تتناول هذه المقالة المترجمة مفهوم العنف البنيويّ، مسترشدةً به في إدراك طبيعة تأثير البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على انتشار المرض والإصابة به وفرص العلاج منه، فضلاً عن دور التدخلات البنيوية في مكافحة الأمراض والسيطرة عليها.

ترجمة: سجى قزمار

توطئة:

نُشرت هذه المقالة في عام 2006، في مجلة “بلوس ميدسن” (PLoS Medicine)، وكتّابها هم: (Paul E Farmer & Bruce Nizeye & Sara Stulac & Salmaan Keshavjee). للاطّلاع على الأصلية من هنا.

نعرض لكم فيما يلي ترجمةً لمقالةٍ بعنوان (العنف البنيويّ والطب السريريّ)، مع التنويه إلى أنّنا ننشر هذه الدراسة بسبب أهمية الموضوع، لا بسبب الاتفاق مع ما يذهب إليه المقال؛ حيث يميل معدّوها إلى عدم تظهير ارتباط الصحة بمنظومة القوة والسلطة المتمثّلة بالسلطة السياسية والعسكرية والإدارية للقضايا الصحية، بالإضافة إلى قناعتنا بأنّ معركة الصحة العامة والقطاع الطبيّ هي معركةٌ سياسيةٌ، ولا يُمكن إلقاؤها على عاتق العاملين في القطاع الصحي والطبي وحدهم.

تتناول هذه المقالة المترجمة مفهوم العنف البنيويّ، مسترشدةً به في إدراك طبيعة تأثير البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على انتشار المرض والإصابة به وفرص العلاج منه، فضلاً عن دور التدخلات البنيوية في مكافحة الأمراض والسيطرة عليها والنهوض بفعالية الوسائل العلاجية ضدّها. تعرض المقالة نموذجاً شارك فيه معدّوها لوصف تأثير العنف البنيويّ والاجتماعي على مرضى فيروس “الإيدز” في كلّ من أميركا ورواندا، لتخبرنا بأنّ الحلّ ممكنٌ، بل وأسهل ممّا كان يتخيله الكثيرون.

*****

يُدرك الأطباء فور احتكاكهم مع المرضى أنّ القضايا المؤثرة على شرائح المجتمع الواسعة – كالعنصرية وعدم المساواة بين الجنسين والفقر والعنف السياسي والحرب، وفي بعض الأحيان السياسات التي تعالج هذه القضايا – غالباً ما تحدّد مَن يعانون من الأمراض ومَن يمكنهم الحصول على الرعاية الصحية. بالتالي، من الصعب على العاملين في مجال الصحة العامة تجاهل العوامل المجتمعية التي تؤثر على المرض.

ولكن، نادراً ما يُترجم هذا الوعي إلى أُطُر وقوانين رسميةٍ تربط التحليل الاجتماعي بالممارسة اليومية السريرية. أحد أسباب هذه الفجوة هو أنّ التوجه الأعمّ في الطب الحديث مازال البحث عن الأسس الجزيئية للمرض. وفي حين أنّ المحصّلة العمليّة لهذه البحوثات المقيَّدة في التساؤل كانت هائلةًً، إلا أنّ التركيز الحصريّ المقتصِر على المستوى الجزيئي للظواهر قد ساهم، فعلياً، في زيادة إقصاء المجتمع عن التساؤل العلميّ؛ أي النزعة لطرح التساؤلات البيولوجية فقط عن ماهية الظواهر البيومجتمعية في الحقيقة. [1]

وقد أصبحنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى المفاهيم البيومجتمعية للظواهر الطبية. يدرك ذلك كلّ من يرتبط عمله بمجال الصحة العامة، خصوصاً عند تقديمهم الرعاية الصحية للسكّان المفقَرين؛ إذ يتمّ إجراء التحاليل المجتمعيّة – الأوّلية منها – على أسرة المرضى في العيادات والمواقع الميدانية وهوامش البحوث الطبية.

ويُمكن أن تجد ذلك، على سبيل المثال، في أيّ دراسةٍ استقصائيةٍ عن الالتزام بالعلاج في الأمراض المزمنة، [2,3] أو في الدراسات التي تخصّ ما كان يُعرف سابقاً بـ”الأمراض الاجتماعية” كالأمراض التناسلية والسّل. [4-8] كما تُعتبر ظاهرة مقاومة المضادّات الحيوية حديثة النشوء، بما يشمل مضادّات البكتيريات ومضادّات الفيروسات ومضادّات الطفيليات، عمليةً بيومجتمعية بحكم الضرورة، وقد بدأت منذ نحو قرنٍ من الزمن حين بدأ استعمال العلاجات الحديثة في ذلك الوقت. [9]

في المقابل، تلقى التحاليل المجتمعية آذاناً صاغية في النقاشات التي تدور حول الأسقام التي يُعتقد أنّ مكوّناتٍ بيئيةً تؤثّر عليها كالربو وتسمم الرصاص. [10-15] فهل بمقدورنا الحديث عن “التاريخ الطبيعي” لأيٍّ من هذه الأمراض دون الإشارة إلى البُنى والمؤثّرات المجتمعية التي تُشكّل مسار هذه الأمراض وتأثيرها على المجتمع جماعاتٍ وأفراداً؟ وهل تعترف ممارستنا السريرية بما نعلمه مسبقاً؛ بأنّ القوى الاجتاعية والبيئية ستحدّ من فعالية وسائلنا العلاجية؟ لا بدّ أن يكون طرح هذه الأسئلة بداية الحوار بين الطبّ ومجال الصحة العامة بدلاً من إقصاء أحدهما للآخر.

