في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، نشر موقع “سترافا”، الذي يُعرِّفُ عن نفسه كموقعِ تواصلٍ اجتماعيٍّ خاصٍّ بالرياضيين، خارطةً للعالم تشملُ أكثر من مليار منشور تمت مشاركتُه عبر الموقع، وتتضمنها نقاط “جي بي اس” فائقة العدد تُغطي – من حيث المساحة – أكثر من 17 مليار ميل حول العالم. للوهلة الأولى، يظهرُ العالمُ بديعاً مُضاءً بحركة الرياضيين في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يرتفع عدد مستخدمي التطبيق والموقع.
بعد ذلك بعدة أيام، لاحظ طالبٌ أستراليٌّ أن الخرائط التي نشرَتْها “سترافا” تُظهِر العديدَ من القواعد العسكرية، فنَشَرَ تغريدةً على موقع “تويتر” حول ذلك. تَلقفَ تلك التغريدة المحللون العسكريون وأكّدوا بدورهم أن الخارطة المحدَّثَة بأكثر من 6 مليار نقطة “جي بي إس” مفصلةٌ بشكلٍ يفضح الكثيرَ من المعلومات الحساسة والسريّة للغاية، إذ يستخدم كثيرٌ من جنود الدول الغربية التطبيق في قواعدهم العسكرية حول العالم، بهدف تَتبع وقياس أدائهم الرياضي. تبيّن مثلاً أن الخارطةُ تُظهِرُ بشكلٍ واضحٍ بعضَ المواقع العسكرية الأمريكية في أفغانستان.
خروقات أمنية
حينما تُلقي نظرةً على خارطة “سترافا”، وتهمّ بالبحث عن بعض المواقع العسكرية المعروفة، كقاعدة العديد في قطر مثلاً، تستطيع أن تشاهد وبوضوح خطّ الجنود العدائين داخل هذه المواقع، وتتبّع مسار عَدوِهم، وبالتالي الكشف عن بعض تفاصيل وتقسيمات تلك المواقع العسكرية. عن طريق تتبّع مسارات العَدو لهؤلاء الجنود يمكن معرفة الحدود الخارجية لتلك المواقع العسكرية بالإضافة إلى المباني داخلها وتقسيماتها والأزقة بينها.
من بين تلك المواقع العسكرية الواضحة في خارطة “سترافا”، موقع حوارة العسكري، إذ يمكن من خلال الخارطة رؤية مسار جري الجنود الصهاينة في محيط وداخل الموقع، بالإضافة إلى مسار الجري باتجاه المستوطنات القريبة من الموقع.
أما في سوريا، فبإمكانك رؤية مواقع قوات “التحالف الدولي”- “القوات الأمريكية” بوضوح، كما يُمكِنُك تمييزُ بعض المواقع العسكرية الروسية، إذ يبدو أن الروس والأمريكيين يستخدمون التطبيق لتتبع تمارينهم الصباحية.
للوهلة الأولى، يبدو ذلك طبيعياً، إذ لا يوجد تهديد حقيقي كون مواقع معظم القواعد العسكرية معروفةً، ويمكنك مشاهدتها باستخدام تطبيقات الخرائط التجارية، مثل “جوجل مابس” وغيرها. لكن الإشكالية الأمنية ظهرتْ عندما تم الكشف عن قاعدة عسكرية أمريكية متقدمة وسرية في أفغانستان، لا يمكنك أن تراها باستخدام “جوجل مابس” مثلاً لكونها قاعدة سريّة.
تظهرُ تلك القاعدةُ السريّة بوضوحٍ على خارطة “سترافا”، وتبدو من خلالها مسارات الجري على الخطوط الخارجية للقاعدة العسكرية، كما تظهر المسارات المختلفة بين المباني والمخازن داخل القاعدة. ويبدو من الخارطة أن الجنود العاملين في القاعدة يستخدمون التطبيق بشكل مستمر لتسجيل تدريباتهم الصباحية. كما يستخدم الجنود التطبيق لتتبع مسارات دورياتهم العسكرية حول القواعد والنقاط المتقدمة، إذ تظهر بوضوح مسارات الدوريات في جبال أفغانستان بين القواعد المختلفة وحول النقاط المتقدمة.
