يناقش عبد الجواد حمايل في هذا المقال أسباب عجز القوى الاستعمارية الغربية عن تحقيق الانتصار على القوى التحرّرية التي تعدّ أضعف منها عسكرياً بكثير، ويعرض عدداً من النظريات الرائجة في الأكاديميا الغربية لتفسير ذلك. 

 

 

مقدمة
في 22 تمّوز 1922، هاجم مجاهدو الريف المغربي بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي الجيش الإسباني بقيادة الجنرال “مانويل فرنانديز سلفستري” في معركة أنوال. 3 آلاف مقاتلٍ ريفيّ مقابل أكثر من 20 ألف جندي إسباني في مواجهةٍ ملحميةٍ ستبقى من أعظم الهزائم التي مُنيت بها الجيوش الاستعمارية الأوروبية، وأدّت لاحقاً إلى تغيير المسار التاريخي لدولةٍ “عظمى” كإسبانيا، وصعود الجمهورية الإسبانية الثانية وإطاحة الملك “ألفونسو”. كانت هذه المعركة، وما تزال، درساً قاسياً للقوى الاستعمارية حول فرص هزيمتها أمام قوى أضعف منها بكثير. 

 

شهد تاريخ الحروب والصراعات الكثير من الهزائم التي لحقت بالأقوى عدّةً وعتاداً. تجاربٌ غنيةٌ وموصولةٌ من صراع الإرادات كشفت عن نقاط الضعف البنيوية لدى “الأقوياء”، كالقدرات النارية وغيرها، وأدّت إلى هزيمة من رجّحت لصالحهم كفّة موازين القوى. ويشمل هذا التاريخ الطويل العديد من الحروب المعاصرة، كتورّط الكيان الصهيوني في لبنان، والفرنسيين في الجزائر، والتجربة الأمريكية في فيتنام والصومال ولبنان، والسوفييت في أفغانستان. هذه الهزائم أثارت نقاشاتٍ “نظرية” و”إمبريقية” مطوّلة للبحث في أسباب انتصار الجيوش غير النظامية والقوى الثورية على القوى الإمبريالية العظمى، حتّى اقترنت دراسات الحرب في القرن الواحد والعشرين، بشكلٍ أساسي، بدراسة “التمرّد” ومكافحته في العالم الثالث.

ليست الولايات المتحدة الأمريكية، بقواتها العسكرية الكبيرة والمدرّعة والمتطوّرة تقنياً، استثناءً، ولا تختلف جذريّاً عمّا سبقها من قوى إمبريالية كفرنسا وبريطانيا. تبدو أميركا اليوم وكأنّها تعاني هي أيضاً من “عقدة التمرّد”، والتي دفعتها للخروج السريع من العراق كقوة احتلال. وكذلك الأمر في أفغانستان، فقد أبرمت اتفاقيةً مع حركة طالبان في نهاية شباط 2020 ستنسحب القوات الأمريكية بموجبها، بعد نحو عقدين من حربٍ طاحنة. (أيضاً على باب الواد: حرب البراغيث: هزيمة أمريكا في فيتنام)

وإن أردنا التحدّث بلغة الأرقام، لم تكُن حظوظ “الأقوياء” في الحرب كما تبدو اليوم؛ فكان النصر حليفهم قبل الحرب العالمية الثانية، أيّ بين الأعوام 1800-1945، في أكثر من 71.5% من المواجهات والحروب، لتبدأ المعادلة بالانقلاب بعد الحرب العالمية الثانية، وتسجّل حركات التحرّر الوطني والتمرّد العالمثالثي انتصاراتٍ في أكثر من 55.5% من المواجهات مع القوى الغربية. [1] تشير هذه الأرقام إلى “ورطةٍ” حقيقيةٍ طالت بُنى الجيوش الحديثة، بما فيها ثقتها بقدرتها على إحراز النصر، ممّا دفع الأكاديميا والبنى المعرفية الغربيّة لتقديم قراءتها الخاصّة لأسباب الهزائم.

