حينما اشتكى القوميون المتدينون لرئيس الوزراء دافيد بن غوريون أنهم غير مدمجين كليا في الإدارة العامة، أو أنهم افتقروا إلى ذات الوضع الذي تمتع به غير المتدينين، سألهم: “كم منكم دُفن في مقابر الجيش؟”. وقد يبدو أنه على مستوى شخصي وفئوي وثقافي أن ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة في الجيش قادت الصهاينة المتدينين والمستوطنين إلى مقابر الجيش، واقعياً ورمزياً.
يمكن قراءة الجزء الأول، هنا.
يهودا والسامرة – “الـحيز المعسكر” The militarized space
إن الثورة التي ولدتها أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية كان لها تأثير خاص قابل للتمييز على صورة وإدارة يهودا والسامرة، والتي أصبحت ما يمكن أن نوسمه بـ “الحيز الأمني”: منطقة ريادية في كل الفهارس-النسب المئوية لمنتسبي الجيش، ومن يعتنقون الخصائص الثقافية العسكرية، والهيئة العسكرية ضمن كل الشباب.
أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية شرق الخط الأخضر
إن أول أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية أنشئت في مستوطنة إيلي في السامرة ومنذ ذاك الوقت ازدهرت هناك. تعرف هذه الأكاديمية ب”أم الأكاديميات”- وهي نموذج محاكاة من قبل مؤسسات أخرى مشابهة. كذلك، فإن أول أكاديمية غير دينية لما قبل الخدمة العسكرية قد أنشئت بعدها بحوالي عقد في مستوطنة نيلي شرقي الخط الأخضر أيضًا. هذه الأيام، ثمة حوالي 36 من أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، 41.66% منها (15 أكاديمية) تقع شرق حدود العام 1967 (12 في يهودا والسامرة و3 في هضبة الجولان). في كل أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، فإن 74% من كبار الموظفين من مستوطنات وراء حدود عام 1967.
إحصائيات التجنيد العسكري الإقليمي
سنة 2010، حلل محققو مديرية القوى العاملة في جيش الدفاع فهرس التجنيد في المجالس الإقليمية. كان المركز الأول لأعداد المجندين في الجيش من نصيب المجلس الإقليمي لجبل الخليل، بنسبة 96.4%. ومن بين مجندي المستوطنات في تلك المنطقة (جبل الخليل)، فإن 83.3%، خدموا في وحدات قتالية. في تلك السنة وجد أيضا أن 61% من مجندي السامرة كانوا قد اختاروا آداء الخدمة في وحدات قتالية، بعكس 36% فقط من مجندي منطقة تل أبيب.
في العام 2011، وجد أن هناك تزايد في أعداد المجندين الذكور في السامرة-81.2% من سكان تلك المنطقة، بعكس المعدل الوطني وهو 74.8%. بالإضافة إلى ذلك، وجد أن نسبة المجندين الذين ارتبطوا بالوحدات القتالية وصل إلى 67.1% لمجندي السامرة على عكس المعدل الوطني الذي وصل 39.5%. وعلى نحو مماثل، فإن نسبة المتطوعين في مساقات الضباط كانت أعلى في السامرة: حيث أصبح 15.9% من المجندين (مثلا: واحد من بين كل ستة مجندين من السامرة) ضباطا، بينما المعدل الوطني كان فقط 8.3%. أخيرًا، وجد أن 88% من المجندين من السامرة (أي 9 من بين كل عشرة) اختاروا ما سُمّي “خدمة عسكرية فعالة” (كالوحدات القتالية).
كررت هذه البيانات عام 2013-حينما حظي مجندو يهودا والسامرة على أعلى النسب المئوية في الالتحاق بالوحدات القتالية. أظهر مسح تفصيلي للبلدات أن من بين كل خمس بلدات كان لديها أعلى معدلات تجنيد في الوحدات القتالية كانت ثلاث في يهودا والسامرة. كان المركز الأول لبيت إيل، حيث 86% من الرجال الذين ولدوا سنة 1991 خدموا في وحدات قتالية. وكان المركز الثالث من نصيب إفراتا في غوش عتصيون، حيث كانت النسبة 81% من الرجال مواليد 1991 قد انضموا للوحدات القتالية. فيما كان المركز الرابع من نصيب المجلس الإقليمي لجبل الخليل بنسبة 78.4%. وأفاد تحليل لنسب الرجال الذين أصبحوا ضباطا أن مستوطنات يهودا والسامرة قد حظيت بأول مركزين: الأول من نصيب إفراتا في غوش عتصيون، حيث 23% من المتجندين أصبحوا ضباطاً (كل متجند رابع تطوّع ليصبح ضابطًا وخدم مدة أطول في الجيش)، أما المركز الثاني فقد حظيت به مستوطنة أورانيت الواقعة على الخطّ الأخضر، حيث تطوع 19% من المتجندين ليصبحوا ضباطاً.
والمثير في الأمر أكثر هي إحصائيات مدينة أريئيل، المستوطنة الحضرية العلمانية الوحيدة في يهودا والسامرة. أريئيل مدينة علمانية غير دينية الطابع، ليست مستوطنة تعاونية، وأغلب مقيميها ينحدرون من شرق أوروبا مع شكوك تحوم حول يهوديتهم، ومع ذلك تنتشر القيم الحاضنة للعسكرية فعالة: على سبيل المثال، عام 2011، قدّم رئيس قسم القوى العاملة في الجيش، القائد العام أورانا باريباي، نسبًا مئوية للمجندين من المناطق الحضرية. كانت أريئيل واحدة من بين أربع مدن فاقت فيها نسبة المجندين الـ 90%، وكانت إحدى المدن حيث يوجد تزايد ملحوظ في نسبة المجندين الذكور. وفي العام 2012، كانت أريئيل في المركز الرابع على قائمة النسب المئوية لمجندي المستوطنات، وقد تسلمت شهادة كفاءة من قبل رئيس القوى العاملة في الجيش.
يمكن أن يعزى الازدياد في حضور المستوطنين في الجيش إلى مشاريع أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية التي هيجت الخلقة العسكرية في هذه المنطقة. في بداية عام 2000، نشر ضابط مجهول الهوية (والذي كانت مهمته العسكرية بالغة السرية) مقالا في مجلة الجيش “معرخوت”، حول بحث أجراه أثناء مساق دراسات في الكلية العسكرية للضباط. لقد قسّم الضابط خريجي المؤسسات الدينية على مساقات الضباط في القوات البريّة في جيش الدفاع إلى أقسام.
من استنتاجاته، يمكن للمرء أن يعرف أنه حتى عام 1992، كان عدد الجنود المتدينين في مساقات الضباط هامشيا. مع هذا، فإنه بين العامين 1993-2000 كانت الزيادة أعلى بستة أضعاف. بينما كانت هنالك زيادة أعلى سنة 2000.
