شكلت نكبة 1948 حدثًا مفصليًا في التاريخ والذاكرة والهويّة الفلسطينية، إذ لم تعرّض تلك الكارثة الشعب الفلسطيني إلى قتلٍ ماديٍّ فحسب، وإنما إلى قتلٍ اجتماعيٍّ وهوياتيٍّ كذلك، فنشأ مفهوم “الشتات” (اللجوء فعليًا) نتيجة انتشار الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض، الأمر الذي أدى إلى ما يمكن تسميته بـ”القضاء على الجماعية الفلسطينية”، كنتيجةٍ طبيعيةٍ للوجود الاستعماري، الذي لا يقوم إلا على نفي الآخر.
أما في الداخل المحتل، فقد تعرّضت “تلك الجماعية الفلسطينية” إلى هجمة حداثية من “مؤسسة الدولة” (الصهيونية)، فكانت سياساتُ تغييبٍ وطمسٍ وتجزئةٍ، على المستويين الهوياتي والسياسي. ولعل أبرزها سياسات دولة الاحتلال كمنظومةٍ استعماريةٍ تجاه المكونات الخاصة للجماعة الفلسطينية، كالمسيحيين والدروز والبدو وغيرهم، وعلى مستوياتٍ أخرى أكثر عمقًا وارتباطًا بالبنية الإدراكية؛ كالعناصر اللغويّة والثقافية والمجتمعية.
إلا أن هذه المقاربة لا يجب أن تهمل عنصرًا مهمًا من عناصر المواجهة مع المنظومة الاستعمارية لدولة الاحتلال؛ وهو عنصر المكان، باعتباره سردًا ماديًا للوجود الفلسطيني والصهيوني. ولعل هذا ما يتبدّى عضويًا في تفصيلات نظام الحركة في الفضاء الصهيوني (المديني)، وتمثيل الذات والآخر فيه، فهو قائمٌ على أربعة عناصر للتحكم والمنع والرقابة، هي: استيطان، توسّع، تحوّل إثني (أثننة)/ سيطرة (1). وليست “المستوطنات” أو حتى “المستوطنات العشوائية” هي النتاج النهائي للاحتلال، أو حتى “منظومة الفصل العنصري” المتمثلة في جدار الفصل، أو حتى في السيطرة على الحدود.
تلك العناصر الحيوية في داخل بنية المنظومة الاستعمارية يمتد تأثيرها ومظاهرها إلى ما يبدو كأنه مواجهاتٌ مع النظام نفسه، حتى على مستوى اللغة والجسد والرمز، وليس المكان فحسب.
كتابة المكان
“اختراع الطباعة جسَّد العالم في مكان”(2)، كما يُقال. والكتابة “كسلسلةٍ من الإشارات الصغيرة تسير في خطٍّ منتظمٍ كجيوش النمل، عبر صفحاتٍ وصفحاتٍ من الورق الأبيض”، وهي بالتالي “موضعةٌ محددةٌ لفكرةٍ مجردةٍ. هكذا هو الحال بالنسبة للمكان، وكيفية كتابته، ببنائه وتصميمه وتوزيع فضاءاته بين عامٍ وخاصٍّ، خدميٍّ وتجاريٍّ، وما تستبطنه كل تلك الفضاءات من معانٍ”.
يقول “جان جاك لوسركل” في كتابه “عنف اللغة” (1990) بأن “هناك رابطةً طبيعيةً تسلسليةً بين القراءة والكتابة والفعل والتدمير”(3)؛ أيّ أن قراءة مكانٍ ما في ذهن المعمار (وفي أدبيات أخرى يسمى “المعماري”)، تستلزم تدميرًا ما، ليُكتب من خلال العمارة، “والتدمير المذكور هو في الوقت ذاته مصدرُ ألمٍ ومصدرُ معافاةٍ، إنه علاجٌ مؤلمٌ، كما هي اللغة نفسها، التي هي نظيرته، فاللغة أيضًا تفعل وتدمر، للأفضل وللأسوأ”(4)، وكل أدوات التورية والمجاز والوصف والإدراك اللغوية، بقدر ما تحدث في ذهن المعمار/ اللغوي/ الكاتب، فهي تحدث أيضًا في اللغة نفسها، وتحدث في العمارة والمكان والفراغ معًا. فالعنف اللغوي هنا، هو “عنفٌ جسديٌّ – عنف دمار العالم، عنف نهاية الوجود”(5)، كما يصفه “لوسركل”، حيث ينشأ هذا العنف بالخلط بين ما هو “مجازيٌّ” وما هو “حَرفيٌّ”، وفي الحالة المكانية، يحدث الخلط بين المجازي المتخيل والمادي الموجود، فعليًا. ولعل أوضحَ مثالٍ يشخّص هذه الجدليّة، هو الحفريات تحت المسجد الأقصى، بحثًا عن مجازيٍّ متخيَّلٍ، وهو الهيكل المزعوم، ليوضع مكان الأقصى، الذي هو المادي الموجود.
