يهدف هذا الفصل إلى تحليل الجانب الديني في خطاب المؤسسة العسكرية الأمنية الصهيونية، من خلال تناول بعض أسماء الحروب والحملات والآليات والأناشيد العسكرية، مع الوقوف سريعًا عند مفهوم الأمن والحرب في  “التناخ”، كما يفسره حاخامات يهود، وانعكاسه على العقيدة الأمنية الصهيونية.

يمكنكم قراءة الجزء الأول هنا.

الفصل الثاني: الدين والحرب والخطاب العسكري

يهدف هذا الفصل إلى تحليل الجانب الديني في خطاب المؤسسة العسكرية الأمنية الصهيونية، من خلال تناول بعض أسماء الحروب والحملات والآليات والأناشيد العسكرية، مع الوقوف سريعًا عند مفهوم الأمن والحرب في  “التناخ”، كما يفسره حاخامات يهود، وانعكاسه على العقيدة الأمنية الصهيونية.

الدين في خدمة الحرب

اذا ما افترضنا أن جذور النصوص الدينية اليهودية تقوم على أساس عرقي وليس توحيدي[1]، فلن يكون الأمر صادمًا حين نتلمس النزعة الإستعلائية داخل تلك النصوص التي تدعو إلى تفضيل اليهودي ونبذ الآخر (الأغيار). والحقيقة أنها تسهب في تناول موضوعة الحرب ومواجهة الأعداء على نحو تم توظيفه صهيونيًا بشكل واضح، رغم إدعاء الحركة الصهيونية فترة إقامة الدولة بأن توجهها علماني. وعليه، تتم قراءة العهد القديم (التناخ) قراءة صهيونية قومية إلى حد الإدعاء أن الأغيار المقصودين في النصوص الدينية هم الفلسطينيون. أكثر من ذلك يمكن القول إن العهد القديم “الحافل بالقصص الخيالية قد تحوّل من كتاب مقدس الى كتاب تاريخي موثوق، وإلى أيقونة مركزية في تصميم الهوية القومية وهندستها، من خلال نقطة انطلاق اثنية، وخلق القناعة الذاتية بحق امتلاك البلاد”[2]. ومن هنا نجد أنه من الصعب على الكيان الصهيوني التخلي عن الموروث الثقافي اليهودي لأنه يستمد منه مبرر قيامه وشرعيته، ويفسر تاريخه على أساس ديني[3].

يقدّم كتاب “توراة الملك”، للحاخام اليهودي يتسحاق شبيرا، تفسيرات توراتية جديدة تخدم التصور الصهيوني عن الحرب. حيث يكمن ادعاؤه الأساسي في أن مفهوم “قتل الأغيار في الحرب” يفيد، حسب الشريعة اليهودية، “أنه لا ينبغي قتل المقاتلين الذين يشاركون في الحرب ضد إسرائيل وحدهم، بل يجب قتل أي مواطن، في المنطقة أو الدولة المعادية، يشجع المقاتلين أو يعبر عن رضاه عن أعمالهم. أما أولئك المواطنون في الدولة أو المنطقة المعادية، الذين لا يشجعون دولتهم في أعمال الحرب بأي شكل من الأشكال فيسمح بقتلهم”[4].

كان هذا المنطق في خوض الحروب الشاملة، التي تجند كل طاقاتها البشرية والمادية، وتستهدف مجتمع الخصم بكل مكوناته، حاضرا بقوة في معظم الحروب التي خاضتها “إسرائيل”. ومن هنا يمكن القول إن المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية تستمد شرعية ممارستها الحربية من الأفكار والتعاليم الدينية، وتقوم في نفس الوقت بتوظيف هذه الأفكار في حشد وتعبئة الجمهور الصهيوني ليظهر لدينا مفهوم “الأمة المحاربة”[5] كتجسيد للمعادلة التي أتيت على ذكرها ذلك سابقًا: مجتمع في مواجهة مجتمع.

