“38 مليار”، هكذا عنونت صحيفة “يسرائيل هيوم”، الموالية لرئيس الحكومة الصهيوني بنيامين نتنياهو، عددها في اليوم التالي للإعلان عن الاتفاق الناظم للمساعدات الأمريكية العسكرية للكيان الصّهيوني. ينصّ الاتفاق على توزيع المعونات – وهي بمجمل 38 مليار دولار – في مدة لا تقل عن 10 سنوات، بمعدل 3.8 مليار دولار سنويًا، أيّ ما يوازي خُمس الميزانية المعلنة للجيش الصهيوني، والتي تبلغ 5.15 مليار دولار سنويًا.
أتى الاتفاق في مرحلة تمرّ فيها العلاقات الصهيونية – الأمريكية ببعض “الأزمات” والتغيرات الشّكلية. فقد شهدت فترة أوباما الرئاسيّة توترات مع القيادة الحالية للحكومة الصهيونية، وكان أهمها الخلاف المتعلق ببرنامج إيران النوويّ، وخاصّة بعد توّجه الولايات المتحدة إلى حلٍ ديبلوماسيّ مع إيران تكلل بتوقيع اتفاقية تحدّ من قدرة الأخيرة على تخطي العتبة النووية، وذلك مقابل إزالة وتخفيف بعض العقوبات الاقتصادية الغربية.
مدعومًا من الحزب الجمهوريّ، ألقى نتنياهو خطابًا وعظيًا في الكونغرس الأمريكي، قدّم من خلاله اعتراضه على الاتفاقية الإيرانية-الأمريكية، وهو الأمر الذي قوبِل بتصفيق حارٍ من أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس، وزاد في نفس الوقت من وتيرة الخلافات مع أوباما، والتي أصبحت الشغل الشاغل في الدوائر السياسية والفكرية الأمريكية والصهيونية. وتضاف هذه الخلافات إلى الصّراع المستمر حول العملية التفاوضية في الملف الفلسطيني والتعنت الصهيوني أمام تقديم تنازلات تفضي إلى اتفاقية سلام وفق الرؤية الأمريكية.
وعلى الرغم من التوتر الظاهر بين رأسي الهرمين، إلا أنهما تمكنا من التوصل إلى تفاهم جديد تفوّق على ما سبقه من اتفاقيات في السّنوات الماضية. يزيد الاتفاق الأخير حصة الجيش الصهيوني من الدعم الأمريكي المباشر وذلك بنسبة 27٪ عن الاتفاق السابق، والذي بوفقه أمدّت أمريكا دولة الاحتلال بما يقارب الـ30 مليار دولار، تنفق بمعدل 3.01 مليار دولار سنويًا.
هنا بعض الملاحظات حول الاتفاق الأخير:
(1) شراء الذمم: يأتي الاتفاق في سياق الإنتخابات الأمريكية التي ستعقد في تشرين الثاني القادم، ولا يخفى أن لدولة الاحتلال أهمية ضاغطة في سياق الانتخابات الأمريكية، وذلك لتأثيرها على السياسة الخارجية الأمريكية من خلال المؤسسات الداعمة ومجموعات الضغط التابعة لها أو الحليفة. تتمحور مجموعات الضغط حول شرائح اجتماعية ذات أهمية سياسية محلية، أهمها شريحة اليهود الصهاينة في أمريكا، وتليها شريحة واسعة من الإنجيليين المسيحيين الداعمين لدولة الاحتلال على أسس إنجيلية-توارتية.
