هل أدرك أنّ الوجود لا يتحقّق إلّا بالعرق والدم [1]، ولذلك ركض مسرعاً نحو الرصاص باحثاً عن حقّه في ملحمة الوجود ذاتها، فتلقّى صدره الرصاصة ليختلطا أخيراً؟ تلك هي حقيقة الذاهبين نحو المشهد الأخير بلا خوف. ألم يقل «أنا السنوار الصغير»؟ ألم يقل أنا لست خائفاً؟ كان بالفعل طفلاً، حتّى في رحيله. هزم الموت القادم نحوه ببراءته، فهو لا يعلم قيمة هذا الشيء، ولا يدرك الخوف الذي يتربّص به، والأهمّ أنّه ما زال صغيراً حتّى على الرصاص ذاته. المشكلة ليست عنده، لربّما كان يلعب لعبته المفضّلة؛ «جيش وعرب»[2]، مقتنعاً بأنّه سيعود شهيداً في لعبة الطفولة.
تلك اللعبة؛ عندما يطلق أحد الأولاد «صوت الرصاص»، فيهرع بقيّة الرفاق إلى عبد الله، يضعونه على لوح خشب، بالكاد يحملونه، مطلقين هتاف حناجرهم، وهم يضحكون “عبد الله يابن عمّي، دمّك مجبول بدمّي”[3]. وبالعودة إلى المشكلة، اعتقد «عبد الله» بأنّه يلعب، ولكنّه رحل قبل أن يدرك أن اللعبة أصبحت، بل هي حقيقة؛ الرصاص، الرفع على الأكتاف والعينان تشاهد بوابة السماء، صوت الهتاف وصدمة الأحبّة وبكاء قطّة المنزل، وأكثر بكاء كنزته الشتويّة الأحبّ إلى قلبه.
الحقيقة أنّ هناك من يحمل في قلبه الأسود حقداً حتّى على ألعاب الأطفال، ولم يمنح عبد الله فرصة أخيرة… فرصة أخيرة ليودّع رفاقه ويعود إلى المنزل منهكاً من اللعب، حيث والدته تنتظره على الباب مفتعلةً الغضب؛ لأنّ ملابسه متّسخة، ولأنّه لم يتناول الطعام منذ الصباح، ولربّما تقوم بصفعه. وفي الليل، تنهض من فراشها وتنظر إلى طفلها من شقّ الباب الصغير، تطمئنّ عليه. ولكنّ الاحتلال لم يمنحها هي الأخرى فرصةً أخيرة لتذرف دموعها على باب الغرفة لأنّها صفعت صغيرها عصر ذلك اليوم. لقد منحها ذلك الجنديّ حقّ البكاء إلى الأبد، ذكرى لن تكفّ عن الجريان في القلب والذاكرة، صورة طفلها المبتسم حتّى في نومه. ولربّما تتمنّى أن يرجع عبد الله الآن، لتعود هي إلى شوارع المدينة، وتلعب مع رفاقه ومعه حتّى ساعات الليل.
فرصة واحدة كانت تكفي ليعود عبد الله إلى المنزل، ويفتّش في حقيبته المدرسيّة عن دفاتر التاريخ، والرياضيات، والجغرافيا… ليبدأ الدراسة على الرغم من غضب أمّه. ولكنّ المشكلة في الرصاصة، ليست في الدفاتر، ولا في لعبة عبد الله المشروعة. فاللعب هنا حقّ، والحقّ أقدس من القوّة [4] ، تلك هي حقيقة المشهد. حقيقة فتى صغير هو بمثابة أعظم إنجازات تلك الأمّ، ولكن الاحتلال ذاته لم يأتِ إلّا لقتل الإنجازات وتحقيق حلم الصهيونيّة بإنهاء بؤس اليهود في العالم، كما دعا وادّعى «هيرتزل» في كتابه «الدولة اليهوديّة». ويبقى السؤال؛ هل تتحقّق أحلام اليهود فقط على أجساد أطفالنا وأحلامهم؟
إذن، ما هي وصايا هذا الرحيل، أم أن رحيلك في حدّ ذاته هو الوصيّة؟ ماذا عن إحساسك الصغير، بل البريء لحظة عاركت الرصاصة، عندما احتضنتها بجسدك لتدفع بروحك خارج المشهد؟ لربما المعضلة هنا في السؤال ذاته، وفي البحث عن الإجابة، هل هو إحساسك ذاته في أوّل يوم دراسيّ، عندما ابتعد والدك عائداً إلى المنزل وبقيت، للمرّة الأولى، وحيداً؟ لربّما بكيت حينها على دُرج المدرسة احتجاجاً، وصرخت أيضاً، وتساءلت عن حقيقة ما يجري. لربّما كان أوّل درس لك في الصفّ المدرسيّ يعلّمك معنى الحياة، والأهمّ معنى الوداع، ولربّما قلت لنفسك: نحن الأطفال نخطئ، ولكن حتّى أخطاؤنا يجب أن تكون مقدّسة.