البعد الديني في خطاب المؤسسة العسكرية الصهيونية

يحمل هذا العنوان فرضية البحث الرئيسية التي لا تجزم بالقول إن جوهر العقيدة الأمنية الصهيونية مستمد من العهد القديم، بل تقول ببساطة إن المؤسسة العسكرية توظف النصوص والمجازات والقصص الدينية التوراتية في خطابها الحربي. والفرضية هذه تتجاوز المبالغة التي ذهبت إليها بعض الأدبيات بأن “الإستراتيجية الأمنية الصهيونية ما هي الا إطار فكري وتطبيقي للعقيدة الدينية سواء على صعيد الدعوة للاستيلاء على الأرض “تنفيذًا لوعد الرب” أو من خلال القناعات اليهودية الصهيونية[6]”، وتكتفي بإظهار تجليات التوظيف الديني التوراتي في خطاب المؤسسة العسكرية.

تعدّ التسمية (تسمية الحروب، الحملات، الآليات العسكرية…الخ) إحدى أهم التشكيلات الخطابية التي تكشف عن جانب مهم من توجهات المؤسسة العسكرية على صعيد مخاطبة  “الخصم” والمجتمع الصهيوني كذلك. يعتمد هذا الفصل جزئيًا على دراسة صهيونية[7] أجريت عام 2010، تتناول أسماء الحملات والأسلحة العسكرية، بحيث شملت العينة 239 اسمًا. تنطلق الدراسة من فرضية رئيسية تفيد بأن فعل “التسمية” يدخل في إطار إيديولوجيا الحرب التي تحاول أن تحشد الرأي العام على نحو متوافق مع الرؤيا الأمنية الصهيونية.

فيما يخص الحملات العسكرية (1948-2007)، وجدت الدراسة أن 27% من أسماء هذه الحملات مستوحاة من عالم الطبيعة، و38% منها مستوحاة من التراث الديني والتوراة بشكل خاص، فيما تُرجع الدراسة باقي الأسماء بنسبة 35% إلى أسماء تدخل ضمن خانة “others” والتي تتضمن تعبيرات إسرائيلية عبرية رائجة.

الأرقام هذه لا تشمل أسماء الحملات العسكرية والحروب التي شنتها “إسرائيل” على غزة (2008،2012، 2014) والتي تحيل جميعها إلى قصص دينية، وغيرها من الحملات التي شُنت في الضفة أيضًا مثل اسم “عودة الإخوة” التي أطلقت على حملة البحث عن المستوطنين الثلاثة في الخليل صيف 2014، مع الإشارة إلى أن التسمية تحمل دلالات توراتية.

من جهة أخرى لا يمكن اعتبار هذه النتائج الكمّية انعكاسًا حقيقيًا لخطاب المؤسسة العسكرية، ذلك أن بعض التسميات التي تصنفها الدراسة على أنها تعبيرات إسرائيلية رائجة، مستوحاة من التراث الديني بالأساس وقد تكون مرتبطة بمناسبة دينية ما. ذلك أن التسميات لا تشير إلى شيء واحد مجرد، وحتى الأسماء والتعبيرات التي تصنف ضمن خانة “الطبيعة” قد تدخل بسهولة ضمن خانة الدين أو التراث كذلك[8].

وانطلاقًا من هذا، سوف أبدأ التحليل من التسميات التي تستبطن البعد الديني ولا تظهره علانية. أطلق جيش الاحتلال تسمية “عملية الرصاص المسبوك” أو “الرصاص المصبوب”، على عدوانه الذي شُنّ على قطاع غزة  (2008-2009)، والتسمية ليست مستوحاة من نصّ توراتي أو ديني، فهي مقتبسة من نشيد للأطفال للشاعر اليهودي حاييم نحمان بياليك، الملقب عند الصهاينة بـ”الشاعر القومي”، وقد كتبها بمناسبة عيد المشاعل (سوكوت) الذي يعتبر عيدًا يهوديًا مستحدثًا بمعنى أنه ليس فرضًا شرعيًا لأنه لم يرد في التوراة، وإنما استحدثه الحاخامات اليهود في القرن الثاني للميلاد[9]. وقد جاءت العبارة في سياق مخاطبة الأطفال وهو يحدثهم عن هدايا العيد:

