مما لا شك فيه أن الاهتمام بالفلكلور لم يكن معزولا عن الحركة التاريخية الاجتماعيةوالسياسيّة للشعوب والباحثين؛ ولأن أهميته في الحالة الفلسطينية مستقاة من أهمية القضية سياسيا ومعرفيا، نقدم في الجزء الثاني من المقال قراءة نقديّة لأبرز الباحثين الاثنوغرافيين للفلكلور الفلسطيني؛ توفيق كنعان؛ محاولا موضعته ضمن البراديغم التوراتي السائد في حينه

 

مما لا شك فيه أن الاهتمام بالفلكلور لم يكن معزولا عن الحركة التاريخية الاجتماعيةوالسياسيّة للشعوب والباحثين؛ ولأن أهميته في الحالة الفلسطينية مستقاة من أهمية القضية سياسيا ومعرفيا، نقدم في الجزء الثاني من المقال قراءة نقديّة لأبرز الباحثين الاثنوغرافيين للفلكلور الفلسطيني؛ توفيق كنعان؛ محاولا موضعته ضمن البراديغم التوراتي السائد في حينه.

تنشئة كنعان: الحاضنة الإجتماعية

تنحدر عائلة كنعان من أصول لبنانية قطنت بيروت. وكانت الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1860 قد أجبرت العائلة على النزوح إلى فلسطين ليستقر بها المقام في يافا. ولجد كنعان ثلاثة أبناء ذكور وبنتين. منهم بشارة والد كنعان. نشأ توفيق في أسرة بروتستانتية الطابع؛  فقد أخذ التبشير البروتستانتي بالتنامي في فلسطين ما بين عامي 1807 و1890. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت القدس ومحيطها يشهدان صراعا مسيحيا مسيحيا، وكان طرفا الصراع يتمثلان في الأورثوذكسية اليونانية مدعومة من القيصرية الروسية،ومعها الكاثوليكية الرومانية بدعم من فرنسا، في مواجهة البروتستانتية المدعومة من ألمانيا. أتت نتائج ذلك الصراع مذهلة؛ فقد تحولت مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور نحو الإهتمام بالحرف، إذ قام الأب شبتلر  بإيفاد أربعة رهبان على دفعتين لتزويد الأسقفية في القدس بالمختصين بالحرف اليدوية. وفي عام 1852 قام شبتلر بإرسال المعلم يوهان لودفيغ شنلّر إلى القدس برفقة زوجته وستة من الرهبان. وفي حمأة الحرب الأهلية، زار شنلّر لبنان، وكان حينها مديرا لمركز الأخوة الشبتلرية في القدس، وعاد ومعه تسعة أطفال كانوا بداية ما سيعرف لاحقا باسم دار الأيتام السورية أو مدرسة شنلّر. أحد هؤلاء التسعة كان بشارة والد توفيق، الذي تدرب وتعلم على يدي يوهان شنلّر ليصبح فيما بعد أحد أساتذة المدرسة لعدة أعوام. في العام 1878 قررت جمعية بيت المقدس تكليف بشارة كنعان الإشراف على الجماعة الانجيلية في بيت جالا. كانت هذه الجمعية قد تأسست في المانيا عام 1842 بهدف دعم المؤسسات البروتستانتية والجماعات الألمانية في الشرق الأدنى، ومن أجل ذلك قامت بفتح فروع لها في مدن شتى؛ منها بيت لحم عام 1860. تعاقب على ادارة الفرع في بيت لحم ثلة من المبشرين كان منهم يوهان شنلّر وبعده بشارة كنعان.  (الناشف، ٧٠،٢٠٠٤، ٧١؛ محافظة، ١٩٨١: ٥٠- ٦٠) كانت كاترينا خير الله، زوجة بشارة، والأم المستقبلية لتوفيق قد تخرجت من دار الشماسات كايزرزفيرت في بيروت كممرضة لتعود إلى القدس للعمل في مستشفى الشماسات أو ما يعرف بالمستشفى الألماني حيث التقت ببشارة هناك. (الناشف، ٢٠٠٤، ٧١)