يرى “هنري لوفيفر” في كتابه “إنتاج المكان”(1991) أبعادًا ثلاثةً للمكان، وهي: “المجرّب” و”المُدرك” و”المُتخيل”، والعلاقات القائمة بين تلك الأبعاد الثلاثة هي مصدرٌ لتوتّرٍ دراميٍّ يمكن من خلاله قراءة تاريخ الممارسات المكانية. ولكن تلك العلاقات لا يمكن حصرها في كونها علاقاتٍ ديالكتيكيةً/ جدليةً فحسب، لأن ذلك وإن كشف وحفر في دراما المكان وتعبيراته، إلا أنه لا يكشف بالقدر الكافي علاقات السلطة والضبط والرقابة الحادثة في المكان، وبالتالي وجب تأمّل العلاقة “السببية” و”علاقات السيطرة” بين تلك الأبعاد الثلاثة.
للتوضيح، يمكننا القول إن إنتاج المكان أو تحوّله من المُجرّب/ المادي الموجود الآن، إلى المُتخيل/ المجاز المستبطن في الأيديولوجية والمنظومة الاستعمارية الصهيونية، يحدث ضمن ثلاثيّة الضبط والرقابة والهندسة، ما يستلزم إدامة السيطرة عليه. ولعل عملية القدس الأخيرة لآل جبارين من أمّ الفحم وتداعياتها توضح الكثير، ولنا في شأنها القول التالي:
تقدّم دولة الاحتلال الصهيوني نفسها باعتبارها “واحة الديمقراطية والحداثة” (مكان سردي متخيل) وسط “صحراء وحشيّة من الرجعيّة والتخلف والدكتاتوريات” (مكان مُجرب/ مادي موجود)، وهذه الواحة تقدم المكان الصهيوني “المدينة” باعتبارها ذروة حداثتها، والحل الوجودي للمنفى اليهودي والمعاناة اليهودية، وبالتالي فإن عنصر “الأمان” لليهودي/ة هو أساس هذا المكان المُتخيَّل.
ومن هنا يمكن فهم حديث رئيس الشاباك، “ناداف أرجمان”، الشهر الماضي في مؤتمر للأمن المعلوماتي نظّمته جامعة تل أبيب، عن إحباط ألفي عملية محتملة (وليست أكيدة) للمقاومة الشعبية (العمليات الفردية/ الذئب المنفرد بحسب التسمية الصهيونية)، وذلك من خلال المتابعة الإلكترونية. جاء هذا الإعلان بُعيد ما نشرته صحيفة “هآرتس” عن تطوير الكيان الصهيوني لخوارزمياتٍ تعمل على مراقبة وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي للفلسطينيين، وخصوصًا تلك المتعلقة بأقرباء الشهداء وأصدقائهم والعاملين معهم، للتنبؤ بالعمليات وإحباطها.
هذا التوّجه الصهيوني للاعتماد على التكنولوجيا للتنبؤ باحتمالية القيام بعمليات مقاومة، جاء نتيجة الفشل الاستخباراتي الصهيوني في بناء تحديدٍ نمطيٍّ لمنفذي عمليات المقاومة (Predictive Profiling)، وذلك على عكس الخبرة التي بنتها في التعامل مع التنظيمات الفلسطينية سابقًا. كما أن طبيعة المقاومة الشعبية الفطرية الخلّاقة استطاعت تجاوز الكثير من حواجز الوقت والإعداد، لتكون المقاومة وليدة قرارٍ ذاتيٍّ لا تفصله سوى ساعات من التنفيذ”(5).