“ومُدرِّسي أعطاني بلبلاً

من الرصاص المسبوك مصنوع

هل تدرون على شرف ماذا؟

على شرف عيد المشاعل!”[10]

يمكن اعتبار عيد المشاعل مناسبة دينية لا يوجد حولها إجماع من قبل جميع الفرق اليهودية، حيث أن للعيد تفسيران: أحدهما مؤسَّس على حدث تاريخيّ من حقبة المشناة في اليهوديّة- ثورة بار كوخبا. والتعليل الآخَر مرتبط هو أيضًا بشخصيّة من الحقبة نفسِها – الراب شمعون بار يوحاي – لكنّ المصدر يعود إلى ما قبل ذلك بنحو 1300 عام”[11]. بذلك، نلاحظ أن عيد المشاعل يجمع البعدين القومي والديني، وهو أمر مألوف بالنسبة للأعياد والمناسبات اليهودية، بالدرجة نفسها التي يعد فيها مألوفاً في الخطاب السياسي والعسكري الصهيوني.

للتحليل في هذا السياق جانبان، الأول يتمحور حول سبب اختيار الشاعر”بيالك” تعبير الرصاص، فيما يتعلق الجانب الثاني بالدافع لدى الجيش الصهيوني لاختيار تسمية الرصاص المصبوب، والهدف من وراء استلهام عبارة وُجدت في نشيد للأطفال وتوظيفها لتسمية الحرب. يفسر نبيه بشير ورود كلمة “الرصاص” في قصيدة “بيالك” على أنها استلهام من القصص والأساطير اليهودية بأنه حين أُخرجت الأواني الذهبية المقدّسة من الهيكل تحوّلت إلى الرصاص[12]. أما بخصوص اختيار الجيش لهذه التسمية، فيبدو أن السبب هو تزامن الحرب مع عيد الشاعل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن عبارة  “الرصاص المصبوب” على الأرجح تشير إلى نوع السلاح المستخدم في تلك المعركة. إضافة إلى ذلك، فكما أن يهودا المكابي دخل المعبد وقام بتطهيره من المعبودات الرومانية، كذلك جاء الجيش الصهيوني “ليطّهر البلاد من المعبودات الحمساوية”[13].

وهناك وُجهة أخرى في التحليل لها علاقة بتحليل الخطاب. إذ يكشف هذا النموذج من تسميات الحرب عن قيام المؤسسة العسكرية الصهيونية باستثمار وتوظيف موضوعين في خطاب واحد. الموضوع الأول، يرتبط بطريقة غير مباشرة بالجانب الديني القومي، بالنظر الى سياق المناسبة (عيد المشاعل). أما الثاني وهو الأهم، يتعلق بالجانب الإنساني، فالقصيدة تنشد للأطفال وتخبرهم عن هدايا عيد المشاعل، وليس فيها ما يخبر عن الحرب أو ما شابه، لكن أن تقوم المؤسسة العسكرية بتسمية حرب وعدوان دموي يستهدف عسكريين ومدنيين بالاستلهام من قصيدة فرح وأعياد خاصة بالأطفال، فهذا يعني أنها تؤنسن الحرب وكأنها تقول لشعبها أن هذه الحرب هدية للطفل الصهيوني، وأن الحرب شُنت لحمايته. وهنا يمكننا أن نلمس فاعلية التسمية التي تقوم بالإخفاء والإظهار في آن واحد[14].

