في عصر الحروب غير المتكافئة اليوم، لم تعد الحرب تدور حول الابتكارات العسكرية والقوّة المادية والتكتيكية فحسب، بل هي أيضاً صراع مستمر بين العقول والقلوب والرسائل المتبادلة.

في عصر الحروب غير المتكافئة اليوم، لم تعد الحرب تدور حول الابتكارات العسكرية والقوّة المادية والتكتيكية فحسب، بل هي أيضاً صراع مستمر بين العقول والقلوب والرسائل المتبادلة. وقد تفاوتت القدرة في التسبب بإلحاق الضرر بالعدو من خلال استخدام الأدوات النفسية على مرّ التاريخ، و ترافق ذلك التفاوت في مستوى التطور في مختلف التكنولوجيات، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات. وترجع أهمية الحرب النفسية إلى أقدم منظر عسكري، سن تزو، الذي قال في كتابه “فن الحرب”، إن “التفوق الأعلى في الحرب يكون من خلال كسر مقاومة العدو وإرادته دون قتال”(سن-تزو، غريفيث، 1964).

لا تزال تجربة الحرب النفسية التي شنتها المقاومة اللبنانية في عام 2006 تجربة هامة في فهم قدرة الفاعل العسكري على الحفاظ على شرعيته أمام مجتمعه خلال الحرب، والخروج من الخسائر البشرية والمادية أقوى بخلاف التوقعات. فمن خلال استخدام تكتيكات حرب العصابات وحرب المعلومات والحرب النفسية، خرجت المقاومة اللبنانية من حرب 2006 معلنةً النصر، بينما اعترف العدو بإخفاقات استراتيجية وعسكرية وسياسية في إدارته لها، ما مهّد لمعادلة جديدة في حروب العصابات في المنطقة وفي الصراع العربي الصهيوني.

تناقش هذه الورقة أهمية الحرب النفسية في الحروب غير المتكافئة، ودور العقيدة التنظيمية والعسكرية في شنّها. تتناول الورقة على وجه التحديد أهمية الحرب النفسية في التأثير على مجريات الحرب ونتائجها ومفاهيمها الراسخة كالنصر والهزيمة والردع، على الرغم من عدم تكافؤ القدرات العسكرية والمادية. وتنظر الورقة في التكتيكات النفسية التي استخدمتها المقاومة اللبنانية، وقدرتها على تحصين الجمهور الحاضن لها من جهة، وإجبار العدو الصهيوني على مغادرة لبنان وهزّ ثقته وقدرته على تحمّل أي حرب محتملة من جهة أخرى.

مدخل في النظرية والتطبيق للحرب النفسية

تعدّ الحرب النفسية إحدى أهم الحروب التي تشنها الأطراف المشتبكة في عصر حروب العصابات والحروب اللامتكافئة، يوظِّف فيها الفاعل العسكري عدداً من الأدوات النفسية والعسكرية بهدف التأثير على أفكار الجمهور المستهدَف، وسلوكياته ومشاعره ومواقفه العامة، والتي قد تستهدف بدورها حكوماتٍ، أو أفراداً، أو مجتمعات. ويوظِّف من خلالها الطرف العسكري حقائق مختارة بعناية، وبطريقة مكثّفة وذكيّة، خدمةً لمشروعه ومحاولةً لتحقيق أهدافه في السلم والحرب. كما تستلزم الحرب النفسية أعواماً من التحضير والإعداد، وإلماماً تاماً بالمجتمع المضاد أو المستهدف.

وتترتّب على الحرب النفسيّة أهدافٌ مترابطة ترتكز بشكل رئيسي على إضعاف إرادة العدو أولاً، وتحصين الحاضنة الشعبية ثانياً، وكسب تأييد الجماهير المحايدة أو المترددة ثالثاً. ولا يمكن توقع نتائج الجهود العسكرية والنفسية في الحرب النفسية بشكل كامل، ولكن يتوجب الإلمام بالمبادئ التي تقوم عليها، وفهم الجمهور المستهدف، وتحديد كيفية قياس التأثير النفسي عليه خلال الصراع.

يصف الباحث الصهيوني المتخصص في الحروب النفسية، رون شليفر، الحرب النفسية على أنها سلاح استراتيجي أو مُضاعِف للقوّة (Force Multiplier)، يمكّن الجانب الذي يطبقه بحكمة من تحقيق ميزة واضحة على حساب عدوه، ولكنه يتطلب تطبيقاً مستمراً وخبيراً ومستداماً إلى جانب النشاط السياسي (Schliefer, 2014). ولا تقل أهمية الحرب النفسية في أيّ طورٍ من الصراع، أي قبل الحرب المباشرة وخلالها وبعدها، سواء بتجهيز الجمهور الحاضن للطرف العسكري بالحاجة إلى القتال، أو مخاطبة جمهور العدو بهدف ردع هجوم ما، أو التعامل مع التبعات المأساوية أو غير المتوقعة عند انتهاء الحرب.

تقوم إحدى أهم المبادئ الرئيسية للحرب النفسية على بناء شبكة مصداقية بين الفاعل العسكري والمتلقي، من خلال التيقن من دقة وصحة الرسائل والحقائق والمعلومات المستخدمة التي يتم بثها من قبل هذا الفاعل دون مبالغة أو كذب. فبإمكان أي رسالة كاذبة القضاء على الجهد الطويل والمكلِف المكرّس لبناء مصداقية مع الجماهير المستهدفة. ويعدّ الحفاظ على مستوى من المصداقية أحد العناصر الرئيسية لشنّ حرب نفسية ناجحة، من خلال الحفاظ على أقرب ما يمكن من الحقيقة، وإن لم تكن بالضرورة الحقيقة كلها، وتوظيفها دون تشويه والابتعاد عن “البروباغندا السوداء”[1].