فرضية عدم التكافؤ بالمصالح

تمّ تقديم نظرياتٍ مختلفةٍ للإجابة عن السؤال المركزي للجيش النظامي في الغرب اليوم، لماذا ينتصر “الضعيف” في غالبية المواجهات منذ العام 1945؟ ويُمكن تقسيمها إلى أربع نظريات: نظرية عدم التكافؤ في المصالح/أو نظرية الإرادات أوّلاً، ونظرية دمقرطة الحرب ثانياً، ونظرية التفاعل الاستراتيجي ثالثاً، ونظرية الاعتمادية المفرطة على التكنولوجيا رابعاً.

أبرز هذه الفرضيات هي ما أطلق عليه “أندرو ماك” عدم التكافؤ بالمصالح (Asymmetry of Interest)، والتي تشكّل “الإرادة” و”العزيمة” عنصراً حاسماً فيها، ومفادها أنّ من يمتلك إرادة القتال سيفوز بالحرب. يربط “ماك” بين مصالح الفاعل السياسي والعزيمة، على قاعدة أنّه كلما ازدادت المصالح تزداد معها طرديّاً العزيمة وإرادة النصر. كما تربط هذه النظرية قضيتين أساسيتين: طبيعة المصالح التي تحرّك الفاعلين، وكيفية تحويلها إلى إرادةٍ سياسيةٍ في المواجهة والانتصار. تبدو القوى الغربية هنا أضعف بحكم دفاعها عن مصالحها “الخارجية”، والتي لا تمتلك حيالها سوى ثقةً عمياء بـ “جبروتها”. هذا بالإضافة إلى نظرياتٍ هشّةٍ تدور حول المصالح الجوهرية التي تسعى لحمايتها، على شاكلة نظرية “الدومينو” التي تمّ وضعها على رأس مسوّغات شن حربٍ طويلة الأمد في فيتنام، والقائلة إن سقوط فيتنام بيد الحزب الشيوعي يعني تحوّل منطقة جنوب شرق آسيا نحو الشيوعية، وبالتالي يتحتّم على أمريكا وقف سقوط قطع “الدومينو”.

ووفقاً لـ “ماك”، إنّ “حرب المتمرّد شموليةٌ بطبيعة الحال، ولكنّها غالباً محدودةٌ بالنسبة للقوة الخارجية”. يستخدم “ماك” الحرب الفرنسية في الجزائر لتوضيح فرضيته حول ميل القوى الضعيفة للتركيز على النتائج السياسية للحرب، بينما اهتمّت فرنسا بالنجاح العسكري والتكتيكي في ساحة المعركة، وفشلت في تجنيد موارد الدولة في حروبٍ صغيرة في بلادٍ بعيدة.

في نظرية دمقرطة الحرب، يقدّم “جيل ميروم” تفسيراً مكمّلاً لأسباب هزيمة القوى الإمبريالية في الحروب الصغيرة وغير المتكافئة. ينظر “ميروم” في دراسته إلى العلاقة بين الحرب والنظام السياسي في الغرب، وخاصةً “القيود” التي تفرضها الديمقراطية الغربيّة على أدوات الحرب وسبل تحقيق الرغبات والمصالح. ويخلص إلى أنّ “الديمقراطيات تفشل في الحروب الصغيرة لأنّها تجد صعوبةً بالغةً في تصعيد مستوى العنف والوحشية إلى درجةٍ يُمكن من خلالها أن تضمن النصر”، وهو ما تعزّزه الضغوط الاجتماعية والسياسية، من بينها الدور المركزي الذي يلعبه الإعلام واستقلاليته النسبية في الدول الغربيّة. وبهذا، ترتبط الحرب وتكلفتها البشرية، أو ما ينتج عنها من هزّات، بفضح المجازر والفظائع التي ترتكبها الجيوش، ما يؤثّر سلباً على الإرادة المحليّة للاستمرار بالحرب في الدول الغربية الليبرالية، ويدفعها للذهاب نحو حلولٍ سياسية تنقذها من ورطتها.