وعليه؛ في عام 1990، كان 2.5% من الطلاب العسكريين من مؤسسات دينية. في عام 2000، كان الرقم 15.5%، وفي 2011 قفز إلى 42% من الطلاب العسكريين القادمين من مدارس دينية. فسّر الضابط هذه الظاهرة على أنها ناتجة عن أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية: 80% من خريجيها منخرطون في الوحدات القتالية و25% منهم ضباط. وعلى النقيض، ضمن الجيش بشكل عام، 40% فقط من الجنود كانوا في وحدات قتالية و7% فقط كانوا ضباطا. إن الأكاديميات، كما يلاحظ، كانت في الغالب متمركزة في يهودا والسامرة، وجذبت شبان القوميين المتدينين من كل أنحاء دولة إسرائيل.
مشاريع مدنية مناصرة للجيش
على العكس من مناطق أخرى في إسرائيل، فإنه خلال السنوات القليلة الماضية موّلت مجالس المستوطنات في يهودا والسامرة مشاريع لدعم دافعية الخدمة في الجيش، بما فيها برامج مثل “المختارون من السامرة” أو غافيش (الكريستال) والتي تدعم الشباب بإكسابهم مهارات قيادية وقيم تحضّرهم لخدمة فعّالة في جيش الدفاع الإسرائيلي.
ينفذ برنامج “المختارون من السامرة” في 15 مستوطنة في أرجاء السامرة، وهدفه الأساسي تزويد الشباب بالمهارات المثلى المطلوبة لمواجهة تحديات سن المراهقة، وهو السن الذي يصبح فيه موضوع التجنيد مهيمنا على حياة الشباب. روّج منسق التحضيرات لجيش الدفاع في قسم الشباب في المجلس الإقليمي للسامرة لهذا البرنامج، باعتباره برنامجًا يهدف إلى توسيع وتكييف البرامج المختلفة بما يتواءم مع شخصية كل مستوطنة: علمانية، متدينة، مختلطة. يتضمن البرنامج تحضيرات بدنية وعقلية، والتعلم عن بنية الجيش، وورشات لمساعدة المتجند في التعامل مع تحديات الجيش. يتم هنا التركيز على السياق المناطقي: ليس فقط تشجيع تنفيذ المهمة، وليس فقط التفاخر بأن السامرة قد تصدرت النسب المئوية للمتجندين، وإنما أيضًا التعلم عن الأهمية الأمنية للسامرة، بالإضافة إلى الأدوار التي لعبتها يهودا والسامرة عبر التاريخ اليهودي، والتي من المرجح أن تكثّف الحافزية للدفاع عنها. وبطريقة مشابهة لما تعهدت به أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، فإن طلاب الثانويات يقابلون رجال الجيش، ورؤساء المجالس الإقليمية، وشخصيات مؤثرة في المجتمع الإسرائيلي. يبدو أن هذا المشروع الإقليمي القائم على إرسال الطلاب إلى جيش الدفاع الإسرائيلي يفسر لماذا تلقى قسم الشباب في المجلس الإقليمي للسامرة الجائزة الإقليمية من وزارة التربية والتعليم لقاء إنجازاته.
وهكذا، فإنه ليس طلاب الأكاديميات وإنما كل طلاب السامرة يجدون أنفسهم سويا مع الشخصيات العسكرية ضمن حدود مفتوحة. على سبيل المثال، أثناء عيد الحانوكاه عام 2011، انضم شبان السامرة إلى جنود لواء السامرة في مسيرة انتهت بمراسم مشتركة من إضاءة شموع حانوكاه في قاعدة اللواء. يشرح منسق الشباب في مستوطنة إيتمار: “إن هذه فقط مجرد فعالية أخرى ضمن سلسلة من الفعاليات التي تربط شبان المستوطنات، وأيضا المستوطنين أنفسهم، مع جنود جيش الدفاع الذين يخدمون في تلك المنطقة”. مرت المسيرة من قرية عورتا، حيث يقطن قتلة عائلة فوغل (المترجمة: قتل العائلة شابان فلسطينيان يوم 11/مارس/2011 هما حكيم مازن عواد وأمجد محمد عواد). فسّر المنسق: “تبث هكذا فعاليات القوةَ في نفوس شبابنا، ناهيك عن الحيوية الناجمة عن اتصالهم بجنود جيش الدفاع الإسرائيلي. نحن مع الجنود طيلة السنة. إنهم يحموننا..شراكتنا مع الجنود لا يمكن أن تنقطع.
أية أكاديميات لما قبل الخدمة العسكرية تخرج عددًا أكبر من الجنود القتاليين؟ ثقافة المجتمع المكانية للمنافسة العسكرية الجمهورية
تتجلى شواهد إضافية على مدى تغلغل ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية ضمن المجتمع المتدين في الطريقة التي تغطي فيها وسائل الإعلام الجماهيرية هذه الظاهرة. إن هكذا تغطية تظهر المهنة العسكرية، بالأخص الجنود القتاليين، بوصفهم الخيار الأكثر تفضيلا وتحبيذا ومعيارية، والذي يثمنه الشباب المتدين الجديد. فمثلا، تحت عنوان “في الأغلب جنود قتاليون: مسيرة الأكاديميات القتالية للصهيونية الدينية” (http://www.kipa.co.il/)، نشر تقرير يقيّم أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية وفقا للكيفية التي يندمج بها خريجوها في مواقع قتالية وقيادية ضمن جيش الدفاع.
إن كان في الماضي يتم تصنيف “يشيفوت ههسدير” وفقًا لعدد خريجيها الذين يصبحون حاخامات مهمين ومؤثرين، فإن “الجنود القتاليين” ووالقادة العسكريين” هم اليوم الروح الجديدة في تصنيف أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. ومجددًا فإن يهودا والسامرة احتلتا الصدارة، فقد حصلت على المراكز الأولى أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية الموجودة خلف الخطّ الأخضر، والتي أُشير إليها باعتبارها أكثر المؤسسات الواعدة وأكثر المؤسسات جاذبية، والتي كان لدى خريجيها أفضل الفرص لتحقيق هدفهم من الانضمام للأكاديمية – وهو الانخراط في القيادة القتالية ضمن جيش الدفاع.