يكمن المبدأ الثاني في استغلال الفرص، ويستلزم اقتناصاً سريعاً وذكياً وفعّالاً للفرص المتاحة، حيث ينبغي توجيه أي جهد للإطاحة بالعدو ودفعه إلى التشكيك بإرادته، ما يتطلب متابعةً دقيقةً لكافة الجماهير وردود أفعالها خلال الحرب، فضلاً عن العمل على استثمار الجهود العسكرية من كلا الطرفين إعلامياً وصورياً لتحقيق الأهداف العامة من الحرب. كما يعكس مستوى الحرب النفسية طبيعة ووتيرة الصراع العسكري، إذ يميل الطرف الأقل قدرةً عسكرياً إلى اللجوء للحرب النفسية كلما خفضت الوتيرة، بينما إن كانت الأخيرة متصاعدةً وحامية في أرض المعركة، فينزع الفاعل العسكري هنا نحو استثمار الانتصارات الماديّة، وتعزيز الحاضنة الشعبية، خاصةً مع وقوع خسائرَ في صفوفها. هذه المسألة نجح المنظّر شيلفر في التعبير عنها بالقول: “كلما انخفضت شدة الصراع، كلما زادت الحاجة لإقناع جمهور العدو أنه لا يمتلك فرصاً للفوز” (Schleifer, 2014:9).

أمّا المبدأ الثالث، فهو التنسيق بين كافة الأذرع العسكرية والسياسية والتنظيمية والأجهزة الإعلامية والأيديولوجية. يمكّن هذا المبدأ الفاعل من إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالعدوّ، وإحراز انتصارات مادية وعسكرية، فضلاً عن استثمارها سياسياً وإعلامياً ورمزياً، بحيث لا يناقض جهدٌ آخرَ، بلّ تتضافر الجهود كافةً في سبيل تحقيق الأهداف ذاتها.

الرسائل والجمهور المستهدف

يستهدف الفاعل طيلة الحرب ثلاثة جماهير رئيسية: الجمهور المحلي الحاضن له، جمهور العدو، والجمهور المحايد غير المشارك في الصراع. ولكل منهم استراتيجيته، وأهدافه، وأدواته.

يعتبر الجمهور المحلي، أو الحاضنة الشعبية، ذا أهمية كبيرة لأنه يحدد نقطة انطلاق للفاعل تمكّنه من استغلال موارده خلال الحرب، وتجنيد أعضاء جدد، إضافة إلى توسيع قاعدة الدعم الحاضنة له طيلة فترة الحرب، وبعد انتهائها. يسعى الفاعل في رسائله الموجّهة إلى جبهتيه المدنية والعسكرية إلى إقناع الجبهة المدنية بجدوى الحرب وأهميتها، وتقوية صفوف الجبهة العسكرية، من أجل الحفاظ على على إرادة كلتا الجبهتين خلال الحرب. وتؤدي الرسائل الموجهة للجمهور المحلي، في حال تحقيقها للأهداف المرجوة، دوراً داعماً وإسنادياً للعمليات العسكرية والخطوات السياسية في الصراع.

ويمكن أن تختلف الرسائل والمعلومات المرسلة خلال النزاع العسكري وأثرها وفقاً للمواضيع والجمهور، وتوقيت الرسالة وشدة وتيرة الحرب على حدِّ سواء. فالرسائل الموجهة إلى الجمهور المحلي يجب أن تشمل شيطنةً استراتيجيةً للعدو مع الحفاظ على مصداقية المعلومات التي يتم بثها، والقدرة على تحديد وشرح أهداف الحرب للجمهور المحلي بهدف توسيع نطاق دعمه وتأمين الجبهة وحمايتها من الرسائل والمعلومات المضادة.

جمهور العدو، بجبهتيه العسكرية والمدنية. الهدف الرئيس من الحرب النفسية التي تشن ضد جمهور العدو هو إجباره على إعادة النظر في الأخطار الناجمة عن الحرب وإمكانية إهدار موارده العسكرية والمالية، عدا عن هز ثقته بنفسه من أجل ردعه فيما بعد. توظف الحرب النفسية غالباً رسائل ضمنية تركز على خلق وتعزيز مشاعر الذنب والخوف وانعدام الأمن لدى جمهور العدو، وزرع الشك وعدم الولاء بين صفوف قواته العسكرية. ويظهر هذا النوع من الرسائل بشكل حاد وفعّال في الحروب التي تحمل طابع حرب العصابات. فيما تركز العمليات النفسية الموجهة ضده على استغلال تناقضات مجتمعه ونقاط ضعفه، لاسيما بين صناع القرار وجبهته المدنية.

تهدف الرسائل الموجهة لجمهور العدو إلى تثبيط معنويات كل من الجبهة المدنية والعسكرية للعدو أولاً، ونزع الشرعية عن الصراع والأهداف التي يستخدمها العدو لتسويغ حربه ثانياً، وخلق شرخ بين الجبهتين المدنية والعسكرية ثالثاً، والذي يمكن استغلاله لخلق انقسام داخلي وحالة استياء عامة قد تدفع الخصم العسكري للتخلص من بعض أهداف الحرب أو خفض توقعاته، وخلق حالة من “البلبلة” بين الجبهتين المدنية والعسكرية.

كما تستهدف العمليات النفسية الموجهة ضد جبهات العدو المختلفة زعزعة الحالة النفسية وقدرتها على تحمل أعباء الحرب. فالرسائل والمعلومات الموجهة للجنود، على سبيل المثال، ينبغي أن تهدف إلى هزّ ثقتهم في قدراتهم العسكرية على المواجهة كأفراد أولاً، وخلق حالة من انعدام الأمن والشعور بالذنب وإحالتهم إلى إعادة التفكير في سلوكهم في الحرب أو على الأقل خلق حالة من التردد لديهم ثانياً، إضافة إلى خلق شرخ بينهم وبين صناع القرار من خلال التشكيك بصواب قرارات النخب السياسية التي تدفع بهم للوقوف أمام النيران ثالثاً.

ومن أجل “الفوز” بجمهور العدو، يتحتّم على الفاعل العسكري إقناع جبهة العدو العسكرية بعدم جدوى جهودها وتصويرها، مهما كانت كبيرة أو مدمرة، على أنها إهدار لا يفضي إلا إلى خسارتها في النهاية. وليست هذه مهمةً سهلة، إذ إنه من الصعب اختراق جمهور يشعر غريزياً أن كل رسالة موجهة له من قبل عدوه يقصد بها تقويض جهوده في الحرب، فأيّ لبس أو فهم خاطئ قد يعود بنتائج عكسية.