العنف البنيويّ

العنف البنيويّ هو مصطلحٌ قام بصياغته “يوهان غالتونغ” وعددٌ من علماء لاهوت التحرير خلال ستينيّات القرن الماضي، ويصف البُنى الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية والتشريعية والدينية والثقافية- التي تمنع الأفراد والجماعات والمجتمعات من بلوغ إمكانياتهم الكاملة. [57] وقد تَنُمّ كلمة عنف في استعمالها المُطلَق عن صورةٍ جسديّةٍ ما. أما وفقاً لـ غالتونج”، فإنّ العنف هو “التدهور الذي يُمكن تداركه لحاجات الإنسان الأساسيّة”، أو التدهور في حياة الإنسان ما يخفّض المستوى الفعليّ الذي يمكن للفرد فيه بلوغ احتياجاته إلى حدٍّ لا يُمكنه فيه تلبية هذه الاحتياجات. [58] 

وعادةً ما يكون العنف البنيويّ مترسخاً في “بُنى اجتماعية طويلة الأمد وواسعة الانتشار، وقد تمّ تطبيعها من قبل مؤسساتٍ راسخةٍ وخبراتٍ مطّردة”. [59] ولكونها تبدو عادية جداً بالنسبة لطريقة فهمنا للعالم من حولنا، تكاد تبدو غير مرئية. بينما يعدّ التوغل العميق للثروات والقوة السياسية والتعليم والرعاية الصحية والوضع القانوني أمثلةً قليلةً على أشكال العنف البنيويّ، والذي يرتبط مفهومه بشكلٍ وثيقٍ بالظلم الاجتماعي والآليات الاجتماعية التي ترسّخ القمع والاضطهاد. [16] 

وعلاوةً على ذلك، يشكّل العنف البنيويّ أحد سبل وصف التراتبات المجتمعية التي تضع الأفراد والجماعات على طريق الأذى أو الضرر. وتعدّ هذه التراتبات بنيويّةً لكونها مترسخةً في المؤسّسات السياسية والاقتصادية في عالمنا الاجتماعي، وعنيفةً لأنّها تسبّب الضرر للناس، دون أن يشمل ذلك بالطبع مسبّبي هذه التفاوتات والمسؤولين عن تكريسها.

وباستثناء القليلين، ليس الأطباء مدرّبين على فهم هذه القوى الاجتماعية، ولسنا كذلك مدرّبين على تغييرها. ومع ذلك، فقد كان من الواضح منذ فترةٍ طويلةٍ بأنّ مصير الكثير من التدخلات الطبية والصحية العامة هو الفشل إذا لم نتمكّن من استيعاب العوامل المجتمعية المؤثّرة على المرض. [17,18] ومن المبشّر أنّ مثل هذه المفاهيم البيومجتمعية هي في الحقيقة أكثر قابليةً “للتنفيذ” ممّا يظنه الكثيرون.

هناك بالفعل مجموعةٌ واسعةٌ ومتزايدةٌ من الأدوات التشخيصية والعلاجية التي نبتت من البحث العلمي. ومن الممكن استعمالها على نحوٍ يمكن الاستعانة به بالعنف البنيويّ، وإدراك طبيعة تأثيره على انتشار المرض في كلّ خطوةٍ من مراحل العملية الصحية، ما يؤدي إلى الانتقال من مرحلة التشخيص إلى مرحلة تلقّي العناية الصحية الفعّالة. وهذا يعني العمل على مستوياتٍ متعدّدة؛ بدءاً من التدخلات العلاجية “البعيدة”، التي يتمّ تطبيقها متأخراً بعد الإصابة بالمرض، انتهاءً بالتدخلات العلاجية “القريبة” التي تحاول منع المرض قبل الإصابة به، كالتطعيم وتحسين جودة المياه والسكن.

وكما هو الحال مع العديد من المفاهيم الأخرى، فهناك أوجه قصورٍ لمفهوم العنف البنيويّ. [19] غير أنّنا نسعى لتطبيقه على المهام التي تظلّ أساسيةً في الطب السريري، كمنع الوفيات المبكّرة والإعاقة وتحسين حياة المرضى الذين يتلقون الرعاية الصحية. وبالاستعانة بمفهوم العنف البنيويّ، نعتزم البدء، أو إعادة إحياء، النقاش حول القوى المجتمعية التي ليس في استطاعة المرضى التحكّم بها.

