“لماذا لا نصيغُ لعبةً جديدةً؟ قواعدَ جديدةً؟ إنّه (العدو) سوف يتكيف معنا، لا نحن معه. سنبتكرُ لعبةً جديدةً يصعب التكيّف معها. هذا هو هدفنا الحقيقي…. إذن ما هي النتيجة من كل ما قلته؟ الاستنتاج معروف منذ وقت طويل. أينشتاين ذكي. أما الاستنتاج الثاني هو أنْ نحدِّد بشكل دقيق ما يعنيه التغيير، فالتغيير هدفه التغلب على العدو ولا يهدف فقط لسدّ الثغرات.” افيف كوخافي، 2021. 

الواقع والواقع الممُثل

تشكل كلمات “كوخافي” التي ألقاها في محاضرة عقب انتهاء معركة “سيف القدس” دليلاً هاماً لما يحاول كوخافي استكماله بعد تبوّئه منصبَ رئيس هيئة الأركان. بالفعل، لا يمكن تغافل مدى انهماك القيادات المتعاقبة في الجيش الصهيوني في تعزيز ثقافة التغيير في الجيش، أي الخروج من حالة الجمود التنظيمي في بُنية الجيش واستعادة المبادرة الاستراتيجية من خلال الدفع نحو التحوّل والتغيير كعملية إدارية وتنظيمية ترسّخ التفوق العسكري، وتعيد موضعة الجيش الصهيوني في وضع قادر على التأقلم مع مجريات الواقع واستباق ذلك الواقع. 

ما تهدف إليه هذه العملية المعسكرَة المُضنية هو استعادة القدرة على إدراك “النصر” خاصّة في المواجهات العسكرية مع المقاومة في لبنان وفلسطين. وبما أنّ النصرَ يحتاج- خاصّة عند المؤسسات العسكرية- تحديدَ مدلوله ومضمونه، فعلى نظرية النصر تلك الإجابة على سؤال كيفية الوصول إليه، وتحديد متى يمكن القول “إنّنا انتصرنا”.  

هناك مستوى أولي للنقاش الدائر في أروقة الجيش، وهو مستوىً مفاهيمي حول الإدراك لضرورة التغيير العسكري كإحدى الحلول لفشل المنظومة العسكرية بتحقيق انتصارات ملموسة في العديد من الحروب السابقة. 

ومن المهم التأكيد على أنَّ القراءة الصهيونية لهذه الجولات متفاوتة لا تراها إخفاقاً كلياً، ولا نصراً مدوياً لأعدائها، بل تُمَوضعها بحذر كفشل نسبيّ يحتاج إلى معالجةٍ يمتلك فيها العدو بعضَ عناصر النجاح. ولكن  هناك أيضاً العديدَ من الإخفاقات التي يستطيع الجيش تجاوزها. وبالتالي، تعبر القراءات عن حالة من التعادل الاستراتيجي التي تحيل إلى الجمود، أو إلى نوع من أنواع الترنّح على ميزان لا يُعلي من شأن أحد أطرافه؛ إذ إنَّ الجولات السابقة لم ينتج عنها صدمات كافية لإحداث تغييرات كبرى، وبنفس الوقت لم تكن دون عواقبها وتبعاتها، والتي خلقت ما يمكن الإشارة إليه بأنَّه زعزعة على مستوى ثقة الجيش خاصة في مجال المناورة البريّة. 

وقد كان للجولات السابقة، خاصة للبنية التحتية التي صاغتها المقاومة لبناء الكمائن واصطياد الدبابات والمدرعات، ما يكفي لجعل الواقع – أرض المعركة- مكاناً مبهماً ذا أبعادٍ لا يمكن للبنية العسكرية رؤيتها وإدراكها ومعالجتها، ونخصّ بالذكر- المُغر والأنفاق وتوزيع الوحدات القتالية على نقاط منتشرة جغرافياً وطبوغرافياً وغيرها من استراتيجيات التمويه والتخفّي واختيار نقاط الاحتدام مع الجيش المتوغل، بمعنى بناء فضاء مُوازٍ يشكل غيابه عن الواقع المُمثل لدى الجيش الصهيوني معضلة عملياتية لإمكانية إيجاد واستهداف المقاومة.  

بتعبيرٍ آخر، هناك أزمة تحتاج إلى معالجة، يكمن أهم عناصرها في التصوّرات التي يمتلكها الجيش حول الواقع، بحيث يتعاطى مع هذا الواقع على أنّه واقعٌ أقرب منه للفوضى الخلّاقة القادرة على المباغتة والمفاجأة والتي تمتلك من المرونة ما يجعلها حالة متبادلة تتخذ أشكالاً متغيرة وفيها يتم توظيف أدوات مستجدة. وبالتالي تلحّ ضرورة استحضار المستوى الثاني من النقاش والذي يرتبط بأهمية بناء سبل التغيير كحالة تكيّف وتأقلم مع هذا الفهم السائل للواقع. وبالطبع يتطلب هذا المجهود تحويل بنية عسكرية معتادة على العمل في آليات محددة مسبقاً إلى منظومة قادرة على ترسيخ “النقد الذاتي” و”تفكيك الافتراضات المسبقة” ضمن نموذج هدم وبناء مستمر، أي تحويل التغيير إلى صيغة مؤسساتية دائمة، يحاول فيها الجيش أن يكون جيشاً مختلفاً وجيشاً قادراً على تقبل التغيير دون مقاومة داخلية لصيرورة التغيير.