تنشئة كنعان: التكوين المعرفي

على خطى الوالدين؛ تخرج كنعان عام 1899 من مدرسة شنلّر، أو ما كانت تُعرف بدار الأيتام السورية، ليلتحق بعدها بالكلية البروتستانتية (الإنجيلية) السورية؛ لاحقا الجامعة الأمريكية في بيروت. أمضى فيها كنعان ست سنوات ليتخرج عام 1905 بشهادة طبيب. خلال فترة دراسته، وبُعيد التحاقه بالكلية بقليل، توفي والده. شكلت المؤسسات البروتستانتية الخيرية مصدر دعم لدراسة كنعان، فيما هو نفسه بدأ بإعطاء دروس خاصة كمصدر لإعالة العائلة. قبيل تخرجه بسنة، أي في عام 1904، تمّ تعيين كنعان طبيبا مساعدا في مستشفى الشماسات الألمانيات، وهو مستشفى بدء العمل على بنائه في القدس عام 1894 وكان المقدسيون يطلقون عليه اسم المستشفى المجيدي؛ لأن إدارة المستشفى كانت تتقاضى ريالا مجيديا عن كل مريض مهما طالت مدة إقامته فيه. (محافظة، ١٩٩٩) كان كنعان يعمل تحت خبرة ومعرفة د. غروسندروف الذي كان طبيبا جراحا ومديرا للمستشفى آنذاك. في عام 1906، تسلم كنعان إدارة المستشفى نيابة عن غروسندورف الذي غادر إلى ألمانيا في إجازة. وكانت إدارة المستشفى بالتشارك مع الطبيب أدولف أينسلر. كما أدار المستشفى الإنجليزي التابع للبعثة اليهودية الانجليزية (جمعية يهود لندن) والذي كان مخصصا لاستقبال المرضى اليهود حصرا، وكانت تقف وراءه جمعية تبشيرية بروسية- انجليزية. (الناشف، 2004؛ محافظة، 1999) انتقل كنعان عام 1914 إلى ألمانيا لكي يتخصص في أمراض المناطق الحارة وعلم الجراثيم تحت اشراف د. مولينس. وهذا الأخير كان مشرفا على بعثة الملاريا إلى القدس عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان كنعان رفيقه في البعثة. ثمّ إنّ كنعان درس مرض السل تحت اشراف الطبيب هانس موخ، وشارك في بعثة للأخير إلى فلسطين لدراسة مرض السل، ونشر ثلاث مساهمات في الدراسة. (الناشف، 2004) في نفس السنة، وأثناء تواجده في ألمانيا، تمكن كنعان من التعرف على دار فريدريكسن للنشر ليقوم بنشر كتابه الأول المعنون بـ “المعتقدات الغيبية والطب الشعبي في أرض الكتاب المقدس.” (الناشف، ٢٠٠٤)

في تشخيص الناس اثنوغرافيا

[1] لم يكن الاهتمام بفلسطين طبيا فحسب، بل رافقه اهتمام علماء الاجتماع والإنسانيات.[2] فقد أسست مؤسسات وجمعيات بحثية عدة تم تمويلها وإدارتها من قبل القوى الاستعمارية الكبرى في حينه؛ منها على سبيل المثال لا الحصر Institute Palestine Evangelical German The والذي كان يديره دالمان. وكذلك جمعية فلسطين الشرقية Society Oriental Palestine The والتي أشرفت على إصدار مجلتها المشهورة. يبدو أن كنعان كان قد تعرف على المشتغلين في حقل الفلكلور والدراسات التوراتية  بُعيد عودته من لبنان وتخرجه من الجامعة، حيث تفصل أربعة أعوام بين سنة تخرجه وتاريخ مقاله الأول عام 1909 عن الزراعة في فلسطين، وهي الفترة التي،استوعب فيها كنعان ما وصلت إليه علوم الكتاب المقدس من ناحية، ومن ناحية أخرى تعمقت علاقاته الشخصية برموز هذه العلوم والدراسات من أمثال غوستاف دالمان وألبرخت آلت ومارتن نوث. (الناشف، ٢٠٠٤، ٧٢) يظهر جليا تأثر كنعان بدالمان حيث أن الأخير لم يكن فحسب توراتيا في كتاباته عن الفلسطينيين، بل إنه وسّع نطاق عمله ليشمل النباتات والينابيع والعيون، كما احتك بالسكان المحليين؛ لكن أبحاثه ظلت حبيسة الافتراضات التوراتية. (حمودة، مقابلة غير منشورة) انعكس هذا على نتاجات كنعان الأولى في حقل الفلكلور حيث نشر عام 1909 مقالته المعنونة بـ “الزراعة في فلسطين” ونشر في عام 1913 مقاله عن “التقويم عند الفلاحيين الفلسطينيين.” ولاحقا في عشرينيات القرن العشرين نشر مقالاته عن الينابيع والنباتات؛ “الينابيع المسكونة وجن المياه في فلسطين” عام 1920، و “طاسة الرجفة” عام 1923، و “تراث النباتات في المعتقدات الغيبية في فلسطين” عام 1928.

