إنّ أوّل ما يكتبُ مختاراتنا لشهر تشرين الأول هو الصراع، وإنْ دارتْ رحاه في حلباتٍ مختلفةٍ. تفتح المقالة الأولى تاريخَ انغلاق الآفاق بوجه الأنثروبولوجيا في تونس، وصراعاتها مع الحقول الأخرى في ظلال مشروع الدولة. فيما الثانية تدوّن صراعاً طويلاً بين “اللادولة” العراقيّة وميدان العدالة الذي يطمح الشباب الأعزل في الساحات إلى العيش في كنفه. أمّا الدراسة الثالثة فتسجّل عنف المسافات والحكايا الذي يكمُن بين سرديّة السلطة الموحّدة حول ثورة 1919 المصريّة، ورواية “مَنْ هم تحت” بخصوصها.
تدريس الأنثروبولوجيا في تونس: نظرةٌ من الداخل
تعيش الأنثروبولوجيا، كحقلٍ جديدٍ نسبيّاً في الدول الما بعد كولونياليّة، مآزقَ عدّةً تجعلها عاجزةً عن الاستقلال كحقلٍ معرفيٍّ، والتي بدورها تتخطّى إشكاليّات الشرعيّة للصوقها تاريخيّاً بالنزعات الاستعماريّة، إلى إشكاليّات هويّة انشغالات الحقل ومبرّراتها وارتباطها بانتكاسة الحداثة، بجانب أزمة الحسّ النقديّ ودفع التخصّص إلى حقولٍ أخرى تُفقدهُ جوهره.
في مقالته المطوّلة المنشورة في موقع “المراسل” الشهر الماضي، يبني لنا الطالب الأنثروبولوجيّ، حسام الدين سعاف، معماراً نقديّاً يستحضر فيه ما سبق، من وحي تجربته الخاصّة في الحقل الأنثروبولوجيّ في جامعة سوسة، مُتّخذاً من تفاعل تونس مع الحقل حالةً دراسيّةً.
يعتبر سعاف أنّ إلباس الأنثروبولوجيا، طويلاً، العباءةَ الفلكلوريّة، وإحالتها بالضرورة إلى مجتمعاتٍ تقليديّةٍ بدائيّةٍ، كانا مُتعارضَيْن مع مطمح تونس في “عصرنة المجتمع” بطورٍ شبيهٍ بالمجتمعات الاستعماريّة. إذ لطالما طَبعَ هذا الحقلَ المنطقُ الما قبل التاريخيّ والأحفوريّ، بل وارتبط عادةً بوصم الجماعات التي يدرسها بالعجز عن فهم ذاتها وإدراك إحداثيّاتها؛ ما بنى الأنثروبولوجيين كأفرادٍ يؤدّون ما تعجز تلك المجتمعات عن تأديته، بل ويشكّلون الحلقة الفعّالة في تطوير حواس وعيها بنفسها وثقافتها.
نتجَ عن هذا النظرُ إلى أعمال المؤرّخة الفرنسيّة التونسيّة، “لوسات فالسني”، حول الجماعات الهامشيّة في تونس؛ من مثل اليهود و”العبيد”، كبحوثٍ تقبع في تلابيب الماضي، وتنفضّ عن الراهنيّة، وهو ما أبقى التخصّص إيّاه في المناطق الهامشيّة، تظهر موضوعاته وتختفي بشكلٍ متقطّعٍ، خصوصاً أنّ مثل هذه الأبحاث لم تكن بعْدُ منضويةً تحت مظلّةٍ حقليّةٍ واضحةٍ. تضافرَ هذا مع تبنّي “المعهد الوطنيّ للتراث”، في نهاية سبيعنيّات القرن الماضي، الاختصاصَ الأنثروبولوجيّ، باعتباره رديفاً للرجوع إلى الماضي، وبالتالي مُقاوِماً للأطوار المُتسارعة في تحديث المجتمع وعصرنته من قِبل دولة الاستقلال.