وتعدّ عملية بث الرسائل والمعلومات عملية حساسة ومعقدة تتطلب فهماً عميقاً وواضحاً وشاملاً للنسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للهدف والظروف المحيطة به. ففي الوقت الذي يركّز فيه الطرف المتفوق عسكرياً في حربه النفسية على تقديم حقائق وأرقام عن توازن القوة العسكرية والتكنولوجية والخبرة القتالية بين الجانبين وحلفائهم، يشدد الطرف المقابل في رسائله على “نوعية موارده البشرية وتصميمه واستعداده للتضحية بالنفس كعامل حاسم في النضال”. (Schleifer, 2014:14)

أما الجمهور الثالث، فهو الجمهور المحايد أو المتردد، ويعدُّ جمهوراً مهماً، وأحياناً حاسماً، في مختلف مراحل الصراع العسكري لما لديه من قدرة على خلق أداة ضغط سياسية على العدو وأمام الأطراف الأخرى المحايدة، خاصة في حالة استمالته. وتهدف الرسائل الموجهة إلى هذا الجمهور بالدرجة الأولى إلى كسب دعمه وتأييده، أو على الأقل منعه من دعم قوات العدو. ولكن جدير بالذكر أن تسخير الفاعل العسكري للكثير من الجهد والأهمية في مخاطبة الجمهور المحايد على حساب الجمهور الحاضن له يخلق نوعاً من الرمادية في خطابه، فرغبته الدائمة في أن يبقي خطابه متسقاً أمام الجمهور المحايد تخلق تناقضاً بين الرسائل الموجهة له وبين تلك الموجهة لجمهور العدو أو الجمهور المحلي، وبالتالي بينه وبين مجتمعه.

حزب الله والحرب النفسية ضد العدو الصهيوني

استفاضت الدراسات والتقارير في مراكز الأبحاث الصهيونية والأمريكية [2] في دراسة ظاهرة حزب الله خلال حرب تموز 2006، كانت أبرزها تقديرات لجنة “فينوغراد” (Winograd Commission Report: 2007, 2008) التي حاولت تحليل الأداء العسكري الصهيوني وتقييم قرارات قيادته وسلوكها خلال الحرب. عَزَت تقديرات اللجنة هزيمة العدو الصهيوني في لبنان إلى عدة عوامل، كان أبرزها قدرة الحزب على خلق مصداقية لدى شريحة واسعة من الجمهور الصهيوني، والتي تجسدت في استطلاعاتٍ للرأي أظهرت أن المجتمع الصهيوني يثق بما يقوله الأمين العام لحزب الله، أكثر مما يثق بحكومته. إن تمكّن المقاومة اللبنانية من خلق مصداقية عالية لدى جمهور العدو كانت من أهم إنجازاته في حروبه السابقة، والتي تمخضت عن فهم معمّق لمجتمع العدو وتناقضاته وحساسيته ومخاوفه كذلك. فكيف أدار حزب الله حربه النفسية؟

ثمة ثلاثة هياكل مهمة داخل الجسد الإعلامي لحزب الله: الأول: المكتب الإعلامي المسؤول عن نشر بيانات الحزب وترتيب لقاءات مع ممثلين لبنانيين وإقليميين، وتقديم معلومات ميدانية للصحافة. الثاني: وحدة الأنشطة الفنية، والتي تتناول في المقام الأول الإدارة الصورية والرمزية لحزب الله، والثالث: وحدة حرب المعلومات، التي تتولى جمهور العدو.

الجبهة المحلية

كانت المقاومة اللبنانية أول من وظّف أدوات التواصل الحديث بشكل ممنهج وجدّيّ في المنطقة، مستغلةً صعود تقنيات حديثة، من خلال الصورة والخطاب، لاستثمار الإنجازات التي تحرزها في أرض المعركة. كما أدركت أهمية نقل الصورة واستغلال المنصات الإعلامية ومواكبتها بغية تحقيق الأهداف السياسية، إذ دشّنت دائرةً إعلاميّة وثقّت ونقلت عملياتها العسكرية المتعددة من قصف وكمائن والتحام مباشر مع الاحتلال الصهيوني، علماً أن هذه الدائرة ذات بعد استراتيجي لم تكن مرتبطة بحربٍ بعينها، بل حجزت لها مكاناً في ثمانينيات القرن الماضي.

واجه حزب الله تحدياً كبيراً في اكتساب الشرعية والدعم محلياً، على اعتبار أن المقاومة اللبنانية كانت تنتمي لطائفةٍ بعينها، في ظل مجتمع ذي فسيفساء طائفية منوّعة، واتهام بعضها المقاومةَ اللبنانية بخوض الحرب لاعتبارات ومصالح طائفية خاصة. وللتغلّب على هذه المسألة، عمل حزب الله خلال الحرب على ترسيخ خطاب وحدوي أكد فيه على عرض انتصاراته العسكرية والسياسية كجزء من جهود وطنية لبنانية، ما ساعده على كسب شعبية منفردة ودعم مختلف الأحزاب والطوائف وتعزيز حاضنته الشعبية، على الرغم من الاختلافات والتناقضات السياسية الداخلية. ظهر هذا التكتيك على نطاق واسع في خطابات الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، والرسائل الإعلامية والسياسية له، حتى في التفاصيل الرمزية كالعلم اللبناني الذي لم يفارق علم الحزب في خطابات الأمين العام والإنتاجات الإعلامية والفنية طيلة الحرب.

