نحاول في هذا الجزء شرح ثلاثة مفاهيم رئيسية لها علاقة بعمل الوكالة الأمريكية “داربا”، وهي مفاهيم تساعدنا على فهمٍ أوسع لطبيعة عمل الوكالة وامتداداتها البحثيّة، وسيوّفر هذا الجزء كذلك بعض الإحالات المنهجية الأولية للمهتمين بقضايا العلوم الإدراكية.

شرح مفاهيم

في الجزء الأول من هذا النص، تطرّقنا إلى تاريخ وكالة وزارة الدفاع الأمريكية لمشاريع الأبحاث المتقدمة، أسباب نشأتها، طريقة عملها، والتحوّل الملحوظ في عقيدتها البحثية إثرالتغيّر الذي طرأ على بيئة الأمن العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم عرضنا لمحةً بسيطةً عن إنجازاتها.

في هذا الجزء، سيأخذ الحديث بعداً نظرياً يقوم على محاولةٍ متواضعةٍ لشرح ثلاثة مفاهيم رئيسية لا يخرج مجال عمل المؤسسة ووجودها من إطارها. ونعتقد بأن الإحاطة بهذه المفاهيم سيُفسح المجال أمام فهمٍ أوسع لطبيعة عمل الوكالة وامتداداتها البحثيّة، وسيوفّر كذلك بعض الإحالات المنهجية الأولية للمهتمين بقضايا العلوم الإدراكية أو لمن يُخطّط لتجربةٍ منافسة، لا بالمعنى المؤسساتي، وإنما بقدر الاشتغال على تطبيقاتٍ عمليةٍ في هذا المجال.

سنتحدّث إذن عن “التحسين الإنساني (Human enhancement)”، “الآنثروبوتيك (Anthropotechnie)، و”السايبورغ (Cyborg)”. أو يمكن القول: “الانسان-الجندي المحسّن”، “إنسان-جندي الأنثروبوتيك”، و “الإنسان-الجندي السايبورغ”.

قد تبدو هذه المصطلحات ذات معنًى أو هدفٍ واحدٍ هو “السوبرمان”، وهو صحيح. لكن هذا لا ينفي حقيقة أن لكلٍّ منها خصوصيّة ما تميّزه عن الآخر. دورنا في هذا النصّ هو إذن تبيان كلّ خصوصيةٍ على حدة، وأما الخطوة الأولى لذلك، فهي أن نطرح دوماً أمام كل مصطلحٍ من هذه المصطلحات الثلاثة سؤالين اثنين: السؤال الأول، ما الهدف من هذا التدخّل، تحسين أم تحويل، أم أمورٌ أخرى؟ السؤال الثاني، أين يتم هذا التدخّل، في الإنسان نفسه أم في مكانٍ آخر هو بالضرورة الأداة أو البيئة؟

التحسين الإنساني

التحسين الإنساني هو المصطلح الأكثر شيوعاً لأنه ببساطة الأكثر عموميّة، تمّ تقديمه عام 1988 على يد دانييل دروكمان وجون أ. سويتس، وبعد عشر سنوات، قام إريك بارينز بإعطائه دفعةً أخرى في أعماله، ليصبح منذ ذلك الوقت مصطلحاً شائعاً يشير إلى كلّ ما يتعلق بتحسين ظروف المعيشة الانسانية كالمنشطات الذهنية (psychostimulants) أو تكنولوجيا اختيار ومتابعة الجنين، الهاتف المحمول، وتقنيات التعلّم الحديثة، إلخ. [1]

من جهته، يقدّر جيروم غوفيت بأن النقاش حول هذا المفهوم عبر من حالة “السرّية” إلى “العلنية” بين الأعوام 2000-2010، وبالتحديد، في تقريرٍ مشتركٍ لمؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية ووزارة التجارة الأمريكية نشر عام 2003، حيث تمت الإشارة إلى الأثر الاقتصادي الكبير لهذا النوع من التكنولوجيا، وإلى حاجة الولايات المتحدة الأمريكية لاعتماد “سياسة أولويّة” للأبحاث في هذا المجال من أجل تحسين إنتاجية الأفراد، تحسين كفاءاتهم العلمية، تشجيع الإبداع، وبالتالي تعزيز أمن البلاد القومي. [2]

في السنة ذاتها، نشر مجلس الرئيس الأمريكي لأخلاقيات البيولوجيا دراسة بعنوان ” Beyond Therapy and the Pursuit of Happiness ” دعى فيها إلى ضرورة الجمع بين الطبّ و”التحسين الإنساني” لتحقيق السعادة الانسانية. أي إلى التوقف عن التفكير بالمجتمع بمنطق “النظرة الطبيّة” التي تعود بجذورها إلى القرن السابع عشر حسب تحليل ميشيل فوكو، وانما بمنطق “الأحلام الانسانية الكبيرة” كالجمال، القوّة، الذكاء، وغيره. [3]

