تعالج شذى حمّاد مفهوم “التضامن” مع القضية الفلسطينية، متتبعةً تحوّله من انخراطٍ فعليّ في النضال ضدّ العدوّ الصهيوني ورافعةٍ مهمةٍ في إسناد المقاومة، إلى فعالياتٍ شكليةٍ ومظهريةٍ تمسّ جوهر القضية، وصولاً إلى الشكل المدجّن للتضامن باعتباره فعاليةً ليومٍ واحدٍ في السنة.
تثير قصة احتيال الشاب الجنوب إفريقي “شهيد استكالا” الكثير من الأسئلة حول مفهوم “التضامن” مع فلسطين وقضيتها، فإنْ كان ذلك “احتيالاً” لم يمرّ عليه أيام، فهناك عملية احتيالٍ مشابهة تتمّ تحت مفهوم “التضامن” ويمرّ عليها سنوات. وإن كنّا واعين تماماً لها، أو نغض عنها البصر، فجديرٌ بنا فهم هذا التحايل ودوره والممارسات الممنهجة لإفراغ “التضامن” من هدفه.
فمنذ تراجع الثورة الفلسطينية الحديثة، وتفكيك معسكراتها في بداية الثمانينيات، اختلف شكل “التضامن” مع فلسطين وقضيتها وشعبها، وأُعيد تشكيله إلى ما نعهده اليوم. من “النضال المشترك” المساند للثورة والكفاح المسلّح، ومن توافد الملتحقين بمعسكرات الثورة من أبعد البقاع والانخراط الفعليّ بالعمل العسكري، كفدائييّ الجيش الأحمر الذين جاؤوا من اليابان ليدوي رصاص رشاشاتهم في مطار اللد في ٣٠ أيار ١٩٧٢ حيث قتلوا وأصابوا العشرات، ومن حكايات النسوة التي كانت تبيع مجوهراتها بشرط شراء السلاح للثورة الفلسطينية، وصولاً إلى فقاعةٍ تضامنيةٍ تتناسب مع تعريف “الآخر” للتحرّر وأدواته، وتستجيب لإسقاطات “أوسلو” ومفرزاتها، ليتحوّل التضامن إلى صور وفودٍ تحضر نهاراً إلى “حديقة التضامن”، ثمّ تنام في أضخم الفنادق ليلاً.
ويُضاف إلى هذا الشكل الجديد التضامن “عن بُعد” في ساحاتٍ مخصّصةٍ للوقفات، “تصرخ” فيها كما تريد لفلسطين، ولكن ضمن قانون الساحة، ليصبح الوقوف هنا لـ “التضامن” مع هذه القضية الأخلاقية يساوي، أو ربما أقل، أيّ شأنٍ اجتماعيٍّ آخر يشغل بال مجتمعٍ لم يرضخ يوماً للاستعمار، بل كان هو المستعمِر. وأضيف أيضاً “الوقفة التضامنية”؛ أيّ السكون في المكان دون تحرك “يخلّ بالأمن” أو يُقلق أحد؛ أيّ دون الاقتراب من السفارات أو المؤسسات. ساعةٌ واحدةٌ، بحضورٍ لا يتجاوز العشرين، تنتهي إلى أن تُكرّر في الموسم المقبل.
بدورها، وثّقت الملصقات، كواحدةٍ من أبرز الأدوات الإعلامية والتعبوية للثورة الفلسطينية، هذا الانحدار في شكل التضامن، وهو ما يظهر وينعكس جلياً خلال مختلف المراحل التاريخية التي مرّت بها قضيتنا. فعلى سبيل المثال، برز في السبعينيّات والثمانينيّات شعار “يوم التضامن الدوليّ مع كفاح الشعب الفلسطيني”، دون أن يغيب السلاح عن هذه الملصقات، كعنصرٍ أسياسيّ في كفاح الشعب الفلسطيني يتّحد حوله العالم مؤكّداً على خيار المقاومة كالخيار الأوحد لانتزاع الحرية. وقد اعتُمد في تلك الفترة 15 أيّار كتاريخٍ لهذا التضامن مع الكفاح، في تأكيدٍ آخر على استرجاع كامل الأرض الفلسطينية، خلافاً لما فرضته الأمم المتحدة وتتعاطى معه أطرافها اليوم.