إن استثمار الجانب الديني في خطاب المؤسسة العسكرية اتخذ مسارًا أكثر وضوحًا في تسمية الحربين الأخيرتين على قطاع غزة: عامود السحاب، والجرف الصامد. أُطلقت تسمية عامود السحاب، بالعبرية “מבצע עמוד ענן” على حرب غزة عام 2012، والعبارة مذكورة حرفيًا في سفر الخروج من التوراة في مواضع متعددة، منها ما يلي:

” كَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ. لِكَيْ يَمْشُوا نَهَارًا وَلَيْلاً. لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ السَّحَابِ نَهَارًا وَعَمُودُ النَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ الشَّعْب” (سفر الخروج، الإصحاح  13، الآيات 21 -22).

“فَانْتَقَلَ مَلاَكُ اللهِ السَّائِرُ أَمَامَ عَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ وَسَارَ وَرَاءَهُمْ، وَانْتَقَلَ عَمُودُ السَّحَابِ مِنْ أَمَامِهِمْ وَوَقَفَ وَرَاءَهُمْ. فَدَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ وَعَسْكَرِ إِسْرَائِيلَ، وَصَارَ السَّحَابُ وَالظَّلاَمُ وَأَضَاءَ اللَّيْلَ. فَلَمْ يَقْتَرِبْ هذَا إِلَى ذَاكَ كُلَّ اللَّيْل”. (سفر الخروج، الإصحاح 14، الآيات 19-20).

” وَكَانَ عَمُودُ السَّحَابِ إِذَا دَخَلَ مُوسَى الْخَيْمَةَ، يَنْزِلُ وَيَقِفُ عِنْدَ بَابِ الْخَيْمَةِ. وَيَتَكَلَّمُ الرَّبُّ مَعَ مُوسَى. فَيَرَى جَمِيعُ الشَّعْبِ عَمُودَ السَّحَابِ، وَاقِفًا عِنْدَ بَابِ الْخَيْمَةِ، وَيَقُومُ كُلُّ الشَّعْبِ وَيَسْجُدُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَابِ خَيْمَتِهِ” (سفر الخروج، الإصحاح 33، الآيات 9-11).

تقول بعض التفسيرات التوراتية إن “عمود السحاب يرمز للروح القدس الذي قاد مسيرة النبي موسى في تخليص شعبه من العبودية، لأن خيمة الاجتماع كانت ترمز للمسيح وسط شعبه. ولأن السحابة ترمز للروح القدس الذي يعطي ماءً للإثمار، والنار ترمز للروح القدس فهو حل على التلاميذ بهيئة ألسنة نار.[15]”

هذا هو التفسير الحرفي للآيات التوراتية التي ذُكرت فيها عبارة عمود السحاب، فيما تشير تفسيرات أخرى، وهي التفسيرات التي شاعت على المواقع الإخبارية ووسائل الإعلام أيام الحرب، الى أن عبارة “عامود هاعنان” مجازية وليست اصطلاحية، وأنها مستوحاة من الآيات التي وردت أعلاه، حيث تحيل الى قصة ضياع اليهود في صحراء سيناء وعلى شواطئ البحر الأحمر لمدة 40 عامًا حين عاقبهم الربّ. وتفيد تلك التفسيرات أن المعنى المجازي لهذه العملية “العقاب السماوي” وهي إحدى العقوبات السبع التي أنزلها الله على بني إسرائيل لأنهم لم ينفذوا أوامره ولم يستجيبوا لدعوات النبي موسى ابن عمران[16].