بالمقابل، هيمن حقلا السوسيولوجيا والاقتصاد على حساب الأنثروبولوجيا، في النصف الثاني من القرن العشرين، ويُعزى ذلك إلى إعادة تعيين الدولة التونسيّة مقوّماتِها ومطامحَها، وفقاً للنموذج الغربيّ في ترسيم هويّات الاختصاصات وموادها البحثيّة. ففي الوقت الذي اعتُبرتْ فيه كلٌّ من السوسيولوجيا والسيكولوجيا، بجانب الاقتصاد، حقولاً محورُها الإنسان الغربيّ، انحصرتْ دراسة الأنثروبولوجيا في المجتمعات التي لم تصعد بعْدُ سُلّم التحضّر الغربيّ.
تكمُن المفارقة، هنا، في أنّه في الوقت الذي كانت فيه الأنثروبولوجيا تواجه معضلة الشرعيّة، ويُنظر إليها بعين الريبة، لما اعُتبر تورّطاً منها في بناء التصوّرات الفوقيّة حول المجتمعات غير الغربيّة، وتعبيدها المُباشر طريقَ الاستعمار، سواءً عبْر النظريّة التطوريّة أو الوظيفيّة أو غيرها، سارتْ تونس بمُهتدى الذهنيّة الغربيّة في التقسيم الثنائيّ للحقول المعرفيّة، بل واستبطنتْ المبرّرات المحمولة عليها. فمن جهةٍ، كان إعلاؤها حقلَ السوسيولوجيا ترميزاً إلى قدرتها على إنتاج معرفةٍ علميّةٍ تخصّها، دون الحاجة إلى قنواتٍ خارجيّةٍ، وهو ما كانت الأنثروبولوجيا قاصرةً عن تحقيقه، بحسبها. ومن جهةٍ أخرى، جاء انكبابها على الحقل الاقتصاديّ لِما اعتبرته رافعةً رئيسةً للتحديث والتنمية. تُرجم ذلك إلى تأسيس مركز الدراسات الاجتماعيّة، وبعث إجازة علم الاجتماع عام 1959، ومن ثمّ تأسيس مركز البحوث والدراسات الاقتصاديّة الاجتماعيّة عام 1964.
بقيت كلّ محاولات الانشغال الأنثروبولوجيّ، حتى تسعينيّات القرن الماضي، أسيرةَ المظلّات الحقليّة الأخرى، تحديداً السوسيولوجيا. ورغم بعث إجازة الأخيرة في عددٍ قليلٍ من الجامعات التونسيّة في مطلع القرن الواحد والعشرين، إلّا أنّ الثورة التونسيّة عام 2011 منحتْ التخصّص زخماً أكبر، بل وفنّدت عطب التصوّرات المعياريّة حول مادته البحثيّة، وفي ضوئه كذلك، فنّدت المشروع التونسيّ الحداثيّ العلميّ. إذ يقول الباحث إنّ بناء الأخير ساهم في كبت الموروث التقليديّ وتجنُّب الاعتراف بذلك الجانب من المجتمع التونسيّ الذي كان تقليديّاً، غير أنّ الثورة أظهرتْ عودة ذاك المكبوت إلى فضاءات المجتمع التونسيّ. أفضى هذا إلى توسّع إجازة الأنثروبولوجيا إلى حدود جامعاتٍ أخرى؛ أهمّها تونس وسوسة.
فعلى صعيد تمثّل الأنثروبولوجيا في الجامعات التونسيّة، يبيّن سعاف أنّها حقلٌ تعرّض لإسقاطاتٍ من حقولٍ أخرى قريبةٍ؛ من مثل السوسيولوجيا والفلسفة، ما جعلها في أحيانٍ كثيرةٍ تخسر هويّتها البحثيّة، لتصبّ طبيعة النقاشات والمداولات في الصفوف الأنثروبولوجيّة في حقولٍ ذات هيمنةٍ أكبر. يُرجع الباحث ذلك إلى خلفيّات الأساتذة المعرفيّة التي تنوّعت بين الجغرافيا والفلسفة والتاريخ وعلمَيْ الاجتماع والنفس، والتي بدورها أنتجتْ ما يسمّيه “ترقيعاً” للاتجاهات البحثيّة، ولَيْ عنق الأنثروبولوجيا بتصويرها وعاءً يستوعب الأطر المعرفيّة التي يتبنّاها الأساتذة، الأمر الذي عدّه مسّاً سلبيّاً بروح التخصّص.
