يندرج هذا المقال ضمن سلسلةٍ جديدةٍ على باب الواد تقتفي تاريخ تطوّر إنتاج الخرائط لفلسطين، والدوافع وراء إنتاجها، وتفاصيل قهر الجغرافيا والإنسان الفلسطينيّ، من خلال إخضاع الواقع لتسميات الاستعمار تارةً، ولأساطيرٍ أُلصقت بهذه الجغرافية تارةً أخرى، وكيفيّة استخدامها كدليلٍ يقتفيه الجُند الغزاة إلى بلادنا. تُعنى السلسلة بمقالاتٍ ودراساتٍ حول تاريخ رسم خرائط فلسطين، وتنتقل بين مواد وخرائط تاريخيّةٍ تُعطي القارئ فكرةً عن التاريخ “الكارتوجرافي” لفلسطين ضمن جغرافيتها الأعمّ وتشكيلها الحضاريّ التاريخيّ وظروف إنتاجها. كما تعرّج السلسلة على بعض الأحداث والشخصيّات، استعماريّة و/أو وطنيّة، وتنتقل إلى التكنولوجيّات الحديثة في علم نُظُم المعلومات الجغرافيّة ورسم الخرائط، فضلاً عن انعكاس استخداماتها في الشؤون العسكريّة والأمنيّة والتخطيطيّة.

لحسن الحظّ كنتُ قد أتممْتُ خرائط المناطق التي تواجدت فيها قوّات الجيش، طولكرم ونابلس وجنين، حيث كانت من أسوأ المناطق التي تواجد فيها قطّاع الطرق والمهاجمون … في عام 1936 عمل فريقي –واصلين الليل بالنهار- وباستخدام آلةٍ واحدةٍ فقط على إنتاج ثلاثين ألف نسخةٍ من هذه الخرائط لتوزّع على قوّات الجيش والشرطة“. – الكولونيل البريطاني “ف.ج. سالمون”، مسؤول دائرة الأراضي والمساحة في حكومة الانتداب البريطاني.

يندرج هذا المقال ضمن سلسلةٍ جديدةٍ على “باب الواد” تقتفي تاريخ تطوّر إنتاج الخرائط لفلسطين، والدوافع وراء إنتاجها، وتفاصيل قهر الجغرافيا والإنسان الفلسطينيّ، من خلال إخضاع الواقع لتسميات الاستعمار تارةً، ولأساطيرَ أُلصقت بهذه الجغرافية تارةً أخرى، وكيفيّة استخدامها كدليلٍ يقتفيه الجُند الغزاة إلى بلادنا. تُعنى السلسلة بمقالاتٍ ودراساتٍ حول تاريخ رسم خرائط فلسطين، وتنتقل بين مواد وخرائط تاريخيّةٍ تُعطي القارئ فكرةً عن التاريخ “الكارتوجرافي” لفلسطين ضمن جغرافيتها الأعمّ وتشكيلها الحضاريّ التاريخيّ وظروف إنتاجها. كما تعرّج السلسلة على بعض الأحداث والشخصيّات، استعماريّة أو وطنيّة، وتنتقل إلى التكنولوجيّات الحديثة في علم نُظُم المعلومات الجغرافيّة ورسم الخرائط، فضلاً عن انعكاس استخداماتها في الشؤون العسكريّة والأمنيّة والتخطيطيّة.

وانطلاقاً من ممارسةٍ عسكريّةٍ استعماريّةٍ تقليديّةٍ، وجنباً إلى جنب مع البحث المسبق للغزوّ، أو الموازي له، عن الجغرافيا والسكان والثروات، لا يزال رسم الخرائط لأيّ بقعةٍ جغرافيّةٍ ضمن المطمع الاستعماريّ عرفاً متوارثاً بين المستعمِرين. أُلحقت الخرائط في كثيرٍ من التقارير والدراسات الاستكشافيّة/الاستشراقيّة لبلادنا، ووفّرت تدويناً معلوماتيّاً لجغرافية البلاد، استعان به المستعمِر في بناء خططِه العسكريّة وتكتيكه السياسيّ ضدّ أهل البلاد.

يُخبرنا التاريخ، بامتداده الطويل لبلادنا فلسطين، عن تتالٍ استعماريٍّ لدولٍ مختلفةٍ توارثت جغرافيا البلاد وثرواتها وخرائطها، فاستفاد كلُّ مستعمرٍ من جهود المستعمِر السابق في رسم خرائط البلاد، الأمر الذي أعاد تعريف الجغرافيا بناءً على ما أُثِر من خرائط قديمةٍ. وتندرج هذه الخرائط بمعظمها تحت تصنيفين؛ الأول هو الخرائط المتخيّلة للبلاد من خلال نصوص الكتاب المقدّس، والتي حملت قيمةً فنيّةً ودينيّةً أكبر من كونها خرائط بالمفهوم الهندسيّ الحديث للخريطة، والثاني هو الخرائط التي دعت إليها الحاجة، كتقدير المسافات وطبوغرافية الأرض من أجل الاسترشاد بأفضل المسالك لمسير الجيوش والتحقّق من مدى الرماية وإصابة الأهداف، وساهمت هذه الخرائط فيما بعد في تحديد الأملاك وفرض الضرائب وتدوين المعاملات العقاريّة.

“بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القرش في سوق الحديد”

لعلّ أهم الخرائط التي ورد فيها ذكرُ بلادنا انطلاقاً من المنظور الدينيّ للكتاب المقدّس هي تلك التي وردت في كتاب “رحلةٌ عبر الكتاب المقدّس”، لعالم اللّاهوت الألمانيّ “هينريش بونتينج”، (1445-1606)، والذي نالَ شهرةً واسعةً عند نشره للكتاب في عام 1581، وأُعيد نسخ وإنتاج خرائطه عدّة مرات.

فبالرغم من التطوّر النسبيّ في القدرة على تصوير الشكل “الحقيقيّ” للمساحات الجغرافيّة آنذاك (1581)، إلا أنّ القسّ الألمانيّ أضاف ثلاث خرائط تحمل في رسمها رمزياتٍ لاهوتيّةً مسيحيّةً. فقد صوّر أوروبا كملكة، تاجُها إسبانيا، وقلبُها ألمانيا، وجبال الألب ونهر الراين عقدان في جِيدها. فيما صوّر آسيا على هيئة الحصان المجنّح الأسطوريّ الذي ازدحمت به معظم أساطير العالم القديم.

وأمّا خريطة العالم، فكانت صورةً لورقة نبتة البرسيم بثلاثة فروع، تمثّل كلّ ورقةٍ منها قارّةً من قارّات العالم القديم، يُحيط البحر بالعالم باللّون الأزرق، فيما يتميّز البحر الأحمر باللّون الذي حمل اسمه. وفي مركز رمزيّات العالم ذي المساحات الثلاث، تقع القدس في قلب العالم، داميةً من يسارها بلون البحر الأحمر. وتظهر مدينة القدس داخل دائرةٍ تمثّل مركز ورقة البرسيم “الكلوفر”، ويرسم “بونتينج” ربوةً صغيرةً عليها ثلاثة صلبان، يرمز الأوّل فيهم إلى الجلجلة، أو ما يُعرف بالآرامية ” الجلجوثا”، وهو مكان صلب المسيح، وفقاً للتأريخ المسيحيّ. أمّا الصليبان الآخران فيعودان إلى لِصّيْن، تفيد رواية الكتاب المقدّس أنّه تمّ إعدامهما برفقة “يسوع” في ذلك اليوم. تُصوَّر مباني المدينة في هذه الخريطة بتركيبٍ يُوحي ببناءٍ أقرب في طرازه المعماريّ إلى بلد الرسام منه إلى مدينة القدس.

وفي عام 2008، أعاد الفنان الصهيوني، ذو الأصول الأرمنيّة، “أرمان داريان” رسم خريطة “بونتينج” على قطعٍ من السيراميك مشكّلاً بذلك جداريةً وُضعت على إحدى جدران البلديّة الصهيونية المتحكّمة بمدينة القدس، مُعنوناً اللوحة باسم “يروشليم”، ومذيّلاً إياها بتوقيعه بالإنجليزية. يطلُّ جدار البلديّة على ساحةٍ عامةٍ سُميت باسم “ساحة صفرا” تخليداً لوالديْ المصرفيّ الصهيونيّ، ذي الأصول السوريّة، “إدموند صفرا”،  والذي قتل في موناكو في عام 1999. بينما غابت الصلبان الثلاثة التي رسمها “بونتينج” عن جداريّة “داريان”.

وخلال العام الحالي، اتّخذ عددٌ من السياسيّين “العرب” جدارية “داريان” خلفيّةً لمؤتمر إعلان ترشّحهِم لانتخابات بلديّة الاحتلال في القدس، بدعم عددٍ من النشطاء الصهاينة، على رأسهم الباحث الصهيونيّ “جيرشون باسكين”. بينما تمثّلت ردة فعل الشباب الفلسطينيّ بالرفض التامّ لترشّح أيّ عربيّ لانتخابات بلديّة الاحتلال، وأُفسد المؤتمر المذكور بإلقاء البيض على المؤتمِرين وتلطيخ الجداريّة الشهيرة بالبيض المكسور.

اقرأ/ي أيضاً: “بَيض على سور البلديّة

من الإسكندريّة إلى عكا: خريطةٌ رسمها الجند بوجل وعلى عجل

عُرف عن “نابليون بونابرت” معرفته القويّة لمصر وأرض فلسطين وسوريا ككلّ. ويعود الفضل في هذا إلى أحد أشهر سيئيّ الذكر من المستشرقين الفرنسيّين؛ “فرانسوا فولني” (1757–1820م)”.