في هذه المقالة، نورد أمثلةً توضح تأثير العنف البنيويّ على حياة المصابين بفيروس نقص المناعة (HIV) في الولايات المتحدة ورواندا. ونبيّن، في كلتا الحالتين، دور التدخلات البنيوية في مكافحة العنف البنيويّ، ثمّ نستخلص دروساً عامة للمهنيّين الصحيين ومتّخذي القرار حول العالم.

مرضى “الإيدز” في أميركا

يرتبط انتشار الأمراض المعدية المزمنة ونتائجها، كـ”الإيدز”، ارتباطاً وثيقاً بالتراتبات المجتمعية التي يصعب على الأطباء تجاهلها. ومع أنه كثيراً ما يُعتبر هذا الفيروس “مرضاً اجتماعياً”، فقد يكون للأطباء فهمٌ مختلفٌ تماماً عمّا يجعله “اجتماعياً”.

أطباء كُثر ركّزوا على “السلوكيات” أو”نمط الحياة” الذي يجعل البعض عرضةً للإصابة بفيروس “إتش آي في”، [20-23] إلا أنّه لم يتمّ إطلاقاً تحديد الخطورة بالاعتماد على السلوك الفردي فحسب؛ إذ تتفاقم القابلية للإصابة بالعدوى ونتائجها السيئة بفعل العوامل المجتمعية كالفقر وعدم المساواة بين الجنسين والعنصرية. [24-26]

ومن غير المستغرب أن يصبح “الإيدز”، خلال أقلّ من عقدٍ، مرضاً يؤثر بشكلٍ خاص وغير متناسب على مفقَري أميركا، الذين انخرط كثيرون منهم في “سلوكيات خطرةٍ” بمعدلٍ أقلّ بكثير من غيرهم الذين لم يكونوا عرضةً لخطر الإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً. [27-29]

مؤثّرات المرض

يهاجم فيروس (HIV) الجهاز المناعي بطريقةٍ واحدةٍ فقط، لكنّ دورة حياته ونهايتها تتشكّل بفعل قوى اجتماعية ليس لها علاقةٌ كبيرةٌ بالفيسيولوجيا المرضية المعروفة عالمياً للمرض. بدءاً من أعراض عدوى الإصابة الحادّة به وصولاً إلى المرحلة الأخيرة وهي الإصابات المتكرّرة بالعدوى الانتهازية.

كما تتحدّد دورة المرض وفقاً لعددٍ من العوامل الواضحة، نذكر منها: أوّلاً، توافر العلاجات الوقائية بعد الإصابة من عدمها. ثانياً، ما إذا كان التردّي المطّرد للوظائف المناعية يتعجّل بمرضٍ متزامنٍ أو بفعل سوء التغذية. ثالثاً، ما إذا كانت هناك إصاباتٌ متعدّدةٌ بعدوى “إتش آي في”. رابعاً، ما إذا كان مرض السّل منتشراً في البيئة المحيطة. خامساً، ما إذا كانت العلاجات الوقائية للعدوى الانتهازية متوافرةً. [30]   وسادساً، القدرة على تقديم مضادّات الفيروسية القهقرية (ART) لكلّ من يحتاج إليها.

وخلال فترة تطوّر فيروس (HIV) التي تمتدّ حوالي عقدٍ من الزمن، يصبح للهياكل والبُنى المجتمعية الضارة –العنف البنيويّ- تأثيرٌ عميقٌ على عملية التشخيص، وتحديد المرحلة المرضية وعلاج المرض بشكلٍ فعّال، بالإضافة إلى الأمراض المرتبطة به. تتشكّل كلٌ من هذه المحدّدات بفعل ذات القوى المجتمعية التي تحدّد عوامل خطورة العدوى. وعلى الرغم من التباين الواضح في النتائج خلال العلاج الفعّال بشكلٍ خاص، إلا أنه أيضاً كان واضحاً قبل انتشار استعمال مضادّات الفيروسية القهقرية.

أظهر “مور” وآخرون في بدايات تسعينيّات القرن الماضي في مدينة “بالتيمور” أنّه كان للعرق ارتباطٌ بتوقيت بدء تلقّي العلاج؛ فمن بين المصابين بـ”الإيدز”، وبالمقارنة مع غيرهم من البيض، كان السود أقل حظاً في تلقّي مضادّات الفيروسية القهقرية أو العلاجات الوقائية للالتهاب الرئوي بالمتكيّسة الجؤجؤية فور تحويلهم إلى عيادات “الإيدز”، بصرف النظر عن مرحلة المرض وقت الكشف عليهم. [31] كما تتقلّص الفترة ما بين الإصابة بفيروس (HIV) حتى الوفاة بشكلٍ أكبر في الحالات التي يكون فيها السّل هو المرض الانتهازي الرئيس، كما الحال في معظم المناطق المفقَرة في العالم. [32]

تدعو هذه الأحداث ذات الطابع البيومجتمعي بشكلٍ أساسيّ إلى التساؤل عن “التاريخ الطبيعي” لعدوى فيروس (HIV) ونقص المناعة المكتسب.