(2) الاتفاق النووي الإيراني: يساهم الاتفاق العسكريّ الجديد في تخفيف وطأة المعارضة الصهيونية للاتفاق النووي الإيراني-الأمريكي، وفي محاولة لإعادة العلاقات إلى مجراها الطبيعي بعد أن عكر صفوها هذا الاتفاق. يشار إلى أنّه تم تأجيل هذا التفاهم العسكري لمدة عام كامل بسبب رفض نتنياهو عقده العام المنصرم. ووجه حينذاك وزير الحرب الصهيوني السابق موشيه يعالون ورئيس الوزراء السابق إيهود باراك انتقادات حادة لنتنياهو لرفضه اتفاق العام المنصرم، والذي كان من المتوقع أن يمدّ الكيان بمساعدات تزيد قيمتها بـ7-10 مليارات دولار سنويًا عن الاتفاق الحالي.
(3) الاستثناء الصهيوني: لم تدعم أمريكا أيّاً من حلفائها كما تدعم دولة الاحتلال، فقد قدّمت الولايات المتحدة لها أكثر من 120 مليار دولار منذ العام 1967. ولكن ما يميّز الدعم العسكري الأمريكي لدولة الاحتلال هو الاستثناء الذي حظيت به الأخيرة، والذي مكّنها على مدار السنوات الماضية من صرف 26٪ من المساعدات المالية العسكرية في مشاريع خاصة، أي في تطوير أسلحة خاصة بالكيان، ودون الالتزام بشرط شراء تكنولوجيا عسكرية أمريكية. يشار إلى أن أحد شروط تلقي المساعدات الأمريكية العسكرية صرف كامل تلك المساعدات في السوق الأمريكي من خلال شراء أسلحة أو تكنولوجيا أمريكية، وهو الشرط المنصوص عليه في اتفاقيات مماثلة مع دول كمصر أو الأردن.
أما الاتفاق الأخير مع الكيان الصهيوني، فإنه يقوم تدريجيًا بإلغاء هذا الإستثناء المقدّم لدولة الاحتلال، أي أنه لن يسمح لها بصرف 26% من هذه المساعدات في مشاريعها الخاصة. يأتي إلغاء هذا الاستثناء بعد نهوض قطاع الصناعات العسكرية الصهيونية، وتمكّن الكيان من احتلال مراكز متقدمة في سوق الأسلحة العالميّ. ويوّزع الاتفاق المنحة المالية ما بين دعم مباشر يصل إلى 3.3 مليار دولار سنويًا ومنحة منفصلة تصل إلى 500 مليون دولار سنويًا وتهدف إلى تطوير القدرات الدفاعية الصاروخية للكيان في محاولة كلا البلدين إضعاف قدرات المقاومة المتصلة بالقوة الصاروخية.
وبعيدًا عن الأسباب الطارئة التي حددت شكل الاتفاق الحالي، فإن مصالح أمريكا ترتبط بدولة الاحتلال بناءً على عدة أسس، منها ما يتعلق بالسياسية الداخلية لكلا البلدين ونفوذ مجموعات الضغط الحليفة لدولة الاحتلال، خاصة أن الأخيرة قادرة على تسليط ضغوطات سياسية على الكونغرس ومؤسسة الرئاسة والرأي العام الأمريكي.
وبالرغم من ذلك، لا يمكن تفسير العلاقة الأمريكية-الصهيونية من خلال المنظور الداخلي فحسب، فالمشروع الصهيوني في فلسطين يرتبط بحلقات تاريخية طويلة تبدأ من الحقبة الاستعمارية المباشرة وتستمر في عهد الإمبريالية الأمريكية.
فالمشروع الصهيوني يشكّل للولايات المتحدة على مدار التاريخ حليفًا دائمًا في الحرب الباردة والصراع الأمريكي على النفوذ والهمينة في المنطقة العربية. كما يقوم المشروع الصهيوني بتوفير خدمات ذات طابع سريّ في سياق دعم أمريكا لحلفائها في مناطق صراع متعددة من إفريقيا، مرورًا بجنوب أمريكا وصولا إلى آسيا، مثل دعم الميليشيات اليمينية في نيكاراغوا، أو توفير غطاء سري لاتفاقية سرية وفرت سلاحًا لإيران مقابل إطلاق سراح الرهائن الأجانب في لبنان، وهو ما عرف بفضيحة إيران-كونترا. ويمكِّن الكيان الصهيوني أمريكا من احتواء وخلق توازنات استراتيجية في مواجهة قوى إقليمية كإيران اليوم والعراق ومصر سابقًا، ويؤمّن الكيان للولايات المتحدة حالة من عدم قدرة أي من الأطراف الاقليمية من المنافسة على الهيمنة على المنطقة.