وعليه، تشكّل عملية القدس الأخيرة “نقلةً نوعيةً على صعيد العمل المقاوم. وذلك ليس من ناحية الفشل الاستخباراتي الذي مُني به الكيان الصهيوني فقط، وإنما أيضًا في إفشال بناء أيّ تحديدٍ نمطيٍّ للعمل الشعبي المقاوم عبر إرباك نماذجه الإحصائية في بناء أولويات المتابعة والتحري حسب الموقع الجغرافي، إذ إن العمل المقاوم لا يقتصر فقط على الجغرافيا السياسية للضفة الغربية، وإنما يمتد إلى الأراضي المحتلة عام 1948. سيكون لهذا التحوّل تبعات تشبه تلك التي واجهها الكيان الصهيوني إبان تنفيذ ثلاثة يابانيين تابعين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعمليةٍ فدائيةٍ، والذي أوضح في حينها قصور الإجراءات الأمنية والتصنيف النمطي المبني على التنصيف الإثني لأمن المطارات، وبالتالي تتسع رقعة “المشتبه بهم” وما يتصل بهذا الاتساع من تعقيدات جمّة”(6).
الجسد وإنتاج المعنى في المقاومة
تقول الناقدة الأمريكية “جوديث باتلر”: “لا جسد، لا سياسة”(7)، في حين يعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركهايم” أن النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد يشكل العديد من الممارسات السلوكية ويتحكم بها، ويمتد ذلك إلى طرائق الموت/ الحياة، المستمدّة من/ في النظام الاجتماعي العام. وهو ما طوّرته الدراسات النقدية والاجتماعية والكولونيالية إلى ما يُعرف بالنيكروبوليتكس (Necropolitics)؛ أي قدرة السلطة على منح الحياة و/ أو الموت للأجساد، وهي من خواص السلطات الكولونيالية/ الاستيطانية. وبذلك، تصبح دراسة الأنماط السائدة للموت والحياة، والأجساد وحركتها في (فضاءات) مجتمعٍ ما مؤشراً على فهم المجتمع نفسه، والسلطة الواقعة على أفراده، وبالتالي مقاومتهم لها. من خلال “النيكروبوليتكس” ومنظومة الحياة والموت ضمن بنية النظام الاستعماري، وموقع الجسد (الفلسطيني والصهيوني) فيها، يمكن فهم العديد من السياسات الصهيونية، وليس التحفظ على جثامين الشهداء إلا إحداها.
عملية المواجهة الجسدية (جسد فلسطيني مقابل جسد صهيوني) تشبه فكره الكتابة، حيث يعطي جسمٌ ما لفكرةٍ ينسجها عن نفسه ويمارسها، ليُعرِّف ذاته، ويفهم/ يتخيل كيف يراها/ يدركها العالم، ومن خلالها يعيش ويعبّر. بمعنى آخر، هذا النمط من المواجهة هو عملية “تشكيل ذات” في مقابل “آخر”، ضمن سياقٍ مكانيٍّ وسرديٍّ (بالأبعاد الثلاثة السابقة للمكان: مُجرَب، مُتخيل ومُدرَك) لا يقبل إلا ذاتًا واحدةً فقط لها كل السيطرة على المكان والسرد والمعنى، وهي الذات الصهيونية.
حتى وإن كانت السردية التي تكتبها الذات الفلسطينية عن نفسها في تلك المواجهة، هي سرديةٌ محكومةٌ بالموت الجسدي (كبعدٍ مادي)، إلا أنها بكتابتها تلك، تحمي نفسها من الاعتداء ثانيةً والطمس (كبعدٍ مُجرَّبٍ، مُتخيلٍ، ومُدرَكٍ)، لكن ماذا يكتب الجسد االفلسطيني في هذه الحالة؟
الجسد الفلسطيني يعيد رسم حدود “الجماعية الفلسطينية” التي حطمتها النكبة، ومؤسسات الحداثة، كالدولة والاتفاقات والمبادرات الدولة، التي حولت فلسطين إلى ضفةٍ غربيةٍ وقطاعٍ غزيٍّ، والثوار إلى سياسيين، والبندقية إلى بندقية تشريفات رئاسية، وقسّمت الفلسطيني إلى فلسطيني منفى، وفلسطيني قطاع وفلسطيني ضفاوي، وفي النهاية فلسطيني 48.