وبالمثل تحيل تسمية “الجرف الصامد” إلى مقولات توراتية تحمل تفسيرين: التفسير الأول يقول إن التسمية مستوحاة من بركة توراتية تتعلق بقصة “بلعام بن باعورا”[17] المذكورة في سفر العدد: “ثُمَّ رَأَى الْقِينِيَّ فَنَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَال: “لِيَكُنْ مَسْكَنُكَ مَتِينًا، وَعُشُّكَ مَوْضُوعًا فِي صَخْرة. لكِنْ يَكُونُ قَايِنُ لِلدَّمَار. حَتَّى مَتَى يَسْتَأْسِرُكَ أَشُّورُ؟”، ثُمَّ نَطَقَ بِمَثَلِهِ وَقَال: “آهِ! مَنْ يَعِيشُ حِينَ يَفْعَلُ ذلِكَ؟ وَتَأْتِي سُفُنٌ مِنْ نَاحِيَةِ كِتِّيمَ وَتُخْضِعُ أَشُّورَ، وَتُخْضِعُ عَابِرَ، فَهُوَ أَيْضًا إِلَى الْهَلاَكِ. ثُمَّ قَامَ بَلْعَامُ وَانْطَلَقَ وَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ. وَبَالاَقُ أَيْضًا ذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ” (سفر العدد، الإصحاح 24، الآيات 21-25).

الصخرة المذكورة في الآيات هي الترجمة الحرفية لمعنى اسم الحرب بالعبرية “צוק איתן” وقد يكون استلهام التسمية من قصة بلعام بن باعورا، لكونه شخصية توراتية تمثل رجلًا مستجاب الدعوة، لا يدعو الله بشيء إلا استجاب له.

أما الحاخامات، وخاصة المجتمع الحريدي المؤيد للعملية، فقد ذهبوا إلى أن عملية “الجرف الصامد” عبارة عن نبوءة توراتية واردة في المزمور 91 من سفر المزامير، الذي يحمل رقم حرفي” التساديه” و”الألف وهما الحرف الأول من كلمة “تسوك” والحرف الأول من كلمة “إيتان” “צוק איתן”  اللذان يكونان اسم عملية “”الجرف الصامد”. وحسب الحاخام، مائير ملخا، فإن النبوءة الواردة في المزمور عبارة عن دمار مدينة فلسطينية، خصصها الحاخام في قطاع غزة[18].

يبدأ المزمور بالآيات التالية: “اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. أَقُولُ لِلرَّبِ: “مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ”. لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِ وَمِنَ الْوَبَإِ الْخَطِر. بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ. لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ، وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ. يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرِبْوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ. إنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ الأَشْرَارِ” (سفر المزامير، مزمور 91، 1-9).

لن نجد اختلافًا جوهريًا في مضمون المعاني التوراتية حين نأتي على تحليل تسمية “عناقيد الغضب (ענבי זעם) والتي أطلقت على العدوان الصهيوني على الأراضي اللبنانية الجنوبية في1/4/1996، والذي استمر 16 يومًا. وكما تعبر تسمية “عمود السحاب” عن العقاب السماوي، فإن تسمية “عناقيد الغضب” تعبر عن الغضب الإلهي. يرد التعبير الأخير في نشيد “اسمعوا”، وهو نشيد للنبي موسى بعد أن سلَّم التوراة المكتوبة لسبط اللاويين في سيناء (سفر التثنية، الإصحاح 32، الآيات 43-1)، وهو يوبخ جميع بني إسرائيل. وبعد كلمات التوبيخ يلقي على مسامعهم نشيد “اسمعوا”، والتي جاء فيها تأكيد على أن “يهوه” هو إله بني إسرائيل الحصري وهو صخرتهم التي يتكئون عليها، وهو الإله الذي أرشدهم أطعمهم وناولهم، وخاطب شعب إسرائيل قائلاً: “ودم العنب شربتَهُ خمرًا” (المصدر السابق، الإصحاح 32، الآية 14). وحين عصى بنو إسرائيل قال الرب:”إنه قد اشتعلت نارٌ بغضبي فتتقد إلى الهاوية السفلى وتأكل الأرض وغلّتها، وتحرق أسس الأرض. أجمعُ عليهم شرورًا وأُنفِدُ سهامي فيهم” (المصدر السابق: الآيتان  22-23).

