قد يكون كتاب الباحث الصهيوني شمعون شامير والمتخصص في تاريخ مصر “غصن الزيتون: قصة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة”، أحد أهم الكتب التي صدرت مؤخراً حول الاستشراق الصهيوني. الكتاب الذي يقع في 465 صفحة من القطع المتوسط يوّثق تاريخ العلاقات الأكاديمية الصهيونية المصرية وشبكة العلاقات المتداخلة بين الطرفين منذ السبعينيات حتى اليوم. سنحاول في هذه المقالة عرض أهم القضايا التي طرحها شامير في كتابه.

*الصورة لشمعون شامير، صاحب الكتاب، مع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات

قد يكون كتاب الباحث الصهيوني شمعون شامير والمتخصص في تاريخ مصر “غصن الزيتون: قصة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة”[1] أحد أهم الكتب التي صدرت مؤخرًا حول الاستشراق الصهيوني (صدر في نيسان 2016 عن مطبعة جامعة تل أبيب). الكتاب الذي يقع في 465 صفحة من القطع المتوسط يوّثق تاريخ العلاقات الأكاديمية الصهيونية المصرية وشبكة العلاقات المتداخلة بين الطرفين منذ السبعينيات حتى اليوم. سنحاول في هذه المقالة عرض أهم القضايا التي طرحها شامير في كتابه.

يحاول شامير في الباب الأول لكتابه رسم صورة لواقع العلاقات المصرية الصهيونية وتطورها بعد توقيع اتفاقية السّلام عام 1979. يتطرق بداية لما يسميه “الهواجس العدائية بين الطرفين، وغياب الثقة المتبادلة، وبناء التصورات النمطية”، وفيما بعد يتحدث عن النقاش الحادّ الذي أثير في الكنيست الصهيوني حول اتفاقية السّلام، ويتطرق كذلك للجهود الكبيرة لأطقم المفاوضات من الطرفين التي عملت على “جسر الهوة” بين وجهات النظر المختلفة، والتي أثمرت فيما بعد اتفاقية السّلام المصرية الصهيونية.

بعد توقيع اتفاقية السّلام، انطلق مشروع التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني على كافة المستويات. الكاتب نفسه كان من أوائل الكتاب الصهاينة الذين يزورون مصر. ففي أيار 1979 وصل شامير إلى مصر بدعوة من مركز الأهرام، وذلك لحضور ورشة عمل بحثية جمعت بين أكاديميين صهاينة ومصريين.

وقد شارك في تلك الندوة من الطرف الصهيوني كلّ من المؤرخ جبرائيل كوهين، المختص في التاريخ الصهيوني ومؤسس معهد دراسة الصهيونية في جامعة تل أبيب، وأمنون روبنشتاين عضو كنيست سابق وعميد سابق لكلية الحقوق في جامعة تل أبيب، وجبرائيل فيربرج من جامعة حيفا وهو مؤرخ تاريخ مصر والسودان. فيما شارك من الطرف المصري كلّ من خيري عيسى عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة القاهرة، والطبيب عصام الدين جلال إضافةً للدبلوماسي المصري تحسين بشير وغيرهم[2].

ستشكلُ هذه اللقاءات فيما بعد رافعة لبداية شبكة علاقات طويلة ومركّبة بين الأكاديميا الصهيونية وبعض أفراد الأكاديميا المصرية. كانت إحدى معالم البداية عندما اتخذت جامعة تل أبيب قرارًا بإقامة “مركز كابلان لدراسة تاريخ مصر وإسرائيل” في نيسان عام 1980، تم على أثره تعيين شامير رئيسًا للمركز. وقد تمت دعوة باحثين مصريين لحفل تدشين مركز “كابلان”، فحضر وفد مصري منهم الدكتور حسين فوزي والذي كان عميدًا لجامعة الإسكندرية، والذي حصل على دكتوراة شرف من جامعة تل أبيب، بالإضافة إلى الدكتور أحمد جمعة وغيرهم.

وقد انطلق شامير لأداء دوره بحماس في إدارة هذا المركز، يُشجّعه في ذلك كما يدّعي وجود شخصيات مصرية ثقافية وأكاديمية تؤيد مشروع السّلام كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وغيرهم، وذلك بالإضافة لما يصفه أنه “تاريخ العلاقات اليهودية المصرية الذي يمتد لآلاف السنين”.