الاختلال في تقديم الرعاية الصحية

في محاولةٍ لمعالجة التفاوتات في تقديم الرعاية الصحية، والتي تُعزى لأسبابٍ عرقيةٍ، وثّق الباحثون والأطباء في مدينة “بالتيمور” كيفية تجسّد العنصرية والفقر، باعتبارهما شكلاً من أشكال العنف البنيويّ لكن دون أن ينصّوا عليه بهذا المفهوم، كأسبابٍ لازدياد أعداد الوفيات بين الأمريكيين من أصول أفريقية الذين لا يمتلكون تأميناً صحياً. [33,34]

وبعد توثيقهم هذه الفوارق، تساءل هؤلاء الأطباء والباحثون: ماذا كان سيحدث لو لم يكُن العرق والتأمين الصحي محدّداتٍ لمن يستطيع الحصول على الرعاية الصحية المناسبة؟

وضع الأطباء والباحثون تكلفة التنقّل وحوافز أخرى بعين الاعتبار، إضافةً إلى معالجة الظروف المرضية المصاحبة بدءاً من إدمان المخدرات حتى الاعتلالات العقلية. كما أدخلوا تحسيناتٍ على الرعاية الصحية المجتمعية آملين بأن تصبح الرعاية الصحية لمرضى “الإيدز” أكثر ملاءمةً وذات قبولٍ اجتماعي. كان الهدف هو التأكّد من خلوّ النظام الصحي والمجتمع المُحيط به من أيّ عائقٍ يمنع المرضى المعوزين والمهمَّشين من تلقّي الرعاية الطبية المطلوبة.

كانت النتائج التي سُجّلت بعد بضع سنواتٍ هائلةً؛ اختفت الفوارق ضمن مجتمع الدراسة بشكلٍ كبير. [35] وبعبارةٍ أخرى، ربّما لم تعالج هذه التحسينات الافتقار إلى التأمين الصحي، ناهيك عن العنصرية والفقر المتأصلين، ولكنّها قللت من تجسيد أوجه عدم المساواة كسببٍ للوفيّات المبكرة لمرضى “الإيدز”. كما أظهر مجهودٌ مشابهٌ في مكانٍ آخر قدرة مقدّمي الرعاية الصحية على تقليل تأثير عدم المساواة الاجتماعية على نتائج حالات مرضى “الإيدز” بين المشرَّدين والمدمنين والمعتلين عقلياً والسجناء. [36-38]

وجزئياً، تمّ تحسين البرنامج المتّبع في مدينة “بالتيمور” عن طريق ربط فهم السياق الاجتماعي مع الرعاية السريرية، كما تمّ تأكيد أهمية هذه البرامج من خلال ظهور مقاومة فيروس (HIV) للمضادّات المتعدّدة في الولايات المتحدة. [39]

وبطبيعة الحال، تتضّح ظاهرة اكتساب الميكروبات للمناعة ضدّ المضادّات الحيوية (مشتملةً على المضادّات الفيروسية القهقرية) باعتبارها ظاهرةً بيومجتمعية؛ تتحوّل معظم الميكروبات عند مجابهتها بالمضادّات الحيوية، بينما يُعجّل الاستعمال الطائش للمضادّات الحيوية أو العلاج المتقطع أو غير المناسب من معدّل ظهور الطفرات في الميكروبات.  [40,41]

وعلى الرغم من أنّ العنف البنيويّ يقلّل من القدرة على الوصول إلى العلاج الفعّال والالتزام به، فإنّه نادراً ما يكون هذا الدور محلّاً للنقاش في ظاهرة مقاومة فيروس (HIV). وفي واقع الأمر، من المستحيل استيعاب ديناميكية الأمراض المقاومة للأدوية دون فهم تأثير تجسّد العنف البنيويّ على المجتمع والفرد وعلى مستوى الحياة المجهرية.  [9,42]

تُظهر لنا الدروس المستفادة من تجربة مدينة “بالتيمور” أنّه وعن طريق النظر إلى مناليّة الرعاية الصحية ومواصلة العلاج كقضايا بنيويّةٍ تتطلب حلولاً برامجية، يُمكننا تغيير مفاهيم بيولوجيا (HIV) و”التاريخ الطبيعي” لمرض الإيدز.