ينتقل بعدها الرب إلى عرض مقارنة بينه (صخرنا) وبين آلهات الشعوب الأخرى (صخرهم) ويضيف: “لأنه ليس كصخرنا صخرهم، ولو كان أعداؤنا حاكمين. لأن من جفنة سدوم جفنتهم ومن كروم عمورة، عنبهم عنب سُمّ، ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حُمة الثعابين وسمّ الأصلال القاتل” (المصدر السابق، الآيات 31-33)[19].

والواضح أن تعبير “عناقيد الغضب” لا يظهر بصورة حرفية، لكن يحيل بوضوح إلى الغضب الإلهي الذي يُعبَّر عنه بالعنب وعصيره (الخمر). ولعل التسمية ترتبط أيضا بخصوصية المواجهة آنذاك، حيث شكّل حزب الله تهديدًا رئيسيًا في منطقتي الجليل والجولان، وهما من أهم المناطق إنتاجًا للزراعة وخاصة كروم العنب. وبذلك كان المستوطنون اليهود في تلك المناطق الأكثر تضررا من العمليات العسكرية.

تطال التسمية التوراتية الآليات العسكرية أيضا، وأشهرها “الميركافاه” التي بدأ العمل على تصنيعها في الكيان الصهيوني عام 1970، ولردح من الزمن رُوج لها كأفضل دبابة في العالم. تحيلنا التسمية إلى غطاء “تابوت العهد”، الذي يقال، في التوراة، إن الرب جالس فوقه يتحدث إلى بني إسرائيل ويوجههم[20].

وبنفس النزعة الدينية، تم إطلاق اسم “أريحا 1″، و”أريحا 2” على جيلين من الصواريخ الصهيونية المدمرة، في إحالة إلى قصة تدمير مدينة أريحا على يد “يوشع بن نون” سنة 1300 ق.م. وقد كانت معركة أريحا هي أول معركة خاضتها طوائف بني إسرائيل ضد الكنعانيين[21]. إضافة إلى ذلك، تم أطلق اسم النبي “عاموس” Amos على قمر التجسس والاتصالات الصهيوني[22].

وتذهب المؤسسة العسكرية الصهيونية في تسمياتها التوراتية إلى أبعد من ذلك، فمن تسميات الحروب والحملات والآليات العسكرية، امتدت التسميات إلى القوافل والحملات التي يطلقها الجيش، مثل تسمية “ملائكة الخير” التي أطلقت على قافلة “مساعدات” أرسلت الى منكوبي الزلزال في نيبال عام 2015. وفي هذا المصطلح دلالة دينية واضحة وهي ملائكة الخير المعروفة في الديانة اليهودية باسم  “ملآخي هشِّريت” (ملائكة السلامة- الخير)، وهما ملاكان يرافقان الإنسان، يدفعه أحدهما لفعل الخير، وأكثر ما يكونان في ليل السبت حيث يرافقان اليهودي أثناء عودته من المعبد إلى بيته. ومن الواضح أن التسمية تذهب بنا إلى مضامين إنسانية يحاول الخطاب العسكري الصهيوني تمريرها للمتلقين.

ما تم تناوله أعلاه يتعلق بالخطاب العسكري الموجه للجمهور العام؛ فيخدم الحرب النفسية في مواجهة الجمهور العربي، وكأداة حشد في مخاطبة الجمهور الصهيوني.إاذا انتقلنا إلى مستوى أكثر خصوصية، وهو المستوى المرتبط مباشرة بالتربية العسكرية للجنود الصهاينة، فإننا نلاحظ حضور المضامين التوراتية في أدبيات التربية وأبرزها الأناشيد العسكرية.

في النشيد الخاص بفرقة الناحال تبرز الصلة بين ممارسة ومخيال الجيش الصهيوني وما ورد في النصوص الدينية.