فيما كان المركز الرابع من نصيب كيشيت يهودا في مرتفعات الجولان. وأما الثالث من نصيب إليشا في مستوطنة زوفيت في منطقة “بنيامين”. وقد وجد أن 28% من خريجي أكاديمية إليشا قد انضموا إلى مساقات الضباط، و60% تكلفوا أوامر بسيطة و85% أدوا خدمات قتالية ذات أهمية. لقد لاحظ ذلك المقال كذلك موردًا إضافيًا للأكاديمية: بفضل موقعها، تخلق الأكاديمية تواصلًا بين مستوطنة عطيريت ونيفي زوف في بنيامين، وبذا تقوّي القبضة اليهودية على هذه المنطقة. إنها تشكل ماديا كتلة يهودية كبيرة على امتداد طريق بنيامين السريع- الأمر الذي يقدّره المستوطنون، بينما يعاديه نشطاء السلام الآن بشكل صريح. أما المركز الثاني فقد حظيت به عتصمونة، التي كانت في قطاع غزة، وبعد الانسحاب من قطاع غزة عام 2005 أعيد تشييدها في منطقة أشكول. وقد وجد أن 30% من خريجيها باتوا ضباطا، فيما تسلم 66% مهامًا قتالية، و90% طلبوا الخدمة القتالية. أما المركز الأول فقد كان من نصيب “أُمّ الأكاديميات”-بني دفيد في إيلي، ووصف المقال الذي نشر في موقع “هكيبا” ذلك:
“إنه ليس من المفاجئ أن نكتشف أن أول أكاديمية لما قبل الخدمة العسكرية، والتي كانت نشطة طيلة 23 عامًا، نجحت بسهولة في الوصول للمركز الأول من بين الأكاديميات الدينية الأخرى العاملة اليوم في إسرائيل. إن هذه المؤسسة التعليمية التي أسسها الحاخامان إيلي سادان ويغال ليفنيشتاين، لم تقدر فقط على إنتاج حكايات بطولية، كحكاية روي كلين أو بينجو هيلمان أو جوناثان نينتال أو إيمانويل مورانو، ووإنما في المقام الأول إنتاج مئات الضباط الناشئين والكبار الذين يملؤون صفوف الموكب الاستعراضي لملاعب مخيم باعاد 1 التدريبي؛ وكذلك في الملاعب الخاصة بجيش الدفاع”.
لقد وجد أن أكثر من 40% من المتجندين من خريجي أكاديمية “بني دافيد” قد شاركوا في مساقات الضباط، 65% أتموا المساق ليصبحوا ضباطًا ناشئين أو قادة ألوية، و90% تقدموا بطلب للخدمة القتالية. يتابع المقال مضيفا:
“يعرف الطاقم التعليمي في إيلي كيف يشجع القيادة العسكرية. ولا ترضيهم محاضرات التلمود في قاعة دراسة التوراة، أو الخطابات المتعلقة بالشؤون الدينية والإيمانية، أو الاقتباسات من الحاخام كوك، ولكنهم يدعون عددًا كبيرًا من المحاضرين الزائرين، في أغلبهم شخصيات عسكرية، الذين يأتون إلى قاعة الدراسة ليشرحوا إرث المعركة الخاص بجيش الدفاع، ولـ”يُلهبوا” الطلاب، ومن ضمن هؤلاء المحاضرين الزائرين: وزير الدفاع موشيه يعالون، ورئيس الأركان السابق، قائد قوات الاحتياط جابي اشكنازي، قادة كتائب وألوية، وحتى قادة من قوات الكوماندوز (أولئك الذين تتم تغطية وجوههم عندما يظهرون في التلفزيون). إنهم لا يكتفون بسرد العمليات المعقدة، وإنما في المقام الأول يذكرون أهمية مساهمة الجمهور بالنسبة لجيش الدفاع. على ما يبدو، لا تقع كلماتهم على آذان صماء”.
وذكر المقال إنجازات أكاديمية إيلي، حتى وإن كان بعضها مأساويا:
“القائدان بنجي هيلمان وروي كلين اللذان قتلا في لبنان كانا من خريجيها. منذ تأسيسها قبل 18 عاما، فإن 50% من خريجيها هم ضباط… وقد خسرت الأكاديمية 17 جنديا حتى الآن (ما يشكل) 1% من مجموع خريجيها. يتنافس أربعة مرشحون على كل من الـ120 مركزا المتاحة للطلاب مطلع كل عام”.
كُتِب هذا المقال على شكل تقرير يتحدث عن جامعة نخبوية وأعداد خريجيها في سوق العمل، أو كتقرير يتحدث عن أكاديمية فنون جميلة أو أكاديمية موسيقى وخريجيها الذين شغلوا مناصب في حقل الفن والموسيقى. هذا التصنيف لأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية ليس بجديد. وعلى سبيل المثال، في عام 2006 نشر مقال حول هذا الموضوع تحت عنوان “أشد جنود جيش الدفاع قتالًا”، وقد وجد هذا التقرير أيضًا أن أكاديمية إيلي قد تربعت على عرش الإنجازات العسكرية.
يهودا والسامرة في أذهان طلاب الأكاديمية
يبدو من هذه الدراسات أن العديد من أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، سواء كانت وراء الخط الأخضر أو داخله، قد تكشفت على مناطق يهودا والسامرة في جولاتهم ومحاضراتهم، حيث يتعلم الطلاب عن القيمة الاستراتيجية لهذه المناطق، بالإضافة لمكانتها في التاريخ القومي اليهودي. إن هؤلاء الطلاب، بمن فيهم أولئك الذين يدرسون في أكاديميات السامرة، عادة ما يجوبون تلك المناطق، وهي تجربة تحوّل تلك المناطق إلى عنصر طبيعي من مخزون المناظر الطبيعية، المناطق والمواقع التي تشكل التجربة الإسرائيلية بوجه عام، وبالتحديد تلك المتعلقة بسن المراهقة. وكما ذكر سابقًا، فإنه حتى الأكاديميات غير الدينية تقع وراء الخط الأخضر في السامرة.
آخر أكاديمية غير متدينة أسست هي تلك التي أسست في مستوطنة حرميش شمال السامرة عام 2014. عندما سأل مؤسسها، أورئيل إلداد، ابن عضو الكنيست السابق آريه إلداد، عن معنى أن تكون هذه الأكاديمية في السامرة، أجاب: “منذ بداية الألفية، لم تعد هذه المناطق تشكل أدنى أهمية للشباب… والعرب في الواقع يريدون مسحنا عن وجه الأرض، وعليه، فإن كلّ خطاب يهودا والسامرة لا صلة له بالموضوع”. أحد الطلاب القادمين من منطقة هشارون في السهل الساحلي، شرح أنه أتى إلى الأكاديمية بغرض زيادة فرص قبوله في كوماندوز البحرية، ومسألة كون الأكاديمية تقع وراء الخط الأخضر ليست ذات أهمية بالنسبة له: “ليست لدي أية مشكلة مع المستوطنات في يهودا والسامرة، وعلى العكس، هنا مستوطنة ضعيفة يعوزها التمكين، ولا يهمني الموقع”. في احتفالية الافتتاح، حاضر يوسي داغان، نائب رئيس المجلس الإقليمي للسامرة، في الطلاب قائلا:
“إن شمال السامرة بشكل عام وهرميش بشكل خاص هما المهمة الوطنية الأكثر أهمية هذه الأيام. إن معظم ثقافتنا كشعب يهودي تشكلت هنا في شمال السامرة. ومن وجهة نظر أمنية، فإن هذه المنطقة حيوية استراتيجيا-فعلى بعد كيلومترين منها تقع محطة الخضيرة للطاقة. إن حرميش هي قلب الدولة، إذ أنها تطل على وسط البلاد وجبال هشارون. وعليه؛ فإن إجابتنا الصحيحة كصهاينة طامحين للمساهمة في الدولة هي في القدوم وتمكين المستوطنات مثل حرميش وسكانها الرائدين القاطنين هنا”.