هذه الروح الوطنية الوحدوية، التي كان يحملها نصر الله في خطاباته، ترجمتها تعزيتُه لأهالي الشهداء ومشاركته فقدهم، وعدم التنكّر للخسارات البشرية والمادية التي لحقت بالمجتمع اللبناني.  هذا بالإضافة إلى إبدائه حسًا كبيراً من المسؤولية إزاء شعبه، وقدراً عالياً من الصراحة معه، وصدقه والاتساق مع ذاته قبل أي شيء آخر، دون أيّ مكابرة أو مواراة للوقائع التي كانت تحدث على الأرض، إذ قال نصر الله:  إن “قيادة حزب الله لم تتوقع ولو واحداً بالمائة أن عملية الأسر ستؤدي إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم، لأنه وبتاريخ الحروب هذا لم يحصل.. لو علمنا أن عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة، لما قمنا بها قطعاً”. ومن جهته، اعتبر المحلل الصهيوني (عاموس هرئيل) أنّ “بلاغة خطاب حزب الله ودهاءه قوّيا وساندا الصمود في الوحدة الاجتماعية والمساندة بين اللبنانيين بمختلف معتقداتهم من جهة، ومقاتلي حزب الله وسكان الجنوب من جهة أخرى”. (Harel, 2010)

ويبرز نشاط وحدة الأنشطة الفنية في مخاطبة حزب الله للجمهور اللبناني، إذ تشرف الوحدة على إنتاج المواد الفنية كالأناشيد والفلاشات، ونقل رسائل الحزب الإعلامية وأنشطته الثقافية والعامة، مثل المسرح والسينما والترفيه والمهرجانات والمتاحف وكافة الإنتاجات التي تحمل توجهات المقاومة والحزب الأيديولوجية والسياسية (Lamloum, 2009). كما لم يكن هذا التوجه الإعلامي نحو توظيف المسرح والسينما والفنون السمعية والبصرية عامةً في بناء جسور من الثقة بين المقاومة اللبنانية والجمهور المحلي، مقيّداً في فترة نشوب الحرب، بل أيضاً في أوقات السلم.

ولعب المكتب الإعلامي لفضائية ” المنار” دوراً محورياً في النهوض بقاعدة الحزب الجماهيرية في لبنان، إذ كان منبراً أساسياً لنشر بيانات الحزب، وترتيب لقاءات إعلامية مع مسؤوليه، فضلاً عن تشكيله وحدة مسؤولة عن إعادة النظر في التغطية الإعلامية للحزب، في محاولة واعية لإدارة التصور والسيطرة على الصورة والمعلومة.

ولم تكن المرونة النفسية التي استطاع حزب الله أن يبنيها في جبهته الداخلية عائدة إلى استخدام تلك التكتيكات فحسب، إذ مكنته شبكات الخدمات الاجتماعية، التي عززها بعد انسحاب الكيان عام 2000 من لبنان، من إقامة شبكة ثقة مع قاعدته المحلية وعامة الجمهور نسبياً. وقد وفرت شبكات الخدمة الاجتماعية التابعة لحزب الله المساعدة الصحية والتعليم، وإعادة بناء المنازل والهياكل الأساسية المدمرة التي دمرتها القوات الجوية الصهيونية في الحرب وتخصيص المعاشات لأسر الشهداء وأسرهم. عززت هذه الشبكات قدرة شرائح واسعة من الجمهور اللبناني بشكل عام، والجنوب بشكل خاص، على تحمل تبعات وعواقب العدوان الصهيوني، خاصةً على الصعيد المادي.

تمكن حزب الله من تسخير جميع وحداته لتعبئة الجبهة الداخلية من خلال التأكيد على أحقيّة قضيته في الحرب وعدالتها، فضلاً عن التأكيد المستمرّ عليها كقضية وطنية. وتمكن من خلال أدواته الإعلامية والتعبوية من نقل معاييره العسكرية وتوجهاته الفكرية إلى جبهته المحلية، فضلاً عن تحصينها من رسائل العدو المضادة، وهو ما دعّمته العقيدة العسكرية للمنظمة. على سبيل المثال، حرص الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، مراراً على التأكيد على أهمية الشهادة والإقدام على الموت والتضحية من أجل لبنان على الرغم من تفوق العدو مادياً وعسكرياً، والتأكيد على أن قوة المقاتل وتفوّقه لا تنبع من نوع السلاح ، بل من إرادته وإقدامه على الموت والشهادة.

الجبهة المحايدة

نقصد بالجبهة المحايدة، هنا، “المجتمع الدولي” الذي سعى حزب الله إلى مخاطبته خلال حرب تموز 2006، وذلك بغية إحراج العدو الصهيوني أمامه وحصر أهدافه الاستراتيجية التي كان ينتوي جنيها من وراء الحرب، إذ وظف حزب الله ما سببه العدوان الإسرائيلي في لبنان من أجل الضغط عليه للتوصل إلى وقف إطلاق النار. ونجح في ذلك عبر بث رسائل مكثفة وبلغاتٍ أجنبية عدّة حول الأضرار الناجمة عن الهجمات الإسرائيلية، فضلاً عن تصوير نفسه كمدافع عن لبنان إزاء العدوان الإسرائيلي. ووفقاً للباحثة سارة كريبس، اعترف الكيان الصهيوني، في وقت لاحق، أن الدعم الدولي تآكل في نهاية المطاف بسبب الأضرار والإصابات المدنية الناجمة عن غاراته الجوية، التي نجح حزب الله في نقلها للعالم” (Kreps, 2007:81)، تماماً كما حصل عقب مجزرة قانا التي فشل العدو الصهيوني في تبرير “أضرارها الجانبية”، حيث دفعت ردود الفعل الدولية عليها الكيان الصهيوني إلى وقف عدوانه الجوي لمدة 48 ساعة. وتقول كريبس: “إن صور الأضرار البشرية والمادية التي سببتها طائرات العدو الصهيوني في الضاحية الجنوبية على سبيل المثال عرقلت كافة الخيارات الاستراتيجية المتاحة له، وحصرته في جدول زمني محدد لتحقيق أهدافه من الحرب، والتي فشل أيضاً في تحقيقها”.(Kreps, 2007:81)

جبهة العدو

منذ بداياتها، اتجهت المقاومة اللبنانية نحو دراسة جمهور العدو الصهيوني وبنيته ولغته من خلال شبكة اتصالات واسعة ومعقدة تضم مختلف الهيئات والأذرع والمواقع الجغرافية. فكشفت في عام 1985 عن وجود “وحدة معلومات الحرب” المسؤولة عن شن “حرب المعلومات” ضد الكيان ومخاطبته بلغته التي يفهمها، والمسؤولة كذلك عن توثيق كافة أنشطة المقاومة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجناح العسكري. (Lamloum, 2009)