هنا علينا الوقوف على أهمية فهم العلاقة ما بين الجيش كمؤسسة اجتماعية لها بنيتها وهرميتها وعلاقاتها الداخلية، وبين الواقع الذي يحاول الجيش فهمه، وتطوير رؤىً واستراتيجياتٍ وتكتيكاتٍ تعالجه.

في هذا الصدد تحديداً، لا يمكننا إغفال دور التقنية، ليس فقط كأدوات يتم توظيفها بشكل متّسق مع الاستراتيجيات والتكتيكات التي يحاول الجيش وقيادته صياغتها، ولكن أيضاً بكوْن المعلومات حيزاً هاماً في التطور الطارئ على بنية الجيش المؤسساتية (information warfare)، وما تخلّفه من إشكاليات.

بتعبير آخر، فإنّ المعلومات المرتبطة بالمجسّات والطائرات دون طيار والعمليات الخاصة، فضلاً عن الرقابة من الفضاء والمعلومات التي ينقلها البشر وغيرها، تساهم كلها في إنتاج غزيرٍ من البيانات، وما تنتجه تلك الغزارة هو إغراق للمنظومة التي تسعى إلى تحويل تلك البيانات إلى نماذج إرشادية تمثل الواقع.

بهذا المنطق الذي يعمل به الجيش، فإنّه مع كلٍّ زيادةٍ في البيانات، تزداد قدرة تلك النماذج الخرائطية والصورية على تمثيل الواقع. ولكن الإشكال الذي ينبع من كل أنماط التمثيل (Representation) أساسه الشرخ بين الواقع وبين تصورات الذات التي ترى هذا الواقع وتُعاينه وتحاول قراءته. فكل نموذج إرشادي يحاول أن يمثل الواقع هو بالأساس نتاج رؤية وإدراك ذات فاعلة لهذا الواقع، بمعنى أن هناك بنية عسكرية تستشعر وتسعى إلى بناء قاعدة بيانات، ولكن تلك القاعدة من البيانات ليست منعزلة تماماً عن التحيزات والرؤى المسبقة للفاعل نفسه. ناهيك عن كيفية تحويل تلك البيانات إلى لغة يمكن معالجتها بحيث يعكس الجسم البياني الإرشادي الواقع، بل ويكون مرآة له، وبالتالي إمكانية صياغة تدخلات فيه.

وبأفضل الأحوال، فنحن هنا أمام نسخة مصغرة من هذا الواقع، نسخة قد تكشف جوانب هامة من عمل المقاومة، بل أيضاً صورة يمكن من خلالها ابتكار عمليات تسعى إلى خلق صور النصر (عملية المترو مثالاً)، ولكنها تبقى صورة مجزئة ومشوشة وقابلة للتشويش. فمن جهة، إشكالية التعويل على أنظمة التمثيل هذه، والتي تفترض ضمناً قدرة الناظر إليها على فهم وإدراك ما يراه ويسمعه، كما تفترض أنّ المعلومات التي تغذي هذه النماذج الإرشادية هي معلومات نقية. وهنا تكمن مساحة هامة من العلاقة بين المقاومة والاحتلال، وشكل وطبيعة المعلومة التي تغذّي نماذجه الإرشادية، فالتمويه والتعتيم والسر والمعلومات الخاطئة وغيرها كانت -دون شك- جزءاً جديراً بالذكر لإمكانيات الفشل الصهيوني في حروب سابقة وحالية.

كما أنَّ غزارة المعلومات تمثل اليوم معضلة بحدّ ذاتها، لقدرتها على إغراق العقل البشري، وبالتالي بدلاً من رؤية الواقع كما هو، تنتج تلك البيانات بغزارتها شرخاً؛ بحيث يصبح الواقع الذي يتراءى على شاشات الجيش كأنه لوح مستمر من إنتاج البيانات والمعطيات والذي بدوره أيضاً يحتاج إلى ما هو خارج العقل الإنساني لمعالجتها. 

بتعبير آخر، إنّ إغراق منظومة الجيش بالمعلومات وما تشكّله عملية الإغراق تلك من معضلة مؤسساتية له أثره على الآليات الموظَّفَة في الحرب؛ فالأسوأ من ألا تمتلك المعلومة هو امتلاكها ولكن دون إداركها، والأسوأ من كلاهما أن تمتلك المعلومة ولكن أن تمثلها أو أن تظهر لك بطريقة تعيد تعريف معناها، بحيث تأخذ المعلومة في الجسم الإرشادي حياتها الخاصة ومعناها الخاص المنفصل عن الواقع. 

هناك العديد من نقاط الإنتاج للبيانات والتي تحتاج إلى معالجة مباشرة والتي ترتبط بأنظمة المعلومات نفسها. هنا تكمن إحدى مواضع الهشاشة في بنية الجيش، وهي أنَّ التعويل على التقنيات تلك تساهم من ناحية في معالجة العديد من تلك البيانات (مثال: طابعة حرارية تجسد انطلاق صاروخ من موقع ما، وضرورة الإسراع في استهداف تلك النقطة، إذ يتزامن ظهور الطابعة الحرارية مع عملية الاستهداف نفسها). ولكنها من ناحية ثانية تعتمد على أنظمة حسابية تتّكئ بدورها على لغة برمجية محدودة في قدرتها على التقاط معنى البيانات وتحويل ذلك المعنى إلى تدخلات. أيضاً، يمكن الإشارة هنا إلى المنطق الداخلي للغة البرمجيات المبنية على لغة حسابية منطقية (صفر/واحد) وبالتالي مبنية على رؤية محددة للعقل والمنطق، وبالتالي تنتج أيضاً رؤية غير كاملة بالضرورة للواقع وآليات التدخل في هذا الواقع، فهي تنتج فعلاً عسكرياً يدور منطقه على شَرطيّة (إذ…. ف)، أي المنطق الخوارزمي.

