي الاتصال، وهم أيوب جويحان ومعه فهمي سلطان وفريال أبو هيكل، وآخر من عائلة سلهب.

وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا، توالت الانفجارات بفارق دقيقتين بين كلّ انفجارٍ والثاني، وغطّت سحابة دخان سوداء سماء «تل أبيب»، ودخلت في ليلٍ طويلٍ أُزيحَ لثامه عن 12 قتيلًا و65 جريحًا، أمسك العدو كلًا من غسان كمال وسليم نسيبة في الميدان، ولاحقًا أُمسِك نواف الزرو ومروان أبو حرب في جبال الخليل، وقد كان ثمن أخطاء القيادة وبعض العناصر بأن اعتُقِلَ نحو 15 رفيقًا. (19)

وعلى إثر ذلك، ولما تأكّد مرور الثوار من أرضه، أسر الصهاينة محمد خيري البكري في سجن نابلس، وقضى ثلاث سنواتٍ. (20)

كمين المقبرة 

في 12 من شهر كانون ثاني من عام 1968، وكان لم يزل عبد الرحيم قائد المنطقة، كمن أبو منصور مع عدد من مجموعته جانب المقبرة وسط مدينة الخليل، كانت دوريات الصهاينة تمّر بكثرة من الشارع الملاصق للمقبرة «شارع الشهداء»، فأراد أبو منصور أن «يقطع رجلهم» عن المنطقة، فخططت المجموعة لضرب دورية مارّة من هناك، وتصدّت لها وأوقعت فيها عددًا من القتلى.

تزامنت هذه المعركة مع عددٍ آخر من المعارك والهجمات في الداخل المحتلّ، فكانت هذه المرة الأولى التي تستخدم الجبهة هذه الكثافة في قواتها في أماكن عدّة في ذات الوقت، وأربك هذا التزامن العدو في وقتٍ لم يعتد فيه على ذلك. (21)

قاسم الملك، قاسم الجعبري

ذات يوم، كان عبد الرحيم جابر وأبو منصور ومعهم عددٌ من أفراد المجموعة في أرض قاسم الجعبري، انطلقوا جميعًا وبقي قاسم، وكان مُطاردًا، كبقية المجموعة، منذ نحو عامٍ، حيث شدّد الصهاينة الخناق على كل المناضلين بعد حرب عام 1967، ويبدو أنّ عينًا رأتهم وخبّرت عنهم، لم يطيلوا جلوسهم، وبُعيد خروجهم من أرض قاسم، هاجمه الصهاينة ولم يجدوا أحدًا عنده. (22) وفي هذه الأثناء، كانت بقية المجموعة مع أبي منصور، وقد تواروا عن الأنظار وتفرّقوا، وبدأت طائرات الهيلوكبتر تحوم في السماء، وقف أبو منصور خلف سنسلة، ولما سمع صوت الهيلوكبتر، أحسّ بأن مكانه مكشوف، فتمدّد على الأرض، وهدم السنسلة على نفسه، وظلّ على حاله بضع ساعاتٍ حتى هدأت السماء. (23)

ولما عادوا وسألوا عن قاسم الملك، تبيّن أن الصهاينة اختطفوه في طائرة الهيلوكبتر، وحققوا معه تحقيقًا قاسيًا، ولمّا لم يعترف، ألقوه من طائرة الهليكوبتر، واستشهد، كان قاسم الجعبري أول شهداء الجبهة الشعبية، فيما كان الثاني موسى الرجبي. (24)

نقطة مفصلية – وادي عربة 

عزم عبد الرحيم جابر على ضرب مفاعل ديمونا بالقرب من وادي عربة، بوضع عبوات ناسفة فيه، ومن ثم الانسحاب حسب مخططه، وكأنّ شيئًا لم يكن، ويوم التنفيذ، انطلق الثلاثة: عبد الرحيم جابر وأبو منصور وموسى الرجبي، وكانوا محمّلين بالقنابل والعبوات الناسفة، وكان عبد الرحيم قائد المجموعة، وأثناء الطريق، احتاجوا لمن يدلّهم على موطئ أقدامهم، فعرّجوا على خيمة للبدو يسألونهم، وظلّ أبو منصور غير مطمئنّ لذلك، وعندما بلغ الدليل بهم مبلغًا، استماحهم عذرًا ليشرب من عين ماءٍ قريبة، وهنا أفاض أبو منصور بمكنون صدره لعبد الرحيم، غير أنّ عبد الرحيم طمأن أبا منصور، ولم يتّبع حدس البدوي فيه، وصمّم على بلوغ الهدف، وأمرهم بإكمال الطريق، ولما وصلوا بالقرب من حدود الأردن عند وادي عربة جنوبي البحر الميت، وقبل أن يضع عبد الرحيم يده على سياج المفاعل ليقصّه، لاح ضوءٌ قويٌ في وجوههم، وصوتٌ من بعيد يقول: «استسلموا»، وهنا ردّ عليهم أبو منصور سريعًا فقد كان مستعِدًّا لما حدث، مُعلنًا بداية الاشتباك بعد رفضهم الاستسلام. (25)

وأثناء القتال، ولمّا كان موسى رشيقًا يناوِر بطلقاته، وأشجعَهم كما يصف عبد الرحيم، صوّب العدو إليه رصاصةً أصابت رأسه، أسرع عبد الرحيم بكوفيّته ليشدّ بها جرح موسى، لكنّ رصاصةً أخرى استعجلته، بعد أن اخترقت ذراع عبد الرحيم ثمّ استقرّت في صدر موسى الرجبي، والتي لم تمهله كثيرًا حتى استُشهِد -رحمه الله- لم يكتفِ الاحتلال بإطلاق النار، وإنّما استعمل قذائف الهاون، ولمّا كان مكانهم مكشوفًا محاصَرًا بنيران الكمين المنصوب لصدّهم، أمرهم عبد الرحيم أن يتبعوه إلى نقطة أخرى نائيةٍ عن مرمى النيران والهاون ليتمكّنوا من الردّ على الكمين ومن ثمّ الانسحاب، وأثناء انتقالهم، انصبّت عليهم النيران صبًّا، لكنهم وصلوا إلى مَرامِهم، وهناك هاجموا أفراد الكمين وأوقعوا فيهم ما أوقعوا. (26) 

انتهى اشتباكهم، وأبو منصور مصابٌ بقدمه، (27) وعبد الرحيم جابر مصابٌ في بطنه وقدمه، ولمّا همّ أبو منصور بمساعدته للانسحاب، قال له عبد الرحيم: «وزني كبير ومش رح ننجو إذا حملتني، اذهب واستلم القيادة». (28)  في حين بقي عبد الرحيم ملقًى على الأرض بجانب رفيقه الشهيد موسى الرجبي حتى صباح اليوم التالي؛ وهناك، ألقوا القبض عليه، وبدأ اعتقاله. (29)

اختلفت الرواية قليلًا، إذ رواها رفيقان آخران؛ ففي منتصف الطريق، وحين باح أبو منصور بمخاوفه لعبد الرحيم جابر، طلب منه عبد الرحيم أن يعود أدراجه إلى الخليل، وذلك لاستلام زمام الأمور تحسّبًا لصحّة حدس أبي منصور، وأكملوا طريقهم، (30) وحين وقع الاشتباك، تناهتْ أصوات إطلاق النار على مسامع أبي منصور، فحفر حفرةً في مكانه، وألقى نفسَه فيها، وأهال عليها التراب، وحين هدأت الأمور، خرج من مَربضه، وعاد أدراجه إلى أرض خيري البكري. (31) لكنّ المرجّح أن رواية عبد الرحيم جابر هي الأدق؛ فقد شهد الحدث وحضرَه، كما أجمع الرفاق على إصابة أبي منصور في المعركة، والتي لم تكن لتكون إلا بصحّة الرواية الأولى.

ولما استُشهد موسى الرجبي، وأسِر عبد الرحيم جابر، وبعد إصابة أبي منصور في قدمه، اختفى قريبًا من الشهر للعلاج، كانت حالة الرفيق موسى نادرةً مغايرة لبقيّة رفاقه؛ إذ سلّم الاحتلال جثمانه، ودُفن في مقبرة آل الرجبي التحتا، مقابل مبنى الدبويا، وعندما تماثل أبو منصور للشفاء ولم يزل يعرج حينها، ذهب إلى قبر شهيدنا موسى الرجبي قبالة مبنى الدبّويا، وهناك قال للرفاق: «الليلة على قبره سنحتفل»، واحتفلوا «وغلوا بدنهم باب قهوة المدني». (32)

وبعد أن أعلنت هذه المعركة عودة أبي منصور إلى العمل بعد شفائه، كان عليه أن يتعامل مع ما تمّ تناقله من أحاديث بأنّ شخصًا بدويًّا هو الذي خبّر عنهم، حيث توجّهت الأصابع أول ما توجّهت إلى أبي منصور، وهنا توجّس دار جابر وأخذوا موقفًا منه؛ فعلى حدّ علمهم، لم يكن من شخص بدوي معهم إلا أبا منصور. 

وأثناء ذلك، عرّج على أرض الرفيق رشيد الجعبري في منطقة عاروض فراح، والذي جاء انضمامه للمجموعة في مطلع عام 1969، حيث التقى أبا منصور مصادفةً، إذ كان مارًّا من أرضه مع عبد المنعم، وبعد لقاءاتٍ عديدةٍ معه، أخذه عبد المنعم ليقابلهم في مقر المجموعة في أرض خيري البكري، إذ هي قريبة من أرض رشيد الجعبري، وكان أبو منصور هناك، وهنا بداية العلاقة وانضمام رشيد للمجموعة.

وهناك في عاروض فراح وبعد مجيء أبي منصور، وصل هو ورشيد تحت الجوزة، وهناك فاتحه رشيد بما سمعه، فقال له: «يا أبو منصور، سمعت إنه واحد بدوي كان معهم وسلّمهم، أنا ما بعرف ولا واحد بدوي، لتكون إنت؟!»، فردّ عليه: «شو فكرك يعني؟»

– «أنا بدي أتأكد، شو الخبر هذا؟»

– «إنت مش واثق فيّ؟»   

– «واثق فيك؟ ما أنت رحت معهم، ليش إنت الوحيد يلي نفدت؟»

ثمّ نزل أبو منصور يتوضأ تحت السنسلة، فحمل رشيد الجعبري كلاشين أبو منصور المركون جانبًا تحت الجوزة، ورفعه في وجهه، «عينيه بَحْلَقت هيك، وكانت عيونه واسعة وحلوة»، يقول رشيد، «عليم الله كان رح يهجم عليّ وياكلني».

فسأله: «كيف الناس بتحكي هيك إشاعات؟» قلي طيب ارمي البارودة واسمع، ذكر له ما حدث، وعلّل له سبب شكّهم فيه، ولم يطمئنوا له إلا بعد أن وردتهم الأخبار من عبد الرحيم في السجن أن أبا منصور رافقهم خطوةً بخطوةٍ ولم يكن من أخبر عنهم، وإن «أبو منصور أنظف مني». (33)

عودٌ على بدءٍ

أبو منصور، كتجربة، هو فارس الجبل ورجل حرب العصابات، ابن الجبل لا المدينة، شكّل حالة فريدة، اجتمعت القيادة -اللجنة التنظيمية للجبهة الشعبية 10 مرات وكان يتساءلون في كلّ مرةٍ كيف يمكن لأمّيٍّ أن يقود تنظيمًا ماركسيًا لينينيًا في جبال الخليل، وكان الجواب واضحًا؛ له من له من المساعدين الكتاب والقراء والمثقفين الثوريين إلى جانب طبيعته التلقائية كعاملٍ بروليتاري، يعمل كراعي غنمٍ أجيرٍ كالأنبياء، يصفه رفيقه «هذا زي سيّدنا محمد».

وهكذا، أضحى أبو منصور في أعينهم نبيّ مرحلة! عاش الحرمان بكل معانيه، حتى قنبازه لم يغيّره، وكان يقاتل بحطّته وعقاله، وفي معركة مارلوقا أصيب برأسه، وكان مُصرًّا أن يبقى على ما هو عليه، (34) ولم يكن يحلق؛ «يا زلمة احلق دقنك»

– «لا ما بدي أحلقها هلأ، لما يعرفوا اليهود إنه عندي دقن ويصيروا يدوروا علي على هالأساس، بعدها أنا بحلق لحيتي». (35)

فضلًا عن ذلك، كان أبو منصور تلقائيًا عمليًا يتجنّب الرسميات، مختصرًا وحاسمًا، فرسائله إلى التنظيم التي يطلب فيها احتياجاته، كانت مُختصرةً لم تتجاوز السطرين في كثيرٍ من حالاتها، وكُتبت جميعها بقلم رصاص، يكتب هكذا وحسب: «صار عدد الرفاق 80، يلزمنا بنادق وخرطوش». هذا كاتبٌ يلخّص احتياجات تنظيمٍ قِوامه 80 مطاردًا في الخليل ببنادق وخرطوش، واستجابةً له، حرّكت الجبهة أسطولًا من الجِمال (سبع جِمال) محمّلة بالسلاح من وادي عربة يقودها محمد شرف الشريف، الملقّب بـ«دندش فلسطين»، نُصرةً لأبي منصور، وللإعداد لها، عملت الطواقم في جبال الكرك مدّة شهرين كاملين (كانون ثاني وشباط) للتحضير لآليةٍ معيّنة لنقل وتأمين اللوازم، وقد سمّيت هذه المجموعة (قاعدة البحر الميت)، والذين كانوا في الأساس يعملون مع الماركسيين في الأردن في سنيّ الستينيات، والذين اعتبروا الماركسية اللينينية هي الأساس، لكنّ المجموعة رفضت الاستمرار؛ فاصطدموا معهم ولم يقبلوا أن يخضعوا لذلك، وأبَوا أن تقتصر مهامهم على العمل في المكاتب؛ فنزلوا إلى البحر الميت للعمل على نقل وإيصال الأسلحة من خلال اللنش المطاطي، فضلًا عن نقل العناصر ما بين الداخل والخارج. (36)

كانت المجموعة بقيادة عبد روبين جابر (أبو الفدا)، كانوا 19 شابًا، وكان ممن كان: حسين قَصْوَل، حسين شرف، وفرحات غيث، محمد زين، محمد أبو دوش، وفيصل زاهدة، فلاح الكعابنة، عوض شاهين، أبو خليل قطينة، حسن أبو نجمة، حربي حسونة، وديب الدويك، إضافةً إلى عطية السويركي، والحاج علي الكعابنة الذي كان دليل المجموعة داخل الوطن، فضلًا عن «محمد بدوان» الجعبري الذي لم يكن قد انضمّ إلى القاعدة بعد، إذ كان ما يزال يعمل في مجموعات الداخل. (37)

وهكذا، تم إعداد المجموعة، ومتابعة سيرها، وبعد انطلاق القافلة وأثناء مرورها حَدْو مقام النبي ياقين في طريق مسافر بني نعيم، (38) انكشفت المجموعة، وأخذت طائرة هيلوكبتر تحوم في المكان، فأخذ الرفاق وضعية دفاعية، واشتبكوا مع الطائرة، وحدثت المعركة هناك، وسيّر العدو دوريات للنجدة، (39) وحين أدرك «دندش فلسطين» أنّ مصيرهم الشهادة، فجّر قافلة الجمال بما فيها كيما يستفيد العدو من حمولة السلاح، وبعد قتالٍ ضارٍ، استشهد صاحبنا محمد شرف الشريف ومعه أربعة رفاق آخرون، نبيل قبلاني ومحمد أبو دوش، (40) ومازن حماد وأحمد هماز، (41) وقد تمكن العدو من أسر باقي أفراد المجموعة وكانوا أربعة، منهم: عطية السويركي، في حين نفذ الحاج علي الكعابنة من الاعتقال. (42)

محمد شرف الشريف، المصدر: موقع الضفة الغربية

ولا تزال جثة الشهيد محمد شرف الشريف في مقابر الأرقام كمعظم شهداء الجبهة الشعبية.