سيكون لشامير بعدها زيارات كثيرة لمصر، حيث سيلتقي بأنور السادات في يوليو 1980، حيث دعا السادات شامير بعد نشر الأخير مقالًا في صحيفة “أكتوبر”. استمر اللقاء حينها عدة ساعات، أبلغ السادات فيه عن وفد أكاديمي مصري سيزور دولة الاحتلال بهدف تطبيع العلاقات الأكاديمية.

وقد وصل هذا الوفد نهاية عام 1980 يترأسه الدكتور مصطفى خليل، والذي كان في الماضي رئيس الحكومة المصرية ونائب رئيس الحزب الحاكم آنذاك، والدكتور بطرس بطرس غالي والذي كان عميد كلية العلوم السياسية في جامعة القاهرة (ومعه محاضرون من الجامعة لم يذكر شامير أسماءهم)، إضافة إلى الدكتور علي عطية من تخصص اللغات الشرقية في جامعة عين شمس وكان حينها باحثًا زائرًا في تخصص الأدب العبري في جامعة تل أبيب.

حيث تجول أعضاء الوفد في حرم جامعة تل أبيب ومن ثم تلقوا شرحًا حول مجموعة من المشاريع العلمية والتكنولوجية والتي تفتخر بها الجامعة. ومن ثم بدأت بعدها جلسات حوار افتتحها رئيس جامعة تل أبيب، والذي رحب بالحضور، ثم تلاه شمعون شامير والذي تحدث أنه “ما زال هناك عدم فهم في مصر حول شعب إسرائيل وثقافته ورغم التحسن الذي طرأ مؤخرًا إلا أن النصوص المناهضة لليهودية لا تزال منتشرة، وكذلك الواقع أيضًا في الجانب الإسرائيلي”، حسب قوله.

كانت المتحدث الرئيسي من الضيوف الدكتور خليل والذي أكد أن المصريين يرون في اليهودية إحدى الديانات الثلاثة، معترفًا بالجذور التاريخية لليهود، ولكنه يرى بأنهم أبناء ديانة يهودية وليسوا كيانًا قوميًا. ردّ عليه بعدها كل من البروفيسور تسفي يعفتس، دافيد فيتيل، ساسون سومخ، ويورام دينشتاين. ورغم ذلك في نهاية اللقاء تذمر بعض الحاضرين اليهود من كون البروفيسور مصطفى خليل معادٍ للسامية. بعد ذلك حاول شامير تحليل وتفكيك خطاب مصطفى خليل ليثبت أنه رجل سلام يمكن بناء جسور تواصل معه، وأن الاشكالية فقط في تفكيك المفاهيم الخلافية بين الطرفين، وأن خليل نفسه يعتبر مطبعًا وخائنًا لدى الكثيرين في الجانب المصري.

غلاف الكتاب

في بيوت الأكاديميين المصريين

يسرد شامير في كتابه تفاصيل الكثير من الزيارات التطبيعية بين الأكاديميا الصهيونية وأطراف مصرية، وسيظهر شامير كمستشرق متمرس محللًا النظرات المسبقة بين الطرفين والصور النمطية المُشكّلة لدى كل طرف وكيفية كسر الجليد لتمتين العلاقات.

وفي آب 1981 بدأ شامير بحوارات فكرية وعلمية مع مجموعة من الأكاديميين المصريين، ويروي في كتابه بعضًا من زياراته المنزلية لمجموعة من الأكاديميين المصريين، حيث يورد تفصيلًا بعناوين بيوتهم وتفاصيلها الداخلية. من بين البيوت التي زارها سيكون بيت المؤرخ عبد العظيم رمضان حيث سيلتقيه في بيته في مصر الجديدة، وبيت القاضي سعيد عشماوي شمالي الزمالك، وبيت الأخصائي النفسي الدكتور محمد شعلان وهو أحد أصدقاء شامير المقربين ويقيم في حي المهندسين. وفي إحدى الزيارات دعا شعلان بعضًا من أصدقائه للقاء شامير كان بينهم: الدكتور عبد العزيز نوار من جامعة عين شمس، والدكتور قدري حفني أخصائي نفسي من جامعة عين شمس، وله كتاب عن علم النفس الصهيوني.