إنّ الخلط والعبور المطواع بين المفاهيم انعكسا، كذلك، على خيارات الطلاب الجامعيين؛ إذ أفضيا إلى تفضيل الأخيرين التوجّهَ إلى اختصاصاتٍ أكثر حسماً من حيث الهويّة وعمودها الفقريّ، فضلاً عن المزاج العام في غَلَبة العلوم الصلبة على المعارف التي تستمدّ شرعيّتها من الطروحات النقديّة التي قد تشكّل أحد أوجه المعارضة السياسيّة. وفي خضمّ ذلك، تأتي أيضاً اعتبارات السوق والرأسمال الرمزيّ، التي تحدّد بدورها مسارات التوجّه داخل الجامعات.
في نهاية المطاف، لا يُخفي سعاف أمله إزاء الحقل الأنثروبولوجيّ في قدرته على توفير مداخلَ جديدةٍ في فهم التغيّرات في المجتمع التونسيّ. لكنّه إذ يُعضّد من آماله تلك، فإنّه يقرّ بضرورة الانفتاح على حقولٍ اجتماعيّةٍ أخرى، من شأنها أن ترفع من مصاف الأنثروبولوجيا، لا أن تحجب هويّتها، نظراً لعيشنا زمناً متداخلاً في الأزمات، يحتاج لتفكيك ظواهره المرّكبة كلَّ ذلك وأكثر.
للقراءة، من هنا.
العراق الشاب.. أعزل في وجه “اللادولة”
منذ شهر تشرين الأول الماضي، يندفع العراقيّون إلى مزيدٍ من ساحات الاحتجاج، رافعين شعارَ إسقاط النظام. يحرّكهم الحنقُ المشترك العابر للطوائف والمِلل، على إثر احتجاز كثيرٍ من حقوقهم الآدميّة من قِبل نظام المحاصصة المعمول به في البلاد. حتى لحظة كتابة هذه السطور، سال دمٌ كثيرٌ في شوارع بلاد الرافدين، وثبّتَ القنّاصة أختام رصاصاتهم في صدور الشبّان العارية، وشرعت الديار أبوابها لتستقبل المُعزّين بأبنائها.
في زحمة الحزن الذي اعتلى صحن السماء، دوّن الكاتب العراقيّ عمر الجفال في صفحات “السفير العربيّ” المشهدَ العراقيّ اليوم، ما بين ملحمة الشباب الأعزل وترجمات “اللادولة” على الأرض. يستهلّ الجفال مقالته باستعادة مفردة “التغيير” التي لطالما نضحَ بها قاموس الرموز السياسيّة المتناوبة على إدارة العراق. فبينما حلّ “التغيير” شيئاً هُلاميّاً مِن الصعب الإمساكُ بماهيته في كلّ دورةٍ انتخابيّةٍ، بل استحال مُعادِلاً لسكون الخراب الذي تتفّق عليه كلّ المرجعيّات السياسيّة في نهب الفقراء وتعميق الاحترابات الداخليّة، اكتسبتْ المفردة شرعيّة معناها وإحالاتها مع مطلع الشهر المنصرم، حيث هتفتْ الحناجر عالياً بضرورة إسقاط النظام.
يعتبر الكاتب أنّ هذه المظاهرات التي اجتاحتْ مدن العراق وشوارعها لم تخرج من القمقم بغْتَةً، إنّما جاءت امتداداً لسلسلة الاحتجاجات التي شهدها العراق طيلة الأعوام الماضية. لكنّ المختلف هذه المرّة أنّها خرجت من أفواه شبانٍ لا يتعاطون الأيديولوجيا وطروحاتها؛ كتلك التي انتظمتْ على أيدي نخبة المثقّفين والصحافيين والنشطاء عام 2011، أو تلك التي قادها الشيوعيون أو أتباع مقتدى الصدر عام 2015. مع ذلك، كانت حصيلة المكبوت من يأسٍ وغضبٍ وضَيمٍ كفيلةً بتوحيد المتظاهرين وطوفانهم في الساحات، بمعزلٍ عن إرادة أيّ قوىً سياسيّةٍ أو نقابيّةٍ، وهو ما يؤشّر على أنّ التحرّكات الشعبيّة يصعبُ ضبطُها بمقاسٍ معيّنٍ أو بتجربةٍ من الماضي.