عام 2009، اتّخذ البرلمان الأوروبي خطوةً مشابهةً بتقديم تعريفٍ آخر للمفهوم يؤكّدُ على أهمية اعتمادهم النسخة غير الطبيّة (non-thérapeutique) من التحسين الإنساني، ولوضع حدٍّ للتعتيم والتشويش الذي يشوب المصطلح:

“نعرّف التحسين الإنساني على أنه أيُّ تدخّلٍ على الجسد الإنساني قائمٌ على أساساتٍ علمية وتكنولوجية بهدف تحسين أداء الأفراد. ويشمل هذا التعريف كافة أشكال التدخل، سواءً ما يعرف بـ “تدخلات المرحلة الثانية” القويّة وذات الآثار طويلة الأمد أو الدائمة، أو ذات الآثار المؤقتة. ذلك أنّ هذه التدخلات غير مرتبطة بتعريفٍ محددٍ للصحّة. وهذا بالتأكيد تعريفٌ غير طبيّ للتحسين الإنساني. يجب الانتباه اذن إلى أننا نفرّق بين الطبّ الخامّ والتحسين الانساني الطبيّ والتحسين الإنساني غير الطبيّ”. [4]

ما يدور حوله مفهوم التحسين الإنساني هو إذن كلّ تدخلٍ علميٍ أو تكنولوجي على الجسد بهدف تحسين أداء الأفراد، وهو إما أن يقوم على قراءةٍ ميكانيكيةٍ للجسد، وبالتالي يكون هذا التدخل تحويلاً في طبيعة الجسد أكثر من كونه تحسيناً فيه، كما في عمليات التجميل، إعادة تشكيل المزاجات الانفعالية بطرقٍ غير طبيّة، أو التعديلات على مستوى الأجنّة. وإما أن يقوم هذا التدخل على قراءةٍ أكثر مرونةً للجسد الإنساني، فيكون في هذه الحالة تحسيناً أكثر منه تحويلاً في طبيعة الجسد، كما في تمارين التنمية البشرية-المهنيّة، أو كتمارين “التوب” (TOP: techniques d’optimisation du potentiel) المعتمدة في الجيش الفرنسيّ منذ 1990 وتهدف بحسب مؤسستها الطبيبة العسكرية إيديث بيرو-بيير إلى تدريب الجنود على الاستغلال الأمثل لقدراتهم العقلية والعاطفية والجسدية أمام أي ظرف، ويتم ذلك من خلال إجراءاتٍ معينةٍ يحددها البرنامج بالتفصيل. [5]

يمكن للتحسين الإنساني أن يشمل أيضاً مجموعة الدراسات في علم الاجتماع والآنثروبولوجيا والتاريخ التي أقيمت في هذا المجال، أنظر: كريستين ثوير في عملها عن استهلاك المنشطات الذهنيّة بين أوساط الشباب (Thoër & Robitaille 2011, Thoër & Aumond 2011, Lévy & Thoër 2008). الدراسات العديدة التي أقيمت حول موضوع العمليات الجراحيّة (Noëlle Châtelet (1993), Sander L. Gilman (1999), Elizabeth Haiken (1997), Kathy Davis (1995)). كذلك اسهامات كيفين وارويك وبرنارد آندريو (2011) حول قضايا “التهجين”. [6]

اُنظر أيضاً: مجموعة الكتابات حول وكالة درابا (Moreno 2006, Jacobsen 2015, Belfiore 2009)، مجموعة النقاشات الدائرة حول مفهوم “الجندي المحسّن (augmented soldier)” (Inflexions, civils et militaires : pouvoir dire (2016), DSI 45 : Le soldat augmenté (2015)).

الآنثروبوتيك

الظهور الأول لمصطلح الآنثروبوتيك كان في كتاب خيال علمي لجليبرت هوتيس عام 1980، حيث عرض فيه مشهدٌ عالميٌ سمّاه ” General Anthropotechnics”، لكنه لم يعطِ أي تعريفٍ أو توضيحٍ بخصوصه، وبالتالي، ظلّ المصطلح غائباً حتى عاد إليه جيروم غوفيت الذي سيعرف بعد الآن بمنظّر الآنثروبوتيك الأبرز. في “ولادة الأنثروبوتيك”، يعرّف غوفيت هذا المصطلح على أنه “فنّ أو علم تحويل الكائن الإنساني من خلال التدّخل غير الطبيّ على جسده”. [7]

ينطلق غوفيت في تعريفه للآنثروبوتيك من موقع الاختلاف مع الطبّ، فالطبّ كما يقول يتدّخل لإنقاذ أرواح البشر وتخفيف معاناتهم، وفي هذا التدخّل، يكون الانطلاق من “الباثالوجي” أي غير العادي إلى “العاديّ”. في حين أنّ التدخّل الأنثروبوتيك يهدف إلى تحقيق السعادة والنجاح الاجتماعي ويكون الانطلاق فيه من “العادي” إلى “المحسّن”.