أما إحدى أبرز الشخصيات التي ساهمت وستساهم في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني فهو تحسين بشير، والذي كما يقول شامير كان ملمًا بالتاريخ الصهيوني، وبحسب قوله “ما من إسرائيلي حاول شقّ طريق في مصر ولم يجد تحسين بشير، ولم يحدث أن كانت هناك حلقة إسرائيلية مصرية لم يتواجد بها”، وذلك رغم أنه كان الناطق الرسميّ باسم جمال عبد الناصر ثمّ باسم السادات،  وقد اعتاد شامير أن يلتقيه لوجبة الغداء في مبنى نادي التحرير وسط القاهرة.

لكن التعاون الأكاديمي الصهيوني المصري ظلّ تعاونًا فرديًا، وسيظل الموقف المصري الجمعي رافضًا للسلام ولتقبل فكرة “إسرائيل”. ينتقل شامير بعدها وعبر تحليل استشراقي إلى قراءة السياق التاريخي للمصريين والصهاينة والمنظومات اللغوية التي يطوّرها كل طرف عن الآخر، وأثر التحولات السياسية على الفهم والتفكير الاكاديمي للمتحاورين وعليه يقدم للقارىء فكرة عامة عن آلية اشتغال العقل الصهيوني ومنطلقاته في موازاة العقل المصري وآليات اشتغاله. ومن الاجتماعي إلى السياسي يورد شامير بعدها جانبًا من حواراته مع السياسيين المصريين كوزير الخارجية إسماعيل فهمي، وسيد مرعي مستشار عبد الناصر وبعدها مستشار وكاتم أسرار السادات، ومنصور حسن من المستشارين المقربين للسادات والذي عينه لاحقًا وزيرًا للتربية والمعلومات، وبطرس بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية، وصوفي أبو طالب رئيس البرلمان المصري، ويوسف والي وزير الزراعة، وماهر أباظة وزير الطاقة. يقدّم شامير لقارىء العبرية تفاصيل مهمة حول مواقف هؤلاء ورؤيتهم للعلاقات الصهيونية المصرية، بالإضافة إلى شرح المشروعات المشتركة التي كانت ستتم في إطار مناصبهم.

المركز الأكاديمي

في الباب الثاني من الكتاب يتحدث شامير عن دراسته لكافة مراكز الدراسات الغربية الموجودة في مصر كالمعهدين الألماني والفرنسي والمتخصصين في الأركيولوجيا بهدف تقديم مقترح لمعهد دراسات شبيه. بعد ذلك قدّم شامير مقترحًا لوزارة الخارجية الصهيونية تحت عنوان “محطة البحث الإسرائيلية في القاهرة”، وبدأ على إثر ذلك اجتماعات مع ممثلي وزارة الخارجية الصهيونية كدافيد قمحي ويوسف هداس. وبحسب شامير أبدى الصهاينة في آذار 1981 استياءً عارمًا لبطىء تقدم عملية تطبيع العلاقات بين مصر ودولة الاحتلال، واستغل الصّهاينة “حالة الاستياء هذه” لتقديم ورقة المركز الأكاديمي كبادرة حسن نيّة، وقد كان المصريون وقتها قلقين من أن يتأخر الانسحاب الصهيوني من سيناء، فكان الرابح ملف المركز الأكاديمي، وهكذا وافق عليه بطرس غالي وكمال حسن وزير الخارجية المصري بشكل سريع.

بادر شامير حينها لبناء منظومة عمل للتحضير لهذا المركز، وانضم إليه كلّ من البروفيسور نحاميا لفتسيون، والبروفيسور أمنون كوهين من الجامعة العبرية، والبرفويسور جبريئيل فربورج من جامعة حيفا، وقدموا المخطط لمدير “الأكاديميا الوطنية الإسرائيلية للعلوم”، حيث وافق الدكتور شمعون أمير على رعاية الأكاديميا للمركز.

فيما بعد تبدأ فترة من المشاورات وحالة من المدّ والجزر مع المصريين لأجل إتمام الصيغة القانونية والإدارية للمركز. في 25 شباط 1982 تصل الموافقة النهائية على إقامته، وكما يقول شامير فإنها جاءت بضغط من وزير الخارجية الصهيوني “يتسحاك شامير” على نظيره المصري واستيائه من عدم التقدم في نشاطات تطبيع العلاقات، وكبادرة تمت الموافقة نهائيًا على إقامة المركز الأكاديمي. تم شراء مبنى المركز الاكاديمي من إحدى نجمات السينما المصرية وتدعى ماجدة صباحي.