وتنبع أهمية منطقة الشرق الأوسط من موقعها الجغرافي؛ فهي منطقة وصل ملاحية-بحرية ما بين الشرق والغرب من خلال قناة السويس، وهي المنطقة المحاذية لأوروبا وإفريقيا وآسيا، وتتوسط طرق تجارة تاريخية وحديثة ذات أهمية كبيرة لحركة التجارة العالمية. وهي المنطقة التي خرجت منها القوة الوحيدة التي سيطرت على مساحات واسعة من أوروبا وقضت على امبرطوريات أوروبية في محيط البحر المتوسط (بعيداً عن روسيا)، عدا عن احتوائها لما يقارب 55٪ من احتياط النفط الخام في العالم وكميات هائلة من الغاز الطبيعي.
إن وجود حليف اتكالي في فلسطين، المنطقة التي تتوسط العالم العربي، لا يشكّل فقط حلًا تاريخيًا للمسألة اليهودية في أوروبا، بل هو أيضًا أحد أهم الركائز الأساسية لقدرة الإمبراطورية الأمريكية على بسط هيمنتها على المنطقة العربية وإخضاعها، فالمزيد من الدعم العسكريّ المباشر للكيان لتوفير تفوق عسكري نوعي وكمي لحليفة أمريكا الأساسية في المنطقة هو أمر تلقائي طبيعي خاصة في سياق التحولات في المنطقة والتغييرات على الواقع الإستراتيجي الأمريكي.
وكانت أهم العوامل التي طرأت على العلاقات الصهيونية-الأمريكية هو إعادة تعريف طبيعة التوغل الأمريكي في المنطقة، فأمريكا التي اتخذت من المنطقة العربية والإسلامية الأوسع حيزا لإعادة تعريف النظام العالمي وتحديد معالمه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تنسحب اليوم تدريجيًا من المنطقة بالمعنى العسكريّ المباشر، أي أنها تتجه نحو اتباع سياسة توازن قوى في المنطقة بحيث لا يخرج أي من اللاعبين مهيمنًا على المنطقة ونفطها.
ينبع هذا التغير من عوامل عدة أهمها: انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة والتي بدورها قضت على إمكانية تفوّق قوة موازية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. أما في المقام الثاني، فأحد أسباب هذا التغير هو انحسار أهمية النفط العربي في السوق العالمية في العقد الأخير، بالتزامن مع توافر تكنولوجيا استخراج حديثة وازدياد أهمية مناطق جغرافية أخرى في حركة التجارة العالمية خصوصًا شرق آسيا.
وهنا لا يمكن إغفال أهمية الدور الذي تلعبه الصين وتعاظم قوتها الاقتصادية والسياسية في العقود الثلاثة الأخيرة، وتداعيات ذلك على قدرة الولايات المتحدة في التفرد في الهيمنة دون وجود أي تحدٍ من قوة صاعدة يمكن أن تتحول إلى دولة مهيمنة في النظام العالمي. إضافة إلى انهيار مشاريع أمريكية اتخذت من التدخل العسكري المباشر أداة أساسية في محاولة لهندسة المنطقة، والفشل النسبي للحلول العسكرية التي بادرت إليها أمريكا في المنطقة خصوصًا في العراق وأفغانستان.
أما في المقام الثالث، فتأتي الثورات العربية التي عصفت بدول عدة في المنطقة وتحوّلت إلى حروب أهلية في سوريا واليمن وليبيا، وإلى توترات اجتماعية وسياسية في دول عدة أهمها مصر والبحرين وتونس، ما يجعل من العقد القادم في المنطقة غير واضح المعالم والاتجاهات.