لم يكن كنعان أنثروبولوجيا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ بل كان باحثا اثنوغرافيا اعتمد المنهج الوصفي أساسا، وكان مُقلّا في تحليلاته السوسيو-أنثروبولوجية. وقد ساعده في ذلك كونه طبيبا لاقى قبول الناس واحترامهم مما مكنه من العمل على جمع مادة اثنوغرافية غنية. كان لوالديّ كنعان أثر كبير عليه؛ فيتحدث عن أبيه قائلا: “كنا نذهب مع أبي في أرجاء البلاد للتعرف على البلاد والناس، وهذا الاتصال المستمر مع الناس غذى فينا جميعا، وفيّ أنا بشكل خاص، الحب للناس والوطن واستمر معي حتى اليوم هذا الشعور بالانتماء بولاء لا يتزعزع.” (الناشف، ٢٠٠٤، ٧١)

لو لم يكن لكنعان تلك العلاقة الحميمية مع الناس لما تمكن من جمع المادة التي بلغت أكثر من 1400 قطعة.[3] إلا أن تلك العلاقة كانت محكومة، في نظرنا، بأمرين هامين لا يمكننا تغافلهما؛ الأول: امتهان كنعان للممارسة الاثنوغرافية التي تشدد على ابقاء مسافة ما من “المبحوثين”، بغض النظر عن موقفنا النقدي إزاء هكذا زعم. أما الثاني فيكمن في انخراط كنعان أثناء وبعد دراسته في المؤسسات التعليمية والمهنية الحداثية الطابع؛ أي أنه كان محباً للفلاحين وليس منهم. ولأنه ابن بيئة الكتابات التوراتية كما مرّ معنا، فإنه تبنى فرضياتها وبدأ يعمل بناء على منهجها البحثي؛ فمثلا في معالجته موضوع الأولياء والمقامات، يموضع كنعان هذه الظواهر في سياق الامتداد للديانات الكنعانية القديمة وما بعدها؛ أي أن الحاضر عبارة عن الماضي ولكن بصورة جديدة. بالطبع يتم هنا التغاضي عن فترة طويلة من الزمن شهدت تغير في الأديان في فلسطين، بل وتغيرت حتى المفاهيم الدينية فيما يتعلق بالأولياء والقديسين ومكانتهم. يناقش سميح حمودة في هذا السياق أن افتراضات كنعان المضمرة من الصعب قبولها خصوصا أن هذا الموضوع نال نصيبا وافرا في الاسلام حول علاقة الأولياء بالإنسان والإله، من حيث كونهم واسطة أو كونهم وسيلة يُستفاد من سموهم الروحي وقربهم من الله بعكس طرح كنعان عن كونهم أوثنا تُعبد. يتم تغييب النقاش الثيولوجي في داخل الاسلام حول هذا الموضوع؛ هل الانسان إذا مات انتهى النفع به روحيا أو لا ينتهي، وهذا جدال معروف بين المدرسة الصوفية والمدرسة السلفية. وهذا يختلف عن الأديان الوثنية القديمة التي كانت تعتقد أن الله تجسد في الوثن أو الشخص.