“الإيدز” في رواندا: دروس من هايتي  

يظهر تأثير العنف البنيويّ أكثر وضوحاً في الدول الأشدّ فقراً، وهو ما ينطوي عليه انعكاساتٌ عميقةٌ لأولئك الذين يسعون لتوفير رعايةٍ طبيةٍ فيها. ومن خلال استنساخ نموذج منظّمة “شركاء في الصحة” (Partners in Health) لتقديم الرعاية الصحية، سعينا [في عام 2005] لمعالجة مرض الإيدز والسّل في أفريقيا. كان هذا النموذج مصمّماً في ريف هايتي لمنع تأثيرات الفقر وعدم المساواة الاجتماعية كأسبابٍ لازدياد أعداد الوفيات من مرض “الإيدز” والسّل والملاريا والأمراض الأخرى التي ترتبط بالفقر. [43,44]

“نموذج شركاء في الصحة”

يبدو النموذج في بعض جوانبه بسيطاً، تمّت إزالة العوائق السريرية والمجتمعية للرعاية الصحية عن طريق إعلان التشخيص والعلاج كمنفعةٍ عامة، وإتاحتها مجاناً للمرضى المفقَرين. إضافةً إلى أنّ تقديم الرعاية الصحية لمرضى “الإيدز” لا ينحصر في هذا النموذج على العيادات كما جرت العادة، إنّما يشمل القرى حيث يعمل ويعيش مرضانا.

وبالاعتماد على هذا النموذج، يختار كلّ مريض مرافقاً له -عادةً ما يكون أحد الجيران- و يكون مدرّباً على إعطاء العقاقير وتوفير الرعاية الصحية الداعمة للمريض في المنزل. ونقوم حالياً بتقديم علاج مضادّات الفيروسات القهقرية تحت إشرافنا لأكثر من 2200 مريضٍ يوميّاً في ريف هايتي.

يعتبر البعض هذا النموذج، الذي يعتمد على الخدمة الصحية التقليدية المقدّمة في العيادات وتكملتها بالخدمة المقدّمة في المنزل، أكثر الطرق فعاليةً على مستوى العالم في إزالة العوائق البنيوية المجتمعية من أجل الوصول إلى رعايةٍ صحيةٍ ذات جودةٍ عاليةٍ لمرضى “الإيدز” والأمراض المزمنة الأخرى، فضلاً عن توفيره فرص عملٍ للمناطق الريفية. وقد استخدمنا نموذجاً مشابهاً في مدن البيرو [45,46] وفي مدينة بوسطن، في ولاية ماساتشوستس. [37]

تحدّي الفيروس في رواندا

تمثّل رواندا تحدّياً فريداً من نوعه، بيدَ أن عديداً من العوائق أمام الرعاية الصحية مشابهةٌ في الواقع لتلك التي واجهناها في هايتي ومناطق أخرى؛ حيث تقلّل الاضطرابات المجتمعية والفقر وعدم المساواة الاجتماعية من فعالية الخدمات الصحية البعيدة والجهود المبذولة لمنع انتشار الأمراض. فالمجتمع في رواندا، مثلها مثل هايتي، هو مجتمعٌ كثيف السكّان وزراعيٌّ بالدرجة الأولى.

ورغم أنّ البلدين عانيا من وطأة العنف السياسيّ الذي طال شريحةً واسعةً من السكان، فإنّ العنف الذي سُجّل منذ عقدٍ في رواندا بسبب نشوب الحرب والإبادة الجماعية لم يكُن مسبوقاً. تمّ تقديم نموذج “شركاء في الصحة” في شهر أيار من عام 2005 في مقاطعتين ريفيتين في رواندا، وقُدّر أن يكون 60٪ من السكان هم من اللاجئين والعائدين من المنفى والقاطنين الجدد، دون أن يتواجد بينهم طبيبٌ واحدٌ لخدمة 350 ألف شخصٍ.

كان الفيروس سبباً رئيساً وراء وفيات الشباب اليافعين في رواندا خلال السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من توافر الموارد اللازمة لعلاج مضاعفات عدوى الفيروس، إلا أنّ الأكثرية من المرضى المسجّلين لتلقّي مضادّات الفيروسية القهقرية يعيشون في المدن والبلدات. وقد أشار البعض في الواقع إلى أن توسيع نطاق العلاج العاجل غالباً ما يحدث في المناطق الحضرية حيث البُنى التحتية –رغم الفقر- أفضل منها في المناطق الريفية. [47]

تمثّل التحدّي، إذن، في  الوصول إلى المناطق الريفية، حيث أقل من 5٪ ممّن يحتاجون إلى المضادّات الفيروسية القهقرية يحصلون عليها. وفي الواقع، كانت زيادة حجم العلاج في المناطق الريفية بعيدةً كلّ البعد عن المستحيل؛ بعد مرور أقلّ من عامٍ على إطلاق البرنامج في 2005، تمّ تسجيل أكثر من 1500 رواندي مصابٍ بمرض “الإيدز” لتلقي الرعاية الصحية في المناطق الريفية باستخدام هذا النموذج.

ومن أجل تعميق نقاشنا حول التدخّلات المصمّمة لمجابهة العنف البنيويّ، لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار انتقال عدوى (HIV) من الأم إلى الطفل في المناطق الريفية في رواندا. ففي الحالات التي تندر فيها المياه النظيفة ويرتفع انتشار عدوى فيروس “إتش آي في”، تحثّ السياسات الصحية العالمية على الرضاعة الطبيعية من أجل الحدّ من الوفيات المرتبطة بالإسهال، غير أنّ ذلك يؤدي إلى زيادة انتقال فيروس (HIV) إلى الأطفال الرضع حتى بعد تلقي مضادات الفيروسات القهقرية.