“في مستوطنة الناحال في سيناء،

لم تصدق عيني

عندما قابلت فجأة في الزاوية

أرض اسرائيل القديمة

أرض اسرائيل المفقودة

الجميلة والمنسية

وهي وكأنها تمد يدها

لتعطي لا لتأخذ”

وتعمق الانشودة علاقة الصهاينة بأرض اسرائيل من خلال صياغة فكرة أن الكيبوتس رغم حداثة تكوينه الا أن جذوره ضاربة في التاريخ اليهودي[23].

كما يظهر الفكر التوراتي المتعلق بالأرض في أنشودة “ملاك من سلم يعقوب”:

“في الصباح على عشب بيتي الرطب

نزل من السماء

بجناحين بيض

ملاك من سلم يعقوب

من أي تأتي والى أين تذهب؟

من بلاد النقب الى بلاد جلعاد

من سترى يا ملاكنا الحسن؟

خيمة عيسو وبيت يعقوب..”

والنص التوراتي الذي أوحى بهذه الانشودة “ورأى يعقوب حلما واذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء. وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها. وهو ذا الرب واقف عليها، فقال: “أنا الرب إله ابراهيم وإله اسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك. ويكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا. ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض. لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به” (سفر التكوين 28)[24].

فيما يشبه الخاتمة

إن ما ورد في هذا البحث يعدّ جزءًا بسيطًا من مجموع التشكيلات الخطابية المشتملة على مضامين دينية مضمرة ومُعلنة في ذات الوقت. لكنها مع ذلك لا تعكس الخطاب العسكري بكلّيته، لأن ذلك الخطاب لا يمكن اختزاله في بعده الديني، وإن كان حاضرًا بشدّة.

إن الخطاب العسكري الصهيوني طُوّع ليكون قادرًا على حمل ثنائيتين متناقضتين (الديني والعلماني) في توليفة خطابية واحدة. ثم أن الأبعاد والمقولات الدينية التي لاحظناها في تسميات الحروب والآليات والأناشيد العسكرية، لن نجد لها أثر في النص التعريفي للجيش الصهيوني الوارد في الموقع الإلكتروني الخاص به. هذا الجيش يعرّف نفسه كجيش “يخضع للحكم المدني الديمقراطي ويخضع لقوانين الدولة”، ويعتبر أن قيمه الرئيسية تنبع من “حب الوطن والولاء للدولة”، وليس هناك ما يشير إلى انتماء ديني على الإطلاق. وبذلك أرى أن هذه النتائج تشكل فاتحة لإجراء دراسة أكثر عمقا من شأنها أن تكشف عن ثنائيات جوهرية في بنية المجتمع الصهيوني: علماني وديني، عسكري ومدني.

إن استحضار البعد الديني في السياق الدولاتي الحديث ليس مخصوصا بالحالة الصهيونية بقدر ما هي ظاهرة متكررة عند كثير من الدول والتنظيمات العسكرية، لكن خصوصية الحالة الصهيونية تنبع من جدلية العلماني والديني داخل المؤسسة العسكرية، مع الإشارة إلى أن المعطيات الواقعية تشير إلى تعاظم الدور الديني على حساب العلماني، وهو ما انعكس على مجمل المشهد الصهيوني.

