(الصورة الرئيسيّة: لوحةٌ بعنوان “لماذا توقّفنا؟”، تحمل توقيع مجموعة “طلاب من أجل الهيكل”)

ترجمة: آيات عفيفي

توطئة

إليكم هذه الترجمة الملخّصة لورقةٍ بحثيّةٍ تعالج الاقتحامات المتكرّرة للمسجد الأقصى من قبل الجماعات الدينيّة اليهوديّة، بالنظر إلى هذه الجماعات كقوةٍ تنفيذيّةٍ بالوكالة لإنفاذ مخطّطات ومساعي “إسرائيل” للسيادة الفعليّة على مدينة القدس والمسجد الأقصى تحديداً، بينما تغطّي مهمتها بالذرائع الدينيّة تارةً وبالخطاب الليبراليّ حول حقوق الإنسان والحريّة الدينيّة تارةً أخرى.

أهم ما يمكن استنتاجه من هذه الورقة البحثيّة الميدانيّة هو مساهمة التوصيف السائد لهذه الجماعات، بصفتها جماعاتٍ متطرّفةً وهامشيّةً في المجتمع الصهيونيّ، في التغطية على وظيفتها كوسيلةٍ لتنفيذ سياسات دولة الاحتلال ومنحها هامشاً للمناورة. تحتمي الأخيرة بهذه الجماعات، بصفتها شعبيّةً قاعديّة ولا تمثّل سياساتها الرسميّة، بما يتيح لها تنفيذ مخطّطها الاستعماريّ في القدس والمسجد الأقصى، والادّعاء بالمحافظة على “الوضع القائم” في الوقت ذاته،  متوسّلةً بالحجج الأمنيّة و”حريّة العبادة للجميع”.

(نُشرت الورقة البحثيّة في مجلة “دراسات الاستعمار الاستيطانيّ”، للباحثة “رشيل فيلدمان”، بتاريخ 28 آذار 2018، وتمّت ترجمتها بتصرّف.  للاطّلاع على النصّ الأصليّ من هنا).

ملخص الدراسة

منذ العام 2010، هنالك إقبالٌ متزايدٌ في المجتمع الصهيونيّ لاقتحام المسجد الأقصى، باعتباره “حجّاً أو صعوداً إلى جبل الهيكل”، من خلال جولاتٍ دينيّةٍ ينفّذ فيها المقتحمون مهام دولة [العدوّ] بالوكالة. تعدّ هذه الجولات أداةً من أدوات سيطرة الاحتلال، يتمّ من خلالها تمرير خطابٍ جديد، استعماريّ في جوهره، ومغلّف بقشرةٍ من خطاب حقوق الإنسان والحريّات الدينيّة، تلتقي فيه المعتقدات الدينيّة اليهوديّة بالأيديولوجيات العلمانيّة الليبراليّة. واليوم، أصبحت هذه الاقتحامات طقساً من طقوس الاستعمار العلمانيّ، تؤدّيه الجماعات الدينيّة اليهوديّة بالنيابة عن الدولة الصهيونيّة، وتعمل في ذات الوقت بشكلٍ استراتيجيّ على قلب العلاقة ما بين المستوطنين وأهل البلاد من خلال إظهار ذاتهم كضحايا ومسلوبي الحقوق.

مقدّمة

في التاسع من آب (ذكرى خراب الهيكل حسب التقويم العبريّ) يتّجه اليهود من دعاة إعادة بناء الهيكل لـ “الصعود أو الحجّ” إلى المسجد الأقصى، وتدخُل في الصباح الباكر مجموعةٌ من الشبيبة اليهوديّة إلى ساحاته بمرافقة قوات الجيش المدجّجة بالسلاح، ومعهم حاخام ومرشد سياحيّ، كما يرافقهم موظّفٌ من وزارة الأوقاف الأردنية تكمُن مهمّته في التأكّد من عدم أدائهم صلواتٍ داخل ساحات الحرم. يقف دليل الجولة، أو “المدريخ” [1] أمام مسجد قبّة الصخرة ليشرح لتلاميذه بأنّه الموقع الأثريّ للهيكل الثاني وسيكون موقع “الهيكل الثالث” مستقبلاً. سُرعان ما يبدأ أحد أفراد المجموعة بالصلاة، بينما يلقي آخرُ بنفسه على الأرض سجوداً، لتقودهم قوّات [الاحتلال] بعدها خارج حدود الحرم إلى البلدة القديمة، وتتبعُهم هتافات وتكبيرات الفلسطينيّين.