انضمّ محمد شرف الشريف (دندش) لأبطال العودة عام 1966، وساعد في تشكيل بنية المجموعة، حيثّ جنّد أخاه حسين شرف الشريف، وكان من دلّ عبد الرحيم جابر على اسعيّد كمقاتل مرشّح، واختتم (دندش) حياته بتاريخ 4 شباط/ فبراير 1969، (43) وقد كتبت المرصاد على عنوان صفحتها الأولى، «فدائي أم مخرّب؟» وصورة الرفيق الشهيد محمد شرف الشريف، والطلقة كانت بجبهته. (44)

وبعد نحو سنة ونيّف، بعد كشف بعض التفاصيل، كان قدر القافلة أنّ الجاسوس نعيم جبرائيل على علمٍ بالمسيرة، ولم تكن خيانته قد كُشفت بعد، وكان السبب في تصفية محمد شرف الشريف ومن معه في هذه الواقعة، حيث وُضِع جبرائيل في خانة الإعداد للقافلة كـ«رسول» وكان جاسوسًا، وكان الصديق الصدوق لأبي منصور، ولهذا كانت ثقة المجموعة به ثقة عمياء، كما أنه لم يكن رسولًا فحسب، بل كان يحمل كلمة السر بينه وبين المجموعة. (45)

ما بين عبد الرحيم جابر وأبو منصور 

في الوقت الذي كان معروفًا أن أبا منصور هو نائب عبد الرحيم، وبعدما وقع عبد الرحيم جابر في الأسر، انتقلت القيادة العسكرية لمنطقة الخليل والتابعة للجبهة الشعبية له، حيث كانت الدائرة القريبة التي تتخذ القرار مكوّنة من محمود أبو شرخ وحاتم المحتسب، اختارت هذه الدائرة أبا منصور ليكون مسؤولًا عسكريًا أولًا، ومحمود جراد القواسمي (الضبع) ليكون نائبه، وانضمّ للمجموعة فهمي جابر وياسر الجنيدي وسمير القدسي ومحمود عبد الحليم جابر ولعبوا دورًا هامًّا في ما تلا هذه المرحلة من وقائع برفقة من سبقوا، كما اختير يعقوب جابر كموجّه/ مفوّض، وآخرون مفوّضين سياسيّين وخدمات لوجستية ونقل توصيل واتصال مع القيادة في الخارج، وكان بدران جابر ممّن تسلّموا هذه المهمة، إضافة إلى لجنة قيادية في عمان أشرفت على العمل من الأردن، أُطلق عليها اسم «لجنة الخليل». 

شهدت تلك الفترة تحوُّلًا نوعيًّا في العمل، فعبد الرحيم جابر كان يهدف إلى إيلام العدو ضمن تكتيك توجيه الضربات إلى القدس كعنوان سياسي، وإلى «تل أبيب» باعتبارها العاصمة «كعنوان سياسيٍّ ثانٍ»، فضلًا عن إيقاع الأذى بالمرافق الرسمية، كما حصل في مقرّ قيادة الجيش الصهيوني في القدس (ambassador)، وفيها أرسل عبد الرحيم كلًا من شقيقه رياض جابر وجواد البشيتي كاستشهاديين لمهاجمة مقرّ قيادة المنطقة الوسطى الإسرائيلية. 

كما تميّز العمل العسكريّ لعبد الرحيم جابر بارتكازه على التفجيرات التي طالت عمق الأراضي الفلسطينية عام 1948، في حين لم تشهد فترته عملًا عسكريًا ذا مواجهة مباشرة وتبادلًا لإطلاق النار إلا نادرًا، فكان يضع الألغام في الأهداف السياسية التي استقصدها، أتاحت له هذه الاستراتيجية مدى جغرافيًا أوسع في تنفيذ مخططاته ضد العدو، والتي لم تقتصر على مناطق الخليل، بل وصلت إلى القدس و«تل أبيب»، التي حوت معظم أهدافه السياسية ضمن استراتيجيّته في العمل.

 في حين تحوّل العمل العسكري في عهد أبي منصور إلى المباشر المُواجِه؛ فالجنود أهدافٌ لأبي منصور، يهدف إلى إيقاع الأذى فيهم، ولاحق الجيش والدوريات، وهاجم مقرّات العدو، في حين لم يختلف التسليح إلا حسب ما توفّر، كان معظم الاعتماد على  الكلاشن والديكتريوف، كما تطلّبت استراتيجيته الجديدة تضييقًا للجغرافيا، فركّز على الخليل وقراها ولم يتعدّاها إلا نادرًا، ولكنّها ضمنت عملًا مكثّفًا في مواقع مهمّة في الخليل مثّلت أهدافًا هامّةً للصهاينة ومرتعًا لهم، فقطع أرجلهم وحدّ من حركتهم، كما أخّر عمله العسكري الدؤوب قيام المستوطنات في الخليل. 

وفيما يتعلّق بأبي منصور ذاته؛ فقد تميّز بعقلية الفارس، وبجرأةٍ عاليةٍ في المواجهة ومخاطرةٍ في القتال، وبالردّ السريع والذود عن رفاقه؛ ففي الليلة التي اعتُقل فيها رفيقه محمود البوطي جابر، هاجم أبو منصور مقرّ العمارة «المقاطعة» في الخليل، إذ أراد تحرير صديقه الواقع في الأسر. (46)

وفي ذات السياق وفي تتبع ردود الفعل، بثّت إذاعة «إسرائيل»: «عدة قذائف بازوكا باتجاه دورية تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، ولم يحصل ضرر في الأرواح ولا في الممتلكات»

ولاحقًا بعد رحلة المطاردة الطويلة لياسر الجنيدي وبعد أن أسره الاحتلال، رآه في السجن جندي درزي، اسمه سامح علي من المغار، فسأله الجندي: «إنت من جماعة أبو منصور؟» فأومأ ياسر برأسه موافقًا.

– «فاكر لما ضربتوا علينا الصاروخ في مثلث العمارة؟»

– «…. لأ مش فاكر….. طيب شو صار؟»

– «يا زلمة السيارة تشقّفت»، بالقاف.

 فسأله ياسر: «كيف إنت ما رحت فيها طيب؟»

– «أنا كنت في السيارة القزمة بالجوار، والسيارة التي تمّ ضربها، راح فيها -على ذمته- 17 جنديًّا على الأقل».

كان هذا الجندي ضمن حرس الحدود في غزة، ثم طلب نقله إلى الخليل، معلّلًا ذلك: «إحنا قلنا غزة جهنّم، جينا لقينا الخليل وادي الويل». (47)

وهكذا، كان صاحبنا يفكّر بهذه الجرأة، وهكذا حظي بإعجاب رفاقه وثقة من معه واستعداده للدفاع عنهم، مبادر، جريء في المواجهة دون حسابات دقيقة للنتائج أحيانًا، وتميّزت ضرباته بأنّها خاطفة وسريعة ومؤلمة بشكل واضحٍ. (48)

 

معارك خاضتها المجموعة بقيادة اسعيّد «أبو منصور»

معركة البريد 

تميّزت ضربات أبي منصور بأنها خاطفة وسريعة ومؤلمة بشكلٍ واضحٍ؛ خاطفة إذ كان يضرب في زمان ومكان غير متوقعَيْن، مثل الهجوم على مستشفى مارلوقا قبالة البريد عند دحديلة الهيموني في وسط البلد، شكّلت هذه المعركة ضربةً من الضربات التي أصابت العدو بغصّة، كانت المرة الأولى التي استُخدِم فيها سلاح الـ 2 RBG في الخليل. وكانت مارلوقا حينها عبارة عن مستشفى ومقرّ للصحة، أما اليوم فتحوّلت لمقر وكالة الأونروا، وهكذا تم الإعداد لهذه الهجمة، وحيث يتواجد بجانب المبنى بيت الشيخ عبد الحي عرفة وبيوت لآل عرفة وآل حجازي، تمركز الرفاق هناك.

وكان الأقصى قد حُرِق (1969)، فأتت هذه المعركة كردٍّ سريعٍ ثأرًا وسعيًا لإحراق العدو كما حرق الأقصى بدلالاته ورمزيته، لم تكن هناك أية أسئلة تسبق العملية، إلا كيف يمكننا إجبار العدو على إعادة حساباته، وهكذا تمّ تحريك المجموعة.

توزّع الشباب وشكّلوا دائرة مغلقة لمنع هروب العدو، فلم يكن من مكانٍ لعودة الدوريات، وهناك، حيث مثلث ابن رشد اليوم، كان هناك منزلٌ لعائلة سلطان، وقفوا على سطحه، كما وقفوا على مدخل دحديلة الهيموني، ودورية أخرى على طلعة مستشفى عالية، وعلى المدخل الشمالي لمارلوقا، مدخل التربية والتعليم اليوم، كما تمركزوا على ظهر سطوح البريد. 

فأغلقوا الدائرة بشكلٍ كاملٍ وبدأ إطلاق النار، وكانت الأوامر صريحة مختصرة: «حرقوا قلوبنا بحرق الأقصى، احرقوهم»، هكذا كان الأمر من القيادة «أبو منصور» وهو في المقدمة، وبهذه المضامين اشتعلت المنطقة، ومن هناك، مرّت آليتان «مصفّحتان» للجيش، (49) وقد تمّ استخدام RBG لأوّل مرة، ولم تستخدم المجموعة القنبلة اليدوية 36 كما سابق عهدهم؛ إذ إنها تنزلق عن المصفّحة ولا تؤتي أكُلَها، كما أنّ زجاج المصفّحة مضادٌّ للرصاص، ولهذا استلمت المجموعة الـRBG المضادّ للدروع. (50)

وقيل إنّ العملية أسفرت عن مقتل 20-22، حيث كانت آليتان نصف مجنزرة، في كلٍّ منها ما بين (8-12) جنديًا وفق حسابات ذلك الزمن، في حين لم يُصّب أيٌّ من المجموعة أو يستشهد، إلا إصابة طفيفة جدًا أصيب بها أبو منصور برأسه، «انشحطت جلدة راسه من فوق، وأكمل قتاله وكأن شيئاً لم يكن». (51)

مبنى مستشفى مارلوقا بجوار مكان المعركة، وهو مبنى الـ (UN) في الخليل حالياً، المصدر: موقع فلسطين في الذاكرة.

ثمّ في ظل ردّة الفعل، وأثناء الاشتباك مع المصفحتين، مرّت دورية بالقرب من منطقة ابن رشد دورية تجاه أرض مارلوقا، اشتبكت المجموعة معها لعدم تسيير نجدة وإسناد للدورية التي تتعرض لإطلاق نار في مارلوقا.

عُرِف المشاركون في هذه العملية، حيث تمّت محاكمتهم على ذلك، محمد جراد القواسمي (الضبع)، ومنهم سمير القدسي، وفهمي جابر، ومحمد حامد الجعبري، الذين سُئلوا في قاعة المحكمة: «لماذا قلتم احرقوهم؟»، جاء جواب سمير القدسي ببساطته وبداهته واتساقه مع الأوامر: «لأنكم حرقتم قلوبنا، كما صدر الأمر بحرق الأقصى، كذلك قرّرنا أن نحرقكم»، فردّ عليه مُهدّدًا: «مؤبّدات!»، فقال القدسي: «مؤبّدات مؤبدات شو يعني؟!»

وفي تناقل الأحداث وتهامس الناس حول ما حصل في معركة مارلوقا، قال الشيخ عبد الحي عرفة: «هدول ملائكة يلّي بقاتلوا، سامعين صوتهم وصوت رشاشاتهم وعم بحكوا بهدوء أعصاب عالي جدًا، وكانوا على عتبة الدار وعالبلكونة».

– طيب شفتهم بعينك؟ «لأ يا عمي».