ومن منظور “جيروم”، إنّ الديمقراطيات في ورطةٍ حقيقية. فمن جهةٍ، ليست المجتمعات الغربية “ما بعد البطولية” قادرةً على التضحية بأعدادٍ كبيرة من جنودها نظراً لحساسيتها من الخسائر البشرية (متلازمة أكياس الجثث السوداء)، والذي يأتي على حساب إتمام المهام العسكرية بنجاح كما يجادل “آفي كوبر”. ومن جهةٍ أخرى، لم تعُد هذه الجيوش قادرةً على تبرير المجازر التي ترتكبها في عالم الصورة وسرعة انتشارها. وتعزّز دمقرطة الحرب والضغوط الاجتماعية والسياسية في الحروب الجديدة من فرضية “ماك” حول عدم قدرة هذه القوى على توظيف جميع مواردها العسكرية والسياسية، وبالتالي يُمكن هزيمتها سياسياً، حتى لو لم تُهزم على أرض المعركة.

تؤكّد تجربة المقاومة اللبنانية ضد العدوّ الصهيوني، على سبيل المثال، الفرضية الأساسية لـ “ماك” و”غيروم” وتفسّر، ولو بشكلٍ محدود، كيف خسر العدوّ الحرب بين عامي 1986 و2000، وكيف أخفق أيضاً في هزيمة حزب الله في عام 2006. وبحسب “كلايف جونز” “لم تفعل الميزة الاستثنائية التي تمتلكها “إسرائيل” المتجسدة بالقوة النارية الكثير لإبطال القوة السياسية أو العسكرية لحزب الله”.

في الواقع، أدّى تورط العدوّ الصهيوني في لبنان إلى ظهور مجموعات ضغطٍ داخليةٍ مختلفة مثل “أمّهات الثكالى”؛ الحملة التي بدأتها أمهات أربعة جنودٍ صهاينة قُتلوا خلال الحرب في لبنان. يشرح “يغال ليفي” أثر الحملة ونجاحها في تعبئة المجتمع الصهيوني ضدّ “الوجود غير الضروري” في لبنان، مشيراً إلى أنّه “وبفضل التأثير التراكمي.. لعبت أربع أمهاتٍ دوراً فعّالاً في حثّ الحكومة على سحب القوات من لبنان”.

تسلّط هذه الأدبيات الضوء على أمثلةٍ عديدة حول تأثير فقدان الدعم الاجتماعي المحلّي على قدرة الجيوش الغربية خوض معارك كبرى والانتصار بها، وقد يكون أكثرها وضوحاً في الحرب الأمريكية على العراق. حيث استندت إدارة الرئيس الأمريكي “بوش” على مجموعةٍ من الحجج الهشّة في خوض الحرب، بما فيها تقييماتٌ استخباراتية – أثبتت عدم صحتها فيما بعد- المتعلّقة بامتلاك العراق أسلحة دمارٍ شامل. وإلى جانب الدور الكبير للمقاومة العراقية ضدّ قوات الاحتلال الأمريكي، ساهمت مجموعة عوامل وأحداثٍ في ظهور معارضةٍ محليّة للحرب في الولايات المتحدة، بما فيها الكلفة المادية للحرب وسلسلة الفضائح حول الفظائع التي اقترفها جيش الاحتلال الأمريكي، والتي يُمكن القول إنّها كانت من العوامل وراء انتخاب “أوباما” رئيساً لأمريكا.