ويُموضع حمودة هذا الطرح عند كنعان في بعد أوسع يشتمل الخطاب الاستشراقي الذي يرى أنه حاول دائما ربط الحضارة الاسلامية بالحضارات السابقة والأديان السابقة؛ وهذا يلتقي مع الرؤية الاستشراقية التي اعتادت تحقير الشرق بما فيهم العرب حتى في مجال الفلسفة حيث فضل العرب فقط في كونهم حفظوا التراث اليوناني فقط لكنهم لم يضيفوا عليه ولم ينقدوه ولم يقدموا مناهج مغايرة له، أي بكلمات أخرى أن العرب كائنات سلبية غير فاعلة على المستوى الفكري والإبداعي، والشرقي في الصورة الاستشراقية كسول، متخلف وليس هو الانسان المتنور العقلاني العلمي. (حمودة، مقابلة غير منشورة) تأسست عام 1920 مجلة جمعية فلسطين الشرقية، وكان كنعان قد اتخذها منصة رئيسية ينشر فيها مقالاته وأبحاثه. أتت نتاجات كنعان جميعها بالألمانية والإنجليزية وذلك بحكم تموضعه ضمن البراديغم الذي كانت لغته أساسا إحدى هاتين اللغتين. يتفق جميع المشتغلون في حقل دراسات الفلكلور على أن فضيلة كنعان تكمن في كونه حفظ التراث الشعبي في تلك الحقبة من الضياع، إلا أنّ هذا تحصيل حاصل وليس موضوع نقاشنا. المثير للنقاش هنا هو طريقة معالجة كنعان نفسه لتلك الحصيلة من التراث الشعبي. يبرز لدينا في هذا السياق أهم طرح قدمه الباحث سليم تماري والقائم أساسا على “أن الدافع الذي كان يشغل كنعان وأقرانه بالدرجة الأولى تمثل في خطر قوى الحداثة على تقويض أسس الثقافة الوطنية وجذورها في فلسطين، وتحديدا بيئة المجتمع الفلاحي.” (٢٠٠٥: ٦٨). يُدرج تماري هذا الطرح ضمن رؤية نظرية أطلق عليها اسم “الإثنوغرافيا الجذورية”؛ وهو تعبير يحمل نزعة أيديولوجية مناصرة للقومية المعاصرة. في حالة كنعان تكون الإثنوغرافيا الجذورية هي تجميع للمصادر التي تعزز شرعية التراث الثقافي الفلسطيني (وتحديدا الهوية الوطنية الفلسطينية التي أخذت تتسم بالخصوصية بمعزل، إلى حدّ بعيد، عن سوريا الطبيعية أو الإطار العربي الأشمل.)” (٢٠٠٥: ٦٦). ما من شك أن كنعان كان يشتغل ضمن حلقة الباحثين المنحدرين من الفكر الحداثي لتلك الحقبة؛ ومما يعزز هذه الفكرة تحدر كنعان نفسه من حقل العلوم الحديثة؛ فهو من جانب طبيب، ومن جانب آخر ممتهن للعمل الاثنوغرافي. هذا ما حدا بتوفيق والفلسطينيين العرب الذين كانوا ضمن فترته الزمنية؛ من أمثال خليل طوطح وعمر صالح البرغوثي وأسطفان حنا أسطفان، أن يروا في الفلاح الفلسطيني، على حدّ تعبير تماري، “روح الأمة”  فهم لم يتلوثوا بالغزو التكنولوجي والثقافة الغربية. (٢٠٠٥: ٦٨) لا يبدو كنعان، كما يدعي تماري، بأنه كان مدفوعا بحفظ التراث الشعبي من ضربات مطرقة الحداثة، وإن كان كنعان نفسه قد أشار لذلك في إحدى دراساته؛[4] إلا أن تحليلا مترويّا لكتابات كنعان المقلّة أساسا من البعد التحليلي لصالح توصيف كثيف للمعتقدات والممارسات والحجب، يمكننا من ملاحظة انطباعات ومواقف كنعان حيال مجموعة من الممارسات الشعبية التي كانت سائدة آنذاك. فمثلا، أثناء توصيفه العادات الشعبية المرتبطة بقدوم المولد ذكرا، أو أنثى؛ يعلق كنعان قائلا: “هذه المعاملة غير العادلة وغير المتوازنة تعتبر من العادات الشرقية القديمة.” (كنعان، ١٩٩٨: ٦٠). وفي نفس السياق يقول: “وتخبرنا بعض