منذ ذاك اليوم ومنذ الدرس الأوّل، قرّرت الاستمرار في الاحتجاج، كان السبيل الوحيد أمامك لفهم معنى الوجود. لذا قرّرت أن تحتجّ مع أوّل قنبلة سقطت على أطفال غزّة، حتّى لو كان بالحجر، فهو بالنسبة لك أكثر إقناعاً من الحراك الدبلوماسيّ. هو أكثر إقناعاً لك كطفل أمام مشهد الآلاف المحاصَرين في غزّة، وشمالها، بالجوع، والعطش، والتعب، والخوف، ورائحة البارود والموت. لقد أردت أن تقول شيئاً بهذا الحجر عندما ركضت خلف الآليّة العسكريّة، ورفضتّ أن يصبح المشهد شيئاً اعتياديّاً ولو بالحجر، بل رفضتّ النسيان أوّلاً، ورفضتّه أبداً. قذفت الحجر وجاءت الرصاصة، هذا هو المشهد الأخير الذي وددت أن يبقى راسخاً في ذاكرتنا قبل رحيلك، هو مشهد الرفض.
ويبقى من بعد سؤال آخر؛ من ينتشل النصّ من غيابات الجبّ؟ [5] وإلى أن يأتي صاحب الإجابة، نقول لك يا عبد الله هواش؛ إنّ الهزيمة يتيمة والانتصار له أطفال كثيرون. ولا نقول لك أكثر ممّا كانت تقوله أمّك كلّ ليلة فوق رأسك الصغير؛ تصبح على خير. وسنغنّي لك ما غنّاه الشيخ إمام «قاوم بالصدر العاري» [6] :
قاوم بالصدر العاري
قاوم بالجرح النازف
أنت الطفل الأسطورة
والمجد الآتي الزاحف
يا طفل الأمس الباكي
يا شمس الصبح الباسم
ليعود الطير الشادي
ويذوب الليل الفاحم
ويلف الفجر طيورا
تشدو بالنهر الجاري
أشهدتَ العالم أنّك
أصلب عودا و قواما
تتحدّى القهر صنوفا
و تقيم الليل قياما
تأبى النوم و أرضك
تصلى بلهيب النار
يا أملاً هلّ ولاح
وعبيراً هاج وفاح
عصفور أنت ولكن
أنهضتَ الصقر جناحا
قاوم فالنصر حليفك
والحقّ بظلّك ساري
قاوم بالصدر العاري
_____
[1] الجملة من رواية “حضرة المحترم” للكاتب المصريّ نجيب محفوظ، تمّ إنتاجها كمسلسل دراميّ مصريّ من بطولة أشرف عبد الباقي، نورهان، سميّة الخشاب، سوسن بدر وصلاح رشوان. سيناريو وحوار عاطف بشاي إخراج سيد طنطاوي.
[2] من الألعاب التي اعتادها أطفال فلسطين، لعبة «عرب ويهود»، حيث يمتشق الصبية بنادقهم الخشبيّة أو البلاستيكيّة وينقسمون فرقتين: تمثّل إحداهما الفدائيّين الفلسطينيّين، بينما تمثّل الأخرى دور الجنود الصهاينة. وربّما يدبّ الخلاف بينهم بداية بسبب رفض الجميع القيام بدور الصهاينة، أو أنّهم يتفقّون على تبادل الأدوار فيما بينهم. حيث هذه اللعبة مستمرّة منذ عشرات السنين فإنّ ذلك يؤكّد عمق الإحساس باستمراريّة الصراع وضرورة الكفاح لطرد المحتلّ ووقف جرائمه.
[3] عبد الله هواش: طفل فلسطيني يبلغ من العمر 11 عاماً، استشهد أثناء مواجهات اندلعت مع جيش الاحتلال في مدينة نابلس شمال الضفّة الغربيّة في 22 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2024.
[4] في مقدمة كتابه «الدولة اليهوديّة»، يشير «تيودور هيرتزل» إلى أنّ «القوّة تسبق الحقّ»، وكانت أحد ركائز عند «هيرتزل» لإقامة ما يسمّى «”الدولة اليهوديّة»، وهو بالفعل المفهوم الذي اعتمدته «إسرائيل» في التعامل مع الشعب الفلسطينيّ. وأشار أيضاً «زئيف جابوتنسكي» في مقاله «الجدار الحديديّ» إلى ضرورة استخدامها ضدّ الفلسطينيّين، وفي «إسرائيل» قناعة مهمّة بأنّ “ما لا يُعالج بالقوّة، يُعالج بمزيد من القوّة”.
[5] جمع غيابة، وهي ما غاب عن البصر من شيء، وصف قرآني ورد في الآية العاشرة من سورة يوسف في وصف المكان الذي أُلقي فيه النبي يوسف عليه السلام.
[6] كلمات الشاعر «فرغلي العربي»، غناء المطرب الشعبيّ المصريّ «الشيخ إمام».