“المركز الأكاديمي الإسرائيلي” يبدأ عمله في القاهرة

لأجل تجهيز المركز ومأسسته، دعا شامير رؤوساء الجامعات الصّهيونية، وإدارة الأكاديميا الصهيونية، وممثلي وزارة التعليم العالي، وممثلي وزارة الخارجية، وأجسام أخرى، حيث تم الاتفاق في الاجتماع على أن تكون أهداف المركز: خدمة البحث “الإسرائيلي”، الشراكة الأكاديمية مع المصريين، وستكون مجالات العمل البحثي هي العلوم الطبيعية، التكنولوجيا، العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبشكل أساسي القضايا الإستشراقية، اليهود، الأركيولوجيا.

أما فيما يتعلق بالمبنى التنظيمي فيتكوّن من مجلس أمناء وإدارة عامة وإدارة داخلية، حيث كان لمجلس الأمناء صلاحية صياغة سياسة المركز والموافقة على خطته المالية وتعيين الإدارة، وقد ضم مجلس الأمناء رئيس الأكاديميا الوطنية وممثلي الجامعات الصهيونية السبعة، وممثلي وزارة الخارجية، وممثلي الشركة الشرقية. وهكذا انطلق المركز حيث تم الاحتفال في اليوم التالي في مكان إقامة الرئيس الإسرائيلي يتسحاك نافون بنجاح الاجتماع وانطلاقة العمل.

مشاريع تطبيعية

في ربيع العام 1982 كانت إحدى مشاريع التطبيع الناجحة التي أشرف عليها المركز الأكاديمي، حيث شاركت بعثة من 180 موسيقيًا مصريًا في مهرجان الربيع في تل أبيب كان فيها: الدكتور يوسف شوقي والذي يذكر شامير على لسانه أنه عمل  على جمع أعمال فنية لـ 120 فنانًا مصريًا لعرضها في الكنيست، على أن تهدى أعمالهم للنواب الكنيست لكل نائب أو وزير لوحة.

كما أشرف المركز على افتتاح معرض في فندق المريديان – فلسطين بعنوان “ربيع وسلام” لثلاث فنانات، إسرائيليتيين ومصرية هي آمال شكري، حيث زار المعرض وزير الثقافة المصري عبد الحميد رضوان. كما عقدت مسابقات شطرنج مشتركة والعديد من المشروعات البحثية.

كل هذا النشاط سيوقفه اجتياح لبنان عام 1982، والذي أجج العلاقات بين مصر والكيان الصهيوني من جديد وعرقل مرحلة تحسن العلاقات. في هذه الفترة فتح المصريون عيونهم على المطبعين كسعيد عشماوي والذي يروي شامير أنه اتصل به قلقًا من كل ما يجري وكيف أن الجميع في مصر بدأ النظر إليه بعين الريبة والغضب.

كانت إحدى مهمات المركز توفير الإمكانيات للباحثين الصهاينة، لكي لا يمروا عبر البيروقراطية المصرية في مشروعاتهم البحثية، بحيث يوفر لهم المركز عناء التواصل مع المكتبات والمتاحف المصرية، ويكون له صلاحية الوصول للمعلومات. كما عمل المركز على إنشاء مكتبة من قسمين، القسم الأول يحوي كتبًا عن مصر وهي لخدمة الباحث الصهيوني، أما القسم الثاني فهو حول دولة الاحتلال وتاريخها واليهود وديانتهم، وهي بالأساس للباحثين المصريين.

مصريون في المركز الأكاديمي “الإسرائيلي”

شكّل المركز نقطةَ استقطاب للطلاب المصريين وإن لم يكن بالعدد والكمية التي أرادها القائمون عليه، لكن ذلك كان مدخلًا لفهم عميق لوعي المصريين، حيث وكما يقول شامير، فإن الكثير من الطلبة المصريين كتبوا قصائد باللغة العبرية وطلبوا من المركز مراجعتها، القصائد على بساطتها – يترجم شامير بعضها –  تعطي صورة عنهم وعن شخصياتهم وتعاملهم. ويلخص شامير بعض صفاتهم التي لاحظها: الشعبوية، البساطة، حب الغير، احترام كبار السن، والحس الإنساني المميز إضافة لاهتمامهم بتقدير الاخرين حين يتلقون خدمات معينة، ولذلك فقد اعتاد الطلبة تقديم هدايا للمركز كتقدير عن الخدمات التي يتلقونها.