المعتقدات أن البنت تحاول أن لا تخرج إلى الحياة لأنها تعلم ما ينتظرها، أمور تدعوا إلى الشفقة.” (١٩٩٨: ٦٠) ثمّ يوصف ممارسة النساء إطعام ابنائهن الرّضع كل شيء يمكن تصوره كالخبز والكعك والحلويات والخيار والبندورة اعتقادا منهن أن الأبناء يرغبون في ذلك، بأنه غباء؛ فيقول: “أعتقد جديا أن هذا الغباء هو السبب الرئيسي لمعظم اضطرابات الأمعاء التي قد تؤدي إلى الموت.” (١٩٩٨: ٦٧) تظهر نزعة استشراقية عند كنعان عندما يُعرّج على عدم استحمام أطفال القرى؛ إذ أنهم “لا يغتسلون حتى بعد تلوثهم. فالبراز يُمسح بقطعة من القماش؛ وكذلك تزداد ثيابهم اتساخا ولا تتغير إلا على فترات طويلة.” محيلا ذلك إلى أنه “ليس من قبيل الكسل و الجهل أو عدم الاهتمام بالنظافة، ولكن ذلك يتعلق أصلا بالمعتقدات القائلة أن عدم النظافة أفضل وقاية من العين الحاسدة ومن القرينة.” (١٩٩٨: ٦٩). رغم أن كنعان نفسه يعطي إشارة لافتة في الفقرة التي تسبقها مباشرة عن الفروقات الطبقية التي يعيشها الأطفال؛ حيث أن أطفال القرية وفقراء المدينة “كل شيء يتمكنون من التقاطه يذهب إلى الفم، وهم يقضون يومهم في الساحة حفاة القدمين عراة الرأس.. أما الطبقة المتوسطة والغنية فأطفالها يعاملون في ظروف صحية أفضل.” (١٩٩٨: ٦٩). شاهد آخر من الشواهد المثيلة التي تعجّ بها كتابات كنعان، توصيفه العلاج بالكيّ الذي كان سائدا ضمن ممارسات التطبيب الشعبي في حينه بأنه “علاج بربري ينهك الطفل. ويبدو أنه من غير الممكن القضاء على هذه الممارسات البلهاء بالرغم من نصائح الأطباء والممرضات والمثقفين.” (١٩٩٨: ٧٨) لا يبدو لنا من تلك الشواهد ومثيلاتها في كتابات كنعان مما لم نذكره، أنه كان محموما بالدفاع عن الفلاحين وممارساتهم الفلكلورية ضد موجة الحداثة التي اتخذت وجهين: “هروب من القوقعة الاجتماعية، وهروب من الطقوس الدينية المرافقة لها.” (تماري، ٢٠٠٥: ٩) بقدر ما كان واقفا على منصتها ويضرب بسيفها عنق تلك الممارسات التي رأى فيها تخلفا وبدائية وجهلا. وليست رؤية كنعان للفلاح كوديعة لروح الأمة إلا انطلاقا من اشتغاله على الفلكلور من داخل براديغم الدراسات التوراتية، وهذا ما يفسر نداء كنعان “لكل من هو معني بفلسطين والشرق الأدنى والآثار والكتاب المقدس ألا يضيع الوقت في التنادي من أجل جمع كل المعلومات المتوفرة فيما يتعلق بالفلكلور الفلسطيني.” إن استشعار كنعان بتهديد التغيرات الناتجة عن احتكاك الغرب بفلسطين لم يدفعه لمواجهة رياح التغيير؛ لأنه باعتقادنا كان معنيا بها، بل بالأحرى دفعته نحو دقّ ناقوس الخطر للمشتغلين معه في البراديغم من كتّاب توراتيين لكي يسارعوا في لملمة ما يستطيعون لملمته من أدلة على مزاعمهم التوراتية. لم تكن لغة كنعان بعيدة عن الإحالات التوراتية المباشرة. ففي توصيفه للمعتقدات المتعلقة بالينابيع المسكونة بالجن، يرى كنعان أن “الاعتقاد بأن الآبار والينابيع المسكونة ليس جديدا أو مرتبطا بالفلسطينيين. إنه القاعدة التي تقف عليها المعتقدات والخرافات القديمة، ويوجد في العهد القديم اشارات إلى هذه المعتقدات.” (كنعان، ١٩٩٨: ١٢-١٣). وتعقيبا له على فكرة ثنائية الأرواح التي تسكن الينابيع والعيون وهي الحر والعبد، والمتجلية