نتحدث في هذا الجزء عن الجنديّ السايبورغ، وعن أبعاده، نطرح بعض الأمثلة العمليّة عليه، والأسباب التي دفعت باتجاه اتجاه اعتماده عنصراً رئيسيّاً في تشكيل العقيدة العسكرية للجيوش المعاصرة وجيوش المستقبل.
(اقرأ/ي أيضاً الجزء الأول والثاني)
*****
جنود السايبورغ
الجندي السايبورغ هو تتويج للعلاقة التاريخية الوطيدة بين العلم-التكنولوجيا والجيش، ويشكّل السايبورغ اليوم عنصراً رئيسياً في تركيبة الجهاز العسكري، كما ويلعب دوراً أساسياً في بناء الخطاب العسكري المعاصر. بكلماتٍ أخرى، هو تعبيرٌ صريحٌ عن تغيّرٍ مفصليٍ ومحسوسٍ في العقيدة العسكريّة، والأخيرة هي الطريقة التي تقوم فيها الجيوش بتحويل المدخلات (الجنود، الضبّاط، الذخيرة، الخطط، العتاد، إلخ.) إلى مخرجات (كسب المعركة- الحرب).
يعرّف كريس غراي الجندي السايبورغ على أنه “ملتقى من المثل العليا، والمعادن والكيمياء، وأناسٌ تصنع من الأسلحة حواسيب ومن الحواسيب أسلحةً وجنوداً”(1). في كتابه “حروب ما بعد الحداثة” الصادر عام 1997، يعتقد غراي أنه كما أنّ حروب الحداثة احتاجت إلى جنود حداثيين، فحروب ما بعد الحداثة تحتاج كذلك إلى جنود ما بعد حداثيين، أي إلى قيمٍ جديدةٍ يحملها الجنود ويتعايشون بها مع متطلبات حروب التقنيات العالية (high-tech war).
من جهة، تتم صناعة هذا الجنديّ الجديد بطرقٍ تقليديةٍ: العزل والانضباط والوجود المستمر في جماعة، والتدريبات العسكرية من أجل إعادة تحويل الجسد من “فرداني” “فرخة”، “بازار” (جسد خاطئ)، إلى رجلٍ محاربٍ (جسد مختار). ومن جهة أخرى، الأسلحة هي من تصنع هذا الجنديّ، أي أنّه لا يمكن النظر إلى جنود اليوم على أنهم “متأثرين” بالأسلحة التي تعتمدها جيوشهم، وإنما، كجنودٍ يتمّ برمجتهم مسبقاً كي يستطيعوا أن يدمجوا في أجسادهم منظومات الأسلحة المعتمدة من قبل تلك الجيوش(2).
هذا إن صحّ التعبير هو الجيل الأول من جنود السايبورغ، أي، هناك الجسد الحاضر دوماً “كعملة الحرب الأساسية”، وهناك التكنولوجيا التي يتم إدخالها في هذا الجسد لتحويله وتحسينه. وهذا بدوره يعني أن الجسد لم يعد كما نعرفه تماماً، وفي ذات الوقت، ليس الجسد الذي نجهله تماماً، هو إذن بين هذا وذاك، جسدٌ تقليديٌ محسّنٌ آلياً ويعرف بالسايبورغ. ولهذا السبب، جاء تقسيم غراي للجسد الإنساني على النحو الآتي:
1- “الويت وير (Wetware)”، أي ألانظمة-الفرعيّة الهرمونية، الكاردياك، والقدرات العقلية.
2- “السوفت وير (Software)” وتشمل التدريبات، وردود الفعل المكتسبة والفطرية.
3- “الهارد وير (Hardware)” وتشمل الأنظمة-الفرعية العضلية، العظام والتناسق الجسدي(3).
تُعرف هذه المرحلة من السايبورغية بـ “نموذج التقليدية-الجديدة”، وتقوم كما قلنا على التطورات التكنولوجية والنانو-تكنولوجية التي لم تسمح فقط بتمديد الجسد الإنساني إلى أطرافٍ أخرى صناعية بالمعنى الواسع للكلمة، وإنما وضعته في شبكةٍ مع نفسه ومع بيئته الخارجية. يطلق جويل دو روزنيه على هذا الحقل مفهوم “النيو-بيولوجيا”، وتهتمّ كما يقول بدراسة أعضاء وأنظمة وشبكات المحاكاة البيولوجية(4).
