وسط الجدل المحتدم حول فيلم «أميرة»، وردود الفعل الغاضبة التي شغلت المجتمع الفلسطيني والعربي، يقدّم حافظ عمر قراءة تحليلية لهذا الفيلم ارتباطاً بموقعه من السياق الوطني والاجتماعي والسياسي، وعلاقة ذلك بحريّة الإبداع من جهة والمعايير الأخلاقية والوطنية في المجتمع الفلسطيني من جهة ثانية، وارتباط كلّ ذلك بمعايير وشروط تمويل وإنتاج الأفلام السينمائية.
****
من بين كل المفارقات الإنسانية التي تصنعها الحياة في السجن، لا زلتُ أطوي شغاف القلب على لحظةٍ خاصة، تكثّفت فيها معاني هذه التجربة وحضورها المركزي في الرواية الفلسطينية الجامعة. في تمام التاسعة مساء الإثنين، 3 شباط عام 2020، في غرفة رقم 64 من قسم 5 في سجن «ريمون» الصحراوي جنوب فلسطين. كان الخبر حديث الأسرى في القسم منذ لحظات الصباح الأولى، فكل ما يحدث خارج السجن يجد الأسرى طريقاً للوصول إليه!
دقائق قبل التاسعة مساءً، وعبر ساحة القسم المسقوفة بشبكة حديدية تحت سماء النقب، يصدح صوت أسير من نافذة إحدى الغرف: «على فلسطين يا حبايب!»
كما جرت العادة، كلّما كان هناك تقرير إخباريّ مهم على إحدى القنوات الإخبارية المتاح مشاهدتها في السجن، يضبط أحد الأسرى التلفاز على قناة فلسطين في اللحظات التي يبدأ فيها المذيع سرد عناوين النشرة. وما إن يقرأ عنوان التقرير الأول عن مولد طفلة عبر نطفة «محرّرة» لأسير في سجون الاحتلال: ميلاد وليد دقة… حتى علا صوت الأسرى بالهتاف والتكبير والصفير والتصفيق في كلّ أقسام السجن. لم يكتفِ الأسير وليد دقة وزوجته المناضلة سناء سلامة بصناعة هذه المعجزة في حياة الأسر، بل اختارا بعناية عنواناً لها سيحفر تلك اللحظة عميقاً في التاريخ: ميلاد وليد دقة.
كانت هذه اللحظة وما مثّلته من معانٍ أوّل ما تبادر إلى ذهني عندما قرأت عن الفيلم الروائي «أميرة» وقصته المستوحاة من تجربة الأسرى وحياتهم في سجون الاحتلال، هذا الفيلم الذي يسيء لأبطال ملحمة تحرير النطف من داخل الأسر بشكلٍ مباشر، ولقضية الأسرى والمجتمع الفلسطيني بشكلٍ عام.
تكمن المسألة هنا في المواجهة بين «خيال» يمتلك الأدوات وبين «ذاكرة» مُحاصَرة وتحت التهديد المستمر في سياق قضية سياسية وجوديّة، مهما تعدّدت طرق فهمها وتأويلها. فالصراع على الرواية الجماعية يظلّ أحد أهم تجليات المواجهة التي يلمسها المجتمع الفلسطيني في مختلف مناحي أنشطته، من التدخل في المناهج المدرسية، مروراً بتمويل المؤسسات الثقافية ضمن اشتراطاتٍ سياسية، وصولاً الى ملاحقة الرواية الفلسطينية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وانتهاءً بالنتاجات الإبداعيّة التي أقلّ ما يمكن أن نقول فيها – إن لم نقُل إن بعضها معادٍ – إنّها لا تخدم رواية شعبٍ يناضل ضد مشروع يسعى لإبادته وإقصائه من حيّزه المادّي والتاريخي.