وفي عام 1996 على سبيل المثال، أطلق حزب الله أول تردد له باللغة العبرية، بث من خلاله رسائل تحذر العدو من مخاطر البقاء في لبنان، واستهدف بشكل خاص جنود جيش الاحتلال المتواجدين على الحدود مع لبنان، في محاولة لإضعاف معنوياته وإرادته. (Jorisch 2004: 22) كما أنشأ الحزب قسماً إعلامياً خاصاً لمراقبة البث الإذاعي والتلفزيوني لوسائل الإعلام العبرية بهدف الحصول على فهم شامل للمجتمع الصهيوني، وقياس أثر رسائل المقاومة اللبنانية عليه (Ibid). هذا بالإضافة إلى إتاحة هذه التغذية الراجعة الفرصة لحزب الله لتطوير خطابه ورسائله لجمهور العدو، لتحقيق أهدافه على نحو أكثر فعاليةً.

وخلال معظم العمليات الميدانية، اتجهت المجموعات العسكرية نحو توثيق كافة الهجمات العسكرية على الحدود اللبنانية-الفلسطينية مع قوات العدو الصهيوني. وبدورها، تولت فضائية ” المنار” معالجة وبث المقاطع المصورة بشكل مكثف برفقة رسائل تهديدية وأناشيد من إنتاج الحزب. كما وظف حزب الله محطة ” نور” الإذاعية، التي استهدفت بشكل خاص في تردداتها الجنود المتواجدين على الأراضي اللبنانية. (Wehrey, 66)

كما دفعت أشرطة الفيديو القتالية التي أعدها حزب الله جمهورَ العدو إلى الطعن في صحة تصريحات حكومة الاحتلال بشأن سير الحرب، إذ أنتجت  بهذا الصدد مجموعة “أمهات الجنود الثكالى” المناهضة للحرب مقطع فيديو بعنوان “لا أريد لابني أن يموت في لبنان”، بهدف الضغط على حكومة الاحتلال للانسحاب، ما يدلل على تمكّن حزب الله من قلب المعادلة لصالحه. وفي السياق ذاته، وعند اتهام الجيش الصهيوني حزبَ الله بقتله مدنياً لبنانياً من جيش لحد، أصدر حزب الله من طرفه شريط فيديو يظهر الرجل المذكور، مغادراً منزله بملابس عسكرية وهو يحمل بندقية آلية برفقة حرسه الشخصي، ضارباً بذلك صدق المعلومات التي يبثها الاحتلال. كما أظهرت لقطات عدة التقطها حزب الله لقوات العدو وهي تتقهقر أمام قوات المقاومة اللبنانية زيفَ التقارير الميدانية التي كانت تنشرها المؤسسة العسكرية الصهيونية آنذاك. (Ibid)

عملية “الوعد الصادق”

لمدة أربعة وثلاثين يوماً، شهد لبنان واحدة من أطول الحروب العسكرية المباشرة مع العدو الصهيوني، أسفرت عن مقتل 157 صهيونياً واستشهاد أكثر من 1300 لبنانيٍّ. في 12 تموز 2006، وبعد ساعتين من إطلاق حزب الله عملية “الوعد الصادق”، بثت فضائية “المنار” فيديو عملية عسكرية نفذتها المقاومة اللبنانية وأسفرت عن أسر جنديين إسرائيليين، ما أشعل حرباً عسكرية وصُوَرية أسماها العدو بـ”حرب لبنان الثانية”.

 

أدرك حزب الله أنه لن يتمكن من الفوز بالحرب وردع العدو من خلال القوة العسكرية البحتة وحدها، فعلى الرغم من أدائه العسكري الذي خالف توقعات العدو وإظهاره بنية عسكرية متينة مكنته من إلحاق الكثير من الخسائر في صفوف العدو، إلى أنه  سعى أيضاً إلى كسب انتصارات نفسية ورمزية من شأنها التأثير على تصورات العدو للحرب، والعمل على تعميق شرعيته – أي شرعية حزب الله – في نظر اللبنانيين وحاضنته الشعبية. ( Hadayed, 2014)

فعلى الرغم من استخدامه التكتيكات السياسية والعسكرية وشبكات الخدمات الاجتماعية، والتي اعتبرت ناجحة وفعالة، إلا أن الاستراتيجية الأكثر استثنائية لحزب الله كانت صراع “القلوب والعقول”، والتي عرضت أذرع الحزب المختلفة تحت تصرف الحرب النفسية.

وحرص حزب الله في رسائله الموجهة لمجتمع العدو على إظهار قدرة المجتمع اللبناني والمقاومة اللبنانية على الاستمرار في الحرب وتحمّل أعبائها بإرادة ثابتة، بصرف النظر عن العواقب التي سيخلّفها العدوان الصهيوني على لبنان. كما عمل تزامناً مع ذلك على التشكيك بصواب قرارات الحكومة الصهيونية بهدف زعزعة ثقة الجبهة المدنية بها، فضلاً عن تجنيد كافة أدواته الإعلامية في تضخيم الأثر النفسي لتكتيكات حرب العصابات التي يشنها، مهما كانت نتائجها بسيطة. معادلةٌ تمكن فيها حزب الله من استغلال تناقضات المجتمع المضاد، وخلق موازنة رعب بين الجنود والجمهور والحكومة على حد سواء. (Wehrey, 2002:53-74)

ركزت المقاومة اللبنانية خلال الحرب على بث ثلاث رسائل رئيسية لجمهور العدو:

أولاً: أنّ الصراع سيكون طويلاً وسيعود على حزب الله بالنصر.
ثانياً: التشكيك بقوة وإرادة العدو على تحمّل الخسائر البشرية والمادية.
وثالثاً: تصوير جيش العدو على أنّه بدائي مقارنةً بمقاتلي حزب الله، على الرغم من تفوقه العسكري.