وأخيراً، هناك أهمية للتصورات المستقبلية للحرب في إعادة تشكيل البعد العملياتي للجيش في الحاضر. بمعنى أنَّ الرؤى المستقبلية تعوّل على التجربة التاريخية للجيش في الماضي، وعلى تعقيدات في علاقات الإنتاج الاقتصادي في الحاضر. وهنا تكمن أهمية مصالح الشركات العسكرية الصناعية والخدماتية كبيئة تحدد مستقبل الأدوات التي يمتلكها الجيش، ولكن أيضاً كبيئة تساهم في حلّ معضلات الجيش والتي تظهر من خلال الحروب؛ والتوجهات الحكومية وبنية الحوافز الاقتصادية المرتبطة بجعل دولة العدو موقعاً متقدماً لاقتصاد المعلومات (High-Tech)؛ والحاجات الاجتماعية والديموغرافية التي ترتبط بضعف القدرة على التضحية البشرية.

يختتم رئيس الأركان الحالي “أفيف كوخافي” في مقالٍ طويلٍ تناول فيه عملية التغيير المضنية في آليات عمل جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان” بالتأكيد على ضرورة خلق “آليات التغيير الدائمة”، أي أنْ يتحول التغيير من حدث إلى عملية دائمة تستحدثها بنية الجيش في عملية إنتاج وإعادة إنتاج نفسها، وتهدف إلى تمكين عملية التكيف والتأقلم مع الأدوات التي تجترحها المقاومات ضمن مجموعة أكبر من التحديات، منها البرنامج النووي الإيراني، واستمرارية التهديد التقليدي المتمثل بالجيوش المنظمة. 

لهذا لم يكن مفاجئاً أن يقتبس “كوخافي” (نظرية التطور الداروينية) كمسوّغ لضرورة هذا النمط من الهدم البنّاء، مبرِّراً اقتباس داروين من خلال التأكيد على أنّ إخفاق الجيش من التكيف والتأقلم والإبداع والابتكار قد يفضي إلى انخفاض فرص العدو بالنجاة. ما يهمّنا هنا تحديداً، وما تظهره دراسة “كوخافي” الذي يصف عملية التغيير الإداري داخل بنية إحدى أهم عناصر الأجهزة العسكرية، أي الاستخبارات العسكرية، هو الأهمية التي يَعزوها الأخير للعلاقة ما بين التقنيات الحديثة بما فيها الأنظمة المعلوماتية مع الشكل المؤسساتي للجيش، أي إلى ضرورة المواءمة ما بين بنية الجيش الإدارية ودور التقنية، وإلا أصبحت التقنية “لعنة” تزيد من ضباب الحرب بدلاً من أن تؤدي إلى فهم وإدراك أفضل لأرض المعركة. 

بمعنى آخر، أن غالبية القراءات الصهيونية تدور في هذا الفلك تحديداً، أي في دور التقنية على مستوى الممارسة (Technology in Practice)، وليس في ادّعاءاتها التصميمية – قبل تجربتها في المعركة- والتي عادةً ما تصور التقنيات وتوظيفاتها على أنها مثالية، وكأنها قادرة على حل كل الإشكاليات العسكرية دون توليد إشكالياتها الخاصّة، وبالتأكيد دون الأخذ بعين الاعتبار كما يقول المفكر والمؤرخ الصهيوني في علوم الاستراتيجية “إدوارد لوتفيك” (Edward Luttwak) إن “العدو لا يتصرف على أرض المعركة كما نريده أن يتصرف“.

العدو مرآة لمستقبلك

ضمن هذا السعي نحو التغيير، يوصي “كوخافي” جميع الضباط والجنرالات في الصف الأول والثاني من قيادة الجيش قراءة كتاب: “التحوّل تحت النيران: توليد الثورة في أسلوب أمريكا القتالي”(Transformation Under Fire: Revolutionizing how America Fights) للكاتب الأمريكي “دوغلس مكريغور” (Douglas MacGregor) يحاول الكتاب بناء فهم جديد لحروب أمريكا في بدايات الألفية، ويتناول فيها “مكريغور” أهمية خلق التحول والتغيير لما شكلته الحروب الجديدة من تحدٍّ جديد، خاصة في خضّم الحرب الأمريكية على “الإرهاب” والتي تخلّلتها عمليات عسكرية في جبهات متعددة وحاجات مستجدة نبعت من اختلاف شكل العدو.

يقدم “مكريغور” محاجَجة رئيسية حول أهمية القوة البرية في الحروب الجديدة، فهو يسلّم أنَّ أمريكا تمتلك تفوقاً في أبعاد الحرب الأخرى، أي في القوة الجوية والبحرية، وأنَّ أنظمة المعلومات التي تتعاطى معها هاتان القوتيْن هي أقل إشكاليةً بحكم الطبيعة الطوبوغرافية للبحر والجو، أي بحقيقة أنّ الحرب تخوضها تلك الأسلحة في فضاء مفتوح و أحادي اللون والشكل-البحر والجو. 