تنوّع الجدل حول الفيلم والردود بشأن عرضه وصولاً إلى سحب المنتجين له وإصدار بيانات توضيحٍ واعتذار. تراوحت الردود ما بين جبهةٍ واسعةٍ عارضت الفيلم وطالبت بحجبه من جهة، تُقابلها آراء من الأوساط الفنية أدانت الفيلم أو لم تفعل، لكنّها اتفقت على إدانة المطالبة بحجب عرضه.
ومن هنا، يأتي السؤال: لماذا انطلقت حملة شعبيّة واسعة على هذا الفيلم، لم تؤدِِّ إلى حجبه من قبل «سلطة» ما في وقت قياسيّ فحسب، بل ودفعت بمنتجي الفيلم إلى إيقاف عرضه ومشاركاته؟ علما أنّ الجمهور لم يشاهد الفيلم. أسعى للإجابة على هذا السؤال ضمن سياقه الاجتماعي والسياسي بهدف الوصول إلى فهمٍ أعمق للعلاقة بين السياسي والثقافي في الحيّز العام في فلسطين، دون وضع شرعيّة الحملة الرافضة للفيلم أو وجهات النظر التي عارضت حجبه كهدفٍ للبحث.
ينطلق المقال من اعتباره قراءة ردة الفعل الشعبيّة كممارسة رقابيّة مجتمعيّة سلطويّة على الفن وفاعله، وحقّ الأخير في مقاربة القضايا المجتمعيّة كما تشور عليه المخيّلة الإبداعية، باعتبارها قراءة قاصرة للحدث وغير موضوعيّة، وإن أبدت موقفاً نقدياً منه، وذلك كونها تتغافل عن السياق الخاص لموضوع الفيلم؛ أيّ الأسرى وذويهم، وموقعه في المجتمع الفلسطيني، فضلاً عن إغفالها السياق المرتبط بعمليّة إنتاج شعب لا يزال يقاوم التطهير العرقي الممنهج لروايته الجماعية، ويقاوم كذلك من يسعى للهيمنة على هذه العمليّة تحت أي أهداف وبشتى الأدوات.
كما يجدر الانتباه إلى أن هذا المقال لا يسعى للدفاع عن حق «الضحية» في اضطهاد «الآخر»، أيّ الفنان في هذا السياق، انطلاقاً من كونها ضحية، إنّما يسعى، وبشكل موضوعي، إلى الإضاءة على سياقات الاضطهاد المركّبة التي يخضع لها الشعب الفلسطيني وتأثيرها على علاقة المجتمع ونضاله التحرّري بعملية الإنتاج الثقافي.
كيف بدأت المشكلة؟
لا بدّ من تتبّع سياق الأحداث التي قادت إلى تبلور المعرفة العامة الأولى بالعمل ومضامينه، فضلاً عن تشكّل «المواقف المُسبقة» لدى القوى التي دفعت باتجاه رفضه وطالبت بحجبه، وذلك بهدف الإحاطة بعملية تشكُّل الاستجابة الشعبية الرافضة للفيلم دون الحصول على فرصة مشاهدته.
يدور فيلم «أميرة»، من إخراج المصري محمد دياب وإنتاج المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، حول مفارقة درامية تكتشف فيها ابنة أسيرٍ أُنجبت عبر نطفةٍ محرّرة أنّ والدها البيولوجي هو سجَّان صهيوني استَبدَل نطفته بنطفة الأسير أثناء عملية التهريب، ليدور بعدها التشويق في الفيلم حول استقصاء خيارات الابنة بعد معرفتها للحقيقة.
أثناء الترويج لعرض الفيلم الروائي، وهو من إنتاج أردني – مصري – فلسطيني مشترك، في مهرجان البحر الأحمر للسينما في السعودية مطلع كانون الأول، تعالت أصوات كثيرين ممّن شاهدوا عروضه الافتتاحية لتنتقده بشدّة بسبب طريقة معالجته لقصة «النطف المحرّرة».