سعى حزب الله، خلال الـ 34 يوماً، إلى بث رسائل مفادها أن المزيد من العمل العسكري من جانب العدو سيؤدي إلى استهداف حزب الله لمدنييه، وظف فيها منبره الرسمي المنار بالإضافة إلى عدد من المواقع الإلكترونية التابعة له مثل موقع “غالبون” و”moqawama.org” بهدف بث الخوف لدى الرأي العام الصهيوني. فضخّ صوراً تُظهر حجم الدمار الناجم عن هجمات حزب الله العسكرية على المستعمرات الإسرائيلية بشكل مكثف (Schleifer, 18)، وبث فيديوهات تهدد بضرب “المدنيين” في بيوتهم، مستغلاً تماماً حساسية المجتمع الصهيوني إزاء الخسائر المادية والبشرية.

كانت استراتيجية حزب الله النفسيّة، والتي دعّمها بأجهزته الأيديولوجية والإعلامية، قائمة على إثارة الخوف والتهديد والمفاجآت. كان عنصر المفاجآت أحد أهم ميزات حرب 2006، إذ لعبت دوراً مهماً بضرب جبهة العدو النفسيّة (Schleifer, 2006: 21) كالهجوم الصاروخي على البارجة العسكريّة الصهيونية، في محاولة لخلق رادع للهجوم البريّ الصهيوني، إذ خرج حسن نصر الله في مقابلة مع “المنار”، ليبثّ للجماهير كافةً خبر احتراق البارجة، تزامناً مع خطابه، قائلاً:
“المفاجآت التي وعدتكم بها سوف تبدأ من الآن.
الآن في عرض البحر، في عرض البحر، في مقابل بيروت، البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحتية وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين. انظروا إليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليين الصهاينة. هذه البداية، وحتى النهاية كلامٌ طويل وموعد”.

اعتبر كبير مسؤولي الاستخبارات في القيادة المركزية لقوات الاحتلال، كولونيل رونن، وبعيداً عن الصواريخ التي أطلقها حزب الله على الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتمكنه من أسر جنديين، أنّ خطابات حسن نصر الله والفيديوهات الحصرية التي التقطها الحزب للاشتباكات العسكرية هي “السلاح المهيمن والهجومي الأهم الذي استخدمه حزب الله في الحرب، والذي تمكن من ضرب المجتمع الإسرائيلي وجعله يصدق حسن نصر الله أكثر من مسؤولي حكومته”. (Harel, 2010)

كما أخضع حزب الله اشتباكاته وإنجازاته العسكرية للصورة، إذ تركت الفيديوهات التي التقطها المقاومون خلال اشتباكاتهم أثراً كبيراً في نفسية مجتمع العدو، وبالأخص عائلات الجنود. إذ أوضح استطلاع للرأي أن 82% من عائلات جنود جيش الكيان اعتمدت على مواقع حزب الله الإعلامية للتحديثات العاجلة والآنية حول أبنائها. (Conway, 2009:12-13)

أدرك حزب الله ذلك جيداً، وعمل على استهداف هذه الشريحة بشكل خاص، لعلمه ملياً بقدرتها على تشكيل أداة للضغط على الحكومة الصهيونية، وذلك مثل إنتاجه فيديو “من القادم؟”، الذي عرض مجموعةً من صور قتلى العدو مختومةً بصورة سوداء وعلامة استفهام عن القتيل القادم. أمّا في الفيديو الذي يحمل توقيع مجموعة “أمهات الجنود الثكالى” بعنوان “لا أريد لابني أن يموت في لبنان” الذي ذكرناه آنفاً،  يقول أحد آباء الجنود إنه يعتبر “موقع حزب الله moqawama.org مصدراً موثوقاً للمعلومات الميدانية عن الحرب”(Wehrey, 12). بذلك، لعبت هذه الشريحة دوراً مهماً في التأثير على مجريات الحرب، حيث ضغطت على الحكومة الصهيونية باستمرار من أجل الانسحاب من لبنان ووقف إطلاق النار.

كما استغلّ حزب الله تأثيره على جمهور العدو في خطاباته ورسائله لضرب صناع القرار/ كالخطاب الذي بثّه عقب قصف الضاحية الجنوبية في لبنان:

“أنتم أيها الصهاينة تقولون في استطلاعات الرأي أنكم تصدقونني أكثر مما تصدقون مسؤوليكم. هذه المرة أدعوكم جيداً لأن تسمعوني وتصدقوني. هذه المعادلة انتهت، لن أقول اليوم إذا ضربتم بيروت سنضرب حيفا. لن أقول لكم إذا ضربتم الضاحية سنضرب حيفا. هذه المعادلة أردتم أن تسقط فلتسقط. نحن وإياكم، أنتم أردتم حرباً مفتوحة، نحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة ومستعدون لها، حرب على كلِّ صعيد…”

وخلال الحرب، كان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في قلب جهود الحرب النفسية للحزب، فشارك في العديد من المقابلات التلفزيونية، كما قدّم عدة خطابات وتصريحات انتظرها الجمهور الصهيوني قبل اللبناني والعربي. فعادةً ما كان يلقي نصرالله خطاباتٍ قويةً تستهدف الجماهير الثلاثة التي ذكرناها آنفاً، والتي كانت تثير بدورها نقاشات واسعة في صفوف العدو الصهيوني قبل أي جمهور آخر. كما كانت تُصدّر خطاباته محاججاتٍ ومعطياتٍ ووقائعَ، كانت مستندة على مجريات الميدان العسكرية بالدرجة الأولى. حتى أن تمريره لرسائل تهديدية في خطاباته، كانت تصاحبه نتائج عسكرية سريعة أحياناً، من خطف وحرق وقتل في صفوف العدو الصهيوني.