يشير الجفال إلى أنّ المحتجّين قبل أن يُقابَلوا بزخّات الرصاص ومعدّات مكافحة الشغب، قُوبلوا قبل نزولهم إلى الساحات بحملاتٍ من التندّر السياسيّ، باعتبارهم من “العوام” الجُهلاء الذين لا يفقهون شيئاً في مجريات العمليّة السياسيّة؛ إذ لا تشي كِسوتهم ولهجاتهم “الغريبة الدونيّة” وقصّات شعرهم إلّا بأنّ دعواتهم ستبقى طريحة المَقول، لن تدخل حيّز الفعل. لكن بعدما انقلب التندّر السياسيّ على أصحابه، وكتبَ “العوام” مقولاتهم بالدم في الساحات، صارت هناك حاجةٌ للّجوء إلى ديباجةٍ أخرى تنزع الغطاء الشعبيّ عن هذه الاحتجاجات. إنّها، بطبيعة الحال، ديباجةٌ مكرورةٌ على ألسنة جميع الأنظمة الاستبداديّة، حيث خرج رئيس الوزراء العراقيّ عادل عبد المهدي إلى العلن، مُبتزّاً الجماهيرَ الغاضبة بثنائيّة الدولة و”اللادولة”.
تلك الثنائيّة غير الإبداعيّة تستحضر كلّ مشاريع “الخراب” و”الفوضى”؛ إذ تُعتبر وصفةً جاهزةً للدفع إلى الأمام بالنظام السياسيّ التسلّطيّ، وتمتين قوّة قمعه المحتجّين وتبرير تكريسها. بيْدَ أنّ الكاتب يُحاجج بأنّ الترهيب من مستقبل “اللادولة” لا يمكنه مُخاطبة الضيم الذي يُقاسيه العراقيّون، بل ويتعذّر عليهم الاستجابة له، على اعتبار أنّ شكل “اللادولة” متحقّقٌ فعليّاً على أرض الواقع، حيثما اللاقانون والفئات الأوليغارشيّة التي تركّز السلطة والثروة بأيديها، بجانب انفلات غول الفساد وانعدام الأمن.
في ضوء ذلك، يضعنا الجفال في صورة خارطة أقطاب النظام السياسيّ الراهن، فبعدما احتجب معظم العراقيين عن الانتخاب في الدورة البرلمانيّة العام الماضي، تحالفتْ الكتل السياسيّة في ما بينهما لإنقاذ حصّتها في ميدان السلطة، ليظفر الكرديّ برهم صالح بكرسي رئاسة الجمهوريّة، والشيعيّ عادل عبد المهدي بحقيبة رئاسة الوزراء، والشاب السنيّ محمد الحلبوسي بسلطة البرلمان. جيءَ بهم جميعاً، وفقاً لنظام المحاصصة الطائفيّ، مُتضافراً مع “الجيوش الإلكترونيّة” التي تعمل على مدار الساعة لتظهير مناقبهم وتلميع سياساتهم.
لكنّ العراقيين الجوعى والعطشى في بلاد النهرَيْن تعالتْ على جراحهم تلك الحكومة، فاندفع عبد المهدي إلى هدم العشوائيّات و”تنظيف” الشوارع من بسطات الفقراء والكسَبَة؛ إذ إنّ العصرنة والتحديث تجرّ معهما ضحاياهما غير المرئيين بالنسبة للحكومة. يخلُص الكاتب إلى أنّ رؤية النظام هؤلاء كمواطنين من ذوي الدرجة الثالثة، وفي ظلّ الموت الذي تحمله أعين القناصة تجاههم، من شأنها أن تُوسّع تلك الفئة أكثر فأكثر، وتُضخّم ثراء الفئة المُقابِلة. يبدو أنّنا على امتداد جغرافيا الوطن العربي، نشهد مخاضاً عسيراً سيطحن في بطنه كثيراً منّا، قبل أن يصبح ما تريده الإرادة الشعبيّة بحوزتها وماثلاً أمامها!
للقراءة، من هنا.