يكتب الفلسطيني في تلك المواجهة الحدود الإدراكية لذاته الفلسطينية، في مقابل البنية الاستعمارية، فالجنود الصهاينة، الذي راحوا ضحية المواجهة الأخيرة في القدس، حتى وإن كانوا عربًا فلسطينيين من الطائفة الدرزية، إلا أنهم يكتبون ذواتهم في حالة المواجهة تلك كجنود احتلال (والفلسطيني دائمًا في مواجهةٍ مع النظام الاستعماري، على المستوى المادي والرمزي). كما أن هذه المواجهة تعرّي سياسات الهوية الصهيونية تجاه الفلسطينيين ضمن حدود الدولة الصهيونية، من الخدمة المدنية والعسكرية، فكما يُعزل البدوي والدرزي والمسيحي عن حاضنته الهوياتية والتاريخية والاجتماعية العربية، يُزجّ به في الخطوط الأولى لمواجهة الفلسطيني/ ة، في المظاهرات وعلى حدود المكان المتخيّل (دولة الاحتلال) وحواجزه.
إن لجوء الفلسطيني، لأداةٍ كالسكين والحجر والبندقية على هذا القدر من الحياد/ الموت، واستخدامها في علاقة مواجهة وإفناء/ فناء/ موت مع جسدٍ آخرَ، ليست مواجهةً جسديةً فحسب (كما يكثر القول بأنها مواجهة فردية لا تؤدي إلى شيءٍ)، إنما هي أيضًا مواجهةٌ مع بنيةٍ كولونياليةٍ مستقرةٍ وثابتةٍ، تمثّلها دولةٌ عسكريةٌ يقوم فيها التسليح مقام الهاجس الأول، فيما تُحوّل أفرادها جميعًا إلى آلاتِ قتلٍ بشريةٍ (الخدمة العسكرية والتسليح بين المستوطنين دليلٌ)، وفضاءاتها المدينية إلى فضاءات رقابة وضبط وطمس.
كما أن لجوء الفلسطيني إلى هذا النوع من المواجهة الفردية لا يمكن قراءته من خلال نظرةٍ خلوصيةٍ يائسةٍ تؤكد كونه الضحية المستلبة، فـ”أهمية المقاومة في التحرر من الآفة النفسية للاستعمار، وقدرتها على فك العقد السياسية والنفسية المرتبطة بإخضاع مجتمع ما لسيطرة وسطوة مجتمع آخر. فالمقاومة في أنماطها المختلفة تتعدى في جدواها مفهوم السياسة كما يفهمها أصحاب مقولات «المشاريع السياسية»، بل هي طريقٌ لعملية تحررٍ أوسعَ من مجرد إنهاء الحالة الاستعمارية”(8).
الصلاة والفضاء المقدس
يقول المفكر الباكستاني محمد إقبال في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” ( 1934 ): “الدين في أكمل صوره – يسمو فوق الشعر، فهو يتخطى الفرد إلى الجماعة؛ وفي موقفه من الحقيقة الكليّة يتعارض مع عجز الإنسان وقصوره، فهو يفسح مطالبه، ويستمسك بأملٍ لا يقل في شيءٍ عن شهود الحق شهودًا مباشرًا”(9) وفي نفس الكتاب يتحدث عن الصلاة، فيقول: “الصلاة التي تستهدف المعرفة تشبه التأمل. ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرًا على التأمل المجرد”.
وهي كالتأمل أيضًا في أنها فعلٌ من أفعال التمثُّل، ولكن التمثُّل في حالة الصلاة يتجمع مترابطًا، فيحصل بذلك على قوةٍ لا يعرفها التفكير المجرّد. فالعقل في تفكيره يلاحظ فعل الحقيقة ويتقصى آثاره، ولكنه في الصلاة يتخلى عن سيرته، بوصفه باحثًا عن العموميات بطيئة الخطى، ويسمو فوق التفكير ليحصِّل الحقيقة ذاتها، لكي يصبح شريكًا في حياتها، شاعرًا بها. (…) فالصلاة فعلٌ حيويٌ عاديٌ تتكشّف به فجأة شخصيتنا التي تشبه جزيرةً صغيرةً، مكانها في الوجود الخضم الأكبر للحياة “(10).