لم يقتصر عمل المركز فقط على تقديم خدمات للطلاب المصريين والصهاينة، بل نظّم كذلك لقاءاتٍ مشتركة بين الطرفين. وكان شامير يُسجِّل ويلخِّص مواقف وآراء الطرفين ويدرس كل تفاصيل هذه اللقاءات موثقًا العديد من الحوارات بين الطلبة المصريين والصهاينة، محاولًا فهم الفوارق بين الطرفين. ويعتقد شامير أن الطلاب الصهاينة كانوا يعبرون عن أنفسهم بحرية، يلقون كل ما في جعبتهم دفعة واحدة ولا يتوانون عن قول ما يؤمنون به وإن بدا مزعجًا للمستمع، في حين كان الطلاب المصريون يتكلمون في العموميات أكثر محاولين تنميق أحاديثهم، متجنبين الصدام مع محاورهم، فلا يقولون ما يؤمنون به بشكل مباشر، بل بأسلوب لطيف، وربما يعود ذلك – كما يقول شامير –  للحياة الاجتماعية في مصر التي يحتاج الإنسان فيها أن يكون بعلاقة جيدة مع المحيط الاجتماعي.

الباب الثالث: في حضرة الشيخ امام

يظهر شامير في هذا الفصل كمستشرق انثربولوجي محاولاً فهم آليات اشتغال العقل المصري والإسرائيلي في آن واحد، ومحاولًا استكشاف المميزات الثقافية لكلا الطرفين، ورؤية كلّ طرف للعلوم والمعرفة، للعائلة ووظيفتها الاجتماعية، وعلاقة الفرد بالمجتمع والجهور العام، وعلاقة الفرد بالدولة، والعلاقات الإنسانية في كل مجتمع، والعلاقات الاقتصادية لكل طرف والتوجهات الدينية.

لأجل أن يقوم شامير بمهمته كان عليه أن يتغلغل في البنى الثقافية المصرية كافة على اختلاف مشاربها وتوجهاتها. ولأجل ذلك تواصل شامير مع الرسام محمد علي والذي تعرف عليه خلال زياراته لمركز الفنون الشعبية في الغوري في القاهرة. روى محمد علي لشامير أن سبب كل هذا الغضب والقلق والحزن الذي ينبعث من لوحاته مرده حادثة اعتقال نجم والشيخ إمام والتي أثرت به كثيرًا وجعلته يبدأ مشروعه في الرسم، حيث ستكون لوحاته كلها مساحات من الغضب، مشروع محمد علي ورسوماته الثورة كما يروي هي ما جعله مقربًا بعدها من الشيخ امام ومن الشاعر أحمد فؤاد نجم.

وقد عرض الرسام محمد علي على شامير اصطحابه في زيارة لبيت الشيخ إمام مطلع عام 1984،  حيث قدّمه للشيخ إمام على اعتبار أنه مستشرق أجنبي يحبّ مصر وثقافتها. دار بين شامير والشيخ إمام حوارٌ يحكي فيه إمام عن تجربته ببساطته المعهودة، وقد دوّن شامير تفاصيل الحوار في الكتاب، لا يوجد أي جديد في الحوار بينهم لكن المميز هو محاولة شامير دوماً الوصول لكافة أطياف المجتمع المصري لفهم حقيقة ما يجري هناك. علّق شامير بعدها شارحاً لقارىء العبرية مشروع الشيخ إمام ومن هو دون أن يذكر أية كلمة تُشير لمواقف الشيخ إمام من القضية الفلسطينية، حاجبًا ما ذكره الشيخ إمام عن نضاله ضدّ الكيان الصهيوني، مؤطرًا الشيخ إمام كمطرب الفقراء فقط.