لهذا فإنّ جل تركيز الكتاب ينصبُّ على شكل القوة البرية وعلاقتها بالاستخبارات والتقنيات الجديدة، وضرورة ملاءمة الحاجات التقنية لشكل القوة البرية، وليس العكس، أي أن لا تخضع القوة البرية لمنطق التقنية، أو يصبح شكل القوى البرية رهين المنصّات التقنية التي عادة ما تحمل أيضاً “ثمناً مادياً عالياً” ينهك ميزانيات الجيش، ويفرض على الجيش شكل وعدد وعدّة القوة العسكرية التي تخوض المعارك البرية.

ضمن هذا المسعى، يدّعي “مكريغور” أنّ الجيش الأمريكي لم يعِ حقيقة انتهاء الحرب الباردة واختلاف التحديات العسكرية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والتي تتمثل أساساً ببيئة استراتيجية متغيرة تتخللها حروب غير متماثلة وتحديات دولية جديدة أهمها الصعود الاقتصادي والعسكري المتسارع لما يمكن تسميته بنشأة “منافس نظير” (Peer-Competitor) للولايات المتحدة الأمريكية المتجسد بالصين.

يدرك غالبية الباحثين في دراسات الحرب أهمية التغيرات الاجتماعية والثقافية في الدول الغربية وما أنتجته من ضعف بنيوي مرتبط بانتهاء الحرب البطولية، واتخاذ المجتمعات الغربية عموماً مواقف متوجِّسة من الحروب المكلفة اقتصادياً ودموياً، خاصة في ظل التغييرات الديموغرافية والاقتصادية التي تسارعت في العقود الثلاثة الماضية، بما فيه النزوح نحو نمط إنتاج نيو-ليبرالي وتفكك شكل الأسر الكبيرة وانحسارها بعدّة أفراد، ما فرض أيضاً انحساراً بقدرة تلك العائلات على تحمل تكلفة الحرب الباهظة، وهذا أيضاً جزء من رؤية “مكريغور” الأوسع. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى تفكك الثقة مع المؤسسة العسكرية ومن ورائها المؤسسة السياسية في الغرب بسبب دخول حروب لم تعد المجتمعات الغربية تراها “ضرورية”، خاصة في أفغانستان والعراق، بما فيها توظيف الكذب والخداع في تبرير تلك الحروب.

ولكن ماذا يعني هذا المسعى المستجد للتغيير؟ وكيف يمكن لنا تلمسه في المعارك التي خاضها الجيش الصهيوني منذ العام 2014؟ يتطلب التغيير أولاً تحديد ما الذي يحتاج إلى معالجة، وبعد تعريفه بدقة يتم توفير حلول مختلفة، فهي تتضمن شكل وترتيب القوى (Force Structure)، واستحداث علاقة أكثر انسجاماً ما بين العامل التقني والعامل الإنساني، وتتضمن أيضاً ربط هذه التحولات المنشودة بالأهداف الاستراتيجية والسياسية من وراء الحرب. ولكنَّها أولاً وقبل كل شيء عليها أن تتَّسق مع الكيفية التي يشخّص ويتخيل فيها الجيش الصهيوني “عدوَّه”.  لهذا يطرح “مكريغور” ما قدمه سابقاً “صمويل هانتغتون” (Samuel Huntington) حول ضرورة الإجابة على ثلاثة أسئلة مترابطة: من تحارب؟ وأين تحارب؟ وكيف تحارب؟ تشكل هذه الأسئلة محوراً مهماً في قدرة إنتاج نظرية ما حول النصر. ويمكننا إضافة سؤال مركزي آخر، ماذا تريد؟

تشكل الإجابة على هذه العناصر الأربعة خلفية مهمة “للسعي نحو التغيير”، وفي صلب هذا الفهم هناك ما تعتبره البنية العسكرية عدوَّها. والآليات التي تشخص به هذا العدو والتي بُنيت عبر سنين طويلة من المواجهة مع تلك القوى يرافقها عمل استخباراتي مضنٍ يهدف إلى فهم واستيعاب شكل وسرعة وسعة التغييرات الحاصلة عند هذا العدو/المقاومة، ويمكن تلخيصها بالتالي: عدوٌ متخفٍ ومنتشر ولا يملك العديد من مراكز الجاذبية (Lack of Centers of Gravity)، ولديه قدرات هجومية تتمثل بالصواريخ ومضادات الدروع والعمليات الخاصة، مع تطور ملحوظ في القدرات الجوية المبنية على أسراب من الطائرات دون طيار وغيرها من الآليات الموجهة عن بعد.

كما أنّه في العديد من الأدبيات الجديدة يتزايد الاهتمام بقدرات المقاومة في لبنان، تحديداً على تنسيق وخوض “مناورة برية” صغيرة ومتوسطة بما يقتضي ذلك من لوجستيات وآليات وقدرات على حماية الصفوف الخلفية والتغلغل الهجومي. 