ما حدث بعد ذلك مفصليّ في دائرة الأحداث، إذ نشرت زوجة الأسير وليد دقة، المناضلة سناء سلامة والدة الطفلة ميلاد وليد دقة، مقطع فيديو، لا تدين فيه الفيلم وطريقة إساءته لقضية الأسرى فقط، بل توضّح أنها والأسرى كانوا على اطّلاعٍ على إنتاج الفيلم، وأنّهم رفضوا التصوّر الدرامي المُقتَرح وقدّموا مقترحاتٍ لتصويب المغالطات، ولكنّ القائمين على العمل تجاهلوها.
توالت بعدها مقاطع الفيديو لزوجات الأسرى، حملت كلّها إدانةً للفيلم وأعادت التأكيد على ما تعنيه ملحمة «النطف المحرّرة» وطالبن الجميع بالتحرّك، وهو ما شكّل نقطة الاستقطاب الحقيقية في الحدث، لا الفيلم وأحداثه الدرامية ومعالجته الفنية المباشرة للقصة.
وسط ذلك، أصدرت الحركة الأسيرة بياناً، في 8 كانون الأول، اعتبرت فيه العمل – بقصدٍ أو غير قصد – عوناً للمعركة الشرسة التي يخوضها الاحتلال ضدّ عملية تحرير النطف، موضحةً فيه تسلسل الأحداث والاعتراض الأولي والمقترحات البديلة التي قُدّمت في عام 2019 للقائمين عليه، وختمت البيان بعددٍ من المطالب كان أبرزها موجّهاً لجهات الاختصاص بسحب الفيلم المسيء ومحاسبة القائمين عليه.
وضمن هذا السياق، أصبح موقف الأسرى وذويهم هو الموقف المرجعي شعبيّاً من الفيلم. فالتقط القضية النشطاء المجتمعيّون والمثقفون عبر مواقع التواصل، ليصبح في وقتٍ قياسي، حديث الفضاء الافتراضي، وسط صمت كثير من المؤسسات الثقافية و«مثقفيها» في فلسطين، لتتّسع دائرة ردود الأفعال لتشمل الفصائل والهيئات التمثيلية للأسرى، وتبدأ حملة شعبية للمطالبة بحجب الفيلم وسحب تمثيله للأردن في مسابقة الأوسكار.
بالمقابل، كان هناك من أدان هذا الرفض الشعبيّ ومطالب وقف العرض حرصاً على نخبوية الفنان وحريته في الفعل الإبداعي، حتى لو كان منفصلاً عن الواقع الذي يدّعي التعبير عنه. وبكلماتٍ أخرى، فإنّ أيّ مقولة فنيّة، بحسب أصحاب هذا الرأي، مرجعيتها الإبداع وإنْ كانت مرفوضةً مجتمعيّاً، فلا بدّ أنها مفيدة لمجرّد إثارتها النقاش، فضلاً عن كون الحجب والرقابة ممارساتٍ تمسّ بالحرية الفنيّة والتعبيريّة. كما قوبل الموقف الشعبي بمقولةٍ تكرّرت كثيراً، وهي أنّ تقييم عملٍ فنيّ دون مشاهدته أو التعرّف على مضامينه غير شرعيّ، على قاعدة أنّه لا يُمكن الاكتفاء بما نُقل عمّن شاهدوه في اتّخاذ موقفٍ يصل إلى حدّ «إقصاء» العمل.
أحال أصحاب هذا الموقف الجدل المحتدم حول الفيلم إلى مشاكل بنيويّة في المجتمع الفلسطيني تقف حاجزاً أمام الإبداع الفني وحدوده التي يجري «تكبيلها» بغير حق، وأسهبوا في استحضار هذه المشاكل والتحدّيات المجتمعيّة على حساب عوامل أخرى أكثر ارتباطاً بالحدث، الأمر الذي لا يقود فقط إلى تعزيز الفيلم كمقولة بصرية درامية في الرواية الفلسطينية، أو التقليل من ضرره المباشر على الرواية الفلسطينية عن قضية الأسرى فحسب، بل يُقصي أيّة سياقات نقدية لفهم الحدث وتداعياته.