وفي إطار دراسته للبنى الثقافية يزور شامير الزوايا الصوفية بما فيها رواد الطريقة الدمرداشية، ويستضيفه أحمد دمرادش، ويأخذه في جولة هناك، ويصف شامير لقرائه تفاصيل الزاوية واللباس والثقافة والطقوس. أما كيف وصل لأحمد دمرداش فقد تعرف إليه كما يقول في صالون نعمة فؤاد ابنة أمير الشعراء أحمد شوقي وهي فنانة عملت على ترميم كنيس عزرا في القاهرة. ثم ينطلق بعدها شامير في دراسة المهرجانات الثقافية وزيارتها كمولد السيدة زينب في القاهرة والسيد البدوي في طنطا وأبو حصيرة في دمنهور حيث يصف فيها شامير بالتفاصيل مفهوم هذه الطقوس وتفاصيلها.كما يزور حسن فتحي كبير مهندسي البناء المصريين قاطبة ويشرح شامير للقارىء الصهيوني تفاصيل عمله وانجازاته ومشروعاته.

لاقت مشاريع المركز الأكاديمي معارضة مصرية على صعيد الشارع بشكل دائم، حيث كانت تعلو أحيانًا وتخفت أحيانًا وفي شتى محطات الصراع كان الصوت يعلو كما في اجتياح لبنان والانتفاضة الأولى وغيرها، يعطي شامير  لمحة عن النقاشات المصرية الداخلية حول التطبيع وحول الموقف من دولة الاحتلال وتغلغلها في الفكر والثقافة المصريين خاصة في الفترة التي كان بها رئيساً للمركز، كما يعطي القارىء الإسرائيلي مدخلًا لفهم هذا النقاش وأهم الكتب المصرية التي صدرت في هذا الجانب حينها.

وعليه يورد شامير الآراء المصرية المتضاربة بخصوص ذلك، فيورد رأي الطرف الأول والذي يقول أنه لا داع للخوف من الخطر الثقافي الذي تشكل “اسرائيل” لكونها لا تملك ثقافة أصلاً وفي هذا الاطار ضمن كتبت العديد من الكتب كتهويد عقل مصر لعرفة عبده علي و”وصف مصر بالعبري – تفاصيل الاختراق الاسرائيلي للعقل للمصري”  لرفعت سيد أحمد و”المؤامرة الاسرلئيلية  – العقل المصري” لحازم هاشم وغيرها من الكتب.

يحاول شامير تقديم قراءة لما يسميه “أدب الصراع الثقافي” أو “أدب المواجهة” حول ادعاءات المشتغلين في هذا الحقل واليات عملهم ومرتكز أفكارهم وكيف يستقبل المصريون هذه الأفكار وأي صدىً تلقاه.

المكتبات اليهودية ووثائق الجنيزة

كان من ضمن المشاريع التي عمل عليها “المركز الأكاديمي الإسرائيلي” في القاهرة حفظ تراث الطائفة اليهودية في مصر. ولأجل ذلك تواصل المركز مع الكنس اليهودية ومع أبناء العائلات اليهودية المصرية، وجمّع الدراسات والأبحاث التي تتعلق بها. وقد كان حصيلة هذا المشروع أن تم الاتفاق مع مكتبات الكنس على وضع حدّ للاهمال فيها، وانقاذ الوثائق والكتب التي تحويها، ووقف تسريب تلك الكتب للتجار والسماسرة، وبناء مكتبة خاصة في مصر مميزة يتم فيها حفظ جميع الكتب المجموعة من مختلف الكنس.

ولأجل تطبيق ذلك، استقدم المركز خبيرًا مختصًا لهذا الغرض قَدِم من “المكتبة الوطنية الإسرائيلية” في القدس وهو “تسيون شور”. قدّر شور عدد الكتب الموجودة في كنس مصر بحوالي 50 ألف كتاب، تم ترميم 9000 منها، وتم تصنيف 4000 آخرى، وذلك خلال فترة وجود شامير هناك.

إحدى القضايا المثيرة التي ستشعل جدلًا هي نشاطات المركز فيما يتعلق بملف “وثائق الجنيزا – هو مصطلح معروف للباحثين في التاريخ والديانة اليهودية – هو كل وثائق يهودية محفوظة وممنوعة من الإبادة خاصة إذا ذكر فيها اسم الله وهي أيضًا في اللغة العربية تسمى جنيزا”، فقد تنبّه المركز لأهمية الوثائق التاريخية الموجودة في الكنس اليهودية. وربما تكون محاضرة الباحث مارك كوهين عام 1983 قد تركت أثرًا حيث أشار فيها لأهمية وثائق الجنيزة وكم المعلومات التي تحويه حول مصر وتاريخها وجيرانها وعن الحياة الاقتصادية والشرائح الاجتماعية المختلفة وعن العادات والتقاليد.