لعل هذه الطاقة الرمزية في فعل الصلاة ومكانها، يمكنها أن تفسر مشهدًا أساسيًا ومتكررًا في تاريخنا العربي، ضمن سياق المقاومة والثورة الاجتماعية؛ من ثورة المصلين على الوليد بن عقبة (أخو الخليفة عثمان بن عفان لأمه) والي الكوفة، حينما صلى الفجر سكرانَ بالناس، أربعَ ركعاتٍ، وقال: “أرأيتم أن أزيدكم؟!”(11)، مرورًا باعتصام ابن الزبير بمكة، في وجه يزيد بن معاوية، الذي أحرق أستار الكعبة، قبل أن يدخلها مصليًا، وصولًا إلى مشهد المصلين أمام مدرعات وزارة الداخليّة المصرية على “كوبري قصر النيل” في ما عُرف بـ”جمعة الغضب” من يناير/ كانون ثان 2011، وحتى لحظة كتابة هذه السطور (17 تموز 2017) حينما صلى المقدسيون في شوارع القدس القديمة، رفضًا لإغلاق المسجد الأقصى بعد عملية آل الجبارين الاستشهادية. هذه الطاقة الرمزية هي التي جعلت من “الإسلام طاقة ثوريّة كبرى”(12).
يمكننا تحليل هذا المشهد ورمزيّته، في الحالة المقدسيّة تحديدًا، إلى أقسامٍ ثلاثة: أولًا، الصلاة؛ ثانيًا، الجامع (الفضاء المقدس)؛ ثالثًا، كاشف المعادن، كعتبةٍ تحدث بعدها ممارسة المعنى، ويبدأ منها فضاء المكان المقدس.
أولًا: الصلاة
المعنى الرمزي الذي تحمله الصلاة، تستمده من مبدأٍ أساسٍ في الفكر الإسلامي، وهو غياب المؤسسة، فلا رجالَ دينٍ ولا كهنوتَ في الإسلام؛ أي أنها ممارسةٌ أفقيةٌ ورأسيةٌ للمعنى. من ناحيةٍ، هي رأسيةٌ حميميةٌ شخصيةٌ وفرديةٌ بين الفرد وربّه(13) دون وسطاء أو وكلاء، إذ إنّ غياب الوسطاء هو دعوةٌ روحانيةٌ إلى تنمية السؤال القيميّ عن السلوك الإنساني، أهو حقٌ وعدلٌ وخيرٌ وجمالٌ وحريةٌ أم لا؛ “إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”(14). وإذا استعرنا من الفلسفة الصوفية مركزية النموذج المحمديّ، لوجدنا أنّ قيمًا كالصدق والأمانة، تحضر قبل ممارساتٍ كالصلاة. ومن الناحية الأخرى، هي أفقيةٌ إنسانيةٌ، فلا فردَ أفضلُ من آخر َفيها، وكلُّ المسلم للمسلم جماعةٌ في الصلاة، فقد “ذهب بعض الفقهاء في الإسلام إلى جواز اعتبار حضور شخصين اثنين حدًا للجماعة، واشترط بعضٌ آخرُ وجوبَ حضور ثلاثة أشخاص، فبحضورهم يصح عقد صلاة الجماعة”(15).
إذا كان لنا أن نجمع المحورين الرأسي والأفقي في ممارسة الصلاة في القدس (وفي القاهرة)، فهي أفقيًا، ممارسةٌ للمعنى في الفضاء المجتمعي تستبطن قيمة الحرية والثورة على الظلم ومواجهة الظالم والقامع، ورأسيًا، تبتغي الإصلاح في الأرض، بمواجهة الاحتلال ومقاومته.
أي أنها ممارسةٌ هوياتيّةٌ من ناحية، تحدد خطوط الفصل بين الذات صاحبة الحق، والآخر مغتصب الحق. هذه الممارسة الهوياتيّة تنفتح على ثقافة المقاومة، بغض النظر عن الدين بمنطقه الأيديولوجي- يُذكر أن صلاة المتظاهرين المصريين على كوبري قصر النيل في مواجهة مدرعات الداخلية، قد شهدت مشاركةً من الأقباط- كفعلِ مقاومةٍ جمعيٍّ، ما يفتح تلك الممارسة على البعد الثاني لها، ألا وهو الثقافي، وهو الفضاء الأرحب والأهم للمقاومة. فمنذ أيامٍ، صرَّح رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتياهو للرئيس الفرنسي (الغرّ)، إيمانويل ماكرون، في لقائه به في باريس بمناسبة إحياء الذكري الـ75 لطرد يهود فرنسا بأن “الإسلام السياسي يسعى لتدمير إسرائيل وأوروبا”(16).
