تشكّل عملية اليوم في القدس نقلةً نوعيةً على صعيد العمل المقاوم، ليس من ناحية الفشل الاستخباراتي الذي مني به الكيان الصهيوني فقط، وإنما أيضاً في مساهمتها في إفشال بناء أيّ تحديدٍ نمطيٍّ للعمل الشعبي المقاوم عبر إرباك نماذجه الإحصائية.
“التكنولوجيا طوطم الإنسان الحديث”، ربما تشكّل هذه العبارة المكثّفة مدخلاً لفهم عالم اليوم من حيث علاقة الإنسان بالتكنولوجيا وثورة المعلومات خصوصاً في الغرب، وهذا ينطبق بالتأكيد على فهم المؤسسة العسكرية الغربية محرّكة هذه الثورة.
فمنذ سبعينيات القرن المنصرم، شكّل الاستثمار العسكري الأمريكي في التكنولوجيا إبان الحرب الباردة أهم الأسباب في تطور البنية التحتية للتكنولوجيا العسكرية، والتي أسست بدورها البنية التحتية المدنية لذات التكنولوجيا بعد إتاحتها للاستخدام المدنيّ، مثل الحواسيب وشبكة الانترنت. وبكل بساطة، ما كان للأجهزة الذكية أن تظهر على مسرح البشرية لولا ظهور الصواريخ والقنابل المسمّاة بالذكية في مسارح العمليات الحربية أولاً. وينطبق هذا الأمر بشكلٍ كبيرٍ أيضاً على تطور قطاع التكنولوجيا العالية والمتقدمة في الكيان الصهيوني نتيجةً للاستثمارات العسكرية والاستخباراتية فيه في المقام الأول، ومن ثم انتقالها للحيز “المدني”.
أفرزت هذه العلاقة الحميمية ما بين التكنولوجيا والحرب ما اصطلح على تسميته بـ”الثورة في الشؤون العسكرية” (Revolution in Military Affairs)، والتي أثرّت على طريقة خوض الحروب غربياً بشكلٍ جذريٍّ بما جعلها لا تشبه حروب الماضي. ومن أهم تأثيرات هذا التحوّل أن المؤسسة العسكرية الغربية تظنّ بأنها تملك القدرة على “رفع ضباب الحرب”، بفضل اتساع المعرفة والوعي بمسرح العمليات الحربية وصولاً إلى الهيمنة عليه معلوماتياً، وبالتالي اتخاذ القرارات المناسبة على مستوى القيادة، وذلك من خلال ما يشبه “الجهاز العصبي” الذي يضمّ شبكة القيادة والسيطرة، الحواسيب، الاتصالات، والاستخبارات (C4ISR)، بما تتضمنه من تكنولوجيا المعلومات وأنظمة الحواسيب، والاتصالات العالمية، وأجهزة الاستشعار والمراقبة المتقدمة، وأنظمة الأقمار الصناعية.
كما أن هذا التطور في تكنولوجيا المعلومات رافقه تطورٌ آخر على صعيد جمع المعلومات الاستخباراتية في الحرب العالمية على “الإرهاب”، والذي كان آخرها ما كشف عنه إدوارد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي عن تطوير الوكالة لبرنامجين (بريزم والمخبر اللامحدود) لاعتراض وجمع وتحليل البيانات (Data Mining) من مصادر مختلفة، كالفيسبوك، وجوجل، وسكايب، ويوتيوب، وشركات الاتصالات ومصادر أخرى. وأطلق على هذين البرنامجين أيضاً اسم “أمّ جميع مشاريع البيانات الكبرى”، نظراً لحجم البيانات التي يمكنه جمعها.
كل ما ذُكِرَ آنفاً لم يكن بمنأى عن الكيان الصهيوني، فقد أعلن سابقاً عن “إنجازات” صهيونية في هذا المجال، مثل ما أعلن عنه من التعاون الأمريكي-الصهيوني في عملية استهداف حواسيب المفاعلات النووية الإيرانية، والذي فتح باب المفاخرة الصهيونية بقدراتها، وأنها تسير على خُطى ربيبتها الولايات المتحدة الأمريكية. وخصوصاً الوحدة 8200 الصهيونية (نظيرة وكالة الأمن القومي الأميريكي) المتخصصة في الحروب الالكترونية والتجسس الالكتروني. بل ذهب البعض إلى اعتبارها أكثر فاعلية من نظيرتها الأمريكية رغم الفارق في المقدرات، نظراً إلى الإدعاء الصهيوني القائل بقدرة الوحدة 8200 على فهم الفروق الدقيقة في اللغة والثقافات المتعلقة بالشرق الأوسط.