أما في مجال الأبحاث العسكرية، تعتبر هذه المرحلة من السايبورغية جزءاً من مجموعة الأبحاث التي قام بها مركز أبحاث التنمية البشرية في الجيش الأمريكي (HUMRRO)، والتي هدفت إلى وضع الجنديّ في “ماغما” (مزيج) تدفع بقدراته الجسدية والعقلية إلى حدودها القصوى.
ونذكر من تطبيقات هذا البرنامج:
1- اللباس العسكري الحرباة الذي يتغيّر لونه تلقائياً بتغيّر طبيعة أرض المعركة.
2- منظومة “Land Warrior” ونظيرتها “Félin” في فرنسا اللتان تهدفان إلى تحقيق ثلاثة أمور: القدرة على الفتك بالخصم بأقل الخسائر الممكنة، أي البقاء، وتسهيل عملية الاندماج بمنظومات “C4I2”.
3- الـ “Biopuces”، وهي عبارة عن جزيئات مهجّنة من “الدي أن ايه” يتم خلطها بالبروتين ليتناولها الجنود، ولتقوم بعد ذلك ببناء شبكة تواصل على المستوى الذريّ فيما بينها بشكلٍ يسمح بتحسين أداء الجنود الجسدي أو التعديل في وظائفهم الحيوية إذا لزم الأمر.
4- برنامج بيتمان (PITMAN) الذي بدأ العمل عليه في أواخر التسعينات من أجل إنتاج هياكل آلية خارجية بوزن 100 كغم وقادرة على صدّ الرصاص من عيار 12.7 فما تحت، ويتمّ التحكم به عن طريق الجهاز العصبي للجنود(5).
بالنسبة لكريستينا ماسترز، الفكرة الأساسية في هذه المرحلة الأولى من مشروع الجندي السايبورغ هي ببساطة إدخال الآلي أو الميكانيكي في البيولوجي من أجل تحسين قدرات الأخير. المثير للانتباه في كتابات ماسترز هو أنها لا تعتقد بصحّة هذه الصورة بعد الآن، وبالرجوع إلى كتابات كلوديا سبرينجر عن السايبورغ واللامساواة الجندريّة، تقول ماسترز بأننا نعيش اليوم ونشارك في تثبيت مفهوم الجندي السايبورغ كإعادة صياغةٍ عنيفةٍ للذات الانسانيّة. ذات ما بعد إنسانيّة تظهر جليّاً في عملية تحويل المنطق الإنساني من منطق ذواتٍ إنسانيةٍ إلى منطقٍ تكنولوجيٍ لا تمكن مقاطعته أو التشويش عليها من خلال المشاعر أو من خلال محدودية الجسد الإنساني كالتعب وغيره. وفي هكذا منطق أيضاً، لا يمكن للجسد الإنساني أن يكون بعد الآن مسؤولاً عن خلق وإبراز رغباته النفسيّة والجسديّة(6).
دعونا نطلق على هذه الرؤية عنوان “المرحلة الثانية من السايبورغيّة”، وهي بلا شكّ مرحلةٌ قصوى تهدف إلى قلب فكرة إدخال الميكانيكي في البيولوجي لتحسين الأخير، وهي الفكرة الأساسيّة للجيل الأول من السايبورغ. بحيث تصبح، إدخال البيولوجي في الميكانيكي أو الآلي من أجل تحويل راديكالي للبيولوجي. وبذلك، يصبح تقسيم غراي للجسد الإنساني على النحو الآتي:
1- “الويت وير (Wetware)”، وتشمل الجسد الإنساني بعد تجسّده القيم العسكرية (embodied human soldier) وهو بالضرورة الحلقة الأضعف في هذه الثلاثيّة.
2- “السوفت وير (Software)” وتشمل المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات.
3- “الهارد وير (Hardware)” وتشمل كافّة الأسلحة ذات التقنية العالية(7).