الأمر اللافت في سلسلة الأحداث تمثّل في موقف منتجي الفيلم وردّة فعلهم إزاء الحملة الشعبية، والذي أوقف تطوّر الأحداث ونضوج عناصرها وبالتالي تقييمها بشكلٍ أكثر موضوعية. إذ تمّ إيقاف عروض الفيلم، وسُحب من سباق الأوسكار، وأصدر القائمون عليه بيان توضيحٍ واعتذار عن إساءته لقضية الأسرى دون نيّةٍ متعمّدة.
وفي أوّل تعليقٍ له، قال المنتج الفلسطيني للفيلم هاني أبو أسعد في مقابلة صحافية إنّه «أثناء تنفيذ الفيلم، لم ينتبه أحد أنّ أبناء الأسرى قد ينزعجون منه، وكنّا معتقدين أنّه سيمرّ مرور الكرام». ولعلّ هذا الموقف يكشف مدى انفصال المنتجين لا عن المجتمع الفلسطيني بشكلٍ عام، بل عن قصّة الفيلم وأصحابها بالدرجة الأولى. الأمر الذي يدفع للتساؤل حول موضوعيّة الدفاع المستميت عن فكرةٍ أقرّ أصحابها باعتلالها ولم يدافعوا عنها.
البطولة بين الواقع وصورتها
يدرك أيّ متتبّعٍ للشأن الفلسطيني مكانة قضية الأسرى في وجدان الشعب الفلسطيني وقواه الاجتماعية، كتعبيرٍ مكثّفٍ عن مقاومته لعملية التطهير العرقي المستمرّة ضده. مكانة وإن تجلت في رموزٍ فنّية وثقافية متعدّدة الأشكال، إلا أنّها أُنتجت عبر تضحياتٍ جسام قدّمها الشعب والأسرى من خلال حروبٍ مدمّرة حصدت مئات الشهداء والجرحى وإضراباتٍ فرديّة وجماعيّة في السجون وحملات دعمٍ ومناصرة وتصعيدٍ شعبيّ وصولاً إلى النطف المحرّرة، باعتبارها امتداداً طبيعيّاً لحالة المواجهة المفتوحة مع العدو.
تأتي «الصورة» هنا، بمختلف مفاهيمها، كصورةٍ ذات تمظهرٍ ماديّ، سواءً بطابعها الفني أو ضمن حضورها المعنوي كتشكّل للمعنى، لتنتصر لمشروع سياسي محاصَر، يعبّر عن الجماهير التي تدفع الثمن الحقيقي دائماً. بذلك، تساهم الصورة في إعادة إنتاج هذا المشروع السياسي عبر الأجيال. نلاحظ أيضاً أنّ الفنانين والمثقفين، الذين أعادوا إنتاج صورة الحدث، ما هم إلا وسطاء للمنتجين الحقيقيين لتلك الصورة؛ وصانع الحدث (الملحمة الإنسانية) هو صاحب القصة على أرض الواقع.
نذكر في هذا السياق ملحمة نفق الحرية التي سطّرها أسرى سجن «جلبوع» الستة، وما تمخض عنها من صور معنوية ومادّية استخدمتها الجماهير في إعادة بث روح المواجهة. فالملعقة كرمزٍ مستَحدث في موسوعة الرموز النضالية الفلسطينية، هي المرادف لأداة حقيقية صنعها الأسرى في سياق ملحمةٍ لم تتوقف نتائجها على ما قدّمته من صور، بل لا زال الأسرى الستة يدفعون ثمنها تنكيلاً وانتقاماً وعقوبات تفرضها عليهم إدارة سجون الاحتلال.