من هناك برزت فكرة المركز لبناء مشروع يسعى للبحث والتنقيب والدراسة في هذه الوثائق، اعتقد المركز أنه من الأفضل أن يتم العمل باسم مؤسسات أجنبية أمريكية أو بريطانية أو فرنسية وذلك بهدف تجاوز اتهامات التطبيع. لذلك، صُمّمت الفكرة على شكل مشروع ثلاثي تديره جامعة برنستون الأمريكية، وقدّمه مارك كوهين باعتباره ممثلًا لجامعة برنستون كمخطط مشروع لوزارة الآثار المصرية، والتي ردّت بالإيجاب بشرط مرافقتها للحفريات ومعرفتها بكل ما يدور وتحويل المواد للمتحف المصري للفنون الإسلامية لغرض التصنيف والبحث.

شن بعض الأكاديميين المصريين حربًا على المركز وعلى المشروع باعتباره تدخلًا سافرًا بالمقدرات المصرية، كان من بينهم الدكتور ابراهيم بحراوي الذي كتب عدة مقالات مناهضة للمشروع، ومن ثمّ تراجع واعتذر. وكان هناك من أيد المشروع منذ البداية، كالدكتور علي عطية. فيما بعد ضغط المستشرق برنارد لويس باتجاه الترحيب بالمشروع، والذي اجتمع في القاهرة مع عميد كلية العلوم الإنسانية في عين شمس بحضور المؤرخ المصري عبد العزيز نوار وموشي شامير.

انتهاء حقبة

حتى انتهاء حقبة موشي شامير كرئيسٍ للمركز في نوفمبر 1984 لخص الإنجازات كالتالي: استضافة 130 أكاديميًا صهيونيًا، إقامة علاقات مع مكتبات ومتاحف مصرية، تقديم الخدمات لمئات الباحثين المصريين، عقد 24 محاضرة في مواضيع شتى، لقاءات تودد بين مصريين وصهاينة، تعزيز المكتبات اليهودية المحلية. ويعترف شامير بأن المركز فشل في اختراق الأكاديميا المصرية والتعاون أو التشارك مع أي جامعة ولم يتم بناء أي مشروع أكاديمي مشترك، فشل في جذب المصريين للحصول على منح للدراسة في الكيان الصهيوني، فقد حصل على هذه المنح 3 طلاب مصريين فقط.

تناوب العديد من الأكاديميين الصهاينة على رئاسة المركز بعد شامير، وظلّت الإشكاليات هي ذات الإشكاليات، ففي كل مرة يحاول المركز الخروج من ضائقة سياسية يدخل في أخرى، إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى، ومفاوضات السلام، والانتفاضة الثانية وأحداث غزة وغيرها وكلما حاول المركز مراكمة بعض الانجازات سقطت من جديد أمام الواقع السياسي.

قد يكون كتاب شامير مهمًا على صعيد فهم آلية اشتغال الأكاديميا الصهيونية وعلاقتها بالسلك الأمني، ولكن الأهم هو ما تقدمه هذه الأبحاث للقيادة السياسية الصهيونية، فشامير الذي يحاول مرارًا الإشارة لكونه أكاديمي وأن نشاطاته هي بحثية بحت، لا تتوقف اجتماعاته وعلاقاته الدائمة مع السياسيين الصهاينة من وزراء خارجية، وقيادات عسكرية، ورؤساء دولة، كما لا يتوانى عن ذكر بعض النقاشات التي علت في لقاءاتهم.

بعد انتهاء حقبة شامير ودراسته للعقل المصري من خلال المركز، تم تعيينه عام 1988 سفيرًا للكيان الصهيوني في مصر، وفي عام 1995 أصبح أول سفير صهيوني في الأردن بعد توقيع اتفاقية وادي عربة.

*****

المراجع

[1] שמיר, שמעון. עלה טרף: סיפור המרכז האקדמי הישראלי בקהיר. אוניברסיטת תל-אביב, ההוצאה לאור ע”ש חיים רובין, תל-אביב, 2016.
[2] المصدر السابق، ص 71 – 80.