ومن خلال تجربتنا في هايتي، نعلم أنه من الممكن تخفيض معدل انتقال العدوى من الأمهات إلى الأطفال؛ من معدلاتٍ مرتفعةٍ تتراوح بين 25- 40٪ إلى معدلاتٍ منخفضةٍ تصل حتّى 2٪. ونعلم كذلك أنّه يُمكن تحقيق هذا الانخفاض الكبير عن طريق: توفير مزيجٍ من مضادّات الفيروسات القهقرية للأمّهات أثناء فترة الحمل أولاً، وتسهيل الرضاعة الصناعية والمتابعة الدقيقة للأطفال الرضع ثانياً، فضلاً عن إطلاق مشاريع مياهٍ صالحةٍ للشرب ثالثاً، بما يشمل المناطق الوعرة حيث تندر الكهرباء، وينتشر انعدام الأمن الغذائي، وتكون البُنى التحتية للصحة والصرف الصحي بدائيةً في أفضل تقدير. [48]

وعلى الرغم من أنّ مشروعنا في رواندا لم يتجاوز عامه الأول، يُمكننا القول إنّ جدواه شبه مؤكّدة. ففي الأشهر الستة الأولى من العمل، قمنا بفحص الإصابة بعدوى “إتش آي في” لأكثر من 31 ألف شخصٍ في المنطقتين اللتين عملنا فيهما. وبدون استثناء، أعربت النساء الحوامل المصابات بالفيروس عن رغبتهنّ في الحصول على مضادّات الفيروسات القهقرية لمنع انتقال العدوى من الأمهات إلى الأبناء، وطلبن المساعدة في الحصول على حليب الأطفال ووسائل غلي الماء وحفظ حليب الأطفال بشكلٍ سليمٍ وآمن.

تدريبٌ غير كافٍ

كانت أكثر التدخلات “بعداً” التي قمنا بها هي توفير مضادّات الفيروسات القهقرية لكل النساء، بمساعدة المرافقين. وشملت توزيع الكيروسين ومواقد الكيروسين والزجاجات وحليب الأطفال، فضلاً عن توفير المساعدات الغذائية والمساعدة السكنية كلّما أمكن. وبالفعل، بدأنا نلحظ انخفاضاً في معدّلات الإصابة بعدوى (HIV) بين الأطفال حديثي الولادة، ونعتقد أنّ معدلات انتقال العدوى من الأمهات إلى الأبناء ستواصل انخفاضها بما أنّ البرنامج تمّ إنشاؤه بشكلٍ جيّد، وأنّ الرعاية الصحية تمّ توفيرها مبكراً خلال فترة الحمل.

وممّا لا يدعو إلى الاستغراب، لم تأتِ معارضة هذا النموذج من نساء رواندا المتعايشات مع مرض “الإيدز”، بل واجهنا مقاومةً شديدةً لهذا التوجّه من جانب صنّاع السياسات الصحية المحليين والعالميين، الذين واصلوا تشجيع الرضاعة الطبيعية المعروفة عالمياً.  وبدلاً من محاولة التغلّب على العوائق البرامجية، جادل الخبراء أنّ سياسة الرضاعة الصناعية غير قابلةٍ للتنفيذ في رواندا، وأنّ العار الاجتماعي المصاحب للإصابة بعدوى “الإيدز” سيمنع النساء من الانخراط في مشاريع كهذه.

أظهرت لنا الأمثلة في كل من رواندا وهايتي – حتى الآن- أنه لا توجد أسبابٌ وجيهةٌ تدفعنا للاعتقاد بأنّ التدخلات البنيوية المدروسة قد تفشل في تحسين الوقاية من عدوى الفيروس ونتائج العلاج. ففي الغالب، سيعود سبب الفشل إلى الخلل في البرامج، أكثر منه بسبب الخوف من العار أو عدم تجاوب المرضى المنخرطين في البرنامج. ينزع هذا النوع من التدخلات البنيوية الموضّحة هنا عبء الالتزام عن كاهل المرضى المستضعَفين ويضعه بشكلٍ صريحٍ على النظام الصحيّ ومقدّمي الرعاية الصحية.

تضمين التدخلات البنيوية

 ما دام العنف البنيويّ محدّداً كبيراً في انتشار المرض ونتيجته، فلماذا لا يتمّ تداوله بشكلٍ أوسع في مجال الطب والصحة العامة؟ خصوصاً بعد أن ثبت أنّه يُمكن للتدخلات الصحية أن تغيّر النتيجة السريرية بشكلٍ جذريّ؟ أحد هذه الأسباب هو أنّ المهنيين الطبيين غير مدربين على اتخاذ تدخلاتٍ بنيويّة، وبوسع الأطباء القول إنّ هكذا تدخلات هي ببساطةٍ “ليست من اختصاصهم”. مع ذلك، ولأنّ للتدخلات البنيويّة تأثيراً أكبر على مكافحة الأمراض والسيطرة عليها بالمقارنة مع التدخلات السريريّة التقليدية، فمن الأفضل أن نولي اهتماماً بها.