وبنفس المستوى، يظهر الخرقُ الأمنيُّ أيضاً من خلال الكشف عن أسماء مستخدمي التطبيق من الجنود. فعند تكبير الشاشة فوق المسارات الموجودة على الخارطة (zoom in)، يمكن قراءة أسماء العدائين الذين ركضوا وفقاً لهذا المسار أو ذاك، فضلاً عن أفضل أوقاتهم التي قطعوا بها تلك المسارات. عند فحص ذلك في إحدى القواعد العسكرية في أفغانستان مثلاً، ستحصل على أسماء الجنود الذين قاموا بالخدمة في تلك القاعدة وقطعوا المسار، بغض النظر عن تاريخ العَدْو.
دفعت هذه التعديات الأمنية التي أظهرتها خارطة “سترافا” العديد من الجيوش حول العالم إلى مراجعة سياساتها حول استخدام الجنود لأدوات الاتصال الحديث، والنظر من جديد في المعدات المسموح استخدامها في قواعدها. بشكلٍ عامٍ، يستطيع الجندي استخدام المتتبّعات إذا لم تحتوِ على أيٍّ من أدوات تسجيل الصوت والصورة والاتصال، غير أنهم سمحوا باستخدام المعدات التي تعمل على تحديد المواقع باستخدام “الجي بي إس”، لكن يبدو أن هذه السياسة سيتم تعديلها مستقبلاً.
في السياق الصهيوني
على نفس المنوال كانت ردّة فعل الجيش الصهيوني الذي سارع بإصدار بيانٍ يعلن فيه أن الجيش يدرس استخدام جنوده لهذا التطبيق، خصوصاً أن الخرائط أظهرت العديد من القواعد العسكرية الحساسة ومسارات دوريات الاحتلال على الحدود اللبنانية والحدود مع قطاع غزة. كما أعلن الاحتلال في ذات البيان أن الجيش كان قد أصدر مرسوماً حول استخدام الساعات الذكية، وحظر استخدام أنظمة تحديد المواقع أو مشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعند النظر إلى فلسطين التاريخية داخل خارطة “سترافا”، تظهر مستعمرات الكيان الصهيوني مضاءةً بشكلٍ كبيرٍ مقارنةً بالضفة الغربية ذات الخلفية السوداء. تنطوي هذه الخارطة على مساراتٍ مختلفةٍ تظهر فيها المستعمرات الصهيونية، والطرق بينها ومسارات المشي الجبلية التي يسلكها المستوطنون بشكلٍ مستمرٍ لممارسة الرياضة.
في البداية، ظهرت القواعد العسكرية الصهيونية ومسارات الدوريات، لكن بعد التحديثات الجديدة على الخارطة تمت إزالة مسارات الجري للجنود الصهاينة في القواعد العسكرية ومسارات الدوريات، إذ إنه في النسخة الأولى من خارطة “سترافا” ظهرت مسارات الجري للجنود في قاعدة حوارة العسكرية مثلاً، خصوصاً مسار العَدو في الحدود الخارجية للقاعدة، أمّا بعد التحديثات الجديدة فقد اختفت المسارات ليبقى المسار الداخلي فقط. تدعي”سترافا” أنها أزالت المسارات الأقل استخداماً، لكن يبدو هذا الادعاء غير مقنعٍ، وتم توظيفه للتغطية على إزالة معلومات ومسارات الجري حسب طلب المؤسسات العسكرية حول العالم.
عن شركة “سترافا”
تحاول “سترافا” جاهدةً بأن تكون موقع التواصل الاجتماعي الأول للرياضيين لمشاركة نشاطاتهم الرياضية المختلفة مع أصدقائهم والعالم، إذ يتم استخدام التطبيق ليشارك الرياضيون نشاطاتهم الرياضة، كما ينظمون النشاطات الرياضية المختلفة من الماراثون للترايثلون لسباقات السباحة الطويلة وسباقات الدراجات.