يستهلّ الحاخام “ديفيد”، وهو مرشدٌ ودليلٌ دينيّ بارز، حديثه بِحَبْكِ مسرحية التمييز بخطابٍ ليبراليّ، مُدّعياً أنَّ توجّه اليهود إلى الحرم القدسيّ ما هو إلا مسألة حقوقٍ إنسانيّةٍ وحريةٌ دينيةٌ. ويخاطب تلاميذه لحظة المرور بالمصلّين الفلسطينيّين الغاضبين، بالقول: “هل ترون كيف يحاول العرب إذلالنا؟ هل ترون كيف تساهم الحكومة “الإسرائيليّة” بانتهاك أبسط حقوقنا الإنسانيّة وتحرمنا من الحريّة الدينية؟ لكن العالم يستيقظ، وقريباً سيُدرك الجميع التمييز الذي نواجهه لمجرّد محاولة الصلاة في سلامٍ في أكثر أماكننا قدسّية. وعلى الرغم من طردنا اليوم إلا أنّه انتصار، فكلّ خطوةٍ نخطوها اليوم هنا هي خطوةٌ لاستعادة “جبل الهيكل”.. فلن نبكي دمار هيكلنا بعد اليوم”.

كثيراً ما يتمّ تقديم الصراع حول المسجد الأقصى على أنّه برميل بارودٍ قد يُشعل في أيّ لحظة “أرمجدون[2]” إقليميّ بسبب أعمال اليهود “المتطرّفين” الذين يريدون تدمير المسجد الأقصى لبناء معبدٍ يهوديّ. ويعدّ نموذج الأصوليّة الدينيّة هذا إشكاليّاً لأنّه يفصل بشكلٍ مصطنع ومُضلّل ما بين اليهود المتديّنين و”إسرائيل القويمة”.  أدّى تقديم الصهاينة المتديّنين على أنّهم حالةٌ شاذة أو منحرفة إلى التعتيم على (أو إهمال) تقاطعات الممارسات الدينيّة بالأيدولوجيّات العلمانيّة في المشروع الصهيونيّ، فضلاً عن العلاقة الوثيقة التي تربط ما يُسمى بالمتطرّفين بأجهزة دولة [العدوّ]. وكما توضّح الباحثة “جويس دالشيم”، يتمّ انتقاد المتديّنين على أنّهم “متطرّفون” أو “أصوليّون” من أجل الحفاظ على شرعيّة علمانيّة الدولة الصهيونيّة، والتي تظهر بدورها متفوّقةً أخلاقيّاً أو بعيدةً تماماً عن التصرّفات “غير الشرعية” لـ “المتطرّفين”.

وفي عددٍ صدر مؤخراً عن (Israel Studies Review) خُصّص حول “جماعات جبل الهيكل” والعلاقة بين الجهات الشعبيّة الدينيّة والمؤسّسات الرسميّة، يقدّم “تومير بيرسكو” تحليلاً معمّقاً حول كيفيّة تطوّر نشاط هذه الجماعات من الصهيونيّة العلمانيّة متتبّعاً الطبيعة الدينيّة والمركزيّة العرقيّة للخطاب السياسيّ السائد حول عملها. وعلى الرغم من أنّ هذا العدد يُمشكل ثنائيّة المتطرّف والعلمانيّ، إلا أنّه يعزّز هذه التصنيفات ويُخفق في فهم وتحليل ما يحدث في محيط المسجد الأقصى ضمن السياق الاستعماريّ، كما يقدّمه على أنّه “صراع بين حركتين قوميّتيْن وصدامٌ بين ثقافتين”. تكمن خطورة هذا الطرح في ارتكازه بشكلٍ كبيرٍ على الفاعلين الدينيّين والطبيعة الدينيّة للصراع، وبينما تسلّط هذه الورقة الضوء على هذا البُعد الدينيّ، تُركّز في الوقت نفسه على محوريّة المنطق الاستعماريّ خلفه وتوظيف الأيدولوجيّات العلمانية الليبراليّة. لا ترى هذه الورقة اقتحامات المسجد الأقصى كحالةٍ من “التطرّف الديني” التي تتناقض مع علمانيّة الدولة الصهيونيّة، إنّما تعتبرها وسيلةً استراتيجيّةً في يدها؛ فهي جزءٌ من المشروع الاستعماريّ الذي يواصل مختلف الفاعلين فيه، من “الحجّاج” إلى المؤسّسات العلمانيّة، تنفيذ مخطّطه.