وبذلك، لا يُمكن حصر قضية «النطف المحرّرة» بما تحفره في الوجدان الجماعي من «صور» الإرادة والتحدي والبطولة وقهر السجّان، إنّما تتكثّف في كونها دلالةً على عملية تغيير اجتماعيّ عميقة في مسألةٍ قِيَميّة بالغة الأهمية والخصوصية وهي (الإنجاب) في ظلّ مجتمع محافظ وتحت سياق استعماري.
لا تتجلى أبعاد هذه العمليّة في تهريب النطفة عبر أنظمة القهر والمراقبة، إنّما أيضاً في عملية التعاقد المجتمعي الواسع، ليس فقط بهدف تشريعها مجتمعياً، بل في تشكيل صورتها ومعانيها والمكانة التي تكتسبها في الرواية الجماعية. تدخل هذه العملية حيّز التنفيذ عندما يقرّر الأسير وزوجته خوض تجربة الإنجاب عبر النطف المهرّبة. وليس ذلك بالقرار السهل، سواءً على الصعيد المجتمعي العام، أو على الصعيد الشخصي للزوجة بتربية طفلٍ في ظلّ غياب أبيه فترةً يسعى الاحتلال بكل ما أوتي لجعله غياباً أبديّاً.
تنطلق بعدها سلسلة مدروسة من الخطوات لإشعار المجتمع تدريجياً بقرار الإنجاب، ابتداءً من الأهل، مروراً برجال الدين والهيئات الطبية المختصة، انتهاءً بالإنجاب وما يرافقه من صور الاحتفاء والاحتضان. ولا يشارك المجتمع في هذه العملية الخاصّة جداً على مستوى الاحتفاء فقط أو الاحتضان فيما يليها، بل تتزامن مراحل عملية تهريب النطف من السجن مع مراحل المصادقة عليها والتأكد من سلامتها من مختلف المشاركين فيها، بدءاً من زوجة الأسير وذويه ووصولاً للمجتمع بأسره.
وعليه، ومن خلال إخراجه لقصّة دراميّة تفشل عبرها عملية تهريب النطف، لا يكون الفيلم قد أثار الشك حول نسب أكثر من 100 طفل فلسطيني فحسب، بل سبّب الضرر للأسرى ونضالهم بتجاهله لكل تفاصيل قصّة التهريب وأبعادها ومعانيها وتحدّياتها في سياقنا المجتمعي، متجاهلاً المفارقات والقصص المؤثرة الواقعية والفريدة بكلّ قصّةٍ منهم. كلّ ما سبق جعل من الفيلم تهديداً لعملية «النطف المحرّرة» وخطوات تنفيذها والحراك المجتمعي خلفها.
ليست المرّة الأولى
ما الذي دفع قطاعاً واسعاً لتبنّي فكرة أنّ الفيلم يسيء لقضية الأسرى؟ هل لأنّ القصّة تدور حول موضوع بالغ الحساسية، وما تخوض فيه الحبكة كمسألة «النسب» و«ذكورية» المجتمع كما ذهب بعض الكتّاب في قراءة الحدث، وهل تحكم ثقافة القطيع المجتمع وردّة فعله على الأحداث، أم يكفي تسلسل الحدث وسياقه الاجتماعي والتاريخي العام لفهم أبعاده وتجلّياته؟
سننطلق من هذه الأسئلة إلى آخر أكثر تحديداً، وهو: أين تقع العلاقة بين الفن والإنتاج الإبداعي من جهة، والمجتمع وحقّه برفض منتجٍ ما وتبنّي موقف مسبق منه كما حدث مع هذا الفيلم؟ وإذ لا يتّسع هذا المقال لدراسة معمّقة في تاريخ العلاقة بين الثقافي والسياسي في تاريخ القضية الفلسطينيّة، ودور الإنتاج الثقافي في سياق الفعل السياسي وتأثيرات الأخير وهيمنته على الأوّل والتحوّلات التي خضعا لها، سنكتفي هنا بتقديم قراءة سريعة للنقلة النوعية التي شهدتها صناعة السينما في فلسطين بعد العام 2000 ومخرجاتها التي تزامنت مع الانتفاضة الثانية، مع الإشارة إلى الحاجة لدراساتٍ معمّقة في هذا الصدد بهدف تطوير دور الفن في سياق نضاليّ تحرّري.