في ثنائيات أخرى كالخير والشر والأبيض مقابل الأسود يقول كنعان: “وهذه فكرة قديمة في الديانات الساميّة ولا نستطيع أن نجد لها صورة أوضح مما يصوره الفلاح الفلسطيني.” (١٩٩٨: ١٤) وفي توصيفه للينابيع المحروسة بالحيونات يشير كنعان إلى أن “التوراة ورد فيها أسماء الينابيع المحروسة بالحيوانات مثل عين جدي وعين العجل وعين التنين.” (١٩٩٨: ١٨) وكذلك الأمر بخصوص استعمالات المياه في تلك العيون والينابيع يبرزها كنعان كاستمرار لا قطيعة مع العهد التوراتي؛[5] يقول: “يفسر هذا لماذا تُستعمل بعض أنواع المياه في الوقت الحاضر كما كانت تستعمل في العهد القديم لأغراض طبية.” (١٩٩٨: ٢٣) وفي موضع آخر يكتب كنعان عن التطابق في الممارسة بين العهد القديم وزمنه بما له علاقة بالمياه؛ فيقول: “إن الأفكار والعادات التي نشأت من ندرة المياه كانت معروفة وممارسة في العصور القديمة وقد تركت تأثيرها القوي، حتى أن آلاف السنين بتغيراتها السياسية المتتابعة فشلت من اقتلاع جذورها. ولا نزال نواجه في حياتنا اليومية في فلسطين بقايا تلك الآثار التي يتم جمعها وفحصها هنا.” (١٩٩٨: ١١٥). ما من إحالات عند كنعان للعصور القديمة إلا إلى عهد التوراة الأول، وفي هذا انسجام مع البراديغم التوراتي الذي يتعامل مع التوراة كنص تاريخي يختزل التغيرات الاثنوغرافية الدقيقة التي تبلورت على مدار الاف السنين. ثمّ إن ما يثير التساؤل هنا، هو جزم كنعان بأن التغييرات عبر الاف السنين لم تعمل على اقتلاع تلك الممارسات والمعتقدات الشعبية؛ فما الذي يدفع كنعان ليعبر عن خوفه من ضياع تلك البوتقة الفلكلورية، والدعوة إلى جمعها قبل فوات الأوان؟ في كتابته عن الطفل في المعتقدات الشعبية نرى نفس النمط من الكتابة لدى كنعان؛ فهو يكتب عن المرأة التي لا تحل عليها بركة النسل فإما أن تعود إلى بيت والدها أو يُتزوج عليها. يقول كنعان في هذا الصدد: “وليست هذه المعتقدات جديدة وإنما وردت في العهد القديم من التوراة وبين سكان الشرق القديم.” (١٩٩٨: ٥٧)  نجد ما يشبه ذلك النوع من الكتابة عند كنعان في معالجته لمواضيع من قبيل اللعنة والنور والظلمة وغيرها الكثير. لقد اشتغل كنعان على الفلكلور الفلسطيني ضمن حقبة لم تكن فيها فلسطين قد تبلورت ملامحها “القومية الوطنية”؛ وعليه لا يمكننا الإدعاء أنه كان جذوريا بالمعنى القومي الحديث. ولم يكن كنعان يخاطب مجتمعه العربي الفلسطيني وإنما كان ابنا بارّا للحداثة ولبراديغم الكتابات التوراتية؛ “لم يكن منطلقهم قومي أو عروبي، حيث قلما نشرت أبحاثهم بالعربية، ومن الواضح أن كونها كتبت في الغالب بالإنجليزية وأحيانا بالألمانية، فإن عنوانها كان جمهورا غربيا يضم الصفوة السياسية في عهد الانتداب، وحلقة أوسع من الباحثين التوراتيين وعلماء الآثار والمؤرخين.” (تماري، ٢٠٠٥: ٨٢).  ورغم ذلك، لا يمكننا الادعاء بأن كنعان كان محموما بالدفاع عن الفلسطيني ضد الهجمات الاستعمارية بدراسته الوصفية تلك للفلكلور؛ إذ لا وجود لنقاشات عميقة وجادة عند كنعان لابطال مزاعم البراديغم التوراتي بل أتى متسقا معها، ولأنّ أن كنعان لم يكن اركيولوجيا كانت الاثنوغرافيا مناسبة للعمل ضمنها بحكم تدريبه المهني والاكاديمي كطبيب.