تعلّم “فولني” العبريّة في سن الخامسة عشر، وسافر إلى مصر والشام متجوّلاً في عام 1783، قضاها في تعلّم العربيّة و”التعرّف” على منطقتنا لمدة ثلاث سنوات، أنتج على إثرها كتابه “رحلةٌ إلى مصر وسوريا”، والذي لعب دوراً مهماً في فهم “نابليون” للتنوّع الثقافيّ والسياسيّ لسكان مصر وبلاد الشام، ولجغرافيا المنطقة ككلّ.

وفي الأوّل من تموز عام 1798، رسا أسطول “نابليون” في الإسكندريّة محمّلاً بالباحثين والعلماء جنباً إلى جنب مع الجنود والضباط، وضمّ سلاح المدفعيّة في وحداته قسماً لما اصُطلح عليه آنذاك بـ “المهندسين الجغرافيّين”، (Ingenieurs-geographes). ولدى وصول القوّات الفرنسيّة إلى مصر، بدأ هذا القسم في رسم أولى الخرائط معتمداً على أُسسٍ رياضيّةٍ حديثةٍ، فيما يُمكن اعتباره أولى بدايات رسم الخرائط الدقيق “هندسيّاً” لبلادنا. سارت وحدات المهندسين الجغرافيّين جنباً إلى جنب مع القوّات الزاحفة من مصر إلى فلسطين، رصَدَ خلالها عناصرُ الجيش من المهندسين كافة المواقع الجغرافيّة الطبيعيّة، الجبال والأودية والأنهار والتجمّعات السكنيّة وخطوط الطرق، فشكّلت الخرائط التي أعدّها ضباط الهندسة الجغرافيّة خطّ تتبّعٍ لمسير القوّات الفرنسيّة الغازيّة المتّجهة إلى عكا.

قاد المهندس الجغرافيّ الفرنسيّ “ببير جاكوتين”، (1765–1827)، عمليّة رسم الخرائط لمصر وفلسطين مرافقاً القوّات في زحفها، ويروي عن ذلك قائلاً :”كانت عملية رسم الخرائط تجري أثناء مسير الجيش، كانت الدقّة في بعض الأحيان غير صحيحة، إذ كان على الجيش أن يحارب الأعداء وهجماتهم إضافةً للجوع والمرض، كان كلّ حيودٍ عن الطريق خطيراً وقد نواجَه بهجومٍ من العرب، وكان جنود المدفعيّة، وليس المسّاحون، همّ من يجرون معظم الاستطلاعات”.

كانت حملة نابليون سريعةً في زحفها -لم تكن أسرع من حرب العرب مع العدوّ الصهيونيّ- لكنّها كانت سريعةً على المهندسين المكلّفين بإنتاج الخرائط، فقد سيطرت القوّات الفرنسيّة على غزة في شهر شباط عام 1799، ثمّ وصلت إلى يافا في الشهر التالي، وإلى عكا في الشهر نفسه، واستمرّت في حصارها حتى العشرين من أيار، وسرعان ما انسحبت القوّات الفرنسيّة مهزومةً. استخدم “جاكوتين” البيانات التي تمّ الحصول عليها خلال الأشهر القليلة من غزو الساحل الفلسطينيّ في إنتاج خرائط بمقياس رسمٍ تفصيليٍّ (1:100,000)، الأمر الذي أنتج “أطلساً” من 47 لوحةً لمصر وفلسطين، حظِيت فلسطين بستّ لوحاتٍ بدأت من غزة إلى عكا، وكانت خريطة عكا أكثرها تفصيلاً، وهو ما يُمكن تفسيره لطول مدّة الحصار قياساً بالزحف السريع من مصر حتّى وصول القوّات الفرنسيّة إلى عكا، ممّا مدّهم بالوقت الكافي لرصد المواقع وتفصيلها.

عادت القوّات الفرنسيّة إلى مصر في الأول من حزيران عام 1799، وبدأ “بيير جاكوتين” محاولة حفر القوالب الخاصّة بالطباعة لنشر الأطلس الذي تمّ جمع معلوماته خلال غزو فلسطين، وضمّه إلى ما سُمي بكتاب “وصف مصر”، والذي شكّل خلاصة المُنتَج المعرفيّ الاستعماريّ عن بلادنا، إلّا أنّه، وبأمرٍ من نابليون، تمّ تحويل هذه الخرائط إلى “أسرار الدولة” في عام 1808، ولم تُنشر مرةً أخرى حتى عام 1818. حملت تلك الخرائط تسمياتٍ للمواقع الجغرافيّة بالأحرف اللاتينيّة والعربيّة، وشكّلت المصدر الأول لمن تلاها من مستعمِرين لبلادنا في رسم خرائط جديدةٍ، إضافةً للعديد من الرحّالة المستشرقين الذين رسموا أجزاءَ أخرى من البلاد تحت غطاء الاستكشاف والمعرفة.

يتبع..