الوجه الآخر لثورة 1919 المصريّة: ثورة فلّاحي الهماميّة
في دراستها المنشورة، مؤخّراً، في مجلّة “بدايات”، تكتب الباحثة عليا مسلّم “تاريخاً من الأسفل” لثورة 1919 المصريّة، والتي لطالما فُرض عليها تسريدٌ وتأطيرٌ وطنيّان قوميّان. ففي سبيل إنتاج سرديّةٍ موحَّدةٍ سلسلةٍ على وقعها، يحتكر فيها الصفوة صوتَ مناهضة السلطة الكولونياليّة، بل ومنطق الإلهام والتوجيه لغيرهم من الطبقات، جرى إسكات أصوات الفلاحين التي تهزّ الميل المتجانس لتلك السرديّة، وتكشف صراعاً مع هياكلَ متعدّدةٍ لعلاقات القوى، تضمّ بين ظهرانيها ثورةً على ثورةٍ قادها “الباشوات” عام 1918.
وإذ تستعيد مسلّم، تحديداً، أصداء فلّاحي قرية الهماميّة في أسيوط مصر، فإنّها تُخرج الفلّاحين من الثنائيّة الكسولة التي لطالما حصرتْ فاعليّتهم ما بين السلبيّة والتفادي المستمرّ، وبين الخطّ الثوريّ العنيف. حيث تحفر في طبقاتٍ متعدّدةٍ لفلّاحي القرية على صعيد وعيهم السياسي، وتمثّلاته غير المتجانسة، واللغات المرافقة له، بجانب مقاربات مقاومة ائتلاف السلطة.
يجري هذا الحفر بالاستعانة بمصادرَ رئيسةٍ، تتمثّل في المجلّد الثاني من مذكّرات قرية الهماميّة، تحت عنوان “مشايخ جبل البداري” للمفكّر العروبيّ عصمت سيف الدولة، بجانب أرشيفات وزارة الخارجيّة البريطانيّة التي بالإمكان الاستماع إلى همسات الفلّاحين من خلالها؛ من أغنياتٍ وأداءاتٍ ونكاتٍ. إذ حينما تُرخى الآذان إلى ألسنة قاع المجتمع المصريّ، تُقاوَم بالضرورة السرديّاتُ الفوقيّة الطاهرة للسلطة ومؤرّخيها؛ من مثل مذكّرات سعد زغلول، رئيس حزب الوفد حينها، وكتابات لطيفة سالم، والتي توّحدت على تصوير الفلّاحين مجرّدَ موضوعٍ ينصاع للميول الوطنيّة التي يحدّدها الحزب وأقرانه، مجفّفةً بذلك ينابيعَ العدواة الطبقيّة التي فجّرها الفلّاحون إزاء باشوات الحزب.
تبدأ مسلّم رحلتها من مذكّرات سيف الدولة، التي تتجاوز بدورها المنطق الكلاسيكيّ التي عادةً ما يحكمها، حيث لا يدوّن سيف الدولة تاريخه الشخصيّ مُباشرةً، إنّما يعي ذاته ضمن تاريخ المجموع في القرية، الذي يعدّ بناءً فوريّاً لتاريخ الأفراد أيضاً، من بينهم الكاتب. تفتح المذكّرات صفحاتها على نقاشٍ دارَ بين الراوي وشيخ غفَر القرية، عزيز؛ إذ يرى الأخير أنّ وحدها النوائب ما تشكّل الجموع وتوحّدها، والتي تتمثّل في مثلث السلطة، بما فيها الإدارات المحليّة والكولونياليّة، والفيضان السنويّ، وكذلك الجزيرة وما تعكسها من حياة الفلّاح كضحيّةٍ لطبقة مُلّاك الأراضي.
بذا، لا تنظر مسلّم إلى المذكّرات بعينٍ توثيقيّةٍ، بقدر ما تنكشف عليها بعين الاحتمالات والإمكانات الفيّاضة لمقاومة فلّاحي القرية لذاك المثلث، والتي ترسم بدورها تأطيراً متبايناً لموقعيّة أهالي القرية الاجتماعيّة والثقافيّة، واستقبالهم أطرافَ القمع والاستلاب من مدخل أولويّة مواجهتها، والآليات المتفاوتة في ذلك.