وعلى كلّ حال، لا يجب أن يكون الاعتراف بالعوائق البنيويّة ومعالجتها السبب الوحيد لعملنا. لعقودٍ عدّة، أدرك من يدرسون محدّدات الأمراض أنّ القوى البنيوية والمجتمعية مسؤولةٌ عن تفشي معظم الأمراض الوبائية. بيد أنّه لا يُمكن لأقوالٍ مثل “الفقر هو السبب الجذري وراء مرض السّل” المضي بنا بعيداً، فنحن لا نملك حالياً وصفةً علاجيةً للفقر، لكنّنا نعلم كيف نعالج السّل. وقد يكونوا من يجادلون بأنّه من الأجدر بنا التركيز على “التنمية الاقتصادية” للقضاء على السلّ على صواب، ولكن أثناء سيرنا نحو هذه اليوتوبيا سيرتفع عدد الضحايا إن لم يتم تقديم الرعاية الصحية لتشخيص المرض وعلاجه، وهو ما ينطبق على أمراضٍ أخرى.

إنّ الجدال القائم عمّا إذا يجب التركيز على التدخّلات الصحية القريبة أم البعيدة، أو الجدالات المشابهة لها عن الطريقة الأمثل لاستغلال الموارد الشحيحة، جميعها جدلاتٌ قديمةٌ قِدم الطب نفسه. لكنّ وجود القليل من الأدلة يدفعنا إلى الاختيار بطريقة إما/أو؛ مع أنّه في حقيقة الأمر لا توجد منافسةٌ بين التدخلات الصحية البعيدة والقريبة، وكلاهما يكمّلان بعضهما البعض.

يعجّ المجال العالمي للصحة العامة بالجدالات الزائفة التي تستخدم ذات الجمل آنفة الذكر، بينما تمتدّ قائمةٌ من الخيارات المستحيلة التي تواجه أولئك ممّن يعملون بين المرضى المعوزين. لا توجد طريقةٌ مثلى على أرض الواقع لوقف الأزمة الصحية في قارة أفريقيا، في ظلّ التنازع الشديد على الموارد التي كانت متوافرةً في الماضي وأضحت شحيحةً الآن. وهكذا يستمر العنف البنيويّ إلى ما لا نهاية في الوقت الذي يستمرّ العلم والطب في إنتاج أدواتٍ مدهشةٍ بحق. لكن، وبدون وجود خطةٍ قائمةٍ على العدالة تستحضر هذه الأدوات لتحمل أعباء مشكلات المعوزين الصحية، ستظلّ هذه الجدالات تبديداً للوقت. [49]

العبر المستفادة

يُمكن استخلاص العديد من العبر من أمثلة التدخلات البنيويّة الناجحة في مختلف الظروف في كلٍّ من بالتيمور وهايتي ورواندا. أوّلاً، شهدنا إمكانية تقليل الحجم الذي يُمكّن عدم المساواة الاجتماعية من التجسد كفوارق صحية. وفي حين أنّ بعض التدخلات بسيطةٌ ومباشرةٌ، فلا بدّ لنا أيضاً من الاعتراف بوجود خللٍ كبيرٍ في النموذج المهيمن على طريقة عمل الرعاية الطبية، ما دامت الخدمات الصحية تُعامَل كسلعةٍ متاحةٍ لمن بمقدورهم شراؤها فقط. إنّ التأمين الصحي الوطني، وغيره من شبكات الأمان الاجتماعية بما يشمل التعليم الأساسي والأمن الغذائي والمياه النظيفة، جميعها ضروريةٌ؛ فهي تتعهّد بهذه الخدمات كحقوقٍ أساسيةٍ لا كسلع. وإنّ غياب هذه الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أساسيٌّ لتنامي العنف البنيويّ. [50]

ثانياً، تعلّمنا أنّ التدخلات البعيدة يُمكن لها أيضاً أن تقلّل من معدل الإصابات والوفيات المبكرة. ويمكن قول ذلك باستخدام مصطلحات علم الاجتماع: التدخلات التي تزيد من مسؤولية المفقَر عن نفسه ستقلّل من تعرضه للإصابة بعدوى (HIV). بالمقابل، فإنّه من غير الممكن الحصول على مناقشةٍ نزيهةٍ عن إدمان الكحول بين الأمريكيين الأصليين، [51] أو حلّ مشكلة إدمان الكوكايين بين الأمريكيين الأفريقيين، [52] دون مناقشة تاريخ الإبادة الجماعية والرِّق في أمريكا الشمالية. أكرّر أنّ تعليقاً مشابهاً لهذا قد يُعد غريباً في دوائر الطب والصحة العامة؛ في مناقشات الإدمان، يتمّ نزع دور المجتمع منها بحذرٍ شديدٍ، ويُنظر إليها على أنّها مشاكل شخصيةٌ ونفسيةٌ لا على أنها مشاكل مجتمعية. وهنا أيضاً يتنامى العنف البنيويّ في ظلّ التغافل التحليلي.

