مرة أخرى يجد المصريون أنفسهم مُكبلين أمام بحار الدم التي تسيل في غزة، بينما كل ما يفصل بينهما جدارٌ ومعبر. ولكن هذه المرة لم يقتصر الأمر على موقف رسمي ضعيف، أو تنديد على استحياء يلقى استهجاناً وسخرية في الشارع المصري، بل تجاوز حدود الموقف الواهن إلى هيمنة أمريكية صريحة على القرار المصري وتعدٍّ واضحٍ على سيادتها، بل وفرض سيطرة على أراضيها وصلت حدّ القصف داخل الأراضي المصرية في ظل صمتٍ مُطبق من الإدارة المصرية. ليصطدم المصريون بواقع الاحتلال المُستتر، وحقيقة الصورة الزائفة التي رسخت في العقل الجمعي المصري قرابة الخمسين عاماً عن قوة الدولة المصرية وتحريرها لأراضيها وسيادتها عليها. يُحيلنا ذلك التأخر الإدراكي إلى وعيٍ مُشوّه أنتجته السياسة الانهزامية التي تبنّاها نظام الرئيس الراحل أنور السادات وحفظها نظام مبارك وشدد عليها النظام الحالي، فعظيمةٌ هي الفجوة بين قبول السلام مع العدو وشعارات تحرير القدس ومناصرة القضية الفلسطينية، وبين الثقة بالجيش القائم على حفظ السلام والالتزام به وقمع أي صوتٍ معارض له، والقناعة بأن ذلك الجيش هو نفسه مَن سيخوض حرباً ضد «إسرائيل». 

كل ذلك يضعنا أمام مسؤولية تاريخية تنطلق من سبر أغوار القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي المصري -تاريخًا وحاضرًا- وتمتد إلى تفتيت التوجهات الانعزالية التي ساهمت في إنتاج هذا الوعي الزائف انتهاءً إلى حالة العجز والوهن تلك. وحين نأتي على ذكر الوعي المُشوّه، فإن الأمر لا يتوقف عند ممارسات النظام الحالي في تشويه المقاومة الفلسطينية وترهيب المصريين منها، بل نعود إلى نبش ممارسات الأنظمة السابقة بدءًا من توقيع اتفاقية السلام في سبتمبر من عام 1978، فما فعله النظام الحالي لا يعدو عن كونه استكمالاً لمسيرة انهزامية بدأها السادات لخلق تحالف بين أمريكا ومصر، تكون فيه أمريكا السيد ومصر العبد الذي لا يصل إلى تلك المكانة إلا بالتخلص من كلا الشعبين المصري والفلسطيني معًا. ولا يحدث ذلك إلا بتهميش الشعب الفلسطيني وعزله عن بقية الشعب العربي، ليتبنى خطابًا فرديًا عن وَحشة الفلسطيني الذي يواجه عدوّه وحيداً، من جهة، ومن جهة أخرى عزل الشعب المصري عن القضية بتفخيم الأنا وقصر الهوية المصرية على ما قبل آلاف السنين بتجريدها من كل ما يربطها بالعروبة تاريخاً وحاضرًا؛ وتُطبق الممارسات التفتيتية نفسها على جميع المجتمعات العربية كلٌ وفق سماته النفسية.

متى وكيف تفاقمت الأزمة؟ 

ينزع البعض إلى الاعتقاد بأن عداء السلطات المصرية للمقاومة الفلسطينية -وبخاصةٍ حركة المقاومة الإسلامية حماس- هو وليد النظام الحالي، نظرًا للخصومة المباشرة بين النظام المصري الحالي وجماعة الإخوان المُسلمين التي تنتمي إليها -أيديولوجيًا- حركة المقاومة حماس.