 

تنويه:هذا المقال جزء من رسالة ماجستير حول التحولات التي حكمت دراسات الفلكلور فلسطينيا تقدم بها الكاتب لجامعة بيرزيت

 

======================  

هوامش:

.[1]من الضروري والمهم الإشارة إلى أن التعامل مع المادة الخام التي جمعها توفيق كنعان وإعادة توظيفها سياسياَ أمر، وإعادة قراءة وموضعة كنعان نفسه كباحث وقاريء لتلك المادة أمر آخر.

[2]. كانت فلسطين في بدايات القرن العشرين مختبرا للعديد من الدراسات التابعة للقوى الاستعمارية الكبرى (ألمانيا، أميركا، بريطانيا، فرنسا)؛ في نفس الحقبة الزمنية، كان ذات النَفس البحثي شغالا على أفريقيا كمختبر لأوروبا.وهذا بدوره يشكل مدخلا لقراءة فلسطين في تلك الحقبة مغايرا للجهد الذي يؤرخ للحداثة فيها. .[3]  كان كنعان قد بدء العمل على جمع مجموعته في عام 1905 واستمر في ذلك العمل حتى عام 1947. (الناشف، ٢٠٠٤: ٧٧) [4] . يقول كنعان: “إن السمات البدائية في فلسطين تتعرض لتغيرات متسارعة للغاية، ما قد تدفع بها لتندثر في غياهب النسيان. وبالتالي أصبح من الواجب على كل من هو معني بفلسطين والشرق الأدنى والآثار والكتاب المقدس ألا يضيع الوقت في التنادي من أجل جمع كل المعلومات المتوفرة بأفضل وأشمل صورة ممكنة، فيما يتعلق بالفلكلور والعادات والمعتقدات الخرافية في الأرض المقدسة.” (تماري، ٢٠٠٥: ٧٦) [5] . يقول كنعان صراحة في معرض توصيفه للقوى فوق الطبيعية: “يعتقد الفلسطينيون منذ عهود الشرق القديم بوجود القوى فوق الطبيعية، هذه القوى كانت تعمل في خدمة الله.” (كنعان، ١٩٩٨: ٧٥) المراجع تماري، سليم. 2005. الجبل ضد البحر. رام الله: مواطن. حمودة، سميح. مقابلة غير منشورة. جامعة بيرزيت: 2016. كنعان، توفيق. 1998. الكتابات الفلكلورية. بيرزيت: دار علوش للطباعة والنشر. المحافظة، علي. 1981. العلاقات الالمانية الفلسطينية من إنشاء مطرانية القدس البروتستانتية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية: 1841ـ 1945. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. الناشف، خالد. 2004. توفيق كنعان: تقويم جديد. مجلة حوليات القدس، عدد 1