ثالثاً، شهدنا أنّه من الممكن أن يكون للتدخلات الصحية الهيكلية تأثيرٌ كبيرٌ على النتائج، حتّى في مواجهة تحليلات فعالية التكاليف والسياسات المعيبة التي تنتهجها الكيانات والهيئات الدولية. وعند الأخذ بعين الاعتبار أنّ التدخلات الصحية البعيدة جاريةٌ بالفعل في رواندا –يدخل في ذلك حليب الأطفال والمياه النظيفة والوقود.. إلخ- فمن الممكن أن نمضي خطوةً إلى الأمام، ونقوم بوصف المزيد من التدخلات الصحية القريبة التي ستطوّر الوصول لكلّ مكوّنات المشروع، تشمل طبعاً التشريعات اللازمة لترويج العلاجات كمنفعةٍ عامة وشبكة توزيعٍ مُحَسنة للمضادّات الفيروسية القهقرية وحليب الأطفال وحملات المياه النظيفة وتطوير الوقود البديل. وبالتعمّق أكثر في التدخلات القريبة، قد تشمل كذلك تحسين الإنتاج الزراعي وخلق فرص عملٍ جديدةٍ ومعالجة قضايا عدم المساواة بين الجنسين من خلال التشريعات المتعلّقة بتملك الأراضي والتمثيل السياسي [53] وتشجيع محو الأمية.

هذه ليست المهام التي تدرّب الأطباء عليها، لكنّها أساسيةٌ في النضال من أجل تقليل الوفيات المبكّرة والمعاناة غير الضرورية. كما تفضي أهمية التدخلات البنيويّة لمستقبل الرعاية الصحية لإدراك أهمية تعاون ممارسي الطب والصحة العامة مع الآخرين المدرَّبين على التدخل بشكلٍ أكثر قرباً. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تؤدّي أزمات الصحة العامة، مثل جائحة “الإيدز” في أفريقيا، إلى تدخلاتٍ جريئةٍ ومُعَيّنةٍ، مثل حملة توفير وسائل الوقاية من الفيروس، وتحويل خدمات الرعاية الصحية لمنفعةٍ عامة. [54]وعند ارتباطها بالمزيد من التدخلات البنيوية، يُمكن لمثل هذه الحملات المحدّدة أن تساعد في إطلاق “حلقة اجتماعية حميدة” تَعِد برفع عبء الأمراض بعيداً عن كاهل الأطفال والشباب. وهو ما قد نعتبره إنجازاً كبيراً في النضال للحدّ من العنف البنيويّ.

الخلاصة

أدرك روّاد الصحة العامة الحديثة في القرن التاسع عشر، مثل “رودولف فيرخوف”، أنّ الأمراض الوبائية وانخفاض متوسط العمر المتوقّع يرتبطان بشكلٍ وثيقٍ ببنية المجتمع. [55,56] ربما لم يستخدموا مصطلح “العنف البنيويّ”، لكنهم كانوا مدركين للخسائر المترتّبة عليه، وقدّموا حججاً قويةً حول ضرورة التدخلات الصحية القريبة؛ مشتملةً على التعليم ونظم الصرف الصحي الأساسية واستصلاح الأراضي والسيادة وإنهاء الاضطهاد السياسي. لا تقلّ الحاجة إلى هذه التدخلات اليوم، خصوصاً مع امتلاكنا أدواتٍ صحيةً بعيدةً أفضل، كاللّقاحات والقدرات التشخيصية والترسانة الطبية الكبيرة من العلاجات الفعّالة.

وبغض النظر عن الاسم الذي نطلقه عليه، يظلّ العنف البنيويّ السبب الأشد تأثيراً على الوفيات والإعاقات المبكرة. ويمكننا البدء في معالجة ذلك عن طريق إعادة فهم وتحليل انتشار الأمراض ونتائجها. فحتى الأمراض التي ظهرت حديثاً كـ”الإيدز” قد أصبحت سريعاً أمراضاً للفقراء، وقد يكون لتطوير العلاجات الفعّالة أثرٌ سلبيٌّ إن لم نكُن قادرين على استخدامها في المكان الأكثر حاجةً إليها. وعن طريق إصرارنا على تقديم الرعاية الصحية بصورةٍ منصفة، يمكن حتّى للأطباء العاملين في التدخلات الصحية البعيدة المعنيّة بالطب السريري الإسهام بالكثير من أجل تقليل آثار العنف البنيويّ. وكما يقول “فيرخوف”، الأطباء هم “المحامون الطبيعيون عن الفقراء”.