وعلى الرغم من عدم حصولهم على دعمٍ رسميٍّ صريح، تفحص هذه الدراسة كيف ينفّذ مقتحمو المسجد الأقصى مخطّطات ومهام دولة [الاحتلال] بالنيابة عنها، من خلال جمعهم بين الطقوس الدينيّة والأيدولوجيّة العلمانيّة الليبراليّة. تستند الدراسة هنا إلى الأدبيّات التي تحاول التقليل من مركزيّة الدولة، مع التركيز على الآليّات التي تضطلع بها الجهات الشعبيّة الفاعلة بمهام الدولة، لا سيّما في الفضاءات غير الخاضعة لسيطرتها الفعليّة.

وخلال هذه الجولات، يؤّطر “المدريخيم” اقتحاماتهم بخطابٍ ليبراليّ يصوّر اقتحامات المسجد الأقصى كقضيّة حقوق إنسانٍ وحريّةٍ دينيّة. وضمنيّاً، تفسح هذه الإزاحة في المنظومة الخطابيّة المجال أمام المزيد من المؤسّسات الرسميّة للمطالبة بـ”جبل الهيكل”. وقد تتدخّل قوات جيش [الاحتلال] أثناء هذه الاقتحامات حفاظاً على صورة علمانيّة الدولة الصهيونيّة التي تحارب “التطرّف اليهوديّ”، ولكنّ هذه الجولات تخدم المشروع الصهيونيّ بشكلٍ أساسيّ؛ تضع اليهوديّ في دور “الضحية” و” المضّطَهَد” بما يبرّر السيطرة العسكريّة على المسجد الأقصى بحجّة الأمن من جهة، وتهويد وطمس التاريخ والمعالم الإسلاميّة والتاريخيّة في القدس من جهة أخرى.

تستند هذه الورقة إلى عملٍ ميدانيّ تشاركيّ ومقابلاتٍ تمّت خلال الفترة ما بين كانون الثاني 2015 وحزيران 2016، عملت خلالها الباحثة (اليهوديّة) على مراقبة الجولات التهويديّة، والتقت مع مرشديها، كما أجرت مقابلاتٍ غير رسميّةٍ مع أكثر من 40 مشاركاً في الاقتحامات التي تمّت خلال الأعياد اليهوديّة، فضلاً عن مقابلاتٍ مع فلسطينيّين يتصدّون لهذه الاقتحامات المتزايدة للمسجد الأقصى.

الاقتحامات: الوضع القائم الجديد

وجّهت الدراسات الأنثروبولجيّة انتباهها إلى الطريقة التي تؤدّي بها مختلف الجهات الفاعلة دور الدولة، والتي يتعمّق دورها في السياق الاستعماريّ لتكون أداةً تنفيذيّةً للمشروع الاستيطانيّ التوسعيّ وجزءاً لا يتجزأ من أدوات السيطرة الاستعماريّة.  تعمل الحركة الاستيطانيّة في الضفة الغربيّة، على سبيل المثال،  كـ “دولةٍ مفوَّضةٍ” تواصل تنفيذ المخطّط الاستعماريّ، بما يشمل استعمار الأرض وطرد أهلها منها وسلب الموارد الطبيعيّة، وتتولّى فيها المجالس الاستيطانيّة مهام “الدولة” في توفير الأمن والتعليم والبنى التحتيّة. وعلى نفس الوتيرة، تعمل “جماعات الهيكل” على أداء مهام الاحتلال ومحاولة فرض سيطرته الفعليّة في القدس، والمسجد الأقصى تحديداً.