هذا التطور الهجومي على محدوديته في القراءات الصهيونية للمقاومة يشكل عاملاً جديداً ومهماً. أولاً؛ لأن المقاومة بدأت فعلاً بتجاوز البناء الدفاعي لقواتها، والذي وفّر لها أفضليةً بالحروب البرية التي تخاض على أرضها، وقد مكَّنها تاريخياً من الاحتدام المباشر ضد تلك القوات ضمن بناء هندسي يُعطي لعناصر المقاومة القدرة على تحديد موقع وشكل المبادرة في لحظة الاحتدام المباشر والاختفاء السريع. 

ثانياً، هذا يعني أنَّ فضاء المعركة البرية لم يعد فقط يُخاض على الأراضي العربية، ولا يقتصر بالضرورة على مناطق عازلة كالجولان السوري وصحراء سيناء. لهذا لم تكن عملية “الدرع الشمالي” -والتي أدت إلى تدمير أكثر من ستة أنفاق هجومية- سوى جزء من هذه المعركة الأكبر التي تدور حول سؤال: أين ستُخاض المعركة القادمة؟ وبقدرة تلك العملية على تخريب حسابات المقاومة فيما يتعلق بأيّ مناورة برية تخطط لها في الجليل الأعلى. بمعنى أنَّ جزءاً من الاستراتيجية الدفاعية الحالية – بناء جدار تحت أرضي في غزة، والعوازل والجدران في الجليل، وإيجاد الأنفاق الهجومية وتدميرها- هي معركة على تخريب هذه القدرة المتعاظمة عند المقاومة.

علاوة على ما سبق، لا يمكن إغفال الخلفية العلمية والفلسفية التي توظَّف في بناء نموذج مستحدث من النقد الذاتي، بما فيها تأثيرات التطور في علم الادراك المعرفي وعلم الحواسيب في تطوير رؤية جديدة لشكل القوة ووظائفها التكتيكية والعملياتية.

يرافق هذا التركيز على الإدراك المعرفي وعلم الحواسيب التعويلُ على مفاهيم خرجت من المدارس ما-بعد البنيوية، كالتحليل “الجنيولوجي” التاريخي الموظَّف بكثرة بالحوليات العسكرية الصهيونية، والتي تم استحداثها في محاولةٍ لفهم تفكيك المفاهيم الراسخة داخل بنية الجيش، وتعليل أسباب تشكلها وما تضمنته من افتراضات، والبناء على هذه العملية في خلق أفق لتغييرات كبرى في المفاهيم الأساسية للحرب وطبيعتها. 

كما أنَّ الحديث عن العلوم لا يقتصر فقط على ما تفضي إليه من تقنيات، بل أيضاً لما تحمله من حمولة “فكرية” تتداخل في عمليات تشكل المفاهيم الأساسية التي يبني عليها الجيش الصهيوني فهمه للحرب، كمفهوم القوة المتداخل مع الفيزياء الميكانيكية لنيوتن، ومفاهيم الفضاء والوقت التي ترتبط بالفيزياء النسبية التي قدمها لنا آينشتاين، ودور تقنيات المستقبل على إسناد الجيش واجتراح النصر.

بمعنى أن جزءاً من النقد الحالي يندرج أيضاً في إطار إعادة بناء المعجم العسكري نفسه، بحيث يكون هذا المعجم متوائماً مع شكل “العدو/المقاومة” المُتخيّل الذي يدرسه الجيش الصهيوني بما فيه تلك الافتراضات التي تحملها المعاجم العسكرية التي تستوحي جزءاً من بنائها على الخطاب العلمي. 

وبعيداً عن تشخيص شكل وطبيعة العدو، يبقى السؤال المهم حول الكيفية التي يكون فيها التغيير جسراً يربط ما بين توظيف القوة العسكرية وتحقيق الأهداف السياسية للحرب؟ هناك ثلاثة أبواب رئيسية لشكل وطبيعة التركيز في الحوليات العسكرية: أولاً، العلاقة بين التقنية والبنية المعلوماتية للجيش وبين هيكل القوة في الجيش الصهيوني. 

وثانياً، مركزية الاستخبارات في العمليات العسكرية، والتي يتم التشديد على كونها جوهرية في التخطيط على أيّ مستوى عملياتي، يتضمن محاولة بناء دقيق لخرائط بكل المواقع التي تتحصن فيها المقاومة، وكل المواقع التي يتم منها إطلاق الصواريخ وغيرها من أشكال المعرفة التي تمكَّن عملية التخطيط من مناورات جوية وبرية وبحرية باستخدام القوات الخاصة. 

وثالثاً، محاولة صياغة شكل جديد “للمناورة البرية” قادر على التعامل والتكيف مع المقاومة “كعدو متخفٍّ” (Disappearing Enemy)، بما فيها التشديد على دور خاص ومتعاظم للقوات الخاصة. وهنا نجد مفارقة -ليست ببسيطة- وهي أنَّ الجيش الصهيوني من خلال مشاهدته وتحليله للمقاومة وبنيتها وتكتيكاتها يتخذ من بعض جوانب المقاومة نموذجاً استرشادياً؛ إذ يحاول الجيش أن يخطو خطى المقاومة، فيسعى لأن يكون “متخفِياً”، و”قاتلاً”، و”مرناً”، بل ويحاول أن يرحل نحو هجانة تحرِّرُه من هرمية بيروقراطية توفر له قدرة القتال الأفقي غير المنوط بالهرميات الصارمة المعتادة في الجيوش. ومن المهم التنبيه على أنّ هذا ليس بالضرورة واقع قواته البرية، ولكن هذا ما تنقله دراسات عديدة تسعى إلى بناء هذا التحول، أو تصارع على شكل القوة البرية الممكنة في مواجهة المقاومة في لبنان وغزة كمفهوم الـ(Land Ahead).