تقدير الجيش
في السنوات الأخيرة الماضية، كانت ألوية العمليات في جيش الدفاع الإسرائيلي قد تبنت أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. يشارك طلاب كل أكاديمية في “ورشات ميدانية” وتمرينات لياقة قتالية يشرف عليها جنود من هذه الألوية. يزور الطلاب منشآت هذه الألوية، ويشاركون في محاضرات ولقاءات مع ممثلي كل القوات البرية في جيش الدفاع. وتمول وزارة الدفاع هذه الأنشطة.
إن التعاون بين الجيش وأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية قد بات رسميًا بشكل جزئي، حيث يرجع الجيش إلى روؤساء الأكاديميات حينما يبحث عن مساعدة في توجيه الخريجين إلى شعبة معينة في الجيش، وفي حال كانت هناك حاجة إلى القوى العاملة في تلك الأكاديميات. في بعض الأحيان يتنافس الضباط الكبار على استقبال واستيعاب أولئك الخريجين في الألوية أو الوحدات التي هي تحت إمرتهم.
ويمكن العثور على الشاهد المحلي على هذا الإحساس بالتعاون والالتزام من قبل الجيش إزاء طلاب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في الأمر الصادر عن قائد قسم القوى العاملة القاضي بمنح إذن مغادرة لكل خريجي أكاديمية إيلي من وحداتهم المعنية، ليتمكنوا من حضور لقاء عقد لهم خصيصا في الأكاديمية. وبرغم شكاوى العديد من قادتهم، إلا أن الجيش يشرح بأن هذا القرار صدر من واقع “مساهمة حيوية طويلة الأمد للعديد من خريجي الأكاديميات أثناء أداء خدمتهم العسكرية”.
يمكن أن نرى الأهمية الاستراتيجية لأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية بالنسبة للجيش في المؤلف رقم 16 من سلسلة “عيونيم ببيتخون ليؤومي” (دراسات في الأمن القومي) الصادر عام 2011 حول موضوع “مساهمة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في الجيش والخطاب المتدين-غير المتدين”. هذه السلسلة الصادرة عن “كلية الأمن القومي” التابعة لجيش الدفاع-وهي أعلى مؤسسة عسكرية، والتي يتقلد قائدها منصب لواء في جيش الدفاع، والذي اؤتمن على تحضير الضباط الكبار فكريا. كما صرحوا في إعلاناتهم، فإن هدفهم هو نشر هذه المؤلفات في أوساط “القيادة السياسية والمستويات المهنية التي تصنع القرارات، والمستويات العملياتية، وطلاب كلية الأمن القومي الذين سيصبحون السلطات المستقبلية، والأكاديميين الكبار، ورجال الصحف وخلايا التفكير او المؤسسات الأكاديمية التابعة او الملتصقة بالجيش، الخ”.
لقد ركزت هذه السلسلة على المسائل التي تعكس أجندة رؤساء قوى الأمن وجيش الدفاع الإسرائيلي، وهو الأمر الذي اعتبره رؤساء كلية الأمن القومي ملائما لجذب انتباه جماهيرهم المتميزة. إن حقيقة أن هذا الإصدار من المجلة قد اختار أن يحوي دراسةً حول أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية يعزز نقطة أن هذه الظاهرة قد وسمت بوصفها ذات أهمية للجيش.
يزور قادة الجيش وقوى الأمن هذه الأكاديميات على نحو متواتر بشكل عام، وبالأخص أكاديمية بني دافيد في إيلي، بغرض تعزيز معرفتهم و تقديرهم لها بوصفها وكيلا مهما ومركزيا في التشجيع على الخدمة العسكرية في الجيش. وعليه، فقد وسم هؤلاء القادة كلًا من الأكاديمية والمستوطنة، دون أي صلة لموقعهما وراء الخط الأخضر، برمزية وطنية وثورية واضحة.
هذه هي كلمات وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان السابق موشيه يعلون في إيلي في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس أكاديمية بني دافيد:
“إن هذه المستوطنة، برجالها ونسائها، تحاول بث حياة جديدة في الحلم الصهيوني. في مركز المستوطنة، توجد مؤسسة تعليمية ثورية، كانت قد غيّرت التعليم العالي في إسرائيل: ألا وهي أكاديمية “بني دافيد”، رائدة الأكاديميات، والضباط الموهوبين الذين يقودون عملية تحمل عبء الأمن في هذه السنوات الأخيرة، وأفعال الجنود البطولية الذين بثوا روحًا جديدة في أرجاء البلاد. على الصعيد الشخصي، أعرف وأقدّر باعتبار شديد أنشطة هذه الأكاديمية منذ تأسيسها يوم كنت ضابطًا قياديًا في لواء المظلية. بعد هذه الأكاديمية أسست العديد من الأكاديميات.. وأنا جئت إلى هنا، حضرة مواطني إلي، باسم حكومة إسرائيلية، من أجل أن أبارككم، لتستمروا بالتفتح والازدهار، لتنشروا أفكار التوراة التي تدرس في صالة الدراسة هنا، توراة أرض إسرائيل، على كل مستويات الناس لصالحنا جميعا”.
في 2012، أرسلت قائد قسم القوى العاملة في الجيش، اللواء أورنا باربيباي، رسالة تحية إلى رئيس المجلس الإقليمي للسامرة، جرشون ماسيكا، بعد أن علمت أن السامرة تمتلك أعلى النسب المئوية للمتجندين من بين كل الإسرائيليين. كتبت في تلك الرسالة:
“إن هذه الحقائق، التي ينبغي أن تكون مبعث فخر لكم ولكل مواطني المنطقة، تعكس، من ضمن أمور أخرى، تأثير الأنشطة الهامّة التي أقامها المجلس الإقليمي لزيادة الوعي حول الخدمة العسكرية الفعالة وبالتحضيرات اللازمة لها. تفضل بقبول تقديري وشكري لك ولجميع المساهمين في هذا العمل الطيب”.
التموضع السياسي-الثقافي للحيز العسكري
من المثير للاهتمام ملاحظة الآثار الديناميكية المتعلقة بتموضع المستوطنين في يهودا والسامرة بشكل عام وعائلات الجنود على وجه الخصوص. يتضح من الدراسة أن “الأراضي” (أي الضفة) لا تنتج جنودًا وحسب وتؤثر على صورة المستوطنين والصهاينة المتدينين في أوساط الجمهور الإسرائيلية، وإنما قامت بتسهيل تشكيل هوية جديدة للمستوطنين وخريجي أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية.