اجتمعت هذه الجماعات المختلفة على هدف إقامة معبدٍ [الهيكل الثالث المزعوم] مكان المسجد الأقصى وإعادة ممارسة الشعائر الدينيّة في محيطه، متحدّيةً بذلك الحكم الدينيّ الذي يحظر دخوله، والذي اعتبرته عقبةً جدّيّةً أمام تأمين السيادة “الإسرائيليّة”. ومن حيث آلية عملها، يغلب على هذه المجموعات الطابع اللامركزيّ وتعمل بصورةٍ تعاونيّةٍ بينما تتخصّص كلٌ منها في جبهةٍ معيّنةٍ، بدءاً بإعداد وتدريب “الكوهانيم” (حاخامات الهيكل)، إلى إعداد مخططات البناء، وتنظيم مظاهراتٍ في القدس، فضلاً عن الضغط على أعضاء الكنيست. ويمكن تتبّع أصول هذه الجماعات منذ تأسيس دولة [العدوّ] في مجموعاتٍ أخرى من مثل “بريت هاهاشمونيم”، وهي حركةٌ دينيّةٌ صهيونيّةٌ مسلّحةٌ. كما تتلقّى هذه الجماعات تمويلاً سنويّاً من وزارات التعليم والثقافة والعلوم والرياضة و”الدفاع” [في حكومة الاحتلال]، فضلاً عن استقبال متطوعي الخدمة المدنيّة (من مهام الجيش غير القتاليّة).

ومع اندلاع الانتفاضة الثانية [انتفاضة الأقصى]، سُمح لغير المسلمين بدخول المسجد الأقصى، في الوقت الذي شنّت فيه “جماعات الهيكل” حملةً واسعةً لتكثيف دعوات التوجّه إليه وبهدف تغيير الوعيّ الصهيونيّ العام حول “الحجّ/العليا[3]” وإقناع وجلب اليهود للمشاركة فيه، فضلاً عن إعادة تسويق عملها كنشاطٍ سلميٍّ يسعى لممارسة الشعائر الدينيّة.

اكتسبت الجدالات حول اقتحامات المسجد الأقصى زخماً بين الأوساط اليهوديّة وبدأ يحظى هذا التوجّه بقبولٍ متزايدٍ في المجتمع الصهيونيّ. وسجّل العام 2010 ازدياداً في أعداد اليهود المشاركين في الاقتحامات، والتي بدأت تتضمّن محاولاتٍ مستمرّةً للصلاة في محيط المسجد الأقصى، مّما أدى إلى زيادة التوتّرات والاشتباكات مع المصلّين والمرابطين فيه. وتبعاً لذلك، أتاحت حكومة [الاحتلال] الجولات التهويديّة في محيط الحرم ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ وبمرافقة حرسٍ من جيش [الاحتلال].

وخلال الاقتحامات التي تمّت بين عاميْ 2011 و2016، برزت الجولات المصحوبة بالمرشدين “المدريخيم”،  والذين يتمثّل دورهم بتأطير “التجربة” وتعبئة التلاميذ والمشاركين فيها، بما يهيئهُم لرؤية أنفسهم كمتظاهرين أتقياء يرغبون باسترداد مكانهم المقدّس في بدايتها وضحايا للاضطهاد والتمييز الدينيّ لدى نهايتها. كما توفّر “جماعات الهيكل” الدعم العاطفيّّ والمشورة القانونيّة لمن يرغب في الانخراط في أعمال “العصيان المدنيّ”، كممارسة الشعائر الدينيّة أو رفع العلم “الإسرائيلي” خلال الجولات.

ومع ازدياد أعداد مقتحمي المسجد الأقصى، نحو ثلاثة أضعافٍ بين عامي 2009 و2016، أُثيرت المسألة في الكنيست بشكلٍ “أكثر إلحاحاً”، واتّحدت التيارات المختلفة فيه على الرغبة في “استعادة جبل الهيكل” وأضفت إلى تشكيل مجموعة ضغطٍ للعمل على النهوض بمسألة الزيارة والصلاة في الحرم القدسيّ. كما فتحت الاقتحامات اليهوديّة نافذةً أمام المشروع الصهيونيّ لفرض سيطرته الفعليّة على المسجد الأقصى، وأتاحت لـ”إسرائيل” تبرير سيطرتها العسكريّة متذرّعةً بالحجّج الأمنيّة وتأمين الحريّات الدينيّة. في المقابل، أشعلت هذه التطوّرات والاقتحامات المتزايدة غضب الفلسطينيّين في القدس، والذين سارعوا للدفاع عن المسجد الأقصى والتصدّي لهذه الاقتحامات، ليشكّل العام 2015 محطّةً فاصلةً في هذا الصراع مع اندلاع ما سُمّيت بـ “الانتفاضة الثالثة” [أو انتفاضة القدس].