قد يكون هذا الحديث المتكرر عن “التغيير” محاولة لتحرير المُخيلة وانفتاحاً على توظيف الأدوات التي يمتلكها الجيش ولكن بطرق مستجدة. ونستطيع لمس أثر بعض هذه المحاولات على عدة محطات في المواجهة “ما بين الحروب”، بما فيها نجاح العدو في الوصول إلى شخصيات مركزية بقيادات المقاومة في غزة ولبنان وإيران. كما الأمر في نجاحه على المستوى العملياتي في منع عمليات انتقام تطال قواته في لبنان، تضمنت اختلاقَ “الحيلة” كجزء مهم في الأدوات التي توظف بكثرة في العمليات العسكرية الجديدة. كما أن عناصر هذا التغيير لا تلبث حتى تعود في معركة “سيف القدس” من خلال محاولات وضع وحدات قتالية من المقاومة في غزة؛ من خلال عملية خداع يلحقها قصف موجَّه مبنيّ على إعادة بناء رقمي لشبكة الأنفاق ومواقع تواجدها، إذ تكون هذه العملية – تحديداً – أساساً لاجتراح صورة النصر المطلوبة في الحرب على غزة (عملية المترو).

تهدف هذه الممارسات المستجدة أولاً وقبل كل شيء إلى إعادة الثقة بقدرة القوة العسكرية على خلق واقع جديد؛ إذ يكون الإبداع الخلّاق في التغيير عجلةَ دفعٍ تساهم في إعادة تعريف الممكن سياسياً. لهذا وبالرغم من أهمية الأهداف المنشودة التي تزخر بها العديد من المقالات على المستوى “العملي” والتكتيكي والاستراتيجي، إلا أنّ الحديث عن مركزية “المناورة البرية” في إمكانية الحسم والتطرق لها بكثرة يعبّر من جهة، عن موقعها السياسي المتوتّر وعن تردّد القيادات السياسية (الطبقة المدنية) في توظيفها في الحروب (Maneuver Reluctance). ومن جهة أخرى، تعبر عن ضغوطات الجيش وقيادته على الطبقة السياسية بضرورة المناورة البرية ومركزيتها كعنصر أساسي في نظرية العدو حول النصر.

كما تعبر أيضاً عن مقاومة الجيش للمحدّدات السياسية التي تفرضها الطبقة السياسية على طبيعة الأهداف المنشودة من الحروب، بحيث يحاول الجيش إعادة تعريف فضاء الممكن استراتجياً. بهذا المعنى هي محاولة لصنع آليات الترميم النفسي أولاً وقبل كل شيء، والتي تتيح إعادة بناء الثقة بقدرة الجيش على حل معضلة المقاومة وتأثيرها المتعاظم على التماسك الاجتماعي الصهيوني. 

عملية المترو: الخدعة المُكلِفة

شكّلت عملية المترو في الحرب الأخيرة على غزة مثالاً واضحاً على التقاطع بين عدة عناصر في الحروب الجديدة إجمالاً، ومنها: أهمية المعلومات الاستخباراتية في بناء نموذج إرشادي تمثيلي يعتمد على الخرائط -الجيولوجية والأرضية- التي حاولت “بدقّة” تحديد مكان وجود شبكة أنفاق المقاومة؛ وتصميم عملياتي مبنيّ على قراءة تاريخية لتصرفات المقاومة الفلسطينية في حال وجود اجتياح برّي؛ والعلاقة مع الإعلام لخلق إمكانية الخداع من خلال الإعلان عن مناورة برية دون أي نيّة جادة للإقدام عليها. 

إحدى أهم ركائز هذه العملية هو العمل الاستخباراتي المهم الذي ذهب في عملية بناء خرائط تحدّد بالدقة موقعَ شبكة الأنفاق التي تمتلكها المقاومة والتي تعتمد على عدة مصادر استخباراتية – تسريب من بيئة المقاومة نفسها ومن خلال أجهزة اعتراض للتواصل ما بين وحدات المقاومة، ومخلفات عمليات الحفر وبناء الأنفاق والمجسّات وغيرها من الأدوات المتاحة. هذا بالطبع إن افترضنا أنها نجحت فعلاً بالوصول إلى بنية الأنفاق كما تدعي. 

كما أنَّها تشير إلى الأهمية التي يعزوها الجيش في تصميم عملياته للمعلومات والبيانات وتحويل تلك البيانات إلى مجسمّات إرشادية تمثيلية – في هذه الحالة بالتحديد يتم رسم خرائط للشبكة ومواقعها ضمن حسابات تضمن خط العرض والطول، ومن ثم إضفاء عنصر “إبداعي/خداعي” يرتبط بالتمويه بحدوث عمليات برية طويلة تطال شمال قطاع غزة وتؤدي إلى دخول المقاومة إلى الأنفاق ومن ثم تحويل الأنفاق إلى فخ موت للعديد من المقاومين.