تم إنشاء الشركة عام 2009 في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، لتنتشر في جميع أنحاء العالم. وفي عام 2015 قُدّرَ عدد مستخدميها بمليون مستخدم؛ 200 ألف منهم يملكون حساباتٍ مدفوعة الأجر؛ إذ تسمح هذه الحسابات لمستخدميها بالحصول على خدمات وإحصائيات إضافية للخدمات التي توفرها الشركة مجاناً. تدعي الشركة أن عدد المستخدمين يزداد بمعدل مليون مستخدم كل 50 يوماً، وأن أكثر من 8 مليون نشاط رياضيّ تتم مشاركته على التطبيق كل أسبوع، لكن لا توجد أرقام منشورة عن عدد المستخدمين الفاعلين على “سترافا” اليوم.
تستخدم الشركة تكنولوجيا “الجي بي إس” الموجودة في الهواتف أو المتتبّعات التي يرتديها الرياضيون لتحديد الموقع، والمسار، ونسبة الارتفاع “عن سطح البحر”، والزمن الرياضي أثناء التمرين، ما يسمح للتطبيق حساب السرعة والمسافة المقطوعة والطاقة المستخدمة لإنهاء المسار، وبالتالي أداء الرياضي إجمالاً، وعادةً ما يشارك الرياضيون هذه المعلومات لاحقاً مع متابعيهم.
ومع كشف المواقع العسكرية المختلفة في أفغانستان والعراق، فضلاً عن القواعد الأمريكية في أفريقيا، أصدرت “سترافا” بياناً تُثبِتُ فيه نشرها فقط ما سمح المستخدمون بنشره، موضحةً أنه إذا لم يُصنِّف المستخدمُ المسارَ كمسارٍ شخصيٍّ ومنطقةٍ شخصيةٍ أو حافظ على خصوصيته، لم يكن للتطبيق أن يضيفَ المسار إلى الخارطة.
كما عبّرت الشركة عن استعدادها للتعاون مع الجيوش والأجهزة الأمنية المختلفة بهدف تأمين بعض المسارات ذات الحساسية العالية أمنياً، كما أكّدت أنها ستعدّل نظام الخصوصية على التطبيق ليتمكن المستخدم العادي من استخدامه بسهولة.
كلمة أخيرة
إن الخرق الأمني الذي تسببت به خارطة “سترافا” يعود ليؤكد أن وهم النظام الأمني الكامل هو خيال لا يزال يدور في عقل المؤسسات الأمنية حول العالم، فعلى الرغم من الإجراءات الأمنية المختلفة والسياسات التي تتبناها هذة المؤسسات، إلا أنّ هناك دوماً طرقاً يتم من خلالها تسريب المعلومات، ومن ثم إمكانية استغلالها وتطويعها من قبل الخصوم. فمثلاً، منعت القوات الأمريكية استخدام الكاميرات والهواتف والساعات، أو أي جهازٍ آخر يمكن استخدامه لالتقاط الصور، إلا أنها سمحت للجنود باستخدام وارتداء المتتبّعات والهواتف التي تحتوي على “الجي بي إس”، وكالعادة فإن المباهاة واستعراض الإنجازات الرياضية هما الدافع الرئيسي وراء تفعيل خاصية إظهار مسارات الركض للجمهور العريض على “سترافا” وغيرها من التطبيقات.
****
المواقع المساعدة في إنجاز المقالة:
صفحة شركة “سترافا” على ويكيبيديا.
موجز عن الشركة وتأسيسها على موقع Bloomberg.
“الجيش الإسرائيلي يفحص موضوع استخدام جنوده لموقع “سترافا” المخصص لتتبع النشاط الرياضي”، على موقع “كالكاليست”، نشر بتاريخ 29.01.2018.
“مع اتساع الخلاف، شركة سترافا تقترح أن ينسحب المستخدمون العسكريون من خارطتها”، صحيفة “الجارديان”، نشر بتاريخ 29.01.2018.
خارطة “سترافا” الحرارية، على موقع الشركة.