بدءًا من العام 1967، عُرّفت هوية المستوطنين من خلال موضعتهم داخل حركة بناء المستوطنات في الأراضي غير المأهولة، بهدف إظهارهم كاستمرارية لحركات الكيبوتس والموشاف، التي كانت من ريادي الصهيونية العملية. وقد ترافق ذلك مع موضعتهم دينيًا، وهو الآمر الذي أصبح أكثر بروزًا في مطلع الألفية، حيث أنهم قدموا أنفسهم بوصفهم محققي وصية الاستيطان في أرض إسرائيل، وبوصفهم عاملين من أجل إعادة المجتمع الإسرائيلي إلى أماكن توراتية مقدسة كالخليل وشيلو وبيت لحم.
كانت هاتان المنطقتان اللتان موّضع المستوطنون فيهما أنفسهم: حركة الاستيطان الصهيوني غير المتدين، والحقل اليهودي- التوراتي. إن الثورة التي أحدثتها أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية أدت إلى صعود هوية جديدة بتمركزها مقابل ومن خلال الاخذ بعين الاعتبار العديد من شرائح المجتمع الإسرائيلي وعلى اسس معيارية جمهورية: مدى المساهمة العسكرية او مدى المساهمة بالخدمة العسكرية. هذا الابتكار، كما سنستعرض، سهّل الانفصال عن المجموعات التي حاول تموضعها السابق إضمار المستوطنين معها. إن هذا التموضع الجديد فيما يخص هذه المجموعات، والذي لم يعد متصلًا بتراثها، قد منح المستوطنين وضعًا أخلاقيًا رياديًا، ولأوّل مرة وضعهم في الواجهة، كالنخبة يحملون رأس المال الأخلاقي المطلق: التضحية لأجل المجتمع الإسرائيلي.
بديل لـ”دولة تل أبيب”
إن التفوق الأخلاقي الذي أحس به المستوطنون بفضل خدمة أبنائهم العسكرية يُلاحظ على وجه الخصوص، فيما يتعلق بالجمهور غير المتدين المرتبط بالطبقتين العليا والمتوسطة، والذي عادة ما يحمل وجهات نظر سياسية يسارية. هذا القطاع، المنحدر من الكيبوتس أو الموشاف أو المراكز الحضرية، هو ما يشكل النخبة الإسرائيلية، الجيلين الثاني والثالث من مؤسسي دولة إسرائيل، الذين حملوا فيما مضى بشكل أساسي عبء الدفاع. مع ذلك، في الألفية الحالية، بات هذا القطاع بالغ الحساسية إزاء كلفة الحرب، على الصعيد المالي، وفي خسائر الأرواح والأطراف، أو في الحريات الآخذة في التقلص. وعليه، فإن الطبقة المتوسطة العليا تقوم بشكل عام بإنكار شرعية توظيف الموارد العسكرية، مفضلة حلّ المواجهة دبلوماسيًا، مع الميل للتسوية. أشار بهلافي وآوتليت إلى هذا القطاع بوصفه “مجتمع ما بعد البطولة”. على النقيض من مجتمع ما بعد البطولة هذا، ومن وجهة نظر المستوطنين، فإن الخدمة العسكرية، والاستعداد للتضحية، والتصرف كمجتمع بطولي يعرّفهم كبديل أخلاقي، وينبغي أن تمنحهم – أي الخدمة العسكرية – إعجابًا اجتماعيًا وتقديرًا أعظم، بالإضافة إلى تفضيل ثقافي.
من وجهة النظر المجازية للمستوطنين، فإن “مجتمع ما بعد البطولة” مرتبط بتل أبيب، المدينة الما بعد-قومية، غير المتدينة، والليبرالية، والعالمية، والتي تمثل كل “الأمراض” التي عمت المجتمع الإسرائيلي. وعليه، فيما يتعلق بتل أبيب وكل ما تمثله، فإن المستوطنين يمثلون – في ذات الوقت – نقيضها و”علاجها”. في العام 2007، وفي معرض رثائه صديقه الذي قتله إرهابيون فلسطينيون، قال بنايا ساريل (مستوطن من الخليل، سقط في حرب غزة عام 2014، في عملية الجرف الصامد/العصف المأكول، كقائد فصيل الاستطلاع في لواء جفعاتي):
“غدا صباحا، دولة كاملة تعيش على أرض منبسطة ستتفيق وسيثير اهتمامها كم سنتمترا طال شعر نينت (مغنية إسرائيلية). كل الجنود غير القتاليين، كل أولئك المتجندين المراوغين، لم يستفيقوا في تلك الساعات التي كنتم فيها على وشك إنهاء مسيركم، تسلقكم، قتالكم، وموتكم”.
في العام 2010، نشرت البيانات المتعلقة بالمتجندين في حيش الدفاع وفقًا لتصنيفات المدن. كانت تل أبيب في المركز الثامن عشر فيما يتعلق بالنسبة المئوية لشبابها، وهو الأمر الذي حث يسرائيل هاريئيل، الرئيس السابق لمجلس يهودا والسامرة وقطاع غزة، لنشر مقال بعنوان “تل أبيب منعزلة ومتهربة من التجنيد”:
“مدينة من 400.000 نسمة، يخدم ثلاثة من سكانها فقط كقادة سرايا، بينما في مستوطنة بروكين في السامرة، حيث يقطن أقل من 600 مستوطن، يعيش 6 من قادة السرايا…إنه لمن التفاهة أن يشار إليها بلقب “دولة تل أبيب”.
وقد أفضت ورقة هاريئيل إلى جدل قام فيه أحدهم بالدفاع عن “دولة تل أبيب”، لا من خلال محاولة إثبات مساهمتها في الجيش، وإنماعلى النقيض، من خلال مدح النواحي التي انتقدتها هاريئيل، وعليه تعزيز وجهة النظر تلك التي حملتها هاريئيل. وبناء على ذلك، كتبت نوعام ليفنا، وهي من سكان تل أبيب ومن مؤسسي حركة ” الشجاعة أن تقاوم”، في موقع “الرفض من أجل إسرائيل” – وهو موقع لمقاومة الخدمة العسكرية في الأراضي- كتبت مقالًا بعنوان “هنا في دولة تل أبيب”. توّجهت هاريئيل فيها مصرحة:
“هنا في دولة تل أبيب نريد أن نحتفي بالحياة لا الموت. ونحن لا نعتذر عن هذا…ليس ثمة أمرٌ مقدس أو يستحق التقدير في الجيش والحرب…إن رؤساء الثانويات الذين انتقدهم هاريئيل يستحقون المدح-لتعبيرهم عن روح المدينة. إن المدرسة ليست أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية”.
لقد عبّر ضباط أمنيون كبار كذلك عن انتقادهم لتل أبيب. على سبيل المثال، حينما كان الحاخام الرئيس لجيش الدفاع أفيخاي رونزكي، وهو أيضًا ضابط قتالي سابق، قد سرح من الجيش، صرح قائلا: “إنني أكره دولة تل أبيب. هناك، تختلف نوعية الأحاديث، بشاشات عرض ضخمة وصالونات أعراس”.