ارتبطت صناعة السينما في فلسطين تاريخياً بالثورة الفلسطينية وتجلياتها الرسمية والشعبية ولعبت، إلى جانب مختلف أشكال الإنتاج الثقافي والمعرفي، دوراً مركزيّاً في إنتاج الخطاب السياسي للشعب الفلسطيني. شهدت هذه العلاقة تحوّلاً جذرياً بعد أوسلو، تمثّل في انفصال صناعة السينما عن المؤسّسة الرسمية الفلسطينية التي بدورها شهدت تحولاتٍ بنيويّة ووظيفيّة جذريّة. واستمرّ ذلك إلى أن شهدت هذه الصناعة نقلةً نوعيّةً بعد العام 2000، حيث وبالتزامن مع الانتفاضة الثانية، ازداد ارتباط هذه الصناعة بسوق السينما العالمي، وأصبح تمويل الأفلام ذا طابعٍ استثماريّ، عوضاً عن التمويل بقصدٍ تعبويّ سياسيّ.
شهدت هذه المرحلة كثافةً في الإنتاج السينمائي الاحترافي في فلسطين قياساً بالفترات السابقة. لم يتوقف هذا الارتباط على مسألة التمويل والتسويق، بل امتدّ ليشمل مسألة النقد والتقييم والتوجيه، والشكل الفني وطرق معالجة المضامين. فأصبحنا نشهد المزيد من الحضور للسينما الفلسطينية على منصّات الجوائز العالمية وسط الاحتفاء بوصول السينما الفلسطينية إلى العالمية، وما يمثله ذلك من انتصار لرواية «الضحية».
نحتاج هنا إلى المزيد من الجهود لدراسة نتاجات هذه الطفرة الإنتاجية منفردةً، وعبر سياقات تراكمها في ظلّ ارتباطها بالسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني وتأثيراتها عليه. إلا أننا نستطيع تلمّس أنماطاً للتشابه ما بين فيلم «أميرة» والعديد من الإنتاجات السينمائية التي تنتمي لذات الطفرة. أكثر من كونها أفلام لذات المخرج أو جهة الإنتاج بشكلٍ أو بآخر.
تمتاز هذه الأفلام بالميزانيات الضخمة التي رُصدت لإنتاجها، بتمويلٍ أجنبيّ في الغالب، وبمشاركة طواقم كبيرة من التقنيين مع أحدث تقنيات التصوير والتسجيل ومرحلة ما بعد الإنتاج. تمكّنت هذه الأفلام من المشاركة في أهم مهرجانات السينما الإقليمية والعالمية وترشّحت للعديد من الجوائز، وحظيت بتغطيةٍ إعلامية لافتة إضافةً إلى مباركة المشهد الثقافي لها والاحتفاء بأبطالها ومنتجيها وتوظيفها ثقافياً وسياسياً.
تناولت هذه الأفلام قصصاً وقضايا حسّاسة في المجتمع الفلسطيني، وسعت لتقديمها في قالبٍ تشويقيّ درامي بوليسي حيث أمكن، مليء بالمفارقات الدراميّة التي تملي على المشاهد مواعظ وعِبَر غارقة في الشعاراتية. في حين أنّ المعالجة الفنية الفعليّة تقوم على بناء سياقٍ دراميّ مُتَخيّل وموازٍ لقصّةٍ حقيقية ذات طابع ملحمي، بحيث يعيد كاتب الفيلم ترتيب سياقات حدوث القصّة الحقيقيّة والعبث بمضامينها عبر السياق الموازي، لخلق تشويقٍ يتناسب مع سطحية المشاهد المستهدف بحجّة تحدّي قيم المجتمع ونقدها عبر الفن.