“معرفة البلاد” كتقنيّةٍ استيطانيّةٍ 

منذ العشرينيّات، وخلال فترة الاحتلال البريطانيّ، سعى اليهود لتأسيس صناعة السياحة التوراتيّة من أجل تعزيز الأهداف الصهيونيّة القوميّة استناداً إلى تعاليم “يدعات هآرتس”؛ أيّ معرفة البلاد. تمّ تنفيذ هذه الممارسات ودعمها من قبل المؤسسات الاستيطانية والمدارس اليهوديّة وداعمي الحركة الصهيونيّة، والتي تضمّنت زياراتٍ موجّهةً تهدف لخلق صلةٍ بين المستوطنين اليهود الجدد بالأرض وخلق هويّةٍ قوميّةٍ متماسكة، عمل خلالها “المدريخيم” على الربط بين الادّعاء التاريخيّ والتفاعل مع المشهد الطبيعيّ. وفي عام 1922، افتتحت دائرة الصناعة والتجارة الصهيونيّة أوّل دورة إرشادٍ مهنيّةٍ للجولات السياحيّة التهويديّة، ممأسسةً بذلك “المدريخ” كمتحدّثٍ رسميٍّ باسم الحركة الصهيونيّة، والذي أصبح “مجنّداً في الصراع” لبثّ وشرعنة الأيدولوجية الصهيونيّة لتنفيذ خطط الاستيطان التهويديّ.

وبعد عام 1948، بذلت دولة [العدوّ] حديثة التأسيس جهوداً مكثّفةً لتطوير وتسويق الجغرافية المقدّسة، والتي عزّزها الـ”مدريخ”، تشجيعاً للمستوطنين اليهود واجتذاباً للزوّار المسيحيّين، ضمن رواية تصديق نبوءة عودة اليهود من المنفى إلى أرض الميعاد. كما انطلقت المشاريع الأثريّة، والتي أصبحت وجهاتٍ شهيرةً للزوّار والمصلّين اليهود، بدعم وتمويل الدولة الصهيونيّة منذ السنوات الأولى على تأسيسها. ساهمت هذه المشاريع الأثريّة في تقديم سرديّةٍ تربط التنقيب الأثريّ بالرواية التوراتيّة، بما يوفّر “دلائل علميّةٍ” على الرواية الصهيونيّة، ضمن عملية تهويدٍ ومحوٍ مستمرّةٍ للتاريخ والمعالم والأماكن الفلسطينيّة المقدّسة والتاريخيّة.

يتسلّح مرشدو الجولات التهويديّة في القدس واقتحامات المسجد الأقصى، وغالبهم حَمَلة شهاداتٍ مصدّقةٍ من مدارس إرشاد السياحة التهويديّة، بقوةٍ مُشرعِنةٍ؛ فهُم قوة دولة [الاحتلال] التنفيذيّة، ومن يسعى لإكمال ما عجزت عنه في عام 1967، أو كما يصفهم عضوٌ في “طلاب من أجل الهيكل”: “إنّهم يكملون المهمّة. لقد أدركوا أنّه ليس بالإمكان انتظار الدولة للقيام بذلك، فأخذوا الأمر على عاتقهم”. ويرى المقتحمون هذه الجولات بكونها تجربةً روحانيّةً خلاصيّةً يرسلون من خلالها رسالةً مفادها أنَّ اليهود لم ينسوا أكثر المواقع قدسيةً لهم، ليَسير المرشدون الجُدد على خطى “المدريخ” الأوائل في توظيف “معرفة البلاد” في سلب الأرض وفرض السيطرة. كما تساهم هذه الجولات التهويديّة في خلق جذورٍ راسخةٍ وانتماءٍ يهوديٍّ للأرض، وهو ما تحتاجه الدولة الصهيونيّة الليبراليّة لتسويغ مشروعها الاستعماريّ.

وتحت ذريعة الكشف عن ماضٍ يهوديٍّ مقدّسٍ، يستمرّ المشروع الصهيونيّ بالاستيلاء على المزيد من الأراضي في مدينة القدس، لا سيّما بلدة سلوان جنوبيّ المسجد الأقصى، والتي تشهد حفريّاتٍ أثريّةً ضخمةً للتنقيب عن “مدينة داوود” المزعومة ومواقع مقدّسة يدّعي اليهود وجودها في المنطقة. وتدعو هذه الورقة للنظر إلى اقتحامات المسجد الأقصى في السياق الأوسع للتوسّع الاستيطانيّ في القدس، والذي يتمّ بغطاءٍ من السياحة التهويديّة.