كما لم ينسَ نصر الله في خطاباته الجمهور العربي، وتحديداً الفلسطيني، لتكون خطاباته أشبه برسائل متعددة الاتجاهات يجمعها رؤية النصر الواحدة، ولينجح في استقطاب دعم الجماهير الفلسطينية للحرب التي يخوضها، على الرغم من تضرر بعض فلسطينيي 48 مادياً من وراء هذه الحرب، جراء سلسلة عمليات القصف التي طالت شمال فلسطين المحتلة.  ويعلق المحلل الصهيوني، عاموس هرئيل، على الشخصية الكاريزماتية لنصر الله وذكاء خطاباته السياسية، بالقول: “إن بلاغة خطاب نصرالله ومضمونه أثّرا على مجريات الحرب وتطورها، حيث اعتمد نصر الله على ما يجري في الميدان، ما وضع حجرَ أساسٍ لصدقية الحزب أمام الجماهير.” (Harel, 2010)

اعتُبر نصر الله شخصية فعّالة ورئيسية في حرب 2006. حرص في كل ظهور له على التأكيد على قدرة وإمكانية حزب الله على الاستمرار في الحرب، لتتخذ مقولاته مكاناً ثابتاً في عناوين الصحف الصهيونية طيلة الحرب وبعدها. عنونت صحيفة “هآرتس” مثلاً: “خطابات أمين عام حزب الله تؤثر على الرأي العام الإسرائيلي أكثر من أي قائد عربي آخر” (Harel, 2010). وأصبح حسن نصرالله الحديث الشاغل في الوسط الإعلامي الصهيوني، يصفه (تسيفا يستزكلي) للقناة الثانية الصهيونية قائلاً: “إنّنا أمام خصم يعلم كلّ شيء عنّا، كلّ شيء، يقرأ صحفنا، وتفاصيلنا ويحفظها، نستطيع أن نقول إنه هو الزعيم العربي الوحيد الذي على علم بما يجري في إسرائيل. كان نهجه دقيقاً جداً ويستغله في وسائل الإعلام ..نستطيع أن نقول إن لدغات حزب الله هي انتصارات”. (Shmaysani, 2009)

كما قام نصر الله بعدة مقابلات خلال الحرب وبعدها، كمقابلته مع فضائية “الجزيرة” التي أوضح فيها أن أهمية الحرب النفسيّة التي شنها الحزب كانت بأهمية قوته العسكرية. ولا يمكن إنكار ذلك، إذ تمكن من شن حملة نفسية فعّالة، معتمداً على دراسة موسعة للمجتمع الصهيوني بمختلف تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تمكن فيها من تحقيق أهدافه باستغلال “حساسية” الجمهور الصهيوني إزاء الخسائر البشرية، والخوف من الخسائر الاقتصادية، والضغط على شرائح بعينها كعائلات الجنود و”أمهات الثكالى” من خلال الترهيب وغرس شعور الذنب على تواجد “أبنائهم خلف الحدود”. كما عمّقت المقاومة اللبنانية حملتها الإعلاميّة، مستغلةً سوء تقدير حكومة الاحتلال (والتي انعكست في تقرير فينوجراد)، لخلق حالة من “الردع” المتبادل.

اقرأ/ي المزيد في الحرب على الإرادة: غزة والحرب النفسية

مخرجات الحرب

كان تقرير لجنة (فينوغراد) من أهم مخرجات حرب 2006، والتي شكلتها الحكومة لدرس إخفاقاتها وفكّ أحجية تفوق تنظيم عسكري بإمكانيات مادية ضئيلة على “أقوى جيوش المنطقة”. شكلت تجربة 2006 إرباكاً صهيونياً حطمت فيه أسطورة “العدو الذي لا يهزم”، لا سيما أن عملية الخطف التي نفذها حزب الله توّجت بصفقة تبادل للأسرى اللبنانيين وخلفت آثاراً سياسية في مجتمع العدو، والذي لأول مرة في تاريخ الصراع ينهي حرباً من خلال قرار للأمم المتحدة لوقف إطلاق النار. (Waxman, 2007:32)

أثبتت المقاومة اللبنانية في عام 2006 مهارتها في الحرفة التأسيسية لحرب المعلومات، فكان فحصها الدقيق ومتابعتها المستمرة لردود الأفعال أثناء الحرب مؤشراً على قدرتها المتقدمة في اعتراض الإشارات والرسائل المضادة، مع الحفاظ على شبكات الاتصال الخاصة بها حتى أثناء تعرضها للهجوم، حيث “بدا الجيش الإسرائيلي متخبطاً، أخرقَ وبدائياً بالمقارنة مع أداء حزب الله في الحرب النفسية التي سَخَّر فيها كلماته وصوته وحتى أغنياته ببراعة لخلق سردية رنانة لكل العالم عن الانتصار والتضحية”(Zalman, 2010). كما قدم حزب الله نموذجاً عسكرياً مغايراً لما عهده الكيان الصهيوني، فكان على أهبة الاستعداد للموت في المعركة، تقوده نخبة عسكرية وسياسية “تلقت دروساً صعبة استخلصت منها أن تطوير منظومة الأسلحة والانضباط التنظيمي الحديدي يفوق أهمية الخطابات السياسية الرنانة”. (Fisk, 2006)

كان أحد الأهداف الرئيسية للكيان الصهيوني في حرب عام 2006 هو تدمير حزب الله تماماً “لإعادة تأكيد” تفوقه العسكري في المنطقة من جهة، وإعادة خلق عامل “الردع” وشل الحزب عسكرياً بشكل كامل والقضاء على إمكانياته المادية من جهة أخرى، كما عبر عنها وزير الجيش الصهيوني آنذاك، آمير بيرتز، بالقول: “كنا نتوقع من حزب الله أن يكسر القواعد، والآن سنقوم بكسره”. (Hirst, 2010:329)

وفي مقال نشرته صحيفة “الجارديان” البريطانية، يقول جورج مونبيوت: “من بين جميع الحروب الإسرائيلية منذ عام 1948، كانت هذه الحرب هي الأكثر جهوزية واستعداداً لإسرائيل … وبحلول عام 2004، كان من المقرر أن تستمر الحملة العسكرية في لبنان نحو ثلاثة أسابيع…حيث تمت محاكاتها وتجربتها في جميع المجالات … وبدلاً من إعادة إنشاء عامل الردع للجيش الإسرائيلي، فقد تم تقويض القوة العسكرية للنظام الإسرائيلي بشكل كبير”. وتعليقاً على عملية الأسر، قال مسؤول صهيوني لـ “واشنطن بوست”، إن “خطوة الأسر قدمت للكيان “فرصة ذهبية وفريدة” للقضاء على التنظيم بشكل كامل”. (Monbiot, 2006) ومع ذلك، لم يكن الكيان واثقاً من أدائه البتة.