وعندما حقّق الصهاينة مع الشيخ عبد الحي عرفة، قال: «أنا سمعت، بس ما شفتهم، هدول ملائكة يلي كانوا يقاتلوا»، وتعمّق الإيمان بذلك بناءً على قناعة بأنّ للأقصى ربًّا يحميه، وهكذا فإنّ سيرة الفدائي «أبو منصور» وقدرته ومن شاركه كانت تُقرأ بقدسية عالية جدًا، لها بُعد إيماني مربوط بالأسطورة. (52)

وفي رواية أخرى يرويها بدوان الجعبري، قال إنّ هدف هذه المعركة كان قتل الضابط «يوسف» الذي قدم إلى الخليل ينكّل بأهلها انتقامًا بعدما قامت فتح بقتل ابن عمه، وفيها، تم سحب يوسف بعد عزيمة عشاء عند أحد وجوه الخليل، وعند خروجه بالمصفحة مع عددٍ من الجنود، وصل خبره للمجموعة بلحظتها، ولم يفوّتوا الفرصة، كان مسار المصفّحة معروفًا، وفورًا، كمنت المجموعة على الطريق بالقرب من البريد، ووقف اسعيّد تحت الليمونة القريبة من الدرج المؤدي إلى مستشفى مارلوقا، لم تكن مواقعهم مدروسة، ولم تكن هناك خطة؛ كانت العفوية سيّدة الموقف، وبعد أن كمنوا، سمعوا صوت المصفّحة قادمةً من جهة باب الزاوية حيث كانت قديمة وصوتها عالٍ جدًا، وهكذا، أمسك كلّ منهم سلاحه، في حين أخذ محمود جراد القواسمي «حبتين» كارلو، ولم يكن يحمل إلّاه؛ وإنّ له صوتًا كصوت الضبع، ولذلك لُقّب صاحبنا بالضبع، وكان برفقتهم دياب الدويك، ولما وصلت المصفّحة، أطلق كلّ منهم، لكنها لم تؤثّر أي شيء.

ولمّا رأى اسعيّد ما رأى من موقعه، أطلق النار على سائق المصفّحة مباشرةً، والذي أصيب بادئ ذي بدءٍ، ولم يكن قد لفظ أنفاسه، فأصبحت المصفحة تيمّن وتشمّل حتى اصطدمت بإحدى الشجرات في دحديلة الهيموني، فانقلبت، واقتربت المجموعة منها وأطلقوا النار على كلّ من فيها، ولم يخرج أيٌّ منهم حيًّا، حتى المحقق يوسف. (53)

بعد ثلاثة أيّام فقط!

بعدها بثلاثة أيام، معركةٌ مماثلة من نفس الطراز على رأس الجورة، نُصرةً للأقصى وردًّا على حرقه، فبعد معركة مارلوقا، تمركزت المجموعة بالجهة الشرقية عند خلّة الضبع، بالقرب من مستوطنة «خارصينا» اليوم، تجهّزوا للعملية وتحرّكوا تجاه جرون جراد، «أبو دعجان» اليوم، تواروا عن الأنظار ثلاثة أيام وتحرّكوا بعدها ونصبوا الكمين في رأس الجورة. 

مرّت دوريات الجيش كعادتها، تم تدمير ثلاث آليات، وأسفرت نتائجها عن 18 جنديًا بين قتيل وجريحٍ، ثمّ كرّت المجموعة تجاه الشرق؛ فكّر أبو منصور بذكاء في الكرّ، حيث إنّ الضربة في هذه المعركة جاءت من الجهة الغربية، وفي الوقت الذي كانت المنطقة الشرقية تحت «تصرُّف» الاحتلال، حدّثته فطنته أن العدو سيعتقد بتوجّههم بعد الضربة إلى مقرّهم ناحية الشرق، فخالف ذلك، وبينما كان الاحتلال يفتّش محيط المقر في الجهة الشرقية، كانت المجموعة قد حطّت رحالها في خلّة ساعد في مغاور خلة النعجة في الجهة الغربية، وهناك، استقبلهم الرفيق محمود أبو شرخ، المسؤول عن التسليح والتدريب.

ومع هذه المعارك المتتالية المتقاربة زمنيًّا، وُضع الاحتلال في حالةٍ من الـ «دوّيخة» الدائمة؛ فلم يكن يتوقع الضربات ومتى وكيف يتلقّاها؟ وكانت النتيجة المميّزة الواضحة على الأرض؛ أنّ الاحتلال امتنع عن تسيير الدوريات الليلية، أو سيارات الجيش أو المصفّحات، وإن تحرّكت، فإنّما كانت تبحث عن مخبأٍ تحتمي فيه منعًا لاشتباكٍ متوقَّع الحدوث، ولمّا لم يكن بدٌّ من حدوث أي اشتباكٍ ليليّ، كان أثرُ ذلك واضحًا في بطء وصول سيارات الإسعاف ودوريّات النجدة، وبالتالي، كانت هذه عبرٌ ودروس للمُحتَلّ؛ ورسائل واضحة بأننا «لا نقاتل سرقةً ولا نقاتل بالفرص، وإنّما نحن مقاتلون أشدّاء نمتلك من الجرأة ما يكفي لانتظاركم». (54)

وهكذا، حكم أبو منصور الخليلَ ليلًا؛ وحين كان الاحتلال يقرّر منع التجوّل في النهار، كان أبو منصور يقرّره في الليل، وذات يوم، كانت مجموعةٌ صغيرةٌ مكوّنة من ستّة فدائيين، مدعوّين إلى حارة الجعبريّ إلى العشاء، وحين همّوا بالذهاب، نزلوا مشيًا على الأقدام من ناحية منطقة الراس تجاه الحرم الإبراهيمي، استمرّوا بالمشي حتى وصلوا سوق الحسبة، وهناك انقسموا مجموعتين، ذهبت إحداهما تجاه شارع الشلالة، وأخرى نحو شارع الشهداء والكراج، ثمّ التقت المجموعتان مرّةً أخرى عند باب الزاوية، وأكملت طريقها إلى حلحول! ولم تمرّ أيّة دورية، ولم يُسمع للعدو أي همس طوال هذه المسافة الطويلة المقطوعة بالأقدام! في الوقت الذي تمنّت المجموعة مرورهم بغية الصيد. (55)

وهكذا نستطيع القول إنّ هذه الحالة فُرِضت تلقائيًا على الأرض ودونما قرار، نتيجة انتظامٍ في العمل وجرأة عاليةٍ فيه، مثّلها القائد، وكثيرًا ما كان أقدر على اتخاذ القرار المناسب من القيادة الموازية والمناظرة التي تقف إلى جانبه.

عملية أخرى في معسكر المجنونة

كان معسكر المجنونة هدفًا ثابتًا لنيران المجموعة؛ إذ إنّه مقرّ وحدة «غولاني» في الخليل، وفيه حدثت معركة أخرى؛ عند معسكر المجنونة يوم السبت 23 آب/ أغسطس 1969، وكانت كردٍ آخر على إحراق المسجد الأقصى. (56)

جريدة الهدف عدد 6، الصادرة يوم السبت بتاريخ 30 آب/ أغسطس 1969

 

معركة الكراج/ محاولة تفجير بنك «لئومي» الصهيوني 

في الذكرى الأولى لنكسة حزيران عام 1968، تم التجهيز لهذه العملية التي هدفت المجموعة فيها لنسف بنك «لئومي» الصهيوني الواقع بالقرب من مدرسة أسامة، التي لم تكن قد تحوّلت بعدُ إلى بؤرة استيطانية حينها، تكونّت المجموعة من أبي منصور وبدوان الجعبري ودياب الدويك ومحمود جراد القواسمي (الضبع). (57)

 جلس أبو منصور تحت البلوطة الكبيرة في أرض خيري البكري يحشو لغمًا كبيرًا بالمتفجرات، وبعد انتهائه منه، نقلته المجموعة عبر الزاهد إلى بنك «لئومي»، ومدّوا فتيل اللغم من باب البنك إلى مدرسة أسامة حيث كانوا متمترسين، حاولوا إشعاله أربع مرات، وعند كل مرة يصل الفتيل نقطةً ما ثمّ ينطفئ (58) وهنا جلس بدوان على الأرض، حضن سلاحه، ووضع اللغم على ركبته وبدأ بإشعاله، أما أبو منصور فعسكر في الناحية المقابلة في نفس مدرسة أسامة، قبالة باب السكافي «باب سوق الخضار»، يتذمّر بدوان ويقول لاسعيّد: «مش راضية تولّع»، فردّ عليه: «خُضّها»، فيخضّها، «والله ما هي راضية تولّع». (59)

أما الصهاينة، فكانوا على أهبة الاستعداد؛ الذكرى الأولى للنكسة حاضرة، وتوقّعوا قيام المجموعات الفدائية بفعلٍ ما، وتحسُّبًا، كمنت مجموعة جنود ومستوطنين على ظهر سطوح سوق الخضار (الحسبة)، وأثناء محاولة بدوان إشعال فتيل اللغم، قفز جنديٌ من سطح البيت على الأرض، وكان جسمه شديدًا ورأسه «هالقد قده»، ولما لم تفصله عن بدوان إلا مسافة مترين ونصف وحسب، صرخ في بدوان: «وقّف» بلهجته الدرزية، وبدأ يرشّ في الهواء.

شعر بدوان بالأرض تموج فيه موجًا! لم يطلق الجندي تجاه بدوان مباشرة، ولم يُرِد قتله، ولو كان كذلك لقام بتصفيته من موقعه في الأعلى دون أن يقفز، أو أطلق الرصاصات تجاهه بدلًا من الهواء، لكنّه أراد الإمساك به حيًّا، فمن شأن ذلك أن يرفع مرتبته إلى جنرال، وهنا، كان بيت النار في سلاح بدوان جاهزًا للإطلاق، ضغط على الزناد قليلًا، فاخترقت صدر الجندي خمسُ أو ستُّ رصاصات، فوقع أرضًا وشخر، أما المستوطنون والجنود الذين ظلوا في الأعلى، فعلقوا ما بين إطلاق النار من عدمه، حيث إنّ واحدًا منهم سقط ولا يعلمون مصيره، ولم يستطيعوا إطلاق النار من الأعلى على أيّ هدفٍ، ثمّ جاءت المصفّحة ووقفت بالقرب من باب السوق، وبجواره مطعم السكافي، وفي بابه رتقة، تدارى فيها بدوان، فيما انطلق الرشاش من فئة 500 تجاه أبي منصور، فصاح ببدوان أن افتح عليهم النار. 

جرت الحادثة في الشارع السفلي لمدرسة أسامة، تعود هذه الصورة إلى عام 1944، المصدر: مدونة فلسطين.

كان للمصفّحة فتحة بالبطن من أسفل، يجلس فيها جنديان متقابليْنِ، يخرج أحدهما رأسه من فتحة المصفّحة العليا ويجلس خلف الرشاش الـ500، وقد كان بدوان خلفه مختبئًا في الرتقة، فأطلق عليه النار من مخبئه وأرداه قتيلًا، لم تسنح الفرصة لأبي منصور ليشتبك مع المشاة، أمّا الجندي الآخر في المصفّحة، فيجلس بالمقلوب؛ أقدامه إلى الأعلى في حين يخرج رأسه من فتحةٍ في الأسفل، باغت بدوان وأطلق عليه خمس طلقاتٍ من موقعه، اخترقت إحداها ساعده وكسرتها وقطعت الوتر، قدّر بدوان أن تكون هذه آخر لحظاته وأنّه ميّت لا محالة، إذ لم تكن تفصل بينه وبين المصفّحة إلا مسافة متر تقريبًا، كما أنّ وزنه كبير، لكنّه استجمع قواه ولفّ يده بالـ(جرزاية) حتى لا ينزف الدم منها أكثر، وضع بارودته على كتفه بكلّ برودٍ، وانسلّ من هناك كالخيال، ثمّ نزل مُسرعًا إلى قنطرة السواكنة، ومن هناك التقط أنفاسه ومشى الهُوينى حتى وصل خلة حاضور، واستضافته عائلة رشاد الزير وأسعفته، وتدلل دلالًا غير معتادٍ عليه. (60)

ثمّ جاءت مصفّحة وعسكرت بالقرب من دارهم، أطلت زوجة رشاد الزير برأسها ورأت المصفّحة وبانت عليها ملامح قلقة، ولما سألها ابنها، استدركت أنها غير خائفة عليه ولا على بدوان، ولكنّها قلقة أن يأتي الجنود إلى بيتهم، ويتناقل الناس سيرة دار رشاد الزير الذين سلموا فدائيًا ولم يحموه جيّدًا، وهنا همّ بدوان بالذهاب، وبعد إصرارٍ منه، احتمى بالجدران والطريق الحُبلى التي غطّت عليه، وانسلّ بين أزقة البيوت حتى وصل وادي القطع.

وبينما ينسحب بدوان، أكمل أبو منصور وبقية المجموعة اشتباكهم مع الجنود والمستوطنين، لكنّهم ركّزوا أكثر ما ركّزوا على التغطية على بعضهم من أجل الانسحاب والاطمئنان على بدوان الذي اختفى عن أنظارهم فجأة، ولمّا لم يجدوه، قطعوا أي أملٍ من بقائه حيًّا، أو حرًّا على الأقل. (61)

ورغم أنهم لم يأبهوا كثيرًا بعدد الجنود القتلى، إلا أن العدو أجبر إطفائية بلدية الخليل على النزول إلى المكان وغسله من بقايا الدم، «وشفتهم بعيني وهم يغسلوا المكان». (62)

وفي اليوم الثاني عندما ذهب بدوان إلى أرض المقرّ في قيزون «في أرض خيري البكري»، وقف أبو منصور يراقبه بحذر من رؤوس الجبال، فبعد انقطاع أملهم من نجاته، أو أسره، يظهر فُجأةً، فلم يذهب أبو منصور بتفكيره إلا أن هذا طُعمٌ ليتمّ القبض على المجموعة وأنه أحضر الصهاينة خلفه. أحسّ بدوان بما يجول في خاطر أبي منصور، وعندما اقترب، التقط أبو منصور باكيًا واحتضنه بشدّة، ثم عاتبه على شكّه بحُبّ، فأجابه: «والله خفت لإنه نجاتك كانت معجزة، وما تنسى الحذر مهم يا رفيق».