إلا أن هذا الادعاء سقط سابقاً في أولى تجاربه في حرب عام 2006 على لبنان (ولاحقاً في حروب غزة)، عندما اعتمدت المقاومة اللبنانية منطق العودة إلى الأساسيات لمواجهة التفوق التكنولوجي الصهيوني، من حيث التمويه المرتبط بطبيعة الجغرافيا للجنوب اللبناني، إلى جانب حفر الأنفاق والعمل تحت الأرض لتكون بعيدة عن عيون المراقبة التكنولوجية الصهيونية الشاملة، وليس انتهاءً عند تطوير شبكة اتصالات تابعة للمقاومة وُصفت بالبدائية، ساهمت بشكل أساسي في الحفاظ على وحدة القيادة والسيطرة لإدارة الحرب. ونستذكر في هذا السياق القصف الصهيوني المتعمّد لشبكة الاتصالات الأرضية إبان الحرب لتوجّه الناس نحو استخدام أجهزة الاتصال الخليوية، وما أعلن عنه لاحقاً من اكتشاف خلية تجسس لبنانية عاملة في شركات الاتصالات الخليوية، والتي ساهمت في اختراق شبكة الاتصالات وكشفها بالكامل لاستغلالها في التجسس الصهيوني.
اليوم، تعود التكنولوجيا إلى الواجهة مرة أخرى أمريكياً وصهيونياً، فعلى الصعيد الأمريكي، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكي قبل بضعة أشهر عن مشروع إنشاء وحدة متداخلة الوظائف للحرب الخوارزمية، هدفها تطوير ذكاء اصطناعي قادر على تصنيف وتحليل البيانات الضخمة (وخصوصاً تلك المتعلقة بالبيانات المصوّرة من الطائرات دون طيار)، والتي يصعب على العنصر البشري تحليلها بالسرعة المطلوبة، وذلك لتحويلها إلى معلومات استخباراتية عملياتية بسرعة فائقة. هذا التوجّه، جاء بحسب وزارة الدفاع للحفاظ على الأفضلية الأمريكية في مواجهة القدرات المتنامية لخصوم الولايات المتحدة الأمريكية.
على الجانب الآخر، ادعى رئيس الشاباك ناداف ارجمان الشهر الماضي في مؤتمر للأمن المعلوماتي نظمته جامعة تل أبيب، عن إحباط ألفي عملية محتملة (وليست أكيدة) للمقاومة الشعبية (العمليات الفردية/الذئب المنفرد بحسب التسمية الصهيونية)، وذلك من خلال المتابعة الإلكترونية. جاء هذا الإعلان بعيد ما نشرته صحيفة “هآرتس” عن تطوير الكيان الصهيوني لخوارزميات تعمل على مراقبة وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي للفلسطينيين، وخصوصاً تلك المتعلقة بأقرباء الشهداء وأصدقائهم والعاملين معهم، للتنبؤ بالعمليات وإحباطها. هذا التوّجه الصهيوني للاعتماد على التكنولوجيا للتنبؤ باحتمالية القيام بعمليات مقاومة، جاء نتيجة الفشل الاستخباراتي الصهيوني في بناء تحديد نمطي لمنفذي عمليات المقاومة (Predictive Profiling)، وذلك على عكس الخبرة التي بنتها في التعامل مع التنظيمات الفلسطينية سابقاً. كما إن طبيعة المقاومة الشعبية الفطرية الخلاّقة استطاعت تجاوز الكثير من حواجز الوقت والإعداد، لتكون المقاومة وليدة قرارٍ ذاتيٍّ لا تفصله سوى ساعات من التنفيذ.
في هذا السياق، تشكّل عملية اليوم التي نفذها أبناء أم الفحم في المسجد الأقصى نقلةً نوعيةً على صعيد العمل المقاوم. وذلك ليس من ناحية الفشل الاستخباراتي الذي مني به الكيان الصهيوني فقط، وإنما أيضاً في إفشال بناء أيّ تحديدٍ نمطيٍّ للعمل الشعبي المقاوم عبر إرباك نماذجه الإحصائية في بناء أولويات المتابعة والتحري حسب الموقع الجغرافي، إذ أن العمل المقاوم لا يقتصر فقط على الجغرافيا السياسية للضفة الغربية وإنما يمتد إلى الأراضي المحتلة عام 1948. سيكون لهذا التحوّل تبعات تشبه تلك التي واجهها الكيان الصهيوني إبان تنفيذ ثلاثة يابانيين تابعين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعملية فدائية، والذي أوضح في حينها قصور الإجراءات الأمنية والتصنيف النمطي المبني على التنصيف الإثني لأمن المطارات، وبالتالي تتسع رقعة “المشتبه بهم” وما يتصل بهذا الاتساع من تعقيدات جمّة.