وبذلك، اختلف السؤال الاجتماعي حول “التضامن” وشكله وأدواته وما يترتب عليه، وأصبح لـ “التضامن” ثمنٌ ومُقابل، بل وتحوّل في كثيرٍ من الأحيان كوسيلة ضغطٍ ناعمة. فاستحال إلى أموالٍ تُضخ إلى السلطة، مشروطةً بمزيد من الرضوخ والسكون والسكوت، وتقديم المزيد من التنازلات، ومشروطةً أيضاً بقمع وإجهاض أي ثورةٍ أو جهدٍ مقاوم. كما لم يكُن هذا الشكل من “التضامن” يوماً خارج علاقة المستعمِر والمستعمَر، كعلاقةٍ مبنيةٍ على نظرة “الأبيض” الاستعلائية، يتوجب عليه الاكتفاء بالعيش بما مُنح – حسب أوسلو – ولا يحق له المزيد، وإن طلب المزيد، تُسحب هذه الأموال.
هذه الحالة من الحضور السهل إلى “حديقة التضامن”، جعلت من “التشعبط” على آلامنا سلّماً آمناً وسهلاً لتحقيق مساعي أفراد ومجموعاتٍ ومؤسساتٍ وقوى ودول، ليصبح هذا “التضامن” هو الرائج والمقبول، بينما باتت صورة “التضامن” الحقيقي، أيّ التضامن المشتبك، هي الغائبة والمهمّشة، وأحياناً المشبوهة، وإنْ تمكّنت من فرض نفسها بفعل طبيعة الصراع ووتيرته.
كما بات نيل “التضامن” الغربي هو الأولى؛ فهو الذي يضخ أموال “التنمية الوهمية”، ويتمّ بناءً عليه تفصيل شكل التضامن “الأنسب” بما يُرضي المانح، وأصبح هناك انتقاءٌ للقضايا التي سيُخلق حولها هالة التضامن. فمن السهل مثلاً رفع قضية الاعتقال الإداري -لأنّه ليس حسب المفهوم الغربي للعدالة أن يُعتقل إنسان دون تهمة – ولكن من المستحيل أن تُرفع حتّى صورة أسيرٍ محكومٍ بالسجن المؤبّد في ظرفٍ “تضامنيٍّ” ما؛ إذ ليست العمليات الفدائية أو المسلّحة أداةً “مناسبةً” حسب المقاييس الغربية، وبالتالي، يَقبَل “التضامن” الغربي اعتقال الفلسطيني ولكن بشرط تلفيق تهمةٍ له، ويقبل كذلك قتله، ولكن بشرط أن يموت بتهمةٍ.
علاوةً على ذلك، وضمن عملية إعادة تشكيل “التضامن”، أصبح هذا الشكل المستحدث مخرجاً مريحاً للعلاقة التي تربط فلسطين بامتدادها العربي والإسلامي، يُمكن من خلاله للأشقاء العرب “التضامن” مع الشعب الفلسطيني، بمعزلٍ عن مساعي المشروع الصهيوني في المنطقة والسياق التاريخي للعداء معه والمسؤولية المترتبة على ذلك. ولكن، لا تلبث هذه الصورة أن تتفكك مرةً بعد الأخرى لتستعيد موقعها الطبيعي في الصراع، إن كان ذلك شعبياً خلال الانعطافات السياسية أو بإسناد المقاومة أو بالمشاركة الفعلية مثل ما شهدنا خلال هبّة القدس وبعدها.