اهتمّ به، ثم ذهب بدوان ليتلقى علاجه في الكرنتينا عند فايز عطا المحتسب وأبو نعيم شحادة، حيث انتفخت يده وساورهم القلق بشأن إصابتها البليغة أو التهابها، ثمّ كشف عن يده وعالجها له، لكن ذلك لم يكن كافيًا بسبب حساسية الإصابة. (63)

ثمّ خاضت المجموعة بعد ذلك معركة رأس الجورة، لمرتين، ومعركة الحاووز، وخاضوا عدة معارك وبدوان مصاب وكانت بمثابة حفلة وداع لبدوان قبل سفره للأردن لإكمال علاجه، وسافر على أنّه طالب، حيث لم يكن قد تجاوز ال18 عامًا آنذاك. (64)

جديرٌ بالذكر أنّ بدوان الجعبري كان الوحيد في المجموعة الذي التحق بدورة الصاعقة مع قوات التحرير الشعبية في جزازة بمنطقة ذِبّين في السّويداء، ومن قوات التحرير جنّده محمد شرف الشريف مع أبطال العودة. (65) عرف بدران جابر محمد بدوان الجعبري، بعد إصابته؛ حيث ساعده على التخفّي. (66) ثمّ كان سفره إلى الأردن مقدّمةً لخلق علاقاتٍ اجتماعيةٍ للمجموعة مع عائلة الجعبري، حيث أصبح معهم 40 مقاتلاً من عائلة الجعبري بعد إصابته. (67)

وعندما أصيب بدوان، زغرد له والده، وإحدى المعركتين التي وقعت في رأس الجورة أطلق عليها اسم معركة الحج اسماعيل، تيمُّناً بوالد بدوان، حيث كان الأخير يتجهز للمعركة، فلحق به أبوه، وكان نظره خفيفًا في آخر عمره، فقال له: «تعال تعال وين رايح؟» فأجابه: «رايح مع أصحابي»، وكان اسعيّد جالسٌ تحت التينة الشحامية ينتظره لا يفصلهما عنه سوى السنسلة. 

قال له والده: «أنا ما بدي أمنعك، بس بدّك تكون ماضٍ وتضرب بقُوٍّ، يعني بدي إياك تجي محمّل ولا يقولوا خاف أو جبن، بدي إياك زلمة ترفع الراس، ادبح وما تخاف» 

فأجابه بدوان: «طيب ماشي، بارك الله فيك يابا ولا يهمّك، بس أنا مش رايح لاشي» 

قال له: «أنا عارف أنا عارف وين رايح، روح وتوكّل على الله، ما فيه شيء بينخاف عليه»، فـ«صفن» بدوان في والده وسكت، ثم ظهر اسعيّد من تحت التينة وحضن والده وبكى كلاهما بحرارة، قلهم بدوان مالكم عملتوها ميتم؟ 

«هاي العزيمة يلي منحك إياها والدك هي شيء عظيم» فردّ بدوان: «العزيمة موجودة بإذن الله وهذا ما يهمّ». (68)

معركة راس الجورة «معركة الحاج اسماعيل»

كانت هذه المعركة بمثابة حفلة وداع لبدوان بعد إصابته، وتم التخطيط لهذه المعركة لتكون على رأس الجورة، المدخل الشمالي لمدينة الخليل، على الممرّ للجنود في طريقهم للإياب من التدريب، وهناك، مرّ أكثر من 100 جنديٍ بـ «كمبوي»، (69) يتكون من ثلاث ناقلات للجنود في الوسط، ومصفّحتين؛ واحدة في المقدمة وأخرى في المؤخرة، فيما كانت مجموعة أبو منصور أقرب إلى الكتيبة؛ حيث كانوا حوالي 9 أو 10 وحسب، كان منهم محمود جراد القواسمي (الضبع)، دياب الدويك، زيدان ضميري، نعمان الفاخوري، عمر القواسمي، ومحمود البوطي وغيرهم، فُسّموا إلى مقدمة ووسط ومؤخرة، لتحديد أهدافهم بما يتناسب وتشكيل الـ «كمبوي».

وبعد مرور المصفحات وناقلات الجنود عن «الكوربة»، أطلق كلّ من في المجموعة ما تيسر من القنابل في يده، وألحقها بطلقاتٍ من النار، وهنا بدأ الجنود يطلقون بدورهم، وهنا أمر صاحبنا أبو منصور رفاقه بالانسحاب إلى الخلف قليلًا وراء السنسلة ليغطّي عليهم بديكتريوفه، لكنّه لم يستطع، ولمّا كان واقفًا على السنسلة، وأطلق عليه الجنود صلياتٍ من الرشاش، اعتقد رفاقه بأنّه أضحى شهيداً لا محالة، ثمّ فاجأهم وقفز عن السنسلة وصاح بكتيبته: «ردوا عليهم»، وتقدّموا للأمام، متجاوزين موقفهم الدفاعي إلى الهجوم، كانت هناك شجرات تين، جرى بدوان تجاههم بكل ما أوتي من قوة ومعه قنبلة، وكاد يقفز على الأرض لولا أنا أمسك بعرق التينة، وبدأوا بضرب القنابل والرشاشات حتى اشتدّت المعركة وخال العدو أن جيشًا كلاسيكيًا يقاتلهم. (70)

ولمّا طالت المعركة، كانت الفرصة سانحةً لإرسال نجدات للعدو للتحرّك تجاه رأس الجورة، وعندما جاءت الدورية وعند وصولها فندق النهر الخالد في الطريق المؤدية إلى رأس الجورة، اصطدمت بمقاتلي فتح الذين قضوا عليها، «ربّاني هيك بدون تخطيط»، وعندما كانت المجموعة على خلافٍ مع فتح بعد تخويناتٍ من الطرفين، جاءت هذه الحادثة وغيرها لتؤكد أن «الثورة أضاءت من الشرّ نورًا». (71)

ظلّ القتال محمومًا على الجبهة الرئيسية، فاشتدّ ارتباك الصهاينة وتصادموا وتكوّموا فوق بعض، ولمّا صار إطلاقهم للنار عشوائيًا، فقد أحرزوا أهدافًا في مرماهم، ما نجم عنه انفجارٌ شديدٌ في ذخيرتهم، واشتعلت بهم النيران. ثمّ انسحب أصحابنا مُنتَشين إلى قيزون، وهناك، نصبوا الدبكة وزغردوا احتفالًا، وكان معهم نعمان الفاخوري، «ولا امرأة تُجاري زغاريده». (72) وحسب اعترافات الحاكم العسكري في الخليل، أن هذه المعركة التي اتخذ فيها اسعيّد موقفه الهجوميّ، ظلّت مشتعلةً من الساعة التاسعة والربع حتى الساعة الواحدة، وأسفرت عن 42 قتيلًا فضلًأ عن الجرحى، على أقلّ تقدير طبعًا. (73)

لو أنّ أبو منصور لم يهِب بمجموعته إلى الهجوم، لأُبيدت الكتيبة جميعها، حيث صاح بصوتٍ عالٍ: «ردّوا عليهم»، كانت هذه نقطة حاسمة، ليس فيها رجعة، وأخذ الله بيدهم ولم يستشهد أيٌّ منهم أو يُصَب، إذ كان تكتيك أبو منصور مميزًا؛ حيث الغريزة البدوية والعقلية المُتشبّعة بروح القيادة، وكان قبل أي عملية إطلاق نار مخطّطة على العدو يُجلس كتيبته في حلقة، وجميعهم كانوا ملثّمين لم ينكشفوا لبعضهم إلا بعد هذه المعركة. وهم جلوس، يذكّرهم اسعيد في كلّ مرة: «يا شباب، الطلقة التي لا تصيب جسد عدوك ستصيب جسدك، بدّك تضرب كإنك حاطّ نيشان «قناص» وبتضرب، بدك تركّز، وبدك تغمر العدو غمر، إذا رد عليك فإنت مش قده، تدريبه أحسن وسلاحه أحسن ووضعه ممتاز، وتُسيّر له نجدات ويضرب القنابل المضيئة، بتطول الإبرة». في دعوةٍ منه إلى حسن توجيه الإصابة والقضاء على العدو، بحيث لا يكون هناك مجال للرد أصلًا، فكان رحمة الله عليه يعطيهم دروسًا ثريّة حول استخدام السلاح دون إهدار وبإصابة العدو دون عشوائية، بحيث توقع أكبر عددٍ من القتلى، وحتى لو استشهد أحدهم في نهاية المطاف، لا بدّ أن يكون استشهاده بثمن وبطعمٍ ومقابل غالٍ، وهذه العصابات لا تفهم سوى بلغة القوة. هذا ما قاله بدوان الجعبري بقدسية عاليةٍ وهو يروي ذلك. (74)

ثمّ حدثت معركةٌ شبيهةٌ في منطقة الحاووز، ولكنها لم تكن بتخطيط، مرّ الرفاق حدو دار رفيقهم طعمة الشرباتي، ووصلتهم معلومات بأن «كمبوي» سيمرّ من هناك، تجهّز الرفاق سريعًا، وكانوا حوالي ثمانية، وكان منهم بدوان وفهمي جابر ودياب الدويك وأبو منصور، فضلًا عن محمد حامد الجعبري.

تأتي منطقة الحاووز إلى جنوب غرب المدينة، والتي تشكّل امتدادًا لطريق بئر السبع التي تصل في نهاية المطاف إلى مدخل شارع الشهداء، فكثر مرور قافلات الـ «كمبوي» من هناك أثناء عودتهم من سيناء، وهجموا عليه وأوقعوا فيه ما أوقعوا، ثمّ انسحبوا كعادتهم، لكنّهم بذلوا جهدًا في إقناع محمد حامد الجعبري بالانسحاب معهم، وقد كان صاحبنا ينكبّ على القتال كأنّه آخر ما تبقى له من عمل، ويسحبونه من مكان المعركة جرًّا، وامتلك شجاعةً لا تُضاهى وثورةً في نفسه انعكست على فعله، ولما وقع في الأسر، «ما اعترف بحرف، وما طلع معه العدو براس»، حتى أنّه حُمِّل ببطانية يوماً ما عندما رفض أمر الجنود بالقيام من مكانه. (75)

أما معركة رأس الجورة الثانية، فأتت بعد أختها بشهر، وفي نفس الموقع، وكانت هذه آخر معركة شارك فيها محمد بدوان الجعبري قبل سفره إلى الأردن، وعلى مشارف مغادرته أفصح بما فيه نفسه لأبي منصور، قائلاً: «احنا فعلاً أعمالنا مميزة الحمد لله، بس ليش ما نضرب حرب عصابات؟ مش ملاحظ إنه قتالنا أشبه بحروب الجيوش؟» فأجابه بأنه من غير الممكن لهذه العدد من الفدائيين المطاردين في الجبل أن يعرّضوا أنفسهم لهذا القدر من الخطر في سبيل حرب عصابات وحسب، وطالما أن إمكانياتهم سمحت بما هو أكثر من حرب العصابات، فليس للتواضع أي مبرّر. (76)

معركة النهر الخالد 

حدثت اشتباكات عديدة في رأس الجورة، حيث أنها مدخل مدينة الخليل، وعليه كانت منطقة اشتباكٍ دائمٍ. وكان تسلط المجموعة الأكبر على الجنود المُجازين القادمين من سيناء، حتى يُذاع أنّ الجندي وإن لم يُقتل على الجبهة، فإنه هدفٌ للفدائيين في كل محطات مروره، وهذا من شأنه إرباك العساكر وعائلاتهم، حتى غير المنخرطين منهم بالجيش. (77)

من المعارك التي شهدتها المنطقة، معركةٌ جاءت بناءً على قرار وتخطيط؛ إذ كانت دوريات الجيش تأتي هناك باستمرار وتتوقف بجانب فندق النهر الخالد في المنطقة الواصلة ما بين الحرس ورأس الجورة والتي سمّيت فيما مضى «بير بشّات»، ولأنه -وبكلّ بداهة «ممنوع يوقفوا!»، تقرّر توجيه ضربة لهم في أحد التشارين من عام 1968، (78) استخدِمت فيها قاذفات الـ RBG، وأطلقوا نيرانهم تجاهها فدمّروا المصفحات وقتلوا وجرحوا عددًا ممن كان فيها، ثمّ كرّوا، ولم يُجرح أو يستشهد أيّ منهم. (79) وعلى إثرها قام الصهاينة بتدمير ثلاثة دور هناك، من ضمنها دار مصطفى القيمري وأخرى لعائلة نيروخ، أخذت هذه المعركة أثرها؛ حيث كانت إجراءات الاحتلال قاسية جداً على الناس آنذاك. فبعد هدم دار عبد الرحيم جابر وبيت أبو منصور كمقاتلين، جاء هدم دور القيمري ونيروخ في سياق ضرب الحاضنة الاجتماعية، وجاء الهدم بناءً على «وزّة» من العين، أنه رأى سلاحًا أو بقايا ذخيرة فارغة في هذه البلكونة؛ فيبدو أن أحد الشباب كان مُحتميًا بها. (80) 

عملية الحرم الإبراهيمي (فتح)

صعد عز الدين غيث -المنضوي في خلايا فتح- إلى مئذنة الحرم الإبراهيمي حاملاً معه قنابل يدوية، وحيث كان الصراع محمومًا على الحرم خلال محاولات الصهاينة أخذ مكانٍ لهم بالحرم، وعندما رأى الصهاينة ما رأوا، حمت فيهم الحميّة، وبدأوا بالتجمّع أسفل المئذنة، وهنا أخرج عز الدين قنابله وشرع يلقي عليهم قنبلةً وراء أخرى، وحيث كان عددهم كبيرًا. أسفرت العملية عن مقتل نحو 50 جنديًا/ مستوطنًا. وعندما أمسك به الصهاينة، اعترف ووجّه الأصابع إلى اسعيّد على أنّه المخطط للعملية؛ وكان ذلك بالاتفاق مع تنظيمه بالاعتراف على اسعيد في حال ألقى عليه الجيش القبض؛ فأبو منصور مطلوبٌ ومطارَد بكلّ الأحوال، ويعمل على المكشوف، عكس خلايا فتح في ذلك الوقت. وعلى إثر هذه الحادثة نسف جيش الاحتلال بيت أبو منصور، ولا زالت حجرات بيته ملقاةً إلى يومنا على تلة الجنيدي، أما عز الدين غيث، فحُكِم على هذه الحادثة 20 عاماً. (81)

وبعد أن هدم الاحتلال منزل أبو منصور على تلة الجنيدي، أُبعِدت زوجته وأطفاله إلى الأردن، وكان ذلك بأمر قيادة التنظيم، حمّل أبو منصور نفسه المسؤولية وقّضّ مضجعه، فكيف يسمح للاحتلال بأن ينتصر عليه وعلى مشاعره، فكان يكابر ويصمت ويسرح، (82) وقد لقيت العائلة عذاباً مراً في فراق الوطن وفراق أبو منصور معًا، فضلاً عن أن أولاده كانوا لم يزالوا أطفالًا، وعملت فتحيّة في الخياطة، وشقيت في تأمين لقمة العيش لهم، وتمنّت لو أن المنزل نُسف على رؤوسهم ولا انتقلوا إلى الأردن. (83)

إلقاء القنابل اليدوية عند بير إبراهيم، وعن معركة وادي القطع 

شهدت منطقة بير إبراهيم في شارع الشلالة في الخليل عمليات إطلاق قنابل يدوية كثيرة، تحديدًا ما بين باب مدرسة أسامة إلى باب الزاوية؛ فالسيارات العسكرية الناقلة للجنود من الكيبوتسات كانت تمرّ أولًا على الكراج، ومن ثمّ تنزل باتجاه باب مدرسة أسامة عند الشلالة، وتغدو ناحية باب الزاوية ثم تغادر.