فرضية الاحتكاك الاستراتيجي

يرتكز “ماك” و”ميروم” في تفسيرهما لتزايد هزائم القوى الغربية على العوامل التي تسبق المواجهة كالدوافع والمصالح، والعوامل المتأثرة بها كفقدان الدعم المحلي لها. يقدّم “ايفان ارجوين-توفت” مقاربةً مختلفةً عن هاتين الأطروحتين، وإن لم تكُن متناقضة بالضرورة، وهي فرضية الاحتكاك الاستراتيجي (Strategic-Interaction Theory). تنظر هذه الفرضية إلى الاستراتيجيات التي يُمكن لطرفي الصراع في الحروب اللامتماثة اتّباعها، وتقدّم نموذجاً أكثر تفصيلاً لمحاولة التنبؤ بالنتائج: “ستفقد الجهات الفاعلة القوية الصراعات غير المتكافئة عندما تستخدم الاستراتيجيات الخاطئة في مقابل استراتيجيات خصومهم”.

وبحسب “ارجوين-توفت”، أمام الطرف الأقوى خياران؛ إما “الهجوم المباشر” أو توظيف القوة النارية في القتل العشوائي. في المقابل، يُمكن للطرف “الأضعف” استخدام الدفاع المباشر، أو تنظيم “جزءٍ من المجتمع لفرض تكلفةٍ على الخصم باستخدام القوات المسلّحة المدربة لتجنب المواجهة المباشرة”؛ أيّ حرب العصابات. الحرب الجورجية في عام 2008 تشكّل مثالاً على “التخبّط” الاستراتيجي لدى الطرف “الأضعف” باختياره مسلكاً استراتيجياً قاتلاً؛ دفاع مباشر في مواجهة قوةٍ عسكريةٍ كُبرى مثل روسيا. 

يقدّم “ارجوين-توفت” قالباً للسيناريو الأكثر ترجيحاً (انتصار أو هزيمة) اعتماداً على الاستراتيجيات المختارة. إذا اختار كلا الجانبين الاستراتيجيات المباشرة، فمن الأرجح أن يفوز الجانب الأقوى. أما إذا اختارا نهجاً استراتيجياً معاكساً (الهجوم المباشر مقابل حرب العصابات على سبيل المثال)، فمن المرجّح أن تكون نتيجة الحرب لصالح الجانب “الأضعف”. تسلّط هذه النظرية الضوء على أهمية الاستراتيجيات العسكرية بمعزلٍ عن التأثير السياسي والعوامل الاجتماعية و”الميتافيزيقة” المتعلّقة بالإرادة والعزيمة، على أهميتها، مرتكزةً على عملية اختيار الاستراتيجية الصحيحة لـ “الحرب الصحيحة” كمحدّدٍ لنتيجة أيّ حرب، بما فيها الحروب الصغيرة.

يكمّل إصرار “ارجوين-توفت” على النظر إلى الاستراتيجية العسكرية، واختيار الاستراتيجية الأنسب في الحرب، التفسير الذي قدّمه “ماك” و”ميروم” حول دور علاقات القوة والثقافة السياسية المحلية في فشل القوي في الانتصار بـ “الحروب الصغيرة”. ولكن تظلّ هذه التفسيرات غير مكتملةٍ بدون فهمٍ دقيقٍ لسبب نزوع القوى العسكرية الغربية لاختيار الاستراتيجيات العسكرية التقليدية في المواجهات اللامتماثلة.

تلعب الثقافة دوراً مهماً في السياسة العسكرية. إذ تميل الجيوش إلى التمسّك بـ “البروتوكول” القائم وهياكل القوة التقليدية، أيّ طرق التنظيم ومراكز التحكّم والسيطرة والبنى اللوجستية الكبرى، وهو ما يجعلها ترفض “الابتكار” ويؤثّر على الاستراتيجيات المتّبعة. وبحسب “روبيرت كاسيدي”، لا تكسب القوى العظمى لأنّها قوى عظمى، بل “يجب على جيشها الحفاظ على الكفاءة المركزية في الحروب المتماثلة/المتكافئة في مواجهة القوى العظمى الأخرى “، وحتى عند خوضها “الحروب الصغيرة”.