لدى تقاعده من منصبه كقائد شرطة في منطقة شاي، قال القائد العام شلومي كاتافي في معرض مقابلة تقاعده: “إن المستوطنين ملح هذه الأرض… مساهمة سكان تل أبيب في الدولة هي صفر…إنهم ذاتهم الأشخاص الذين يعارضون المستوطنين، وهم الأشخاص ذاتهم الذين تصل رغبتهم في المساهمة في الدولة إلى صفر كبير. إنهم يجلسون في تل أبيب، يركنون سياراتهم “الجيب” على درجات شينكين (منتجع سياحي)، يرشفون الاسبرسو، يضعون رجلا على رجل، يتحدثون وينتقدون، ويتبادلون الخبرات”.
بديل عن الأورثودوكس
عن طريق موضعة أنفسهم داخل المجتمع الإسرائيلي على الصعيد القومي (لا الديني)، وذلك من خلال خدمتهم في الجيش، أصبح بمقدور المستوطنين تحديدًا، والشبان القوميين- الصهاينة بشكل عام، لأول مرة، أن يفصلوا أنفسهم بوضوح عن مجتمع الحريديم (الأرثوذوكس المتزمت). في أغلب الحالات، فإن الأرثوذوكس المتزمت ككتلة سكانية غير صهيونية لا تؤدي الخدمة العسكرية، ولسنوات تنزّه القطاع القومي المتدين عن مهاجمتهم، لأنه كان ينظر إليهم من ضمن الخطاب الديني كشركاء في تبرير الحضور الإسرائيلي في الأراضي لأسباب دينية. الآن، ولأول مرة، غيّر التموضع الجديد المستوطنين، فباتوا يحاججون المجتمع الأرثذوكسي، بشراسة تفوق حتى غير المتدينين.
وهكذا عبّر أفيخاي رونزكي، الحاخام الأعلى السابق في جيش الدفاع، وهو صهيوني متدين، عن هذه المشاعر خلال مناظرة حول حقوق الأرثوذوكس المتزمتين، حينما برر لماذا يجب أن تكون الخدمة العسكرية معيار الهرمية الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي:
“إن القاعدة العامة القائلة بأن “ذاك الذي يعطي هو الذي يأخذ” هي قاعدة بسيطة. إن الخدمة في الجيش التزام أساسي بين المواطن والدولة والأمة على حد سواء…يجب أن تكون الخدمة في الجيش شرطًا مطلوبًا في أي مكتب عام: وزراء، أعضاء كنيست، وحاخامات كذلك”.
وقد قال الحاخام إيلي سادان، مؤسس أكاديمية بني دافيد في إيلي في السامرة، في كتيب خاصّ نشرته الأكاديمية، متوجهًا إلى جمهور الأرثوذوكس المتزمتين:
“نحن ملزمون بالخدمة في الجيش، حتى الحاخامات منا…قولوا الحقيقة! لا يوجد شيء مخجل ومهين، عدا عن تدنيس اسم الله، وأكثر من استخدام التوراة في اخلاق الحجج الواهية والباطلة. لا يمكنكم أن تزعموا بأنكم لا تخدمون في الجيش لأنكم مشغولين ببناء التوراة..كيف يمكن لأغلبية عالم التوراة الاختفاء إن قاموا بأداء خدمة عسكرية وجيزة…وعادوا لاحقًا إلى دراساتهم، وأصبحوا بذلك علماء توراة يتشاركون حمل عبء الدفاع ووجود الدولة رفقة زملائهم”.
بديل عن “يشيفوت ههسدير”
بعد ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، كان هنالك تمركز غير مسبوق لجزء من المتدينين الصهاينة من الذين اختاروا إرسال أبنائهم إلى “يشيفوت ههسدير” التقليدية، وليس إلى أكاديميات ما قبل الخدمة في العسكرية. كانت هذه سابقة أدت إلى حدوث انفصال عن أفراد من نفس القطاع، يمارسون نفس نمط الحياة، ويحملون نفس الآراء السياسية، ولكنهم يختلفون في أمر واحد، وهو كم الالتزام الذي ينبغي أن يكون تجاه الخدمة العسكرية والاستثمار فيها.
كما لوحظ أعلاه، فإنه مع بداية أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية، ولأول مرة ظهرت “يشيفوت ههسدير” أقل جاذبية للشبان الصهاينة المتدينين. وقد أخذت طلبات الالتحاق بمؤسسات “يشيفون ههسدير” بالتناقص المستمر، تحديدا ضمن نخبة هذا القطاع. النخبة التي تمنت سابقا أن يصبح أبناؤها مفكري توراة وخبراء في التلمود، والتي أرسلتهم باستمرار إلى “يشيفوت ههسدير” بعد الثانوية العامة، قد أرسلتهم الآن إلى أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية. كان هذا نتيجة الشرعنة التي مُنِحت لأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية من قبل الحاخامات الذين ترأسوها، حاثين الطلاب على الدراسة معهم، ومن ثم المواصلة في أداء الخدمة القتالية في جيش الدفاع الإسرائيلي.
وكما هو الحال مع “دولة تل أبيب”، بات مسار “يشيفوت ههسدير” مرتبطًا بالصهاينة المتدينين البرجوازيين القاطنين في السهل الساحلي بالقرب من تل أبيب ونمط حياتها، وليس في يهودا والسامرة. وكنظير متدين لتل أبيب، وسمت بلدات جفعات شموئيل ورعنانا كمناطق حضرية برجوازية للطبقة المتوسطة العليا من الصهاينة المتدينين والأكاديميين والمفكرين، وبديلا للمستوطنين في المناطق الجبلية مثل يهودا والسامرة المنخرطتين مع المستوطنات والخدمة العسكرية. بعكس طلاب أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية يهودا والسامرة، فإن طلاب “يشيفوت ههسدير” حافظوا على الصورة القديمة للصهيوني المتدين، كشخص غير منخرط في الإنجازات القومية.
ولذلك، صرح الحاخام إيلي سادان في محاضرة في أكاديميته في إيلي والتي لاقت رواجا على الانترنت:
“إن شخصًا يرتاد الهسيدر ويخدم (فقط) مدة 14 شهرا- وليس للجيش أي أهمية حقيقية عنده، يقوم بتنفيذ المساق وحسب ومن ثم يعود إلى دراساته …لأن الجيش مجرد شيء “تماسيّ” …في الهسيدر، الخدمة العسكرية “تماسية”. الجيش لا يهمهم، ويكملون طريقهم”.
هاجم سادان كذلك الصورة العامة التي تساوي بين طلاب “يشيفوت ههسدير” وطلاب أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية: “كيف يمكن لأحدهم ممن يؤدي مساره العسكري الموجز ومن ثمّ يعود إلى “اليشيفا” أن يساهم أكثر من ذلك الذي يذهب عمليات وأوامر عسكرية؟”.