إزاحة المنظومة الخطابية: “المستوطن المضطَهَد دينيّاً” 

بالإضافة إلى المساهمة في فرض سيطرة “إسرائيل” على المسجد الأقصى، يكمن دور “المدريخيم” كقوةٍ تنفيذيّةٍ بالوكالة بالعمل على تأطير هذه الاقتحامات بخطابٍ ليبراليٍّ يحثّ المشاركين على وصف ونقل تجاربهم خلال الجولات من منظور حقوق الإنسان وانتهاكات الحريّة الدينيّة داخل “دولةٍ ديمقراطيّةٍ” من جهةٍ، وتبنّي هذا الخطاب وتوظيفه لحشد المزيد من التأييد والمطالبات بـ “حقّ الوصول إلى المسجد الأقصى” من جهةٍ أخرى. وتؤسّس هذه الجماعات حجّتها باعتبار دخول اليهود إلى المسجد الأقصى مسألة “حقوقٍ مدنيّةٍ و حرية عبادةٍ يحقّ لجميع المواطنين التمتّع بها في دولةٍ يهوديّةٍ ديمقراطيّةٍ”.

تعزّز هذه المنظومة الخطابيّة الجديدة التحالف الاستراتيجي بين الليبراليّة والاستعمار الاستيطاني وتساهم في توفير المبّررات الأخلاقية المناسبة للاستيلاء على الأرض ضمن دولة [احتلالٍ] ليبراليّةٍ. كما ساهم انتقال شخصياتٍ كـ “يهودا غليك” [4]، من “مدريخ” إلى عضوٍ في الكنيست، في كسب “جماعات الهيكل” المزيد من الدعم من مختلف التيّارات الصهيونيّة، إضافةً إلى تعزيز هذه الادّعاءات بكون اليهود “حجاجاً أبرياءَ عُزّلاً” في مواجهة الإسلام الذي يرفض تقاسم هذا الموقع المقّدس أو الاعتراف بالصلات اليهوديّة به.

ويتماشى التصوّر الشعبيّ للصهيونيّة الذي تتبنّاه الجماعات الدينيّة اليهوديّة، كـ”مؤسسةٍ إنسانيّةٍ ترعى حقوق الإنسان في وسطٍ من التخلّف والقمعيّة”، مع توجّه الصهاينة الليبراليّين العلمانيّين الذين يثمّنون هذه الفكرة أيضاً، في الوقت الذي تجسّد فيه هذه التوليفة من الليبراليّة والصهيونيّة الدينيّة الخلاصيّة التناقضات المتأصّلة في المجتمع الصهيونيّ؛ باعتباره جزءاً من العالم الغربيّ الليبراليّ وخاضعاً للمركزيّة العرقيّة في القانون اليهودي.

ويُمكن موضعة توظيف خطاب حقوق الإنسان في اقتحامات المسجد الأقصى ضمن ظاهرةٍ أكبر تُظهرها المنظّمات الصهيونيّة الاستيطانيّة في “إسرائيل”، والتي تمكّنت من توظيف هذا الخطاب لحشد التأييد لصالحها في السنوات الأخيرة. كما أصبح الخطاب المستند إلى حقوق الإنسان، والذي تمّ تبنيه عبر الطيف السياسيّ الصهيونيّ، مصدراً لشرعنة العنف وتقديم المبّررات الأخلاقية لأشكال الاستعمار الاستيطاني.

وتمّ توظيف خطاب حقوق الإنسان بشكلٍ استراتيجيٍّ لدفع المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين، ففي عام 2006 على سبيل المثال، وعندما تمّ إخلاء مستوطنة “عمونا”، استخدمت منظماتٌ استيطانيةٌ غير حكوميةٍ حقوق الإنسان للدفاع عن”حقّ مستوطني “عمونا” في الاستعمار”، بما يحاكي خطاب المنظمات الليبرالية المناهضة للاستيطان.  تعمل هذه المنظّمات الاستيطانيّة غير الحكوميّة كـ”أطرافٍ من نفس الجسد الاستعماريّ”؛ قد تحارب دولة [الاحتلال] في معارك قانونيّةٍ، لكنّ مطالبها المستندة إلى حقوق الإنسان تعزّز المنطق التأسيسيّ لهذه “الدولة” لاستعمار وطرد الفلسطينيين من أراضيهم باسم “المواطنين اليهود العائدين”.