في كتابه “حذارِ من الدول الصغيرة” (Beware of Small States )، يصف ديفيد هيرست الحرب على أنها “انتصارٌ كاملٌ وحاسمٌ” لحزب الله، في حين لم يتمكن الكيان الصهيوني من تحقيق أي من أهداف حكومته، بل على العكس تم عرقلة قوته العسكرية وتعزيز مكانة حزب الله السياسية والعسكرية في لبنان والمنطقة، على الرغم من الأضرار المهولة التي خلفتها القوات الصهيونية في لبنان. ويضيف: “لقد قرأ نصر الله عدوه أفضل مما قرأه، وإن كان قد اعتبر أنه ارتكب خطأ في إثارة الحرب في المقام الأول، فإن “إسرائيل” ارتكبت خطأ أكثر فداحة في المبالغة بتقدير قدرتها على احتوائه” (Hirst, 2010).

في 26 أيار / مايو 2000، وبعد انسحاب قوات الاحتلال من جنوب لبنان، خرج نصر الله في خطاب النصر، واصفاً الكيان الصهيوني الذي يمتلك أقوى سلاحٍ جويٍّ في المنطقة على أنه “أوهن من بيت العنكبوت”. تم تأويل مقولة “بيت العنكبوت”، كما عبر عنها نصر الله، من خلال حساسية المجتمع الصهيوني وقيمه المجتمعية تجاه الإصابات المدنية والبشرية، التي جعلت منه هدفاً سهل الاختراق. وعبر حربه النفسية، تمكن الحزب من إثبات نظريته، فخرج من الحرب معلناً النصر، مع وصف العدو لها بـ”حرب مختارة” (War of Choice) كما ورد في لجنة “فينوجراد”، سخر فيها الكيان قوته العسكرية من أجل تحقيق أهداف سياسية، لم يحرز أياً منها. (Hirst, 2010:334).

وتقودنا تجربة تموز 2006 إلى الخروج بخلاصات هامة، أهمها أنّه لم يعد من الممكن تحديد نتائج الحروب غير المتكافئة من خلال العوامل العسكرية والمادية فحسب، بل للعوامل الاجتماعية والسياسية والنفسية دورٌ حاسمٌ بلّ وأكثر أهمية، تمكّنت من قلب معادلة القوى بشكل كامل، إذ أثبتت المقاومة اللبنانية خلال حرب 2006 قوتها ومرونتها في الوقت ذاته، على الرغم من عدم يقينها بشأن العواقب العسكرية والخسائر البشرية. كما أظهرت فهماً عميقاً لمبادئ الحرب النفسية وإلماماً واضحاً بمجتمع العدو الصهيوني، فكانت قيادته الموحدة والمنضبطة من أهم العوامل التي عززت أداءها العسكري والنفسي، بل وأتاحت لها تصدير نموذجها للمقاومة الفلسطينية أيضاً، تحديداً في قطاع غزة.

****

[1] البروباغاندا السوداء: الدعاية الإعلامية والنفسية التي تعتمد على بث رسائل غير مستندة على حقائق ميدانية أو سياسية، وتنطوي على تزييف أو أكاذيب ومبالغات، بهدف ترك أثر نفسي ما غالباً ما يكون خلق حالة من الرعب لدى الجمهور المتلقي أو تضخيم الإنجازات العسكرية. (Schleifer, 2014:18).
[2] كمعهد دراسات الأمن القومي الصهيوني (INSS)، ومعهد واشنطن للشرق الأدنى (WINEP)، ومركز (RAND) للأبحاث والتطوير، وغيرهم الكثير.

المراجع:
Byman, D. and Simon, S. (2007) Winograd commission final report.
Conway, M. (2009) Cybercortical Warfare: The Case of Hezbollah.Org. Dublin City University.
Fisk, R. (2006) Hizbollah’s iron discipline is match for military machine.
Harel, A. (2010) Hezbollah chief’s speeches sway Israeli opinion more than any Arab leader.
Hdayed, G. (2011) The Psychological Warfare of Hezbollah. Lebanese American University: Lebanese American University.
Hirst, D. (2010) Beware Of Small States : Lebanon, Battleground Of The Middle East, New York: Nation Books, Discovery eBooks.
Jorisch, A. (2004) Beacon of hatred: Inside Hizballah’s Al-Manar television. Washington, DC: Washington Institute for Near East Policy.
Kreps, S (2007) “The 2006 Lebanon War: Lessons Learned,” Parameters. 
Lamloum, Olfa. (2009). “Hezbollah’s Media: Political History in Outline,” Global Media and Communication 358. 
Monbiot, G. (2016) Israel responded to an unprovoked attack by Hizbullah, right? Wrong.
Sunzi, Tzu, S., Griffith, S.B. and Hart, B.L.H. (1971) The art of war (Samuel Griffith translation). 20th edn. London: Oxford University Press.
Schleifer, R. (2006) ‘Psychological operations: A new variation on an age old art: Hezbollah versus Israel’, Studies in Conflict & Terrorism, 29(1), pp. 1–19.
Schleifer, R. (2014) Psychological warfare in the Arab-Israeli conflict. Basingstoke, United Kingdom: Palgrave Macmillan.
Schleifer, R. (2014) Psychological warfare, Hamas style.
Shmaysani, M. (2009) Israel jolted by Hezbollah’s intelligence ‘Infiltration’.
Waxman, D. (2006-2007). Between Victory and Defeat: Israel after the War with Hizballah. The Washington Quarterly. 
Wehrey, F.M. (2002) ‘A clash of wills: Hizballah’s psychological campaign against Israel in south Lebanon’, Small Wars & Insurgencies, 13(3), pp. 53–74.
Winograd Commission: Interim Report (2007), Jewish Virtual Library. (Retrieved from: http://bit.ly/2xIoIy7).
Winograd Commission: Final Report (2008). Jewish Virtual Library. Retrieved from: http://bit.ly/2f3upLM).
Zalman, Amy (2010) Theater of war.