تتناول هذه الأفلام قضايا حساسة أو ظواهر ملحمية في المجتمع الفلسطيني وتُعيد إنتاجها وتقديمها بشكلٍ يثير حماسة الجمهور الأبيض، ويسيء لتلك القضايا وللشعب الفلسطيني عبر سياقاتٍ مفترضة، غير موجودة، كحدث وتداعيات وشخوص ومواقف.
وعبر ما يتمّ إنتاجه في هذه المدرسة – إن صح توصيف هذا التوجّه – يُصوَّر الاستشهادي، على سبيل المثال، إمّا كعبيط وإما بكونه محارَباً من المجتمع لأنّ والده عميل ويُريد تطهير اسم العائلة. وأخيراً، يكون الوالد الحقيقي لسفيرة الحرية الوحيدة التي ظهرت في فيلم سينمائي عربيّ سجّاناً صهيونياً استبدل النطفة المهرَبة.
في المحصّلة، نحن أمام نمط من السرديات معزّزة بكثير من الأموال والتغطية الإعلامية والاحتفاء الثقافي، ومجسّدة بأحدث تقنيات صناعة الصورة ومتاحة عبر شتى المنصات، مع جوائز وتكريم وأقلام ماهرة. في هذه المدرسة، يتمركز الإبداع حول الفنان وحقه كفردٍ في التفكير والتعبير، وتكون السينما الغربية المهيمنة مرجعاً في الإنتاج والتقييم الفني والمعرفي، بغض النظر عن موقع الأخيرة كأداة في منظومة الاضطهاد الرأسمالي الحاكمة لهذا العالم.
تأتي هذه المدرسة الفنيّة في مواجهة رواياتٍ حقيقيّة تُكتب بالدماء وسنين العمر بالمعتقلات، روايات محاصَرة بالحرّاس والبنادق والأسلاك الشائكة والحواجز والاعتقالات والعقوبات ومنظومات المراقبة وخوارزميات الحظر والذكاء الاصطناعي، كلّها من أجل تجرّر الإنسان والمجتمع من أشكال الاضطهاد المتعدّدة، ونحو تحقيق العدالة المجتمعية والمساواة بين أفراد المجتمع.
الحقيقة أنّه ليست كلّ الأعمال الفنية والثقافية تخدم القضية، وانْ نجحت كما يسوّق البعض في «إيصال الصوت الفلسطيني» إلى المنابر العالمية. وبهذا، لم تنتهِ الحاجة لنقاش دور الفن والإنتاج الثقافي في هذه المواجهة المستمرة، وذلك استناداً للظرف الموضوعي المؤثّر في هذه العلاقة والظروف الذاتيّة للفاعلين فيها، لا إلى مواقف نظريّة مجرّدة غير متّصلة بالسياق التاريخي للشعب الفلسطيني ونضاله.
وطالما أنّ قصص الأفلام هي مفترَضة من وحي خيال الكاتب ومستوحاة من قصص ومواقف حقيقية يصنعها الناس بحياتهم الشخصية، فمن حق هؤلاء الناس بشكلٍ طبيعيّ أن يحاسبوا الفنان على ما يصنعه «خياله» من معانٍ «لحياتهم».
في الختام، كشّف لنا هذا الحدث عن مدى حرص المجتمع على نضالاته وصورها ومعانيها، وأنّه يمتلك القوة والحيوية الضرورية لمواجهة مختلف أنواع التحديات المفروضة عليه. وأنّ مسير الشعب الفلسطيني نحو حريته، وإنْ تكثفت محاولات صهر وعيه الجماعي وتشويه روايته الجماعية (سواءً بقصد أو بسبب الغباء والسطحية والبحث عن صنع الفرجة)، يظلّ مسيراً واعياً لذاته وأهدافه.