يمكن فهم تخوُّف نتنياهو والأنظمة الغربية والعربية من ورائه، من ممارسة “الإسلام السياسي” فلسطينيًا وعربيًا، إذا ما كانت تلك الممارسة قادرةً على استيعاب التعدد الثقافي في وجه الظلم والاحتلال والقمع، من خلال نموذج يضع سؤال القيمة الأخلاقية، قبل الممارسة التعبدية، والمعنى الأيديولوجي لها. (جدير بالذكر أنّ فصائل الإسلام السياسي الحزبية والمؤسساتية نفسها أخفقت في بناء هكذا نموذج أمام سؤال الثورة على الأنظمة العربية الرجعيّة كممارسةٍ قيميةٍ، وليست ممارسةً سياسيةً!).
ثانيًا: الجامع (الفضاء المقدس)
“كلمة “جامع” في الإسلام، هي صيغةٌ أخرى من صيغ السلطة الجماعية. إنه مقرٌ مفتوحٌ في كلِّ محلةٍ. يرتاده الناس خمسَ مراتٍ كلَّ يومِ. لهم حقُّ الاجتماع فيه، حتى خلال ساعات حظر التجول. تحت سقفه مكفولةٌ حريّةُ القول، وحريّةُ العقيدة، وسلطةُ الأغلبيّة. في لغته كلُّ المصطلحات المطلوبة، وكلُّ كلمةٍ حيةٍ تُرزق.
فكلمة “بيت الله” تعني أن الجامع لا يخص الدولة، ولا يخضع لقوانينها، ولا تستطيع أن تمنع الاجتماع فيه، أو تتجاهل القرارات الصادرة عنه، لأنه مقر إقامة شريعة العدلِ الذي تضمنه – فقط – سلطة الأغلبيّة.
وليس في أيدينا أن نغيّر واقعًا بالكلام عن واقعٍ سواه. إننا من دون الجامع، لا نملك ثمة ما يضمن للجماعة حقّ إدارة شؤونها سوى صحافةٍ من دون سلطةٍ، ودستورٍ لا يحتاج إليه أحدٌ، وديمقراطيةٍ صعبة النطق، لا يعرف مواطننا من أين يكملها. هذا نصف حصيلتنا من دون الجامع.
فالمسجد فكرةٌ قديمةٌ، عرفتها كل الحضارات، ولها اسمٌ في كل لغة. أما الجامع، فهو فكرةٌ أخرى، لم يعرفها أحدٌ، ولم يدعُ إليها أحدٌ سوى الإسلام، لأنها تطبيقٌ لمبدأ المسؤولية الشخصية، الذي حتّم إلغاء كلِّ وسيطٍ بين الإنسان وخالقه، وحتّم إلغاء الشفاعة والنيابة والتمثيل، ووضع كلَّ إنسانٍ في موضع المسؤولية الشخصية عمّا يحدث له. ]…[ إن الجامع هو الجهاز الشرعي الوحيد لأداء هذه المسؤولية، وجمع الناس المتفرقين بين المساجد والكنائس والمعابد، في جهازٍ إداريٍّ موحدٍ محررٍ من كل الخلافات”(17)، فهذا الفضاء الأفقي الأوحد، يعتمد على المساواة بين الناس جميعًا، في مواجهة المشترك لهم في حياتهم، والفردي لكل فردٍ منهم. ولعل المتتبّع لمسيرة تحول “الجامع” إلى “مسجد”، في اللغة والتاريخ، لا يخطئ علاقة ذلك بالسلطة السياسية والمجتمع، بدايةً من الدولة الأموية، مرورًا بالعباسية، وحتى هذه الأيام التي يُقدَّم فيها سفاحو الانقلابات الدمويّة تقديمَ الأنبياء على المنابر في “المساجد”، ويدعو من عليها لـ”حربٍ طائفيّةٍ”(18).
إذا استدعينا مبدأين هامين في ما يتعلق بمفهوم الصلاة والجوامع في الإسلام، أولهما الأصل بطهارة “الأرض”؛ أيِّ أرضٍ وكل أرضٍ لإقامة الصلاة، بحسب ما جاء في الحديث النبويّ: “جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا”(19)، وهو الحديث الذي حولته المؤسسة الدينية الكهنوتية إلى سؤال طهارة طقوسيّة، سالبةً منه رمزيتَه وانفتاحَه على طهارة الروح وسؤال القيمة الإنسانية كالحق والخير والجمال والحرية والعدل. وثانيهما “عمارة” المساجد كما وردت في الآية الكريمة: }إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله{(20)، والتي بوجهٍ لغويٍّ وفكريٍّ يمكن ربطها بالعمران الخلدوني ومساحته الاجتماعية والسياسية من ناحية، ومن أخرى ربطها بعدم الخوف من سلطة سلطانٍ أو حاكمٍ، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق.