==========================================

الهوامش:
[1]  نبيه بشير، خلال محاضرة غير منشورة ألقيت في جامعة بيرزيت بتاريخ 11-5-2016 بعنوان: “تاريخ اليهودية والصهيونية: نظرة نقدية”.
[2]  مهند عبد الحميد.2015. اختراع شعب وتفكيك آخر عوامل القوة والمقاومة- والضعف والخضوع. رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات).ط1. ص37.
[3]  محمد أبو غدير. 2000.الصراع الديني العلماني داخل الجيش الإسرائيلي. سلسلة الدراسات الدينية والتاريخية، باشراف محمد خليفة حسن.عدد 14. جامعة القاهرة: مركزالدراسات الشرقية.ص58.
[4]  محمود محارب.2011. مراجعة كتاب “توراة الملك”. تأليف: الحاخامين يتسحاق شبيرا ويوسي ايليتسور. المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسيات (معهد الدوحة)، الدوحة.
[5]  محمد أبو غدير. 2000.الصراع الديني العلماني داخل الجيش الاسرائيلي.سلسلة الدراسات الدينية والتاريخية باشراف محمد خليفة حسن. القاهرة: مركزالدراسات الشرقية. عدد 14.ص10. 
[6]  جوني منصور وفادي النحاس.2009. المؤسسة العسكرية في إسرائيل(تاريخ، واقع، استراتيجيات وتحولات). رام الله: مركز مدار. ص250. 
[7]  Dalia Gavriely-Nuri. “Rainbow, Snow, and the Poplar’s Song: The ‘Annihilative Naming’ of Israeli Military Practices”. Armed Forces & Society vol. 36, no. 5 (Oct. 2010), pp. 825-842.
[8]  نبيه بشير. مقال غير منشور أرسله لي المؤلف عبر الايميل بتاريخ 9-5-2-16، يتناول التسميات العسكرية الإسرائيلية.
[9]  المرجع السابق.
[10]  رشاد عبد الله الشامي.2006.شاعرالقومية اليهودية: أميرالشعراءالعبريين في العصرالحديث:حييم نحمان بياليك. القاهرة: الدار الثقافية. ط1. 
[11]  موقع المصدر الإسرائيلي الناطق بالعربية، راجع الرابط هنا. 
[12]  نبيه بشير. مقال غير منشور أرسله لي المؤلف عبر الايميل بتاريخ 9-5-2-16، يتناول التسميات العسكرية الإسرائيلية.
[13]  المرجع السابق. 
[14]  Dalia Gavriely-Nuri. “Rainbow, Snow, and the Poplar’s Song: The ‘Annihilative Naming’ of Israeli Military Practices”. Armed Forces & Society vol. 36, no. 5 (Oct. 2010), pp. 825-842.
[15]  موقع الكتروني يحمل عنوان”الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي، http://st-takla.org/”.
[16]  عشرات المواقع الإخبارية تتبنى نفس التفسير، ومنها موقع قناة المنار التابعة لحزب الله، راجع الرابط التالي: http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=348911 
[17]  د.سامي الإمام (مدرس اللغة العبرية والديانة اليهودية بكلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر). في مقابلة أجريت معه ضمن تقرير إخباري على موقع “دوت مصر”، بتاريخ 4-8-2014. راجع الرابط التالي: http://old.dotmsr.com/ar/1002/1/45327 
[18]  المصدر السابق. 
[19]  نبيه بشير. مقال غير منشور أرسله لي المؤلف عبر الايميل بتاريخ 9-5-2-16، يتناول التسميات العسكرية الإسرائيلية.
[20]  د.سامي الإمام (مدرس اللغة العبرية والديانة اليهودية بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر). في مقابلة أجريت معه ضمن تقرير إخباري على موقع “دوت مصر”، بتاريخ 4-8-2014. راجع الرابط التالي: http://old.dotmsr.com/ar/1002/1/45327
[21]  “معركة أريحا”، من موقع ويكيبيديا.
[22]  د.سامي الإمام (مدرس اللغة العبرية والديانة اليهودية بكلية اللغات والترجمة جامعة الأزهر). في مقابلة أجريت معه ضمن تقرير إخباري على موقع “دوت مصر”، بتاريخ 4-8-2014. راجع الرابط التالي: http://old.dotmsr.com/ar/1002/1/45327
[23]  جوني منصور. 2003. “العقيدة والسياسة – الزمان والمكان في أناشيد الجوقات العسكرية الإسرائيلية”. مجلة قضايا إسرائيلية. عدد10. ص108-128.
[24]  المصدر السابق.