 وقد استدعى الشارع المصري مع بداية معركة طوفان الأقصى وجريان الحديث عن تهجير أهالي غزة إلى سيناء تهجيراً آخر وقع في عام 2015 لأهالي شمال سيناء الذين هُجّروا قسرًا من منازلهم مع بداية الحرب الشاملة التي نفذّتها القوات المسلحة المصرية للتخلص من الأوكار الإرهابية في المنطقة -وفقًا للرواية النظامية- ولم يعودوا إلى يومنا الحالي، ما دفعهم للتظاهر والاعتصام للعودة إلى بلادهم في أكتوبر الماضي. 

بيد أن لذلك العداء جذورٌ تمتد إلى ما قبل التحول المصري من جبهة القتال إلى التطبيع، فقد بدأ الرئيس الراحل أنور السادات ذلك النهج قبل التوقيع على اتفاقية السلام، وتحديدًا عقب الخلاف الذي نشب بين منظمة التحرير الفلسطينية والسادات إثر توقيع الأخير على اتفاقية فصل القوات الثانية في سبتمبر 1975 التي عدّتها منظمة التحرير آنذاك تنازلاً صريحاً. واشتدّت الأزمة في أعقاب زيارة السادات إلى «إسرائيل» في نوفمبر من عام 1977، إذ أجّجت تلك الزيارة غضبًا واسعًا في الكثير من الأقطار العربية لم تكُن مصر بمنأى عنها حيث استقال إسماعيل فهمي، وزير الخارجية المصري آنذاك احتجاجًا على الزيارة، وتجلّت مظاهر الغضب في أوساط الثوار في القاهرة بشقّيهما المصري والفلسطيني، ليبدأ النظام المصري المتحوّل عمليته الممنهجة في عزل الشعب المصري عن الشعب والقضية الفلسطينية. 

بدأ ذلك بترحيل جميع الطلاب الفلسطينيين الذي اشتُبه في انتمائهم للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأتبعه ترحيل قيادات الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين وإغلاق فرع الاتحاد في القاهرة، ثم طرد كل من معتمد حركة فتح ومدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، واختتم سلسلة إجراءاته التعسفية بقراره الجمهوري رقم 47 و48 من عام 1978 بإلغاء جميع القرارات التي تنص على معاملة الفلسطينيين في مصر معاملة المصريين، والتي كان قد أصدرها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عقب توليه الحكم.

وبعد مرور حقبة السادات لم يختلف الأمر كثيرًا من الناحية السياسية، فعلى الرغم من محاولات مبارك لإجراء مفاوضات لتعديل بنود الاتفاقية، والتفافه حول الاتفاقية بعدم الاكتراث لبناء الأنفاق واستخدامها بعد فرض الحصار على قطاع غزة في الثلث الأخير من عهده، فقد حرص مبارك على إبقاء العلاقات مُستقرة على الأصعدة السياسية كافةً؛ وهو ما لم يحدث على المستوى الاجتماعي، إذ كان لفترة حكم الرئيس مبارك نصيب الأسد من تضليل الشعب المصري وعزله عن القضية الفلسطينية، وذلك بتركيز جميع المؤثرات على تعزيز المركزية المصرية وتفخيم الأنا الانعزالية في العقل الجمعي المصري مُستخدمًا جميع أدواته الإعلامية والتثقيفية، بالتوازي مع ترويج بعض الأفكار التي تحمل الكثير من المغالطات التاريخية (مثل بيع الفلسطينيين لأراضيهم، والمبالغة في تصوير التضحيات التي قدّمتها مصر لصالح القضية الفلسطينية، وغيرها) وجميعها أفكار مُدحضة تاريخيًا ولا تعدو عن كونها تبريرًا للتنازل الوطني المُعتمد من قِبل السُلطة المصرية، كشكلٍ من الاحتواء الاحترازي لغضبٍ مُحتمل قد يتأجج في نفوس شعب لم ينسَ عداءه للصهيونية ودولتها المزعومة، إلا أن عملية التجهيل المُمنهجة التي عمدت السُلطة المصرية إلى ممارستها قد استطاعت النجاح في ترسيخ تلك الأفكار في المجتمع المصري، ليس لنسيان الشعب المصري ثأره الحقيقي من الأعداء الذين لم تنتهِ مُهمته منهم -وإنما عُطّلت بفعل فاعل- ولكن لانهيار ثقافي وفكري مورِس بشكلٍ مُمنهج لإحكام السيطرة الكاملة على تلك البلاد التي تُعد أضخم قوة بشرية في الوطن العربي. 