كما كانت هذه المنطقة ذات كثافة سكانية عالية، وفيها منافذ كثيرة على حارة الشيخ وحارة الجعبري وبير الحمص، وعلى طلعة الزاهد، تشكّل طريقاً ممتازةً للفرار، ولهذا كانت موقعًا لكمائن كثيرة شهدتها تلك المنطقة. (84)

ومنها ما حصل ذات يوم، حين كان بدوان الجعبري يدرّب محمد حامد الجعبري على ضرب القنبلة، وكيف يعيد القفل إليها إن أزاله ولم تواتِه الفرصة لإلقائها، وكان الأخير حديث التنظيم آنذاك ونيرانه مشتعلة، وأثناء تدريبه حمل القنبلة وانبعث بحماسه مُسرعاً إلى مكانٍ ما، قال أبو منصور لبدوان: «الحقه شوف شو ماله؟»

– «وين ألحق فيه؟ بلكن بده يضربها على أولاد اللذين؟ أصلاً أبصر تنفجر ما تنفجر»، حيث كانت من مخلفات الجيش العربي، ولم تكن لهم بها ثقة كبيرة.

أمر أبو منصور بدوان بحمل سلاحه واللحاق بحامد الجعبري، وعلى عجلٍ، حمل سلاحه الـ«سونابال» الألماني الصغير، الذي يُلقّم بـ42 رصاصة نمرة 9 بدلاً من الكلاشنكوف الكبير، ووضعه تحت ردائه ومضى خلفه، والتقى به عند حارة السواكنة بالقرب من الزاهد، ولسان حاله: «والله لألعن دينهم».. «ارجع ارجع»، ونزل تجاه باب البلدية القديمة، ولم يكن من سبيلٍ لتراجعه. توقف بدوان مقابلة في قنطرةٍ من القناطر يرقب ما سيحدث، ثمّ مرّ باصٌ للمستوطنين، فاستغل حامد الفرصة وضرب القنبلة على الباص، ولكنّها لم تنفجر، كما توقّع بدوان تماماً. نزلوا من الباص للّحاق بحامد، وفكّر بدوان؛ إن لم يكن هناك إطلاقٌ للنار، فلن يهرب أيّ مستوطنٍ، وهكذا استلّ سلاحه الـ«سونابال» من عِبّه وأطلق النار تجاههم، وفرّ المستوطنون والناس، وكرّ معهم بدوان وحامد. تراءت إلى مسامعهم أخبار بوقوع قتلى في الباص لكنهم لم يتبيّنوا من العدد؛ إذ كان الهدف من الإطلاق فسح مجالٍ للاختفاء وسط البلبلة. (85)

ومرة أخرى، تمّ إلقاء قنبلة يدوية في نفس المكان، ألقاها تحسين أبو الفيلات، وكان معه اثنان آخران، حُكِموا على إثرها بالمؤبد و40 سنة، ضربوا قنبلتين على سيارتين ناقلتين للجند القادمين من الكيبوتسات. وبعد إلقاء القنبلتين، كرّ تحسين ومن معه باتجاه حارة الشيخ، فلحق بهم الصهاينة، وبحثوا عنهم بشكل كثيف جداً، وأحضروا وحدة للبحث والتفتيش اسمها (הגששים)، مهمتها تتبّع الأثر. وعن طريق المصادفة، كان أبو منصور في خلة البطمة، عند عين بني سليم.

وهناك أطلقت مجموعة أبو منصور عليهم النار، وبدأ الاشتباك، أصيب أبو منصور خلالها في كوعه ثمّ انسلّت المجموعة تجاه شعابة ومن ثمّ إلى قيزون، واستمرّوا بالعَدو ولحقهم الجنود في التفتيش لحد عاروض فراح (مثلث الكوشوك اليوم). ومن هناك، دخل الشباب إلى أراضي خلة الضبع، واختفوا في المنطقة هناك، وبعد إصابة أبو منصور، أخذه من معه وتواروا عند فاطمة زوجة محمود البوطي التي أُبعِدت باتجاه الأردن، كان بيتهم «سيرة/ عريشة» في خلة الضبع، يتربّع هذا البيت اليوم داخل مستوطنة «كريات أربع» بُعيد مدخل المستعمرة. (86)

اشتباك خلة الوردة «سنّوت» 

للمنطقة عدّة تسميات، منها منطقة سنّوت أو خلة الوردة، أو بيرين، تقع في قرية بني نعيم، والتي كانت محطّاً وممراً للمجموعة بشكل دائم، والتي شهدت مرور قافلات السلاح من هناك بعد تهريبها من مخاضات البحر الميت، شهدت هذه المنطقة اشتباكاتٍ عدّة، منها تلك الحادثة التي استُشهد فيها صاحبنا محمد شرف الشريف وأربعٌ من رفاقه، وكان آخرها اشتباكًا استشهد فيه ابريوِش، والرفيق فيصل زاهدة، وثلاثة رفاق آخرون، حُجِزت جثامينهم ولم تزل، ولم تُمَيّز بعد، باستثناء جثمان ابريوش الذي سُلّم في أول نقلة تم فيها تسليم جثامين الشهداء عام 2008، ودُفن في مقبرة أم / أبو الغزلان في دورا. (87) 

عند عاروض فرّاح «مثلث الكوشوك»  

كان أبو منصور وجزء من مجموعته خلف سنسلة في أرض زيتون عند مفرق الكوشوك، بانتظار جزء آخر من المجموعة قادمة من ناحية منطقة شعابة، ليلتحقوا بهم، وأثناء الانتظار وبالمصادفة، مرّت مصفّحتين «ناقلات جنود»، فرّغوا الجنود وذهبت السيارات. ونزلت حمولة جيّدة من الجنود وقوفًا على أقدامهم، ثم بدا أنّ قائد المجموعة يلقي بالجنود درسًا، وهم على مرأى ومرمى الهدف لمجموعة أبو منصور المنتظِرة، وعند الفراغ من المحاضرة التي كان يلقيها قائدهم، وحين همّ أول الجنود بالتحرّك، فتح أبو منصور والشباب النيران من فوّهات الرشاشات والديكتريوف على المجموعة، وكانت هدفاً سهلاً لهم. 

لم يتلقوا أي ردة فعل أو هجوم من الجنود، حيث مجموعة أبو منصور على رأس الجبل عند حبلة الزيتون، وهم على مرمى نظره، ولما وقفوا ونزلوا، كانت فرصة لا يجب تفويتها! وراح أكثر من 20 جندياً ما بين قتيلٍ وجريح.

وأذيع الخبر في راديو «إسرائيل»، بأن اشتباكاً وقع في عاروض فرّاح، راح فيه ستة صهاينة ما بين قتلى وجرحى، في حين كانت المجموعة تعلم يقيناً أنّ العدد يضاعفه، فضلاً عما تناقله الناس بينهم، بأنّهم رأوا بِرَكًا من الدماء، وعلامات مرسومة بالدماء محلّ جرّ الجثث. (88)

وفي نفس المكان تمامًا في منطقة عاروض فراح، مرّ ميسرة البكري يوماً ما وهو ذاهب إلى أرض أبيه حيث مقر المجموعة، وهناك على حبلات الزيتون، وجد آثار قشور بطيخ ومعلبات، أوحى له المشهد بأن هذا محطٌّ متكرّر للجنود، وعندما وصل إلى الأرض، وصف المشهد لأبي منصور، ونظر كلٌ منهم إلى الآخر بنظرة مفهومة لكليهما، فقال أبو منصور: «أبشر، اعتبره صار».

وهناك، كمن أبو منصور والمجموعة على حبلة زيتون مرتفعة، وعندما أتت ناقلات الجنود وأفرغت حمولتها وجلس الجنود هناك، فتحت المجموعة نيرانها عليهم. ويومها، لم يومئ أيٌّ واحدٍ منهم رأسه أو يرفعه، وتناقل الناس في هذه الحادثة أيضًا مشهد أنهار الدماء. (89)

لعلّ الحدثين واحد، حيث التفاصيل المتشابهة بشدة، لكن الخلاصة أن المجموعة لم تكن لتفوّت أية فرصة تلوح لها لتوجيه الضربات، ففي فترة من الفترات، وحيث لم يكن يسمَع صوت للسيارات بالليل إلا إن كانت للجنود الصهاينة، وكمنوا في مراتٍ كثيرة في انتظار الصيد ولم يتحصّلوا عليه. حيث كانوا يكمنون في أماكن كانوا يعرفون أنّ سيارات الجيش تمرّ بكثرة من هناك، وفي ذلك الوقت كان الجنود لا يتنقلون إلا بالمصفّحات، وكان الضرب على المصفحات يتمّ عن بعد بوجهٍ عامٍّ، حيث تضرب المجموعة، ثم تهرب «كرّ وفرّ»، ولم ينتظروا غالبًا ليُحصوا القتلى أو الجرحى، تجنّبًا للمفاجأة من وجود جنود أحياء في المصفّحة، ويوقع بينهم شهداء أو جرحى.

خاضت المجموعة معارك واشتباكات كثيرة، ولم يمضٍ يوم واحد دون أن يشهد عملًأ مقاوِمًا، وقد ذُكِر من هذا الاشتباكات أيضًا وممّا ذكر؛ معركة في بيت كاحل، قضت المجموعة فيها على مصفحتين، ومعركة ….. نقلت جريدة الهدف باقتضاب فعل الفدائيين واشتباكاتهم. 

******

في سياق الحديث عن تجربة مجموعة أبو منصور، لا بدّ من الحديث عن التخطيط اللوجيستي في تلك الفترة، والذي ضمّ مما ضمّ، نقل السلاح للمجموعات، حيث ساعد هذا التخطيط الرفاق في داخل فلسطين على إكمال عملهم، كما لا بد من المرور على طريقة التعامل في مواقف حسّاسة، كقضية التعامل مع العملاء والتي كانت جزءًا مهمًّا جدًا «والجرح يلي بوجّع» في حياة هذه المجموعة واستمرار عملها.

 

عن لجنة الخليل

تميّز العمل العسكري مع الجبهة الشعبية بُعيد عام 1967 بأنه كان منظّمًا لوجيستيًّا ويربط من بين الداخل والخارج، وذلك من خلال مفوّضين سياسيين وخدمات لوجستية، مهمّتهم نقل المعلومات وتوصيل الحاجيات والأشخاص، فضلاً عن كونهم وسيلة تواصل بين المجموعات العسكرية من داخل فلسطين مع القيادة في الخارج (الأردن)، كما كانت هناك لجنة قيادية في عمّان اسمها «لجنة الخليل» أشرفت على العمل من الأردن، كان يديرها روبين جابر «أبو الفدا»، وكان لبدران جابر -الذي كان مفوّضًا سياسيًّا عن منطقة الخليل ومسؤول القطاع النسوي فيه- شرف الاطلاع على تقاريرهم وإعادة صياغتها إعلاميًّا، ودوزنتها سياسيًّا. 

شكّلت لجنة الخليل في الأردن مَضافة للخلايلة عموماً، وكانت مهمّتها متابعة أوضاع العمل العسكري في الخليل واحتياجاته، فضلًأ عن إجراء اتصالات مع منطقة الخليل للتعبئة والتنظيم والتوجيه، لإيجاد مقرات لتنظيم أعمال دعم وإسناد للمناضلين، وإيجاد مخابئ لهم، وتوفير السلاح والمال، والأهم، الضمانة الاجتماعية؛ حيث كان من الضرورة بمكانٍ وجود دائرة اجتماعية لاحتضان الشهيد أو الأسير وأسرته.

وجديرٌ بالذكر أن المجموعة تضمّنت عددًا من الفتيات المطاردات، واللاتي كُنّ بحدود ال15، «أين سيكون بياتهم؟ أكيد مش على الجبل في خلة ساعد مع بقية أفراد المجموعة» يقول بدران، ويسترسل، بأن لجنة الخليل استلمت هذه المهمة؛ حيث كان الترتيب يتمّ مع صبيّة في عمان لتأمين منام الفتيات عند بعض الأشخاص بدل بناتهم. محل كنتها، أو محل بنتها يلي طلعت عالجامعة، منعاً للفت النظر.

كما كانت لجنة الخليل توفّر رعاية اجتماعية لأفراد المجموعات وتؤمّن احتياجاتهم ونفقاتهم، كما كانت لها ممتلكات استخدمتها اللجنة كمضافات؛ حيث كانت زوجات أسرى الجبهة الشعبية تأتين لاستلام مرتّبات أزواجهنّ من الأردن، فيتم ترتيب سكن الواحدة منهنّ في بيت لعدة أيام لحين رجوعها، كان أحد هذه البيوت في الأشرفية بجانب جامع الشركس. وخلال هذه الفترة، تحرص اللجنة على تأمين مأكل ومشرب وحراسة لهنّ، وسيارة تؤمّن ذهابهم ورواحهم مع أحد الرفاق. تابعت نفوز «أم الفدا – زوجة أبو الفدا جابر» هذا الشأن في لجنة الخليل، وكانت عضوة لجنة مركزية، وكانت الفواصل الاجتماعية مع الرجال موجودة، وكانت اللجان رهن أوامرها. 

ولم يكن بدران يمكث مع مجموعة أبي منصور طوال الوقت، كان يطلّ عليهم، ينظر في احتياجاتهم العسكرية كمفوّض سياسي، يتفقّدهم، يؤمّن لهم لقمةً ساخنةً، رغبةً في أنفسهم، ثم يمضي. كان بدران جابر مسؤولًا طلابيًّا في الجامعة الأردنية ومسؤولًا ومفوّضًا سياسيًّا على معسكر الصداقة، الذي شمل على طلبة من أمريكا اللاتينية واليابان، من آسيا وأفريقيا، حيث كان مسؤولاً عن تدريبهم وتوجيههم وتحضير الطعام والماء لهم.