أسباب النزوع العسكري نحو جندي السايبورغ
في الجزء الأول، اخترنا عام 1960 كنقطة انطلاقٍ لمشروع الجندي السايبورغ، حيث بدأت الأبحاث والتجارب العلمية في هذا المجال تظهر للعيان تحت مسمى “مشاريع اندماج الانسان والآلة”، وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما، لكن هذا لا يعني أن الفكرة قبل ذلك التاريخ كانت غائبةً تماماً، وخصوصاً في كتابات وأفلام الخيال العلمي. وأقدم بكثيرٍ في حال اعتبرنا الأساطير القديمة صورةً أوليّةً من الخيال العلمي المعاصر.
وبناءً على ذلك، يمكن القول بأن الرغبة في تجاوز حدود الطبيعة البشرية والحصول على قدراتٍ خارقةٍ قديمةٍ قدم الإنسان ذاته، وما الأساطير القديمة إلا تعبير صريح عن هذا الحلم بالمحارب الخارق، ابتداءً من جلجامش الذي أراد قهر الموت ببحثه عن الحكمة، إلى أنكيدو الذي أراد التغلّب على خوفه بعبوره غابة الأرز مع جلجامش وقتلهما للوحش الكامن فيها (خومبابا)، إلى إيكار الذي صنع لنفسه أجنحةً وطار بها، وصولاً لبروميثوس الذي تسلّل إلى عرش الآلهة وسرق منها سرّ النار، إلخ.
وقد سمّى اليونان القدماء هذه الرغبة بـ “الهوبرس” (Hubris)، يرافقها دوماً الـ”النيمسيس” (Nemesis) أي عقاب الآلهة، ذلك أن تجاوز الانسان لطبيعته البشرية ليصبح نصف بشر ونصف آلة كان أمراً مذموماً (8)، وحتى يومنا هذا، ما زالت النقاشات حول أخلاقيات “الجندي المحسّن” تحتفظ بزخمٍ كبيرٍ ويكاد يكون كل كتابٍ أو مقالٍ كُتب في هذا الموضوع يحتوي على فصلٍ عن أخلاقيات التحسين.
على أيّة حال، ما يهمّ هنا هو أن نعرف أن هذه الرغبة وُجدت دوماً، إلا أنها تأخذ بُعداً خاصاً في عالم اليوم، بدايةً بسبب التطورات التكنولوجية الكبيرة التي جعلت من مواضيع هذه الأساطير حقيقةً يمكن تطبيقها على أرض الواقع، ثمّ بسبب أمرين آخرين أكثر أهمية، هما:
1- الهزيمة الماديّة (أو الفشل الجسدي):
تحت هذه الخانة، نستطيع أن نضع كلّ ما يتعلّق بانخفاض أداء الجندي الإنساني في الحروب المعاصرة، سواءً بسبب تغيّر طبيعة العدوّ أو بسبب تغيّر ميدان المعركة، أو حتى بسبب الآثار السلبية التي جلبتها التكنولوجيا نفسها إلى الجنود. على سبيل المثال، بلغ الوزن الإضافي للجنديّ الأمريكي عام 2002 حوالي 140 باونداً (9)، وهذا ثقيلٌ جداً على جنديٍّ يفترض منه أن يكون مرناً وسريع الحركة في أرض المعركة إذا أراد الانتصار أو النجاة. وجب إذن تدخّل التكنولوجيا مرّةً أخرى لزيادة قدرة الجندي على الحمل، أو بتخفيف هذا الوزن من خلال تدّخلها في مواضع أخرى.
2- الهزيمة النفسيّة – الهويّاتية:
أشرنا في نصوصٍ سابقةٍ إلى فكرة أن الجيش لطالما تمّ النظر إليه كمؤسسة ذكورية، ليس فقط بسبب غلبة العامل الذكوري فيه على العامل النسائي، وإنما لدوره الرئيسي في تشكيل الهوية الذكورية للمجتمع ككلّ. في هذه النظرة التقليدية للجيش، يعرّف الجندي بما يعادله من قيمٍ تاريخيّةٍ تم التعارف عليها، وعليه بالضرورة أن يمتلكها مُسبقاً أو أن يكتسبها من خلال الحياة العسكرية، هو إذن: القوّة، الفخر، الصلابة والرجولة. وعليه، فإن أيّة هزيمةٍ تلحق بالجيش تكون بمثابة “إخصاء” لهذه الهويّة الذكورية، وبالتالي سحقٌ لصورة البطل في المخيال الشعبيّ.