فقد انتهت حرب أكتوبر 1973 في أذهان العامة بتحطيم خط بارليف وعبور قناة السويس، وهو نصرٌ مُحقق لمصر لا يدع مجالاً للشك، بينما تبع العبور سلسلة من التنازلات التي قدّمتها القيادة المصرية ليعلن الواقع انتهاء الحرب بهزيمة سياسية ساحقة لمصر ويكتب شهادة تبعيتها المُذلّة للولايات المتحدة الأمريكية. وتلك التنازلات لا يعرف عنها العامة إلا شذرات مُشوّشة اختُصرت في سطرين فقط من كتاب التاريخ للصف الثالث الإعدادي بصياغة مُقتضبة ومُضللة، ولا يُقصد بالعامة الأميين أو الذين تلقوا تعليمًا متوسطًا بل جميع فئات الشعب المصري وبخاصةٍ المُتعلمين منهم من أبناء الطبقة المتوسطة، ذلك إلى جانب الكثير من المؤثرات النفسية المذكورة آنفًا، والتي ساهمت في إرخاء التمسك المصري بالقضية الفلسطينية، بالتوازي مع إلهاء الشعب في مشكلاته الداخلية من فقرٍ وقمع وخلافه. كان ذلك باعثًا على الاطمئنان من جانب العدو، إذ اعتقد العدو أنه استطاع فرض سيطرته على العقل المصري حدّ بناء جدارٍ عازل افتراضي بين الشعب المصري وقضيته المركزية، بل وخلق تنافر بين كلا الشعبين المصري والفلسطيني. ولكن كل بواعث الطمأنينة تلك انهارت حين رُفعت أعلام فلسطين في ميدان الثورة -التحرير- بعد تنحي مبارك في فبراير من عام 2011، واقتُحمت السفارة الصهيونية في سبتمبر من العام نفسه، ليجد العدو نفسه أمام شعب لم ينسَ حتى مع تلك الممارسات التضليلية المفروضة على عقله على مدى عقود، فما كان منه إلا أن عمد إلى التشويه المباشر للمقاومة الفلسطينية، وخلق صورة الفلسطيني الهمجي في العقل الجمعي المصري، وهي نفسها الصورة التي يريد أي احتلال وسم السكان الأصليين للبلاد المُحتلة بها. 

فمنذ صعوده للحكم في عام 2014، تعمّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في جميع خطاباته الإشارة إلى المقاومة الفلسطينية بوصفها جماعات إرهابية تسعى إلى زعزعة استقرار مصر ونشر الفوضى فيها، وهو نفسه الخطاب الذي لا يزال مستمرًا إلى يومنا هذا حتى وصل الأمر إلى تأييد «إسرائيل» في «تصفية المقاومة» وفق تعبيره، بل واقتراح تهجير أهالي غزة إلى صحراء النقب في الأراضي المُحتلة، وهو نفسه الخطاب الذي يتبنّاه الإعلام المصري منذ صعود ذلك النظام. إذ اتّهم الإعلام المصري المقاومة الفلسطينية بتنفيذ جميع حوادث الفتنة والفوضى التي وقعت في عام 2011، وعلى رأسها حادث تفجير كنيسة القديسين وحادث فتح السجون أثناء الثورة المصرية، ورغم أن كلا الحادثين اعترف حبيب العدلي -وزير الداخلية الأسبق- بمسؤوليته عنهما في محاكمته إبان ثورة 2011، فإن ذلك لم يُثنِ الإعلام المصري عن الاستمرار في ترديد الخطاب نفسه على مسامع الشعب المصري، بل وجد الإعلام ضالته لإضفاء بعض المصداقية على خطابه في أسماء شخصيات حقيقية، وعلى رأسها أيمن نوفل، القيادي في كتائب الشهيد عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس)، وهو الذي قامت قوات الأمن المصرية باعتقاله أثناء زيارته إلى مصر ليمضي ثلاث سنوات في سجن المرج على ذمة الحبس الاحتياطي من دون توجيه أية اتهامات له، وهو أحد أبرز قادة القسام الذين صرّح الإعلام المصري بمعاداتهم على مدى العقد الأخير، إلى أن اغتيل في قصف صهيوني استهدف منزله في مخيم البريج في غزة في أكتوبر الماضي خلال معركة طوفان الأقصى.