ببساطةٍ، الصلاةُ في ذاتها فعلٌ مقاومٌ، وإقامة الجوامع –تجمُّع البشر- هي كذلك خلقُ فضاءاتٍ مقاومةٍ، واستعادة الحق الفردي في امتلاك العلاقة بالله وبالمكان وبممارسة المعنى القيمي في الحياة، انتزاعًا من وسطاء يحتكرون المعنى، ويتحدثون باسم السماء، باعتبار سؤال المعنى (ما معنى الحياة؟) سؤالًا مركزيًا في الوجود الإنساني، (وكذلك في مواجهة دولة حديثة تدعي الألوهية، وحق منح الحياة وانتزاعها، وتحديد مفهوم القيم ودلالتها).
ثالثا: أجهزة كشف المعادن
أجهزة كشف المعادن التي وضعتها سلطات الاحتلال على مداخل المسجد الأقصى ليست مجردَ أجهزةٍ لإدارة العلاقة بين الحداثة والخوف والفرد، من خلال الدولة، كما يقول عالم الاجتماع الراحل زيغمونت :باومان”، في كتابه “الخوف السائل” (2006). ولا يجب التعامل مع هذه التكنولوجيا التي تخترق الأجساد، وتفرض هيراركية للقوة، تحدد آليات السيطرة على الجسد والوجود والحركة، باعتبارها مجرد “أجهزة أمن”.
هذا السلوك الممأسس لإدارة الخوف، هو سلوكُ سيطرةٍ على الجسد والفكرة والمكان والمعنى، لذا يمكننا تفهّم تواطؤ مؤسساتٍ أخرى مع هذا السلوك (ليس بحسب موازين التطبيع مع الاحتلال فحسب) كنموذج السلطات الأردنيّة التي لها –شكليًا- حق إدارة المسجد الأقصى، والسلطات السعودية باعتبارها مركزًا لما يسمى “الإسلام السني”، حيث أعلن العاهل السعودي “تفهمه للإجراءات الصهيونية”(21). هذه السلوكيات الممأسسة للسيطرة على الفضاء المقدس، وانتزاع جامعيته الأفقية، لتصبح رأسيةً هيراركيةً طقوسيةً، تتمثل في السجود “مسجد”، لا تختلف مع سياسات إغلاق الجوامع في بعض الدول العربية، أو تحديد جامع محدد لكل مواطن/ ة بحسب محل السكن، أو فرض موضوعات معيّنة لخطب الجمعة، من قبل وزارات الداخلية، أو حتى زرع جواسيس في الجوامع ذات النشاط السياسي، كما حدث في مصر فترة حسني مبارك (المخلوع).
ولعل خروج المظاهرات والثورات –بعكس ما يرى مثقفون مثل أدونيس- من الجوامع، له دلالته من حيث استعادة الحق المسلوب في الدين كممارسةٍ قيميةٍ تحرريةٍ، وفي فضاءاته الاجتماعية: “الجامع” في وجه استلاب الدولة له(22).
بالعودة لفكرة أجهزة كشف المعادن، فالدولة الصهيونية كمؤسسةٍ حداثيةٍ تراهن على علاقة الفرد الحديث بالتكنولوجيا، وتحديدًا تكنولوجيا السيطرة و”الأمان” (والتي تُعد نتاجًا لتكنولوجيا الحروب، وفي الواقع، فالكيان الصهيوني دولةٌ عسكريةٌ، قائمةٌ على التسليح والسيطرة). تلك العلاقة المبنيّة على وضع الفرد في حالة من السلبية السياسية،؛ أي أنه يشعر بعدم تحمله المسؤولية السياسية، لأن التكنولوجيا تقوم بهذا الدور عنه. كما تقدم تلك التكنولوجيا نفسها باعتبارها شرطًا لنظامٍ اجتماعيٍّ متناغمٍ وديمقراطيٍّ يساوي بين أفراده الواقعين تحت سيطرته وآليات وسمه لهم (والسؤال هنا، هو لمن تُوجَّه هذه التكنولوجيا؟!)، لذا فتوحّش الآلة العسكرية والتكنولوجيا على الفرد والمجتمع، نابعٌ من أنها تستمد قوتها من رصيد الخوف المتجدد في الفرد والمجتمع من ناحية، وتواطؤ المؤسسات مع بعضها من ناحيةٍ أخرى، وهو ما فعلته عمليّة القدس الاستشهاديّة لآل جبّارين.