نذكر مثلاً عملية الأسير الأردني ثائر اللوزي التي نفّذها في إيلات عام ٢٠١٨، وعملية الطعن التي نفّذها الشهيد السوداني كامل حسن عام ٢٠١٦. وإن لم يُلصق على هذه العمليات وسم “التضامن”، فقد اعتُبرت شعبياً انخراطٌ حقيقيٌ بحالة الانتفاض، والتضامن بفعله الحقيقي وإنْ اختلف التعبير الشعبي. كما يُذكّرنا تبنّي هذه العمليات والاستقبال الشعبي لها في فلسطين بتبنّي الأمهات الفلسطينيات الفدائيين المتسلّلين خلال السبعينيّات والثمانينيّات، الذين اعتُقلوا في السجون الصهيونية، فاتّخذتهم الفلسطينيات أبناءً لهنّ يزورونهم ويبعثون لهم الرسائل والملابس والنقود، أمهاتٌ ما زلن حتى اليوم يدفعن ثمن ذلك، بعقوباتٍ يفرضها عليهنّ المحتل، كالمنع الأمني والمنع من السفر.
تأسيس “حديقة التضامن” الجديدة جاءت في الوقت الذي أصبحت فيه السفارات الفلسطينية الشكليّة مراكز للفساد، تُرسّخ الدور الذي تلعبه هذه المنظومة والصورة التي تخدمها. وفي الوقت ذاته، وضمن سياق “إفرازات أوسلو”، لم تبنِ الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية على تجربة ودروس م.ت.ف فيما يخصّ التضامن الأممي الفعلي، بما يتيح لها بناء قاعدة تتجاوز “الجنسية”، وهو ما أفضى إلى ابتعادها أكثر فأكثر عن أطر وتنظيماتٍ أخرى حول العالم تشاطرها الرؤية وتسند نضالها.
وبذلك أيضاً، لم نفقد قواعد مساندة حول العالم تأسّست دعماً لفلسطين وقضيتها فقط، وإنّما فُصلنا أيضاً عن القضايا العادلة والمطالب التحرّرية والحراكات الاجتماعية من حولنا في العالم، ولم نعُد بدورنا نتضامن معها، تحت الشعار الكاذب “ما فينا يكفينا”. أفضى ذلك أيضاً إلى عدم الالتفات إلى التجارب الاستعمارية السابقة الشبيهة بالمشروع الصهيوني، والثورات التحرّرية التي نجحت بالانعتاق منها، خلافاً لما كان قائماً في السابق. ومع ذلك، يُنعشنا “التضامن” الذي لطالما كان رافعةً مهمة لنضالنا، وإن لم نكُن راضين عن شكله المستحدث، وبات يرضينا أيّ شكلٍ منه، وذلك لإيماننا المترسّخ بأهمية الالتفاف العالمي حول قضيتنا التحرّرية الملتصقة بجوهرها أيضاً مع الكثير من القضايا التحرّرية العادلة والأخلاقية حول العالم.
وإضافةً إلى ذلك، وضمن التفكيك الأعمق لـ “التضامن”، فقد أصبح الأخير وصفاً مبتذلاً يُكتب برأس أيّ دعوة: “التضامن مع الأسير الفلاني، التضامن مع العائلة الفلانية، التضامن مع الجريح الفلاني..” وبالتالي حتّى داخلياً فكّك عمق ومضمون الوصف، فالتضامن هنا بات تعاطفاً، ولم يعُد كما كان: التصاقاً وانخراطاً وإسناداً و.. ثأراً.
وهكذا، أُعيدت قولبة القضية الفلسطينية من مسيرة مقاومة تحررّية مستمرّة، تسعى لانتزاع الحرية والعدالة وملتصقة بالالتزام المبدئي الأممي، وتعتبر نكبة عام 1948 يوماً لإحياء هذا التضامن مع “كفاح الشعب الفلسطيني”، إلى “اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، يحتفي به العالم – كما أرادت الأمم المتحدة- بما ينزع عن قضيتنا عدالتها ومنّا حقنا. ووفقاً لتعريف هذا اليوم، فهو: “احتفالٌ رسميّ باتّخاذ الجمعية العامة، في 29 تشرين الثاني 1947، القرار 181 الذي ينصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين”. وفي كلا الحالتين، يكشف لنا اعتبار “التضامن” مناسبةً سنويةً عن مسار تفكيكه وتحويله من فعلٍ إسناديّ إلى شعارٍ أو “كرنفال” يُرفع مرةً في العام.