وبطريقة مماثلة، هاجم الحاخام الأعلى في جيش الدفاع الإسرائيلي، آميخاي رونزكي، القاطن في السامرة، الصهاينة المتدينين الذين يرسلون أبناءهم إلى “يشيفوت ههسدير” قائلًا: “في رأيي، هناك تدنيس لاسم الرب، ويتعين عليهم تصفية حساب..هناك من لا ينبغي أن ينالوا على إذن بإرجاء الخدمة العسكرية الكاملة.. على المرء أن يرشد التلامذة أن التعليم مساوٍ للخدمة العسكرية. ليس ثمة شيء كأن يستفيق الطلاب متأخرين، يدرسوا لنصف يوم، ومن ثم يغادروا المدرسة نحو حفل زفاف أو حفل بلوغ (بار متسفا).
يسرائيل هاريل، وهو الرئيس السابق لمجلس يهودا والسامرة وغزة، وناشر مهم، كان قد هاجم الصهاينة المتدينين، وهم أعضاء في نفس القطاع الذي ينحدر منه، إثر اختيارهم “يشيفوت ههسدير” عوضًا عن الخدمة العسكرية الكاملة:
“يرى الصهاينة المتدينون الخدمة العسكرية كتكليف رباني، لا واجبًا مدنيًا وحسب. لقد أعلنوا، على عكس الأرثوذوكس المتزمتين الانفصاليين، أن طريقهم هي طريق نحو الاندماج ….(مع ذلك)، فإن الصهاينة المتدينين (الذين يدعمون يشيفوت ههسدير) هم في الواقع، بالأخص في معارضتهم لتمديد الخدمة العسكرية لطلاب الهسيدر بحيث يتساوون مع بقية المتجندين، يثبتون أن المصالح الضيقة التي يكرسها الحاخامات لها الأسبقية على المصالح القومية”.
إن تموضع المستوطنين وخريجي الأكاديميات التاريخي لم يسمح لهم أن يفصلوا أنفسهم عن هذه المجموعات (الرافضة للأكاديميات). مع ذلك، فإنه لأول مرة، أصبح خطاب المستوطنين وخطاب قطاعات واسعة من الصهاينة المتدينين خطابًا جمهوريًا، يدعم الهرمية الثقافية بناءً على مؤشر للحفاظ على القيم المدنية الجمهورية: التضحية والخدمة العسكرية. يمنح هذا أفضلية أخلاقية لمجموعة دينية على أخرى، وبذا يُحدثُ فجوةً ثقافية ضمن جمهور القوميين المتدينين حول قضايا الخدمة العسكرية وأخلاقياتها.
ملخص
الفصل والتموضع- صورة المستوطنين في سياق الظرف العسكري
تبرهن التّطورات المتنوعة أن جموع القوميين المتدينين قد بدأوا بالارتباط أكثر بيهودا والسامرة، بينما أصبحت هذه المناطق جزءًا ملتحمًا في وجودهم، على الصعيدين العملي والأيديولوجي. بدءًا منذ بداية التسعينات، أصبح الحزب الشّرقي “المزراحي” بكل تطوراته المتنوعة، أكثر تشددًا، وأكثر يمينية، وداعمًا لاستمرار المستوطنات الإسرائيلية في يهودا والسامرة. تظهر دراسات مسحية متنوعة أن أغلبية الصهاينة المتدينين لم يدعموا ولم يرتبطوا عاطفيًا بالاستيطان اليهودي في تلك الأراضي فحسب، وإنما بات لديهم أيضًا أفراد أسرة وأصدقاء يعيشون هناك. كما لاحظ ليون:
“إن المشهد الاستيطاني جزءٌ لا يتجزأ من عالم المجتمع الحضري للصهاينة المتدينين…إن الخطّ الأخضر…بلا معنى في الحياة اليومية لجموع الصهاينة المتدينين، وبالنسبة إليهم، كما هو بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا عبور هذا الخط…فإن الحركة الاستيطانية تخدم بوصفها عماد الفكر الصهيوني المتدين…وكشخص حساس إزاء التأثير الغامر لتجربة العيش في يهودا والسامرة وغزة: ولذلك فإنه من المناسب الحديث عن الصهيونية الدينية الحالية بوصفها صهيونية دينية من إنتاج المستوطنات”.
وحتى قبل ربط أبناء المستوطنين بالتضحية العسكرية، كان المستوطنون قد شكلوا عن أنفسهم مسبقًا صورة الأفضلية الأخلاقية، مموضعين أنفسهم كبديل عن النخب الإسرائيلية المؤسسة، بما أنهم كانوا ورثتهم في استيطان الأرض.
وعليه، على سبيل المثال، كتب رئيس المجلس الإقليمي للسامرة فيما يتعلق بـ”الفراغ المتزايد في المجموعات الأخرى، وبشكل خاص في الدوائر اليسارية…على النقيض من التحديات القومية الحقيقية التي تحاول كل من يهودا والسامرة وغزة الاستجابة لها”… إن الهوية العسكرية الجديدة التي خلقتها أكاديميات ما قبل الخدمة في الجيش قد عززت هذا الرأي ضمن أوساط المستوطنين، الرأي القائل أنهم الأفراد الوحيدين المنخرطين في الإنجاز والتضحية الوطنية. إن التسويغ لادعاءاتهم باستحقاق تقدير الجمهور قد تولد من إنجازات ذويهم وتضحياتهم العسكرية الشخصية. لأول مرة، انبثق هذا الشعور من مساهمتهم في الجمهور العام، لا من خلال إنجازاتهم الفئوية. وكما عبر عن ذلك، بيني كاتسوفر Beny Katzover، الرئيس السابق للمجلس الإقليمي للسامرة وأحد مؤسسي الحركة الدينية السياسية “غوش إيمونيم”:
“ولّدت مستوطنات يهودا والسامرة وغزة جيًلا يمينيًا جديدًا أغلبهم من المتدينين. لا توجد تقريبًا أي ثانوية يشيفا لم يقم طلابها بزيارة يهودا والسامرة وغزة، وهي مناطق قد ثقفت في الواقع جيلًا بأكمله. بالإضافة إلى أن عدد “يشيفوت ههسدير” وأكاديميات ما قبل الخدمة في الجيش التي أُسست في يهودا والسامرة وغزة أكثر مما هو عليه في بقية البلاد. إن الجيل الشاب ليهودا والسامرة وغزة ينضمّ إلى وحدات الجيش ذات الجودة الأعلى، ويؤسس مستوطنات جديدة في أقسى المناطق”.