كما أنّها ارتسمت كعملية من خلال بناء قدرة هجومية قادرة على استهداف الأنفاق من الجو، ما تطلَّب اختبارات مسبقة لهذه الإمكانية. كانت هناك عدة مؤشرات ومعطيات سابقة نبّهت إلى قيام العدو ببناء التصميم لعملية المترو، والتي أشارت إلى مخطط يستهدف الأنفاق وبنيتها التحتية في غزة، وبناءً عليه تمّ توقّع تصميم العملية، من قبيل: العمليات الخاصة التي كُشف البعض منها، فضلاً عن استهداف قوة تحت-أرضية لحركة الجهاد الإسلامي على حدود القطاع التي أدّت إلى استشهاد 12 مقاوماً في العام 2020.

قدَّم الصهيوني تفسيراً بسيطاً للسبب الذي فشلت على إثره العملية، وقال إنَّ سببها هو تواصل صوتي بين ضابطيْن من خلال اللاسلكي أدى إلى انكشاف خطة المترو. بالرغم من أهمية هذا التفسير بالمعنى الإجرائي، إلا أنَّه أيضاً ينمّ عن “نقص في الوعي الذاتي” عند العدو، بل نقص يشارف على تقدير مبالغ به للذات. جزء من البحث المضني والتساؤل حول دخول الجيش يدلّ على أنَّ الفاعل نفسه لا يقرأ نفسه بشكل جيد ولا يحلل الكيفيةَ التي يقرأها فيه عدوه بشكل جيد أيضاً.

رافق عملية الإعلان عن عملية برية واسعة في غزة ومنذ اللحظة الأولى شكٌّ عند الصحافة التي تلقّت الخبر. هذا الشك لم يأتِ لأنّ الصهيوني غير قادر على الدخول البري، ولكن لأنّ الصهيوني بالتأكيد سيكون متردّداً في دخوله بحملة بريّة مكلفة، خاصة وأنّه يدّعي قدرته ويسوّق لها من خلال القبة الحديدية على تدمير الصواريخ في الجو، بحيث أصبح رهين َذلك الادّعاء بكفاءة القبة نفسها، وأضحى الدخول في حملة برية يحتاج إلى ثمن أكبر من إطلاق الصواريخ، على الأقل على مستوى المجتمع الدولي وحتى المجتمع الصهيوني نفسه. وبالتالي، فإنّ الحديث عن الكفاءة التي ترتبط بالقبة الحديدية هو حديث غير منسلخ عن عمليات التحصين النفسي الداخلي، والبعد العملياتي الفعلي ومحاولات الترويج للقبة كسلعة يمكن بيعها لدول كبرى. ذلك أنَّ العدو لا يشارك البيانات التي ترتبط بهذه التقنية ونجاعتها. 

كما أن تردده في الدخول البري هو نتاج عوامل بنيوية اجتماعية وسياسية، وتجارب دموية سابقة حين أقدم الجيش الصهيوني على دخول لبنان في العام 2006 وغزة في العام 2014. والشك بأنَّ العدو سيقدم على المناورة البرية هو وليد هذا التاريخ الدموي قبل أن يكون فقط نجاحاً استخبارياً. هو تاريخ يصاحبه قلق تمكُّن المقاومة من عملية خطف جنود إضافيين، وقلقٌ من منح المقاومة نصراً واضحاً. لهذا اختار الجيش الصهيوني في معركة سيف القدس أن يضيّع فرصة توجيه ضربة مؤلمة للمقاومة -بعدم الدخول البرّي الفعلي لقطاع غزة- وهي فرصة لو نجحت لكانت توازي ضربات مباغتة شبيهة في عديد من حروب وجولات عربية مع هذا الجيش.

باختصار، قدّم الصهيوني ثلاثيّة مهمة في مسعاه نحو التغيير: الأول، التحول بشكل أوسع نحو أنظمة معلومات ومراكز قيادة وتحكم ذات طبيعة تحاول أن تطابق بين الواقع والنماذج الإرشادية لهذا الواقع (مثل: الشاشات التي توفر المعلومات وقدرة القيادة على قراءة تلك المعلومات والتخطيط لعمليات من خلالها). حيث يوفر هذا البعد إمكانية تخطيط عمليات معقدة تشبه أو تتقاطع مع عملية المترو. أما الثانية فتتمثل بتقديم استراتيجية دفاعية تعتمد على بناء جدران ذات أبعاد وإمكانيات وفضاءات مختلفة، وتقوم أيضاً على بناء أسلحة دفاعية توفّر غطاء من الهجمات الصاروخية والوحدات الخاصة والأنفاق الهجومية. فضلاً عن ذلك، فإنّ هذه الاستراتيجية الدفاعية تحاول خلق عازل ومسافة آمنة بينها وبين العدو، بحيث لا يستطيع العدو ضرب قوات الجيش الصهيوني كما حدث في غزة من خلال تواريها عدة كيلومترات بعيداً عن الحدود مع القطاع.  

وبالنهاية قدَّم الجيش الصهيوني أيضاً نموذجاً لعمليات ممكنة مثل المزج بين الاستخبارات وعمل الوحدات الخاصّة والطيران الحربي والخداع والذي تكثَّف بعملية استهداف الأنفاق. 