رفض المقدسيين كمجتمع وأفراد، ورفض وزارة الأوقاف الفلسطينية (كمؤسسة، لنا عليها وعلى خطابها وسلوكها الكثير من التحفظات)، هو رفضٌ لتدجين المعنى والمكان والأفراد، وهو مواجهةٌ مع آلة الدولة الصهيونية العسكرية للسيطرة، ببساطة هو مقاومة، ولأن “المقاومة جدوى مستمرة”(23)، فلسنا مهزومين ما دمنا نقاوم، ونصل لإلهٍ حرٍّ.
__________________________________________________
الهوامش:
* المادة مهداة إلى روح الشهيد المثقف المشتبك، باسل الأعرج.
1. “نظام ليس واحدًا: الاحتلال والديمقراطية بين البحر والنهر”، أريئلا أزولاي وعدي أوفير، مدار، 2012.
2. Orality and Literacy”, 1992.” Walter J. Ong, Methuen,
3. جان جاك لوسكرل، عنف اللغة، المنظمة العربيّة للترجمة،2006.
4. المصدر السابق.
5. من مقال بعنوان “الخوارزميّات في مواجهة الإرادة”، للكاتب عنان الحمدلله، موقع باب الواد، بتاريخ 14 تموز 2017: https://bit.ly/2tUjBpR
6. المصدر السابق.
7Judith Butler, Frames of War, Verso, 2010 .
8. اقتباس من مقال بعنوان “الأعجوبة التنظيميّة: المقاومة بدون قيادة”، للكاتب محمد عبد الله، على موقع حبر، بتاريخ 16 تموز 2017:
https://www.7iber.com/politics-economics/organizational-miracle-leaderless-resistance-in-palestine/
9. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، دار الجمل، 2015.
10. المصدر السابق.
11. كما جاء في عدد كتب التاريخ الإسلامي، ومنها: الإصابة في تمييز الصحابة، للعسقلاني.
12. معين الطاهر، “تبغ وزيتون؛ حكايات وصور من زمن مقاوم”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.
13، جدير بالذكر أنّ مفهوم الرب في المخيال الإسلامي بقدر ما يتشكل خطابيَّا، فهو كذلك ينبي فرديًا، ويمكن رؤية ذلك من خلال نماذج الآيات والأحاديث التي تأتي فيها الصفة الربانية كمقابل فردي للأمل الإنساني الفردي بالرحمة والمغفرة والاتساع، كنموذج الآية القرآنية التي تقول: }إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها{ (سورة النساء، الآية 40).
14. القرآن الكريم، سورة العنكبوت، الآية 45.
15. التنبيه، ابن اسحاق الشيرازي، والإقامة، لابن ماجة، وكتاب المساجد في صحيح مسلم.
16. ورد الخبر على موقع عرب48 الإخباري بتاريخ 16 تموز 2017.
17. الصادق النيهوم، الإسلام في الأسر، رياض الريّس للكتب والنشر، ط4، 2000.
18. في هذا الشأن، نُذكِر بمقولة لعبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي: “والله لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”، وأخرى للحجاج بن يوسف الثقفي: “والله لا آمر أحدًا أن يخرج من باب من أبواب المسجد، فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه!”، من كتاب الطاغيّة، إمام عبد الفتاح، عالم المعرفة، 1994.
19. صحيح البخاري، باب الصلاة.
20. القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 18.
21. بحسب ما نقله موقع عرب48 بتاريخ 18 تموز 2017.
22. جدير بالذكر أن أغلب -إن لم يكن كل- أدبيات لزوم الصمت والإصغاء السلبي للخطيب يوم الجمعة، وأن مقاطعته تبطل الصلاة، هي أدبيّات ارتبطت بالدولة الأموية، وبالذات بعد مقتل الإمام علي، واستباب الحكم لمعاوية، الذي بدأ الجامع في عصره يتحول إلى مسجد، ويتحول إلى فضاء طقوسي بعد أن كان فضاءً سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، جامعًا. حيث بدأ الدعاء على الإمام علي وآله، وسبه ولعنه، ما لاقى رفض الكثير من العامة والمصلين واحتجاجهم.
23. مقولة الشهيد المثقف المشتبك، باسل الأعرج.