كان هذا المعكسر في منطقة ارميميم في جرش، والذي كان ماكنة تفريخ للفدائيين والمقاتلين، منهم كارلوس وجورج إبراهيم عبد الله، ومنهم فتيات شاركوا في خطف الطائرات؛ رشيدة اعبيدو، ومفيدة قنديل. فضلًا عن علي طه، وصباح قنديل، الذين خرجوا جميعهم من هذا المعسكر وهم أصلًا من الخليل، ولم ينذروا أنفسهم إلا للوطن.

وفضلًا عن كل ذلك، اهتمّت هذه اللجنة بتأمين الاحتياجات العسكرية للمجموعات في الداخل، وبهذا السياق وفيما يتعلق بنقل السلاح، فقد كان يتمّ عن طريق غرندل، غور الحديثة جنوب الأردن، حيث هناك مخفر الغرندل الأردني البريطاني سابقًا، والذي أنشئ لحماية وادي عربة. من هناك كانت تأتي نقليات السلاح لوادي عربة باتجاه برية بني نعيم، وصولًا إلى الخليل، هذه المنطقة الصحراوية التي تتخللها سهول ومزارع، كان الشباب يمرّون منها حيث لم يركّز الاحتلال عينه عليها كثيرًا في رقابته، وهكذا «كنا نتخفّى كعمّال زراعة في أحد المزارع هناك، نرصد المنطقة ونخطط ونحدد المسار، ثم نجمع أنفسنا وأحمالنا وننطلق». (90) 

واستُخدِمت مصطلحات خاصّة لنقل السلاح تمويهًا، مثل «طلعوا النجارة»، «والله معزومين»، «اليوم الفتيت في وادي القطع»، هاي مؤشّر للاجتماع أو اللقاء للتخطيط، كانت مصطلحات دارجة استُخدِمت لتضليل من يتسمّع ويتصنّع.

وبما أنّ العمل تطلّب السرية التامة، لذلك لم تنقل الأخبار أو توصّل الرسائل إلا «من الفم للذان»، لا مكتوبًا خشية وقوعه في يد أحدهم، ولا منقولًا بطريقة تحمل مؤشرات على وجود فدائيين في المنطقة، معلومة مختصرة جدًا عن وجود الجيش في المنطقة الفلانية مثلًا، «نزلوا عند دار فلان وسألوا عن أبو منصور»، أو سألوا «شفتوا مخربين هون؟»، «هي الجيش في دار فلان».

ومرّةً، خرجت إحداهنّ من سنجر خفيةً عن عائلتها تجاه حارة جابر، وقالت لهم: «ديروا بالكم، سألوا الليلة على لطيفة»، فتأتي ردة الفعل «قومي يا لطيفة من المنطقة بدوروا عليكِ، أوراقك انكشفوا»، هكذا باختصارٍ. كانت هذه مهمّة لجنة الخليل، دائرة لمتابعة النضال الوطني داخل الخليل وخارجها لخلق السند الاجتماعي الذي كان يتم تشكيله والذي لعب دوراً أساسياً في إطالة عمر المناضلين المطاردين وحمايتهم وتوفير أمانهم واحتياجاتهم وراحتهم، وأكل وشرب وملابس. 

وفي هذا السياق، فإنّ ما يميّز الجبهة الشعبية عن غيرها، أنّها أشركت الجماهير والمجتمع في حمايتها وفي معاركها وفي تقديم العون، كلّ حسب اختصاصه، فمثلاً، ونظراً لاحتمالية الإصابة الكبيرة بين صفوف الشباب، وكانت المجموعة بحاجة لعيادةٍ وطبيب، لذلك نُظّم الطبيبين عبد الحفيظ الأشهب واسماعيل الطل رحمهما الله، وقد تمّ إبعاد الطلّ إلى الأردن بسبب ذلك. (91)

العلاقات الاجتماعية

إلى جانب ما قامت به لجنة الخليل فضلاً عن دائرة الاصدقاء، تمدّد أبو منصور إلى مسافر بني نعيم ويطا وأقام فيها علاقات في دائرة محدّدة اجتماعية تبعًا لما كان عليه قبل العمل، من الفقراء والبدو ورعاة الغنم، حيث نظّم نسيجًا علائقيًّا لم تستطع القيادة استيعابه تنظيميًّا. وكان يريد لهذا التواصل أن يكون عفويًّا دون تعقيدات، في حين أنّ الأصل تنظيميًّا أن يتبع التواصل ترتيبًا معيّنًا، لكن لم يكن أبو منصور لينتظره، يريد ذلك على وجه السرعة؛ حيث انعكس تأخير الاستجابة لطلبات الانضمام للمجموعة سلبًا على التنظيم كحضور، وأثناء ذلك، اصطدموا بأن المجموعة غير قادرة على متابعة كل هذه التفاصيل اللوجيستية في ظلّ العمل العسكري الكثيف.

وقد مثّلت رغبة الأشخاص في الانضمام للمجموعة ردّة فعل طبيعية على وجود الاحتلال، والأحرى أن يتم تدارس أي طلب عضوية يتم تقديمه، وأن يتم تقييمه من كل النواحي، ليس من ناحية القدرات الجسمية وحسب، بل من الناحية الاجتماعية كذلك. وقد قوبلت كثير من الطلبات بالرفض على هذا الأساس؛ مثلًا لأنّ مقدّمها وحيد والديه وعمود الدار، وهكذا كان للتنظيم أعباء ومسؤولية اجتماعية تقضي الأخذ بعين الاعتبار سلامة الحاضنة الاجتماعية «البيتية» للمناضل، «أنا ما بهدّ بيت، في حين أن عملي أساسًا هدفه بناء البيوت».

أما في سياق نسج العلاقات الاجتماعية مع أصحاب المناصب في البلد، فكان في الخليل ثلاثة زعماء رئيسيين: محمد علي الجعبري، الذي كان زعيماً ومفوّضاً برئاسة بلدية الخليل من قبل الملك حسين بقرار ملكيٍّ. فضلاً عن رشاد الخطيب، الذي كان وزير الاقتصاد الوطني الأردني، وكذلك الشيخ عبد الحي عرفة خطيب الحرم الإبراهيمي. مثّل هؤلاء الثلاثة «يافطات» البلد، وفي هذا السياق، كانت الجبهة حريصة على عدم المساس بهؤلاء الزعماء الثلاثة، وعدم المساس بقياداتهم.

وفي ذات الوقت، كانت المجموعة حريصةً على تحويل زعاماتهم من زعامات عشائرية إلى زعامات وطنية، فبنت المجموعة معهم صداقةً من نوعٍ ما، ومنهم عبد الحي عرفة الذي أُبعِد لأنه رفض التوقيع على اتفاقية الحرم الإبراهيمي، التي تمنح الحق لليهود بالاحتفال بعيد الحانوكا، وفيها تجاوز الصهاينة حدود «المعروف»، التي كانت في حينها درجات السبعة الأولى من البوابة عند العين الحمرا الجهة الشرقية، وأصبحوا يتجاوزونها إلى قبر يوسف. ولمّا كان موقفه هكذا ولما كُشف احتماء الفدائيين ببلكونة منزله في معركة البريد، أبعده الاحتلال إلى الأردن. 

أما رشاد الخطيب، فكانت داره ملجأً في كثير من الأحيان، ويومًا ما، عندما جاء «دايان» إلى بيته، كان عبد الرحيم جابر جريحًا ومُصابًا يتطبّب في داره في الطابق الثاني، ولم يكن يعلم الحرس الذي رافق «دايان» يومئذ وحوّط الدار وأمّنها، بأنّ هناك ثلاثة مقاتلين بالإضافة إلى عبد الرحيم، الذي كان ملاحّقاً في ذلك الوقت، موجودون في بيت رشاد الخطيب في الطابق الأعلى. 

ولاحقاً، ثرثر عصام ابن رشاد الخطيب متفاخراً، وكان لم يزل فتىً في المدرسة الثانوية: «اجا عنا دايان وكان عنا عبد الرحيم في خلة الوردة في الطابق الثاني من الدار»، وصل الخبر للاحتلال، وعلى إثر ذلك، حُمِل رشاد وعصام وعبيدة، ونُفِي والدهم رشاد الخطيب إلى الأردن – كما ذكرنا سابقاً – على إثر معركة البريد.

أمّا الشيخ الجعبري، أرسل إلى بدران جابر خبراً، بأن «موشيه دايان» سوف يقوم بزيارةٍ له اليوم، «وعندي بلوة تعال خذها»، ومن البلوة؟ رفيق جريح اسمه أبو منصور! فبعد إصابته في معركة مارلوقا في رأسه، كان المكان الآمن الوحيد منزل الجعبري؛ فلم يكن الجيش سيتوقع وجوده هناك أو يفتش داره، فمكث هناك خمسة أيام.

وهكذا نُسِجت العلاقات مع هذه النوعيات من القيادات السياسية التي كانت في حينها وليدة نظام ناشئ اسمه الأردن، ليست الجبهة من زعّمتهم ولكنّها كانت موجودة، ولم يكن للجبهة الشعبية مقدرةٌ أو تفكيرٌ بتغييرها، ولكنّها خلقت معها علاقات اجتماعية شكّلت سندًا للعمل أو تغطية له على الأقل، «وعندما الرهان عليهم في هذا الجانب تحديدًا، لم يكتّفوا أيديهم». (92)

التعامل مع الجواسيس 

تعاملت الجبهة الشعبية مع الجواسيس كموضوع جوهري، وكانت تُنزِل العقوبات بحقّهم حسب ما أدلوا به من معلومات، أو حسب ما فعلوه بأيديهم من تصفية للفدائيين، وقد أفردت جريدة الهدف عنوان «بلاغات» لنقل تفاصيل تصفية العملاء والعقوبات بحقهم، وتفاصيل كل ذلك.

وفي هذا السياق، وبما أن القيادة موجودة في الأردن، والمجموعات الفدائية موجودة في داخل الأرض المحتلة، فقد تطلب نقل المعلومات تكتيكًا خاصًّا بحيث يصعّب التقاط الجواسيس للمعلومات، وهنا كان لا بد من ابتداع كلمة سر للرسائل المنقولة ما بين القيادة والمجموعات الفدائية أو العكس، كانت كلمة السر هذه عبارة عن جمل مصنوع من الخشب، مكسورٍ إلى جزئين؛ رأس الجمل مع المرسِل وبقية جسمه مع المستقبِل، يأتي المرسل فيقول مثلًا: «بدي أشوف أبو منصور».

-«ماشي، هات دليلك»، فإذا انطبقت رقبة الجمل 100% على جسمه، إذن فقط تمّ الأمر، يقول بدران جابر ويترسل: «فنلتقي في منطقة عاروض فراح مثلًا، أو عين بني سليم، ومنها ننتقل لمنطقة أخرى، ونتعمّد تغيير الموعد الأول؛ نفاجؤه، أو نؤخّره أو نقدّمه بحيث لا يكون قد أعدّ نفسّه جيّدًا، أو لأخذ الاحتياطات في حال كان مُلاحَقًا أو مُتابَعًا من قبل الاحتلال. وهكذا نكون قد غبنّا الاحتلال وسبقناه».

فضلاً عن ذلك، كان يتمّ تغيير مكان اللقاء، فبدلًا من التلاقي على الجبل، يُحوَّل مكان اللقاء ليصبح في شارع السهلة قبالة استراحة الخليل (Hebron Jewish settler workshop) المضمومة للمستوطنة، فلن يخالج الشكُّ أحدًا بوجود أبو منصور هنا للقاء أحدهم قبالة الحرم الإبراهيمي بما يبعد عنه 30 مترًا وحسب، كما اتُّخذت تدابير إضافية بتأمين قطعتي سلاح أو ثلاث في مكان اللقاء تجنّبًا لأية مفاجأة أو صدفة. «هو تكتيكٌ لئيم للحد الذي يحتكّ كتفك بكتف العدو دون أن يدرك العدو من أنت»، كنا نغيّر له قنبازه بملابس أخرى ونعطيه بنطالًا، ولم يكن يقبل ذلك إلا اضطرارًا. (93)

وفي لحظات الاعتقال الجماعي، عندما كان الاحتلال يجمع الناس في قطعة أرض، ويحضروا مُشخِّصين «جواسيس» مقنّعين ويلبسون ملابس للجيش، ليشخّصوا الناس المجموعين هناك، ويأمره الجيش بالكشف عن فلان وفلان الذين شاركوا في فعلٍ مقاومٍ ما. وأحيانًا، عند حصول هذا المشهد، وقد كان أبو منصور مُرهَف المشاعر تجاه أصدقائه ورفاقه وعائلته، فكانت تعتريه حالةً من التوتر والحسرة، ويفكر بالإقدام على مهاجمة هذا الجمع كي ينال من الجواسيس، ولكنّهم كانوا يعرفوا بعضهم، حتى من كعوب أحذيتهم، للحد الذي دفع الاحتلال لتصفية فلان أو فلان، استنادًا على قناعة الجواسيس والأعين أنه كان يرتدي هذا الحذاء.

شكّل هؤلاء الأعين نقطة ضعف وألم ومِساسٍ بالكرامة، هل تدرك معنى وفلسفة إنه «ابن وطنك يوزّ عليك ويسلمك للاحتلال»؟! ولهذا كان الرد عليهم قاسيًا. فكان للجبهة الشعبية موقفٌ من هذه القضية؛ خاصّة أنها أصبحت ذات بعدٍ عشائري في الخليل، ومعظم العوائل وقفت مع أولادها ظالمين أو مظلومين. استفزّت هذا القضية في الخليل أبو منصور بشكل غير اعتيادي، وكان يصرّ على اتّخاذ عقوبةٍ ما بحقّ أي عين، وكان يتساءل باستنكارٍ عن موقف العشائر عندما كان الاحتلال يهدم بيوت الفلسطينيين، وعجزت القيادة عن الإجابة عن أسئلته، وكانت مضطرةً لمراعاة الفصائل الأخرى، وقرار القيادة، الذي كان يتم بتوجيه حزبي مدروس وأمر صريح، والذي لم يحتكم يوماً ما للأمزجة أو الحدس، ولذي يُعدم باعتباره جاسوس، سيلحق ذلك مستقبل أسرته بكاملها، وليس فقط حياته أو اسمه أو شخصه، وإنما نسله لزمنٍ بعيدٍ، وبالتالي لها مردود اجتماعي واسع جدًا.