يمكن لنا التماس هذا التوسع في القدرات كما التوسع في بناء قدرات ترتبط بالحرب التحت-أرضية، مثل: تدمير أنفاق هجومية من لبنان، وعملية المترو، وبناء الجدار التحت أرضي في محيط قطاع غزة، واستخدام أكبر للخداع. كما أننا نلتمس أنَّ معضلة الدخول والمناورة البرية ما زالت تؤرق الجيش وصانع القرار السياسي، فهي تبقى مكلفة بالرغم من التضخم في الأدبيات التي تؤكد على أنها ضرورية. وبهذا الصدد تحديداً، كان يمكن أن تكون خطة المترو فاتحة حربٍ برية أو مناورة محدودة حقيقية، ولكنها لم تكن لأسباب ترتبط بهذا التحفظ الاجتماعي والسياسي على توظيف الجندي الصهيوني، ولربما أيضاً تتعلق بالطموحات السياسية والشخصية لدى قادة الجيش نفسه. ولا يمكن القفز عن الدور الهام الذي لعبته استخبارات المقاومة بمختلف فروعها بإفشال هذه العملية. ما عنى أيضاً أنَّ الخطة لم تنتج النتيجة المرتجاة، ولم تحقق صورة النصر التي كانت تمتلك إمكانية أن تحققها.  

خاتمة

استندتُ في بناء هذا المقال المكثّف على العديد من الدراسات الصهيونية باللغتين العبرية والإنجليزية. وهنا أشير إلى ضرورة الانتباه إلى عدة قضايا؛ أولاً أنَّ العديد من هذه الدراسات والأبحاث هي أقرب إلى أوراق عمل تقاتل على مستقبل الجيش ولا تنسلخ عن التناقضات الاقتصادية والشخصية لكتّابها. ثانياً، أنّ هناك مجموعة من العوامل التي تؤثر في عملية تبنّي التقنيات والأدوات العملياتية والتكتيكية والتي يمكن فصلها عن السياق الاستراتيجي والاقتصاد السياسي المثقل بما يمكن تسميته “الباب الدوار” عند العدو، أي في انتقال الضباط ما بين الوحدات العسكرية المتخصصة في أنظمة المعلومات والقدرات السيبرانية وما بين اقتصاد صناعة التقنيات العالية في المجالات المدنية. 

يشكل هذا الانتقال وما يوفّره من وظائف تدرُّ دخلاً، حافزاً كبيراً لدى النخبة الاجتماعية الصهيونية، والطلبة الأكثر ذكاءً ممن يمتلكون قدرات تحليلية عالية على التقدم لتلك الوحدات المتضخمة، إذ يقدَّر عدد العاملين في أجهزة الاستخبارات بالجيش والموساد والشاباك أكثر من 40 ألف عنصر. أما ثالثاً، هذا لا يعني بالضرورة أن الجيش الصهيوني نجح بخلق حالة تحوّل دائمة أو أنّه سيقدِم على التغيير في كافة المجالات التي تطرّقنا إليها، لأنّه كما يؤكد العديد من الكتّاب هناك مقاومة داخلية لكل أشكال التغيير المقترحة، والأهم من ذلك أنّه عادةً ما يأتي التغيير على شكل استمرارية، فهو لا يتضمن انقطاعاً تاماً مع ما سبق، وأحياناً ما يأتي على شكل المزيد مما هو أصلاً موجود. 

وأخيراً، وبالرغم من النقد الدائم للتقنية في العديد من هذه الأبحاث، ولكنها تزخر بتناقض صارخ يعبر عن عقدة متعاظمة ترتبط بالعلاقة ما بين التقنية والإنسان (لعنة التقنية). فمن جهة يتم التأكيد على أنَّ التقنيات لوحدها لا تكفي، وأنَّ التقنية لا تشكل حلاً سحرياً بل تطرح معضلاتها الخاصة حتى عندما تساهم في حل إشكاليات واقعية ومادية ملموسة، فضمن منطق الحلّ نفسه تولّد مشاكل جديدة، بما فيها أنَّ التعويل على التقنية يعني الابتعاد عن المناورة البرية، والابتعاد عن المناورة البرية أيضاً يعني عدم القدرة على حسم المعركة كما تؤكد كل الدراسات. بالرغم مما سبق، إلا أن جميع الدراسات بالنهاية تؤكد على ضرورة الاستمرار في بناء وتطوير التقنيات المختلفة وإقحامها كارتكاز أساسي في العمليات العسكرية بتنوعها.

غالبية هذه الأبحاث تفترض التالي: إنَّ مزيج المعلومات الاستخباراتية الدقيقة التي تعوّل على المجسّات والعنصر البشري والسايبر والمتصلة بشبكات معلوماتية آنية وهياكل قوة ملائمة، بما فيها توافر برتوكولات سريعة، تستطيع تعظيمَ القدرة العسكرية الصهيونية ومضاعفة أثرها على أرض المعركة. وحيثما توافرت قوات بريّة سريعة ومرنة متحررة من عمليات السيطرة المركزية وتمتلك أدوات هجومية ودفاعية ملائمة لطبيعة العدو المتخفي تستطيعُ تحقيق نصر بريّ والتغلب على الخصم خاصة في حالة استدخال أدوات على شاكلة أسراب الطائرات التي تستطيع تحديد موقع العدو المتخفي أو المموَّه في المجال البيئي المباشر لموقع القوات المتوغلة، وتوفير وعي مكاني أكبر للجيش المتوغل. 

وعليه، تشكل العناصر السابقة -الاستخبارات وأجهزة تمثيل الواقع وبناء قوة برية ملائمة أفقية وتمتلك وعياً مكانياً وآليات حماية مختلفة- مع التركيز على دور “العبقرية” بما فيه الإبداع بتصميم العمليات، الأسسَ الناظمة لنظرية النصر الجديدة.