هذا بالإضافة إلى الكثير من الأسماء الأخرى لقادة في المقاومة أو لمواطنين فلسطينيين بلا انتماءات سياسية أو أيديولوجية مدّت المخابرات الفلسطينية الإعلام المصري بها عبر الخلية الأمنية والإعلامية لحركة فتح في مصر -وفقًا لوثائق كشفتها حركة حماس في مؤتمر الوثائق الذي عُقد في غزة بتاريخ 30/7/2013- ما وضع وسائل الإعلام في حرج بعدما قرر أولئك المواطنون رفع دعاوى قضائية على تلك القنوات والصحف التي استخدمت أسماءهم في اتهامات بلا أدلة، ولكن ذلك أيضًا لم ينشر في الإعلام المصري. ولا عجب أن تورطت السُلطتان المصرية والفلسطينية في خلق تلك الصورة الشيطانية للفلسطيني في العقل الجمعي المصري، فلكلا السلطتين توجُّه واحد وموقف واحد من القضية الفلسطينية يقتضي التخلص من المقاومة الفلسطينية وأي دعم مصري مُحتمل لها. 

ماذا بعد؟!

يتّضح ممّا سبق أن الدور الوظيفي الذي تلعبه أنظمة الدول التابعة وأجهزتها الأمنية والإعلامية لا يقتصر على سياسات الدولة وإجراءاتها في إطار تلك السياسات، بل يتجاوز ذلك إلى ممارسات مُمنهجة، لا تختلف باختلاف الأنظمة، تعمل على تضليل العقل الجمعي للشعب العربي وإبعاده عن قضيته، وتتعاون الأنظمة التابعة في تطبيق الممارسات ذاتها على الشعب. وتُعد تلك الممارسات أحد أكبر مسببات العجز العام الذي يكبّل الشعب المصري في معركة طوفان الأقصى. فعلى الرغم من الموقف الشعبي الثابت المناصر للقضية الفلسطينية، فإن مظاهر عدم الاستعداد الشعبي للفعل الثوري واضحة جلية، ليس لغياب القدرة على الفعل والممارسات القمعية لقوات الأمن وحسب بل أيضًا لمعركة طاحنة تدور رحاها في ساحات العقل ووسائل التأثير تتمثل أبرز نتائجها في الارتكان إلى الدعاء أو التبرع أو حتى الاكتفاء بالبكاء بدعوى أنه «ما باليد حيلة» للتخلص من ثقل هذه المسؤولية الملقاة على عاتق الشعب، بينما الواقع يخبرنا أن تحركًا مصريًا واحدًا قادرٌ على تغيير المشهد تغييرًا كاملاً. 

تعد معركة طوفان الأقصى إذن مرحلة مفصلية في القضية الفلسطينية عامةً، وللموقف المصري خاصةً، ولكي تحصل مصر على استقلاليتها وتعود إلى جبهة القتال ضد العدو مرة أخرى فعلى الشعب حسم تلك المعركة الفكرية أولاً، والتحرر من جميع الأفكار الاستعمارية التي أُقحِمت عليه بفعل نظامه الحاكم، والأهم من ذلك ربط كل معاناته الداخلية بالتبعية الأمريكية، وما لم يحدث ذلك فسيظل الشعب المصري من عجزٍ إلى آخر ومن هوانٍ على آخر.