في هذا السّياق، تعتبر الاتفاقية الأخيرة جزءًا أساسيًا من صورة أشمل تعوِّل فيها الولايات المتحدة على إبقاء توازنات القوى في المنطقة بما يتسق مع مصالحها. كما أنها تدخل في سياق التحالفات الضمنية التي تتم صياغتها بين دولة الاحتلال وبعض الدول في المنطقة لمجابهة إيران وحلفائها، وهي ضمن سياسة أشمل تتضمن تمكين وتقوية بعض الجيوش العربية القوات، وتقريب بعض الفرقاء والإبقاء على الدور الناظم لأمريكا في المنطقة من خلال إبقاء مسافة من جميع القوى المتناحرة.
في سياق تلك التحالفات تدخل القضية الفلسطينية ولو بشكل هامشي، فالحديث الأخير الدائر حول المبادرة العربية والمبادرة الفرنسية، والرباعية العربية التي أطلقت نيرانها تجاه واقع حركة فتح المنقسم، وغيرها من أحداث، يأتي في سياق محاولة بعض الدول في المنطقة إنهاء القضية الفلسطينية من خلال اتفاقية سلام، ساحبة البساط من إيران، والتي ترفع شعار “المقاومة”، وتندرج في سياق توّجه العرب إلى فتح علاقات علنية عسكرية واقتصادية مع الكيان.
وإضافة لما ذكر، فإن أهمية الكيان الصهيوني تنبع من كونه صمام أمان أساسي للولايات المتحدة (Pax Americana) (وهو نظام السلام النسبي الامريكي) والمركزية الأوروبية كسلاح ورأس حربة في مجابهة تيارات وطنية-قومية أو تيارات استقلالية عربية أو تيارات سياسية واجتماعية تحاول إعادة تعريف واقع المنطقة بما يتسق مع مصالح شعوبها. فذلك السلام استند على قدرة الولايات المتحدة على توفير خدمات ذات طابع زبائني تداخلت مع شبكات اقتصادية نخبوية عالمية، وقدرة الدولة المهمينة على توفير غطاء عسكري للدول الحليفة.
إن نظام السلام الأمريكي (Pax Americana) هو مفهوم يتم توظيفه لوصف الإمبريالية الأمريكية، وعند الحديث عن الامبراطورية والإمبريالية فنحن نتحدث عن منظومة من العلاقات الرسميّة و غير الرسميّة والتي تمكن دولة أو مجموعة دول من بسط هيمنتها وتحكمها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الأنظمة السيادية لدول أخرى، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال استخدام القوة، أو من خلال تعاون طبقات اجتماعية وسياسية في الدول المستهدفة بناءً على حركة رأس المال أو على مصالح ضيقة لتلك الفئات. الامبريالية هي باختصار نهج أو مجموع السياسات المتبعة بهدف المحافظة على الامبراطورية.
والكيان الصهيوني هو أحد الأدوات الأساسية في كبح واحتواء صعود أية قوة جديدة عربية أو إسلامية الطابع تشكل تحدياً للنظام الحالي، وحقيقة واحدة تبقى أنّ الكيان الصهيوني لا يمكن له أن يكون أو أن يستمر دون الدعم الذي تحظى به دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً من الدول الفاعلة في منظومة العلاقات العالمية. في الماضي مثلاً تم توظيف الكيان الصهيوني في عملية احتواء مشاريع قومية كالناصرية أو البعثية، وصولاً إلى مشاريع إسلامية وأخرى وطنية محلية (بعيداً عن النقاشات حول تلك المشاريع ومآلاتها)، وهي التي تشكل اليوم -وأكثر من أيّ وقت مضى – سداً منيعاً لا يمكن التقليل من شأنه أو تحييده في طريق النهضة والاستقلال والتنمية في المنطقة العربية.