لقد تطرق كاتسوفر إلى واحدة من أبرز إنجازات أكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية في السامرة والمناطق الأخرى من إسرائيل: “لقد أصبحت هذه الأكاديميات المؤسسات التي استوعبت الشبان الصهاينة المتدينين من كل أنحاء البلاد، ومنحتهم تجربة مثمرة في يهودا والسامرة. وبذلك، كانت لهذه المناطق أهمية نفسية-سياسية مكثفة بالنسبة لهم. وعليه، كانت هنالك محاولة لتأطير هذه المنطقة وسكانها بوصفهم من يتزعم المساهمة من أجل الدولة والمجتمع، وكمن يقوم بالتضحية بنفسه من أجل الدولة، وكمن ينتج من بين أوساطه جنوده وضباطه، وأنهم ليسوا مجرد فئة مبتزة تفكر بنفسها وحسب”.
أصبحت الصورة الفئوية صورةً عامةً. في مسح فريد يجرى كل عام لفحص إدراك المواطنين القاطنين ما وراء الخط الأخضر، وُجِدَ أنه فيما يتعلق بسؤال “من أكثر من يمثل المستوطنين؟” كانت الإجابة هي ذاتها لخمس سنوات على التوالي:”أبناء الصهاينة المتدينين الذين يخدمون كجنود في جيش الدفاع”. وبنسبة أقل بكثير في الإحصائية كان الجواب حاخامات يهودا والسامرة، رؤساء اليشيفوت في يهودا والسامرة، وآخرون.
إن مصدر الفخر الإقليمي هو أن النموذج القومي الرائج كان قد خلق في يهودا والسامرة. كتب يوفال كاهان، الذي يترأس أكاديمية ما قبل الخدمة في الجيش في تل أبيب، عامودًا صحفيًا تحت عنوان “الأكاديميات الدينية نموذجاً”، وجادل بشأن نقل نجاح الأكاديميات الدينية إلى نظيرتها المختلطة، أي أن يكون هنالك طلاب متدينون وغير متدينين:
قبل 20 عاما أنشأ الحاخام إيلي سادان أول أكاديمية ما قبل جيش دينية في مستوطنة إيلي بالسامرة, وقد أحدث هذا الابتكار ثورة حقيقية فيما يتعلق بوضع الرجال القوميين المتدينين في الجيش: في تلك الأيام كان أفضل الفتيان منخرطين في خدمة عسكرية موجزة ومقسمة في وحدات منفصلة…أما هذه الأيام، فإن وحدات النخبة ومساقات الضباط يملؤها بشكل كامل أفراد متدينون.
وعليه، مع أنهم كانوا في يهودا والسامرة، خارج حدود السيادة الإسرائيلية، إلا أنه كان معروفا على وجه التحديد أنه في تلك المناطق تشكل أولئك الذين خدموا في أشد المنظمات سيادية، في جيش الدفاع. وأدى ذلك إلى أن يشعر الجيش نفسه بأنه ملتزم بهذه المنطقة بفضل تزويدها له بالجنود والضباط الذين كانوا قد انضموا للجيش، وأخلاقياته وثقافته وأكاديميات ما قبل الخدمة العسكرية المتموقعة هناك:
كما يشير شيليغ:
على حين غرة، وبفضل أكاديميات ما قبل الخدمة في الجيش، فإن جيش الدفاع الإسرائيلي قد وصل إلى الفئة القومية المتدينة، كتلة مركزة من مئات الطلاب سنويا لديهم حافز مثير للإعجاب للخدمة في الجيش، وأن يكونوا ضباطا محتملين…إن هذه الكتلة الهائلة من الرجال مقذوفة في الجيش بفضل الحاخامات…ومعظم الأكاديميات متموقعة في أراضي يهودا والسامرة وغزة.
وقد كان هذا بالطبع مصحوباً باهتمام الناس والتغطية الإعلامية. وعليه، اختارت هآرتس أن تُضمن مقالا متميزا تحت عنوان: “ثلاثة خريجين متدينين من أكاديمية ياتير يرتبون مساق طيران في الغد”.
التحولات الفئوية والشخصية الثقافية
لقد كانت الأكاديمية مُدركة بوصفها مسؤولة عن النموذج الأولي لشباب المتدينين، لأن التحول السايكو ثقافي يسمح للفرد المتدين أن يفعل ما يشاء. وهذا ليس صائبا فيما يتعلق بالرجال وحسب وإنما بالشابات كذلك. كان أول طيار متدين يصبح رئيس أكاديمية ما قبل جيش قد استقبل طلابا أرادوا أن يكونوا مثله. فيما كانت أول ملاحة متدينة أنثى في جيش الدفاع-تمار آرييل-قد التحقت بمساق طيران بعد دراستها في زاهالي، وهي أكاديمية ما قبل جيش للشابات المتدينات اللائي يتحضرن للتعامل مع متطلبات اللياقة القتالية، من بين أشياء أخرى. علاوة على ذلك، فإن موتها المأسوي في انهيار ثلجي في النيبال قد أدى إلى زيادة النشر الإعلامي عنها، وبالتالي مساهمةً في الإدراك أنه بفضل وسائل أكاديمية ما قبل الجيش، وبالسلطة الحاخامية والشرعية، فإن امرأة متدينة قد أصبحت شيئا “رائعًا”، وخاضت تجارب استثنائية. إن القصص المطبوعة عنها، تظهر حتى في صحف ومجلات دينية، تتضمن نجاتها من حادثة تحطم المروحية، ومشاركتها في الطلعات العسكرية الجوية فوق غزة أثناء حرب الجرف الصامد، و رحلتها الشجاعة إلى إحدى بلدان العالم الثالث..إلخ. صورتها في سترة الطيران أو في ألبسة تسلق الجبال خاصتها (حيث ترتدي سروالا عوض التنورة كما هو معتاد في العالم المتدين) أيضا زادت هذا التصور.
إن الفتيات المتدينات الراغبات بالانفتاح على أنماط الحياة غير الدينية سيجدون الآن أكاديمية ما قبل الخدمة العسكرية وسيلة شرعية لعقلنة هذا الانفتاح. ثمة أسطورة منذ السنوات الأولى لدولة إسرائيل: حينما اشتكى القوميون المتدينون لرئيس الوزراء دافيد بن غوريون أنهم غير مدمجين كليا في الإدارة العامة، أو أنهم افتقروا إلى ذات الوضع الذي تمتع به غير المتدينين، سألهم: “كم منكم دُفن في مقابر الجيش؟”. واقع الأمر، أن المنطق الجمهوري-كالتضحية العسكرية-كان مقياس الوضع المدني للفرد. وقد يبدو أنه على مستوى شخصي وفئوي وثقافي أن ثورة أكاديميات ما قبل الخدمة في الجيش قادت الصهاينة المتدينين والمستوطنين إلى مقابر الجيش، واقعياً ورمزياً، فكل شيء متصل بتمركزهم ووضعهم داخل المجتمع الإسرائيلي.
انتهى.
يمكن قراءة الترجمة في مقال واحد، هنا.
ملاحظة: اختصاراً للجهد لم تتم ترجمة الهوامش في هذا المقال، يمكن الرجوع إليها في المقال الأصلي باللغة الإنجليزية، هنا.