ويتيح هذا الخطاب الحقوقيّ لليهود بتقديم ذاتهم كضحايا لحالة “الفصل العنصريّ” في المسجد الأقصى الذي “يحتلّه” الفلسطينيون، فضلاً عن تبنّي لغة التيار اليساريّ العلمانيّ. كما توظّف هذه الجولات، بوصفها ممارسةً متأنّية الصياغة، حقوق الإنسان في التعبئة السياسية خلال الطقوس الدينيّة، والتي يُقصد بها، بشكلٍ أساسيٍّ، قلب العلاقة بين المستوطنين وأهل البلاد.

ومن هنا، تدعو هذه الورقة إلى النظر إلى “جماعات الهيكل”، بما يتبعون من نظامٍ خطابيّ جديد وتكتيكيات احتجاج، كأطرافٍ تابعةٍ للجسد الاستعماري لا مفصولةٍ عنه. فمن خلال دورهم كقوّةٍ تنفيذيّة بالوكالة وحبكهم مظلوميّاتٍ كضحايا لحقوق الإنسان، هم يجسّدون الدولة بشكلٍ فعليّ، بما يعزّز المنطق التأسيسيّ للصهيونيّة المتمثّل في “الحق في الاستعمار”.

الخاتمة

مثّل المسجد الأقصى ساحة مواجهةٍ رئيسيّةً في الصراع منذ فترة الاحتلال البريطانيّ، وسعى اليهود منذ العشرينيّات نحو انتزاع حقوقٍ لهم في حائط البراق ضمن مساعي إقامة وطنٍ قوميٍّ في فلسطين، الأمر الذى أدّى لاشتعال مواجهاتٍ واحتجاجاتٍ مستمرّة، أجّجها سماح الحكومة البريطانيّة لاحقاً لليهود بزيارة الحائط وإقامة الصلوات في ساحته، والتي وصلت ذروتها في عام 1929 مع اندلاع ثورة البراق. كما أصبح المسجد الأقصى رمزاً عالميّاً للنضال الوطنيّ الفلسطينيّ، لا سيّما بعد الانتفاضة الثانيّة [انتفاضة الأقصى]. لا تستطيع هذه الورقة تناول المقاومة الفلسطينيّة لاقتحامات المسجد الأقصى، ولكنها تشدّد على قدرة المقتحمين (من جماعاتٍ ومصلّين ومرشدين) ممارسة مهام دولة [الاحتلال] وتنفيذ مخطّطاتها في المسجد الأقصى.

ومع اندلاع الانتفاضة الثالثة [انتفاضة القدس] في عام 2015، حاول رئيس الوزراء “الإسرائيلي” القول إنّه ليس لدى حكومة [الاحتلال] “رغبة” في تغيير “الوضع القائم” في المسجد الأقصى رغم زيادة أعداد المقتحمين. لا يُمكن فهم اقتحامات المسجد الأقصى، والتضييق المستمر على المصلّين الفلسطينييّن والمرابطين فيه، إلا كاحتلالٍ بدعمٍ رسميّ وباسم حقوق الإنسان والحريّة الدينيّة.

كما أصبح التوجّه إلى المسجد الأقصى، باعتباره “حجّاً أو صعوداً إلى جبل الهيكل”، وسيلةً قويّةً ومقنعةً لتحقيق الهويّة القوميّة وفرض السيطرة الصهيونيّة الفعليّة على مدينة القدس والمسجد الأقصى، والذي وبدلاً من تفخيخه وتدميره كما لوّحوا في السابق، يقتحمونه اليوم مسلّحين بالخطاب الليبراليّ والصلوات والتكتيكات السلميّة.

وختاماً، تدعو الورقة إلى النظر إلى المقتحمين كمنفّذين لمخطّطات المشروع الصهيونيّ من خلال ممارستهم الشعائر الدينيّة ومساهمتهم بقسطهم في تعزيز النظام الاستعماريّ و”إنجاز” مهامه.