يحضر كلّ هذا عبر أربع شخصيّاتٍ مركزيّةٍ تنغمس فيها المذكّرات، وتعبّر بالضرورة عن انغماس القرية بامتدادٍ أكبر من حدودها، يطال سرديّات الثورات وصناعة الوطن إجمالاً. تتمثّل هذه الشخصيّات في عباس؛ المثقف الأزهريّ الذي ارتحل عن قريّته لغرض الدراسة، وابن أخته يونس عبد الله، بجانب كلٍّ من نعمان ولد الشيخ عماد زيدان، وفكري عبد النبي. يأخذ كلٌّ منهم خطّاً في المواجهة واللغة التي تُدعّمها، حيث يعود بنا عباس إلى عام 1917، حيث القرار البريطانيّ للتشجيع على التجنيد في خضمّ الحرب العالميّة الأولى، وإغارات السلطات الكولونياليّة على القرى، وسلبها المواشي والمحاصيل، واختطافها الشباب.
على وقع هذا، يقرّر عباس مواجهة التجنيد بطريقةٍ تبدو ساذجةً لأهل القرية، لكنّها بنظره تكنيكٌ يستبطن القرية جزءاً أصيلاً من نضالٍ قانونيٍّ أكبر. ففي حين ترى القرية رفعَ عباس عريضةً تحمل 45 اسماً رافضاً للتجنيد، وبلغةٍ تبدو مترفّعةً عن أهاليها، “شكايةَ الحكومة للحكومة ذاتها”، حيث المواجهة معها ليس إلّا وجهاً قطعيّاً من الخسارة، يصرّ عباس على الذهاب لأسيوط وتقديم العريضة، ليحصل ما لم يخطر في البال. إذ ينسى عباس تدوينَ اسمه في العريضة، لتعتقله السلطات قبل أن يضحّي ابن أخته يونس بنفسه كرمى خاله، ليرتحل وحيداً من القرية إلى الجبهة.
تبدأ مع يونس وأربعةٍ وعشرين شاباً من الصعيد يزاملونه على الجبهة التي تبعد 45 يوماً عن موطئهم، مساراتٌ جديدةٌ إزاء السلطة، حيث الإضراب عن العمل لإجبار الأخيرة على الرضوخ إلى مطالبهم في تحسين ظروف معيشتهم ومأواهم هناك. لكن بوفاة أحد زملائهم تجمّداً حتى الموت، ورفض السلطات دلقَ الماء الساخن على جثته، ودفنه تبعاً للطريقة الإسلاميّة، يشعر العمال ليس فحسب بالموت القاسي في الغربة، إنّما بحرمانهم من أن يجدوا طريقهم إلى الخلود. تتصاعد الأمور، حتى يقوم “ريّسهم” بقتل الجنرال الفرنسيّ، ومن ثمّ يطلق الفرنسيّون الرصاص عليهم، لينجو يونس وحيداً، متصنّعاً موته، ليعود إلى قريته لاحقاً يحكي تجربته بصوتٍ عالٍ جعلها حيّةً حتى اليوم.
أمّا الشخصيّتان الأخريان، فرآ السلاح الشرعيّةَ المثلى لإعادة ترتيب علاقات القوى، واسترداد الجزيرة الخصبة من أيدي النبلاء وملّاك الأراضي. لكن كان عليهما الانخراط في ثورة الباشوات 1918، كي يبقى السلاح بأيديهما؛ إذ كان انتماؤهما إلى الثورة جسرَ عبورٍ نحو ثورة فلّاحين يسعون إليها، يثورون فيها على ناهبيهم من قيادات الثورة تلك، خصوصاً أنّ مطمح الأخيرة كان التفاوض مع السلطات البريطانيّة.
هكذا، بات مع تقادم الزمن يتضخّم الصراع، ويضمّ في طيّاته طائفةً من مكوّنات السلطة والحكومة وملّاك الأراضي، وائتلافاً أيضاً من آليات التصادم معها، شكّلت مجتمعةً إرهاصاتٍ للثورتين وتجلياتهما. نستنتج من هذه المقالة أنّ هذه القرية بفلّاحيها شقّت السرديّة المهيمنة الخطيّة حول الثورة، بل ووضعتنا أمام أطيافٍ متعدّدةٍ من ذاكرة المقاومة تخرج عن أطوار الثنائيّات، لتصعد إلى زمننا هذا، فنقرأ من خلالها ثورات الشعوب المسحوقة في رحى السلطة والطبقيّة، بل وتضعنا أمام ميدان الصراع الدائم بين تاريخ السلطة وتاريخ “مَنْ هم تحت”.
للقراءة، من هنا.