استجاب أبو منصور لوقف عملية إعدام العملاء بقلبٍ متحسّر، حيث كان قرار القيادة أكثر«قانونيةً» وأكثر «عدالة» وغير معتمِدٍ على المشاعر والمشاهد «القرائن»؛ أي عندما يُرى فلانٌ صعد إلى سطح المنزل ثلاث أو أربع مرات، وبعدها مباشرة اعتُقِل أحد الفدائيين، فإن النتيجة العفوية والتلقائية تحدّثنا أنّ فلانًا هذا هو من خبّر عن الفدائيين، ولكن المشاهدات أو القرائن تعطينا احتمالية عالية، ولكنّها ليست دلائل في ذات الوقت، في حين كانت لم تكن قرارات القيادة تلقائية وغير مدروسة أو غير مؤكدة 100%.

وعندما كان بدران يناقش أبو منصور بذلك بلسان القيادة، يُجنّ صاحبنا ويسبّ على بدران وكل من يوقفه عن الإيقاع بالجواسيس؛ حيث كان عالي الثقة بحدسه، فكان يلقي بالًا لتلك القرائن، لكنّ ما كان يثنيه على غير قناعةٍ، سرد تبعات ذلك للضغط عليه وحثّه على التوقف عن المُضيّ، «هذا قرار وإنت عسكري ولازم نحترم القرار»، فكان ينغلب على أمره أحيانًا، ولم يكن أحدهم ليفرح بمثل هكذا نتيجة، بأن يغلب أبو منصور.

وقد كان لهذه القضية دور سلبي على العمل، ليس سلبيًا وحسب، بل وأنهى التجربة، «وحيث أني كنت سببًا في تخفيف الملاحقة للعملاء، وكنت أنقل رسائل القيادة إلى أبي منصور وأحثّه على الاستجابة لأمر القيادة وإهمال حدسه، فإني أندم إلى حيني هذا كضابط للمسألة» يقول بدران جابر بألمٍ بالغٍ. (94)

تصفية العملاء – على مستوى التنظيم

أُنزِلت عقوبات كثيرة للعملاء، وحسب الحالة، تبدأ بردع العميل عن الاستمرار في الجوسسة، وبعضهم تمّ إبعاده عن الساحة وتسليمه للتنظيم ونقله إلى الخارج، فيما صدرت أحكام في بعضهم، وأمِروا بترك الخليل إلى  بيت لحم أو رام الله أو القدس أو غيرها، وحُقّق مع بعضهم الآخر بقسوة؛ حين يكون لئيمًا ومُصرًّا على الجوسسة، وحين تثبت أكثر من قرينة على كونه عميلًا. ولكنّ كلّ تلك العفوبات كانت تتم بشكل عامٍّ بعد التأكد من الدلائل الواضحة المُبينة. 

كما اتُّخذ قرار بإعدام بعضهم لأنه كان يمارس اللا-أخلاقيات بالإضافة إلى العمالة، أحدهم مثلاً، ذهب إلى زوجة أسير وطلب منها مالًا مقابل إخراج زوجها من الأسر، وفي السياق ساومها على عِرضها، فكان القرار في هذه الحالة قطعيًّا؛ منعاً لتطور هذه الظاهرة، والانعكاسات السلبية لتتحول زوجة المناضل لموضع استغلال، فكان القرار واضحاً بـ «شطبه» وتعليقه على المؤشّر باب كراج الخليل.

والبعض الآخر قُتِل رميًا بالرصاص، وفي حالةٍ أخرى، ألقيت قنبلةٌ يدويةُ على أحدهم وهو ساهرٌ على «البلكونة» يراقب مدخل السوق. وبعضهم أو بعضهنّ كانوا أوقح، حيث كانوا يستضيفون ضباط الاحتلال وجنوده في بيوتهم مقابل مصالح مادية، ويدفعون الثمن بالإسقاط. وفي كلّ الحالات، كانت عملية إنزال العقوبات تخضع لدراسة تقييمية، وكان القرار فيها جمعيًا. 

أمّا الجاسوس الذي كان سبباً في إنهاء مسيرة التجربة في جبال الخليل، فهو نعيم جبرائيل. كان جبرائيل يستورد أغنامًا من الأردن، وكان يملك تصريحًا بذلك من الجسر، فكان يروح ويغدو كلّ يوم أو يومين، وتمّ اختباره سابقًا بمهام صغيرة: «وديلك هالـ20 طلقة، وديلك هالمخزن، هالمسدس، جيب رسالة من أبو منصور». ولم تكن هناك أيّة شكوكٍ حوله، حيث كان صديقًا صدوقاً لأبي منصور، الذي كان بدوره موضع ثقة لأصدقائه، كما كان أبو منصور عالي الحذر، حتى كان يُقال: «هذا نمرٌ، لا يُؤتى». ولمّا يزكّي أبو منصور نعيمًا، لم يفكّر أحدهم بـ «البحش» وراءه، وكانت هذه نقطة ضعف.

وكانت المجموعة في حالة ثقة مع نعيم، وحين يذهب إلى الأردن، كان التنظيم يسلّمه أموال نفقات المجموعة ويوصلها إلى أبو منصور، «خذلك هالـ2000 دينار»، حيث كان عدد المطاردين كبيرًا والعدد المقبل على المطاردة كبيرًا أيضًا، وما يترتب على ذلك من الاحتياجات واللوازم، ولما كان المال شحيحًا، لم تكن الجبهة تتقاعس، وأولت أهمّية أكبر للجبهة الداخلية مقابل حرمانٍ في جوانب كثيرة بالجبهة الخارجية، «وممنوع حدا يناقش»! (95)

وحينما كان الاحتلال يأسر عددًا من الكوادر كل أسبوع، كان لزامًا على الجبهة احتضان عوائلهم، وفي الوقت الذي كان فيه معظم المناضلين مطاردين في الجبل، ولم يكن بالإمكان تحرّكم كثيرٍ من الأماكن، لعب نعيم جبرائيل هنا دورًا؛ حيث كان سريعًا ويذهب إلى الأردن كل يوم أو يومين، أو 3 أيام على الأكثر، ويأتي من هناك بحمولة أغنام إلى الخليل بغرض التجارة، وقد خلق هذا التكرار نوعًا من الاطمئنان ولم يكن أي أحد يعلم حينها أنه «معطوب»، فلم يترك خلفه أيّة إشارات.

وفي ذات السياق، كان عدد السيارات التجارية على خط الخليل – الجسر 9 سيارات، كان نعيم جبرائيل سائقًا لإحداها، ومنهم كذلك عبد الله أبو شرخ ووالده طعمة أبو شرخ، ومحمود الأطرش، وأبو جميل القواسمي «الأسمر»، ومحمد عبد المطلب أبو اسنينة «أبو كارتر»، الذي تبين لاحقًا أنه جاسوس مع نعيم. وكانوا جميعهم على تواصل مع بدران جابر، ووضعهم بدران تحت الاختبار كلّ يوم، كانوا ينقلون للأردن برتقال وعنب وبندورة وخضار، ويعودون محمّلين بالأغنام والدخان وغيره، كأي تاجرٍ آخر.

«وكنّا نحمّلهم ما نريد، حيث كان هناك كراج في الوحدات في القويسمة، يتركون سياراتهم فيه أثناء بياتهم في الأردن، وكنا نضع فيها اللازم دون علم أيّ منهم، ويعود الواحد منهم أدراجه إلى البلاد محمّلاً فيها. كنا مثلاً نركّب صندوقًا بدل صندوق، نحشو ما نريد في المواسير، وفور وصوله، ننزّل الصندوق عن سيارته ونضع الصندوق الجديد. ومرّة من المرات، أُمسِك أبو جميل القواسمي وصادروا سيارته، وسجن ثلاث سنوات على قضية تسليح، فكان لزاماً على الجبهة أن تعوّضه على ذلك». 

ولاحقًا، تبيّن أن سائقَيْن من هؤلاء التسعة كانوا عيونًا؛ هم نعيم جبرائيل، و«أبو كارتر»، تسبب هذين في سجن السبعة الباقين. وهكذا انقطعت الجبهة عن الإمدادات. (96)

استشهاد أبو منصور وعبد المنعم الجعبري

بعث أبو منصور إلى القيادة في الأردن صورًا لعناصر جديدة انضمّت إلى المجموعة، حيث يحتاج هؤلاء العناصر مصروفًا، وفي الوقت الذي كان الرسول الخاص بأبو منصور مريضًا وغير موجود، والذي كانت مهمّته إحضار الأموال من مقرّ القيادة في الأردن كرواتب بسيطة للعناصر في المجموعة، تدبّرت قيادة الجبهة أمرها وبعثت لأبي منصور خبرًا بإرسال الأموال مع نعيم جبرائيل، ورغم أنهم كانوا يعرفونه، إلا أنّ كلمة السر كانت أساسًا لترتيب اللقاء لمزيدٍ من الحيطة.

كانت كلمة السر عبارة عن جمل خشبيٍ رأسه مكسور، كان جزء من علامة السر «جسم الجمل الخشبي» مع رسول أبي منصور، رسمي جابر، الذي كان يجلس بالقرب من استراحة الخليل (Hebron Jewish settler workshop) المضمومة للمستوطنة في شارع السهلة، في حين كان رأس الجمل في مركز القيادة في مخيم الوحدات في عمّان، والذي سلّموه لنعيم جبرائيل كعلامة. وهكذا كان العنوان الأول الذي سيذهب إليه نعيم، هو رسمي جابر، ابن أخ الحاج فايز جابر. وأبو منصور من طرفه أرسل ميسرة البكري (الشبل) إلى رسمي، وأخبره أنّ القيادة سوف ترسل شخصًا إليه. (97)

ثمّ ذهب ميسرة ولم يبتعد كثيراً، حيث كان يعمل «بويَجي» في شارع السهلة، لهدفين؛ كيما لا يلفت النظر ويبرّر وجوده المتكرّر هناك، ولأن والده خيري البكري كان ما يزال أسيرًا عند الصهاينة، وكان لا بدّ له من عمل يسدّ حاجتهم. وأثناء ذلك، جاء نعيم جبرائيل إلى رسمي، فأخبره أنه قادم من الأردن ويريد رؤية أبو منصور، فأجاب رسمي باستنكار: «مين أبو منصور؟ أنا ما بعرفه حتى أوديك عليه؟» (98)

فردّ نعيم: «يا عمي ما تخاف، هي دليلي»، وأخرج رأس الجمل، فأخذه رسمي ووضعه على بقية الجسد وانطبق بالتمام. فقال له رسمي: «يا عمي أنا ما بعرف أبو منصور، بس اجا واحد من طرفه ورح يرجع كمان أسبوع». ثمّ بعث رسمي برسالة إلى ميسرة البكري بأنّ رسول القيادة «نعيم جبرائيل» أتى وسأل عنه، وأكّد له استلام الدليل، طلب ميسرة من بعض معارفه من أصحاب المحلات في شارع السهلة، أن يراقبوا المكان، وأن يعرفوا «مين بفوت ومين بطلع من عند رسمي جابر»، فأخبروه بأنّ شخصًا ما أتى، وكان يحمل كلاشن على كتفه!، شكّ ميسرة أوّل شكوكه، ولم يأتِ بالموعد المحدّد، فأرسل إليه رسمي مستغربًا، فطلب منه ميسرة أن يبعث له نعيم جبرائيل إلى عاروض فاروح يوم الجمعة.

اتفق ميسرة على لقاء نعيم بساعة مجدّدة عند عاروض فرّاح، وعندما التقى كلاهما، عرّف ميسرة على نفسه باسمٍ مستعار، وفعلًا، أحضر ميسرة نعيمًا، وصلا إلى أرض خيري البكري، ويومذاك، شغل أبو منصور أمرٌ ما فلم يأتِ، فقال نعيم جبرائيل بنبرة غريبة: «زي القرد، أتاريهم مش قادرين يمسكوه»، دبّت الجملة في قلب ميسرة وأخفى ما أحسّ به من جديد، وذهب نعيم جبرائيل على أن يتمّ اللقاء لاحقًا عند البلوطة الفوقا، ومضى. وإذ ذاك، أخبر ميسرة والدته بما قاله نعيم، فقالت: «هيييييييييييه يمّا هذا جاسوس»، مؤكّدةً ما أحسّ به ميسرة. (99)

وعندما التقى ميسرة بأبي منصور، أخبره بما اختلج صدره، لكنّ نعيم جبرائيل كان صديقه، فطمأنه أبو منصور بأن هذا غير ممكن، اضطر ميسرة إلى مجاراة أبو منصور. وتم الاتفاق من جديد على اللقاء، وحينما أخذه ميسرة هذه المرة إلى المكان المُتّفق عليه، كان معه عبد المنعم الجعبري مع أبي منصور، (100) في الوقت الذي كان من المقرّر أن يكون ياسر معه، لكنّ عبد المنعم رام ذلك؛ حيث أنّ والدته لم تأتِ من الأردن من حوالي 6 شهور، «ورح يطلع لم شملها هاليومين، وبلكي تكون جاية ونفسي أشوفها»، وهكذا تقرّرت الرفقة. (101)

وبعدما أحضر ميسرة نعيمًا، التقى بأبي منصور وعبد المنعم الجعبري، احتضن الثلاثة بعضهم، أبو منصور ونعيم جبرائيل، وعبد المنعم، حيث كان نعيم يتاجر بالأغنام مع أبيه راجح، الذي كان تاجر أغنام معروفًا آنذاك. (102)

وهم جالسون، نعيم جبرائيل على السنسلة بمستوى أعلى من أبو منصور وعبد المنعم الذين تربّعا على الأرض، وميسرة واقفاً، فقال نعيم: «أنا عطشان يا جماعة بدي أشرب»، فنادى أبو منصور بميسرة: «قوم يا ولد عبّي هالدلو»، راح ميسرة يعبّئ ماء من البئر، ثمّ وهو ينشل الدلو، «بلّش الطخ»، أطلق نعيم النار على أبو منصور وعبد المنعم، وسمعه ميسرة أبو منصور يقول لنعيم بصوت مسموعٍ: «خُنت ولا!». (103)

ثمّ صاح أبو منصور صوتًا أخيرًا لميسرة، حاثًّا إياه على الهرب، وهرب، والمنطقة وعرة، لحق به نعيم لكنه لم يدركه ولم يُصِبه، ثمّ أخذته قدماه ناح داره على رأس الجبل، أخبر أخيه الصغير أحمد: «أبو منصور ونعيم استشهدوا يا أحمد»، وأكمل أحمد الركض معه، وفي الطريق، الله بعث له «كارّة» لشخص من دار ادريس، نطّ في «الكارّة» هو وأحمد وصديقهم، شدّت أصوات مروحيّات الهليكوبتر نظره إلى السماء، وإذا هي تهبط تجاه الأرض، وبعدها بقليلٍ، امسك الصهاينة بميسرة عند مثلث دار مسودة، وقفوا الكارّة، ونعيم جبرائيل على اتصال مع الصهاينة، فقال الولد شرد ولابس كذا، سأله الجنود عن اسمه، فقال:«ميسرة البكري»، ولم يكن قد أعطى اسمه الحقيقي سابقاً لنعيم. ولكنهم عرفوه من أوصاف نعيم، فأمسكوا به وربّطوه، قعّدوه عند بير النمس ثمّ جاء نعيم، وأكد أن هذا الفتى الذي شهد الاغتيال. وفي الوقت الذي لم يستشهد ميسرة، خطفه الصهاينة واعتقلوه بادئًا ذي بدءٍ في مقاطعة الخليل، وهناك حاول نعيم جبرائيل قتله، ولما لم ينجح للمرة الثانية، أبعد الصهاينة ميسرة إلى سجن نابلس لمنع أي اتصالٍ له مع المجموعة، للتغطية على نعيم جبرائيل، منعًا لوصول خبر خيانته إلى الأردن، حتى يتمكّن نعيم جبرائيل من إكمال بعض أعماله الموكلة إليه من الصهاينة.