في هذه الحالة، تتوفر أمام أي جيشٍ ثلاثة خياراتٍ لإعادة الاعتبار لنفسه، إما ببساطةٍ أن يربح المعركة المقبلة، ومع ذلك، ستبقى هذه الهزيمة قائمةً تاريخياً وسيتطلّب منه أن يتعايش مع حدوثها.
الخيار الثاني هو أن يتجاوز نهائياً بشكلٍ لا رجعة فيه هويتّه الذكورية بعدما أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهله، ويتمثّل ذلك في سحب العامل الإنساني كليّةً من المعركة، ثمّ توظيف التكنولوجيا المتطوّرة بدلاً منه لكسب حروبه، وعلى سبيل المثال، استخدام تطبيقات “الهيومانويد” (humanoïdes) المتجاوزة أصلاً للبناءات الاجتماعية المهيمنة تاريخياً مثل: الذكوري/النسوي، الثقافي/الطبيعي، المادي/الروحي، الذاتي/الموضوعي، إلخ.
أما الخيار الثالث وهو الأكثر إثارة، أن يتمّ استغلال التكنولوجيا المتطورة دون سحب العامل الإنساني من المعركة، وإنما بدمجهم ببعض (السايبورغ) من أجل تقديم تعريفٍ جديدٍ للجنديّ، وبالتالي لتصوّر المخيال الشعبيّ للبطل.
معنى ذلك، أن يتمّ نقل القيم العسكرية الكبرى وأهمّها قيمة الرجولة من الجسد التقليدي إلى الجسد السايبورغ، وفي هذه العملية تغييرٌ عنيفٌ لقواعد اللعبة الأولى المقترحة على الصعيد النظري من قبل ميشيل فوكو، أي نقل موضع السلطة من الجسد الإنساني إلى الجسد السايبورغ، بحيث تتجسّد في الأخير الهويّة العسكريّة الذكوريّة ويصبح العملة الرئيسية للحرب، مقابل الجسد التقليدي للجندي الذي تمّ إخصاؤه في المعركة السابقة، أي أنّه أصبح قيمةً سلبيّة، ضعيفةً (مؤنثة)، يحتاج للحماية في حال كان الصديق، أو للتخلص منه في حال كان العدوّ.
وهكذا بالتحديد تمّ تصوير صدام حسين والجنود العراقيين في الإعلام الأمريكي أثناء حرب الخليج الأولى، والتي كانت بالنسبة للمؤسسة العسكرية الأمريكية والمجتمع الأمريكي ككلٍّ فرصةً ذهبيّةً لتجاوز عقدة الحرب الفيتنامية التي تكمن الهزيمة فيها أنها لم تنتج أيّ بطل، بعد أن سحق الفيتناميون الصورة التقليدية للذات الأمريكية، وهي بحسب كريستينا ماسترز: الأبيض، الرجل ومتباين الجنس (10).
******
الهوامش:
(Gray C. H., « Postmodern War : The new politics of conflict », New York, The Guilford Press, 1997(1)
(2) ibid. : 195-196.
(3) Ibid.
(4) De Rosnay J., « Biologie et informatique. Promesses et menaces pour le XXIème siècle », Intervention de Joël de Rosnay à la Conférence Euroforum de la Cité des Sciences et de l’Industrie, Paris, 28 novembre 1995.
(5)Henrotin J., « L’homme, le char et le robot. Clôture de l’espace, connectique et bionique du soldat », checkpoint, mis en ligne : 25 janvier 2003.
(6) Masters C., « Bodies of technology », International Feminist Journal of Politics, 7 :1, pp. 112-132, 2005 : 113-114.
(7) Ibid. : 114-115.
(8) Erbland B., « La tentation de l’Hubris », Inflexions 32, 2016 : 35.
(9) Samuel, E. « US Army seeks nanotech suits », New Scientist, mis en ligne : 14 March 2002.
(10) Cristina Masters, op. cité : 117-118.