السايبورغ

يعرّف قاموس اوكسفود مصطلح السايبورغ على أنه “منظومة التداخل بين الانسان والآلة”، أو “كل من يكتسب قدراتٍ جسديةٍ وعقليةٍ غير طبيعية من خلال اندماجه بالآلة، أو هو كل عضوٍ خارجيٍ يعدّل على الأداء الطبيعي للجسد”. [8]

وبحسب “مانيفيستو السايبورغ” الصادر عام 1991، “فالسايبورغ عبارة عن مزيجٍ بين العضو والآلة، مخلوقٌ حقيقيٌ من جهة، وخيالٌ علميٌ من جهةٍ أخرى”. [9]

بالرجوع إلى هذه التعريفات، مصطلح السايبورغ واسعٌ جداً ليشكل كافّة مستخدمي التكنولوجيا سواءً بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة. دافعت كاثرين هايلز عن هذه الفكرة في كتابها ” How we became posthuman  “، حيث تعتقد الكاتبة أننا بالأساس “مخلوقات سايبورغية” منذ اللحظة الأولى التي اعتمدنا فيها الأداة لإطالة أجسادنا، والقصد بطبيعة الحال، الانسان البدائيّ الذي بدأ باستخدام الحجارة والأقواس كأدواتٍ للدفاع عن النفس وجلب الطعام. [10] من ناحيةٍ أخرى، مصطلح السايبورغ واسعٌ جداً لأنه ممكن الحدوث، معنى ذلك، القدرة الطبيعية للإنسان لأن يندمج بالآلة. وقد دافعت آندي كلارك عن هذه الفكرة في كتابها “Natural-Born Cyborgs” بالاعتماد على قراءةٍ جديدةٍ نسبياً للعقل البشريّ، وهي اللدونة، فاللدونة العصبيّة، وهي بكلّ الأحوال مُعطًى طبيعيٌ للإنسان، هي ما يسمح لنا عملياً بالعمل مع الآلة.

في الجزء القادم والأخير، سنتحدّث بشكلٍ خاصٍّ عن الجنديّ السايبورغ، نظراً لاهتمام المؤسسة العسكرية -وكذلك داربا- الكبير به مقارنةً بتطبيقات المفاهيم الأخرى، هذا لا ينفي أهميّة التطبيقات الأخرى التي قطعت الجيوش والجماعات العسكرية شوطاً كبيراً في استخدامها (أنظر هنا: عن استخدام مقاتلي “الدولة الإسلامية” والجماعات المسلحة الأخرى في سوريّة لحبوب الكابتاغول).

سنتطرّق إذن إلى تعريف الجندي السايبورغ، أبعاده، وسنطرح بعض الأمثلة العمليّة عليه والأسباب التي دفعت باتجاه اعتماده عنصراً رئيسيّاً في تشكيل العقيدة العسكرية للجيوش المعاصرة وجيوش المستقبل.

تابع/ي القراءة: داربا: صناعة المستقبل (3)

*****

الهوامش:

[1]Goffette J., « De l’humain réparé à l’humain augmenté : naissance de l’anthropotechnie », in Kleinpeter (Edouard) (dir.) : L’Humain augmenté, pp. 85-106, Paris, CNRS Editions, 2013 : 97-98.
[2]Ibid. : 78-88.
[3] ibid. : 88- 89
[4] COENEN C., Schuijff M., Smits M., Klaassen P., Hennen L., Rader M., Wolbring G., « Human Enhancement », Parlement Européen, Science and Technology Option Assessment (STOA), 2009 : 17.
[5] Perreaut-Pierre É., « Comprendre et pratiquer les Techniques d’Optimisation du Potentiel (Une méthode personnalisée pour mobiliser ses ressources ; être et rester au TOP », Paris, InterEditions, 2012 : 7. 
[6] Jérôme Goffette, op. cité : 89-90.
[7] Ibid. : 91-92.
[8] Frias F. J. L., « The defining components of the cyborg : cyborg-athletes, fictional or real ? », Sport, Ethics and Philosophy 154 : 3, pp. 623-631, 2016 : 2. 
[9] Haraway, D., « Simians, Cyborgs, and Women », New York, Routledge, 1991 : 149.
[10]Christopher Coenen, op. cité : 45.