وصل «دايان» إلى المنطقة من خلال الهليكوبتر التي حلقت في المكان، وهناك، قيل أنه أدّى التحية العسكرية لأبي منصور. (104)

ونقلًا عن مصدر مقرّب من الشهيد عبد المنعم، أنّه وبعد إطلاق النار على أبو منصور وعبد المنعم، تمّ سحب جثمانهما إلى العمارة، إلا إنّ عبد المنعم لم يكن قد استشهد بعد، حيث سمعه أحد السجناء في العمارة وكان من عائلة أبو ميزر، يقول «ياااابااا آخ يابا»، فقال: «والله هذا صوت عبد ابن الشيخ راجح»، سمع صوته بهذه الكلمات ثمّ ارتقت روحه، وكان عمره آنذاك 19 عاماً. (105) وهكذا كانت الشهادة من نصيب عبد المنعم وكُتِب لياسر عمرٌ جديد. (106)

عبد المنعم الجعبري، تمّ التقاطها لصورة الهوية، التقطها فهد الإيراني، برفقة رشيد الجعبري.

ولم يتم تسليم أيّ من جثمان أبي منصور ولا عبد المنعم الجعبري، وما زالت عائلة عبد المنعم تطالب إلى الآن بجثمانه، عرض الاحتلال تسليمه خلال سنيّ الثمانينات، لكنّهم اشترطوا أن يستلمه أربعة من هناك، وأن يتم دفنه مباشرةًَ دون جنازة، في حين كان السبب الذي منعهم عن استلامه، أن يتم دفنه دون فتح صندوق الجثة نهائيًّا، ولهذا رفضت العائلة خوف تلاعب الاحتلال في هذا الموضوع. (107)

أما أبو منصور، فقد أشيع أنه دُفِن في مقابر الأرقام، لكن تبين غير ذلك لاحقًأ؛ حيث قام الهلال الأحمر بين عامي 1996-1997 بالإفراج عن جثتي شهيدين من قرية إذنا، وكان قد مضى على استشهادهما نحو 22 عامًا، وأرسلوا ممثّلًا من معهد طبي في شمالي فلسطين ليتسلّم الجثتين، وأثناء ذلك، صادف جثث 5 شهداء في الثلاجات، عُلّقت أسماء كلّ منهم على إصبع القدم الكبير، فلمح اسم أبو منصور، وصلاح أبو ميزر، وثلاثة شهداء آخرين. (108)

لا يقوم الاحتلال بدفن الأشخاص الذي قضّوا مضاجِعَه في مقابر الأرقام، وإنّما يحتفظون بجثثهم في الثلاجات، باعتبارها بنكًا يمكّنهم من إجراء صفقات تبادل هامّة عند اللزوم.

 

وصول الخبر إلى الأردن، وتصفية نعيم جبرائيل 

لم يصل خبر نعيم جبرائيل ولا ما حدث مع ميسرة إلى أي طرف، حيث حرص الاحتلال على عزله، وحين كان يقبع في الغرف السفلية المبنية تحت الجبل في سجن نابلس، دقّ أحدهم جدران زنزانته، فقال له: «إنت يا أخ، عرفنا على اسمك»

– «حضرتك مين عشان أعرفك على اسمي؟» يقول ميسرة أنه أدرك الصوت لكنّه أراد التأكد، حيث كان طبيبًا يساعد المجموعة، فقال له: «أنا الدكتور عبد الله غوشة».

-«وأنا ميسرة».

-«”شو بتعمل هون؟ سمعنا الإذاعة بثّت إنك يلي سلمت المجموعة، بس أنا متأكد إنه هالكلام مش صحيح» فروى له ميسرة ما حدث، ثمّ قال له الطبيب بأن شخصًا ما جاء من الأردن، وأنه محجوزٌ هنا في سجن نابلس ليتمّ ترحيله إلى الأردن صباح اليوم التالي، ولما كانت الزنازين الثمانية قرب بعضها، كان الصوت مسموعًا بشكلٍ خفيفٍ لمن يتسمّع، وهنا سمعهم صاحبنا المنشود: فقال: «بتسمحلي أحكي يا دكتور؟»

-«تفضل»

فسأل ميسرة: «عرّفني على حالك؟»

– «أنا شين»

– «يتعرف مين في شين؟»

– أعرف «جعفر»، فقال له، «اعتبرني جعفر»، فطلب منه ميسرة بيانًاً يؤكد بأنه جعفرًا، فأعطاه ما أراح قلبه، وهنا أخبره ميسرة بالرسالة التي يريد نقلها لأخيه عايش البكري الذي كان يعمل مع المجموعة في الأردن، وعايش بدوره أخبر القيادة بما حصل. (109)

وفي تلك الأثناء، ذهب نعيم جبرائيل إلى الأردن كما العادة، أرسل إلى القيادة وأخبرهم أنّ أبو منصور استشهد ولم يتمكّن من لقائه، وأن الأموال التي أرسلوها بقيت معه ويريد تسليمها لهم، طلبوا منه أن ينتظرهم في مكان محدد في عمان، وسيتعرف إليه رسولهم. وكان يخطط ليطلب من القيادة اصطحاب دورية من الخارج تأتي معه للداخل، حتى يستغل الوقت، قبل انكشاف أمره، ويصفّيها. كانت هذه رغبته وقراره، وقرار الاحتلال، حيث أمره بأن يطلب من التنظيم إعطائه دورية «مجموعة ثانية» من الأردن ويعود بها إلى فلسطين، ويطلبها بحجّة تعويض استشهاد أبو منصور، ليقوم هو والاحتلال باللازم. وفي هذا، استغلّ الاحتلال قرارًا أصدرته الجبهة الشعبية بتسريب 70% من كوادر الجبهة الشعبية الموجودين في خارج البلاد وتحويلهم إلى دوريات في مناطقهم في البلاد. ولاحقًا، تبيّن أن الاحتلال على اطلاع وعلمٍ بهذا القرار، وعبر بوابة نعيم وأمثاله، استغلّ الاحتلال القرار لإدخال هذه الدوريات لاعتقالهم أو تصفيتهم في نهاية المطاف. وعندما اعترف جبرائيل بهذه النقطة، تركت ثقلًا غير معقول، واستدراكًا بأن قرارات الجبهة الشعبية يجب أن تقرأ وتدرس جيدًا، فضلاً عن إعادة تقييم البرنامج ووجوب دراسة ما يستحقّ الإعلان وما يجب أن يبقى سرًّا.

وكان الخبر وصل لعمان إنه هو من قتل أبو منصور وعبد المنعم راجح، أخذوه للتحقيق، وكان جَلدًا لم يعترف بسهولة، وعندما اعترف، أحضروا أهله وتبرّأوا منه، كما جاء أهل عبد المنعم راجح الجعبري، وكان من ضمن الناس الذين حققوا معه بدوان الجعبري. كما اعترف جبرائيل بأنه قتل الرفاق مقابل 2000 دينار أردني؛ 1000 قبل التنفيذ، و1000 بعده، كما اعترف أثناء التحقيق معه على جملةٍ من الوشايات التي قدّمها للاحتلال عن مخططات سير المجموعة، والتي تسبّبت باستشهاد أو اعتقال الرفاق؛ طلع معترف على الحلحولي، ومحمد شرف الشريف، وصلاح أبو ميزر.

وهناك في الأردن، وفي يوم 21 أيلول عام 1970، بعدما اعترف نعيم جبرائيل وأقرّ في مواجهة الحاج عيد الشويكي وبدوان الجعبري ووجهاء الخليل الآخرين، أنه قتل أبو منصور وعبد المنعم راجح بيديه، رحمهم الله. رأوا أن لا يأخّروا تصفيته، واستعجلوا بالتنفيذ؛ حيث كانت أحداث أيلول الأسود جارية. وتمّ إعدامه بثلاث طلقات، إحداها في فمه، والثانية في يده، والثالثة بصدره؛ في نفس الأماكن التي اعترف أنه أصابها عندما أطلق النار على أبي منصور وعبد المنعم، وعُلّق على باب مدرسة الوكالة في جبل الأشرفية القريب من الوحدات، باب مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

لم ينسج نعيم جبرائيل أي شكّ حوله؛ فكان حادًا وواضحًا وجريئًا وتسلّح بمواصفات يُستَغرب أن يكون حاملها جاسوسًا، ولم يتمّ سحب اعترافه إلا من القساة، من جبابرة الجبهة، ولم يعترف إلا بعد فترة. ولكن كانت الأمور واضحة، وتمّت محاصرته بشهادتين مباشرتين؛ ميسرة البكري؛ حيث رآه وهو يطلق النار، والشهادة الثانية من رسمي جابر، حيث أكّد أنه أعطى جبرائيل العنوان وأوصله إلى عين بني سليم «عاروض فراح»، وسلّمه من هناك لميسرة مع كلمة السر. وهكذا وصلت هاتين الإشارتين «الشهادتين» على فعل جبرائيل إلى عمان من سجن نابلس القديم، حتى من قبل وصول نعيم إلى الأردن. فكان لهؤلاء الأبطال حتى وهم في زنازينهم، مواقف تعبّر عن إرادة في الاستمرار في النضال إلى آخر نفس، حتى وهو في أقسى اللحظات.

 

ورجوعًا إلى إعلان القرار الذي اتُّخذ في المؤتمر بتسريب 70% من كوادر الجبهة الشعبية إلى البلاد في حينه، فإنه دلل على رعونة سياسية، وكانت تلك حقبة مفصلية؛ حيث أنّ تصفية الجبهة الشعبية في الخليل منح الاحتلال حالة ركون وسكوت عنه وفشلًا للتجربة، كما أدى الاغتيال عن طريق عملاء فلسطينيين «من لحمنا ودمنا» بالإحباط. (110)

ولم يتمكن من تبقى من المناضلين في الخليل من مواجهة بعض الأمور التي حصلت على الأرض، حيث اعترضوا على إدخال الكهرباء إلى مدينة الخليل بوكالة من الاحتلال، في الوقت الذي اشترط فيه الاحتلال إدخال الكهرباء من خلاله، بعد احتجازه لمولّد كهربائي منذ فترة في موانئ البحر الأحمر، ولم يستطع من تبقّى من مواجهة الأمر، حيث تعرّضت الجبهة لضربة أمنية قاتلة، حيث تمّت تصفية 70 منهم مرةً واحدة، حين سلّم أحد الجواسيس تقرير الجبهة السنوي على الجسر، وكان سائق Truck، وكنتيجة لذلك، وقف من بقي عاجزًا من مواجهة مثل هذه الأمور. (111)

وطورد من تبقّى حرًّا من المناضلين لفترات طويلة، ومنهم صاحبنا ياسر الجنيدي، الذي عرف كلّ ثغرةٍ في الجبال وعرفته، والذي استمرّ بالعمل مع المجموعة حتى عام 1969، لحين انكشاف عدد من العناصر والاعتراف عليه، وبعدها تمّت مطاردته التي استمرّت عن ما يزيد عن 3 سنوات. ورغم أنّ رحلة مطاردته كانت طويلة، إلا أنه لم يتوارَ في أي منزلٍ على الإطلاق، ويرفض ياسر ذلك تمامًا، ثمّ ألقي القبض عليه في 07 شباط/ فبراير 1972 في مغارةٍ قرب منزله على تلة الجنيدي، ويومها، تواطأ الثلج عليه حيث غطّى الأرض، حارمًا ياسر من فرصة الكرّ. وقد حُكِم 6 مؤبدات و45 سنة، ثم تحرّر من السجن في تبادل أحمد جبريل للأسرى في 20 أيار/ مايو 1985. (112)

موقع استشهاد أبي منصور، أطراف قيزون، بمحاذاة الشارع «الالتفافي» بعد مفترق بيت عينون – سعير مباشرةً

بعد استشهاد أبو منصور وعددٍ آخر ليس بقليل من أفراد المجموعة، فضلًا عن أسر وملاحقة البقية، حطّت أول مستوطنة في الخليل «كريات أربع» في مكانٍ كان مرتعًا لأصحابنا ولصيقًا لمعسكرهم، ثمّ لحقتها مستوطنة «خارصينا/ كريات ممرا» وخنقت المكان خنقاً، الذي كان وجودها فيه ضربًا من الخيال في ظلّ العمل الدؤوب والمستمر لمجموعة أبي منصور.

  نعي أبو منصور في جريدة الهدف، الصادرة بتاريخ 11 تموز 1970