يعرّف “كاسيدي” الثقافة العسكرية بأنّها “مجموع المعتقدات والمواقف المتضمنة داخل منظمةٍ عسكرية، والتي تشكل معتقدات وأولويات تلك المنظّمة بشأن متى وكيف يتمّ توظيف القوة العسكرية”. وبهذا المعنى، يشكّل نزوع القوى العسكرية الغربية إلى استخدام الهياكل والاستراتيجيات التقليدية في الحروب غير المتكافئة، خاصةً توظيف قوة النيران والتفوّق التقني، ميزةً أمام خصمها، ولكنّ الإفراط بهذه الاعتمادية يؤدّي في الكثير من الأحيان إلى نتائج معاكسة.

وكمثالٍ على ذلك، شكّلت حرب العراق في مراحلها المختلفة نموذجاً على كيف يُمكن للتقنية وقوة النيران ودقّتها أن تكون ميزةً في الصراع، وأيضاً كيف تنتقل وتتحوّل بنية الجيوش وثقافتها العسكرية إلى عبء. ففي المراحل الأولى للحرب، ساهمت الاستراتيجية التقليدية في تفكيك الجهاز السياسي والعسكري العراقي في وقتٍ قصير للغاية، ولكن سرعان ما أصبحت عقبةً أمام مرونة التغيير والتكيّف مع الظروف الجديدة، خاصةً لدى مواجهة مقاومةٍ عراقية ذكية ومتعدّدة القدرات. في هذه الحالات، تصبح قوة النيران والهياكل اللوجستية الكبرى عبئاً حقيقياً على كاهل الجيش الامريكي. ويُرجع “جيري جيكبسون” الفشل الأمريكي في العراق لعاملين رئيسيين: ” الأوّل هو الميل الأمريكي إلى فصل الحرب عن السياسة – النصر العسكري يشكّل غايةً بحدّ ذاته، ويتجاهل وظيفة الحرب كأداةٍ للسياسة. والثاني هو إحجام الجيش الأمريكي عن خوض [التورّط في] حروب مكافحة التمرّد”.

وإلى جانب الدعم الذي تتلقاه الجيوش غير النظامية ومكانة قوات “مكافحة التمرّد” كمحتلّين، يعتبر “ليال ويلسون” زيادة “مكننة” الجيوش الغربية واعتمادها على التكنولوجيا عاملاً مهماً في زيادة فرص وقدرة الجيوش غير النظامية على الانتصار في الحروب الصغيرة. هذه النتيجة “المقلقة” للتكنولوجيا هي نتيجة المسافة التي تخلقها بين السكّان والقوات العسكرية المحتلّة، والتي تحفّز في المقابل “حساسيّة” المحتلّ وأجهزته الاستخباراتية تجاه الكمّ الهائل من المعلومات والتفاصيل والبيانات الضخمة (Big Data) ومعالجتها. وبينما تقدّم التكنولوجيا طريقةً مريحةً لخوض الحرب والتخفيف من الخسائر المُكلِفة سياسياً على الصعيد السياسي المحلي، إلا أنّ اعتماد الطرف الأقوى عليها “يقلّل من درجة التفاعل المباشر مع السكان، وبالتالي كمية المعلومات ودرجة الفهم حول التطلّعات المحلية، مما يضعه في وضع غير مؤاتٍ أمام القوى غير النظامية”، كما يقول “سيرجيو تراتز”.

إنّ النظريات المختلفة التي عرضها هذا المقال هي جزءٌ من محاولات فهم وتفسير المؤسّسة العسكرية الغربية لفشلها المتزايد في “الحروب الصغيرة” وغير المتكافئة. ولكنّها عادةً ما تغفل التطورات “الاستراتيجية” على الضفة الأخرى؛ أيّ في التطور الاستراتيجي المستمرّ للتكتيكات العسكرية لحروب العصابات.

في الواقع، منذ أن كتب “ماو تسي تونغ” مقاربته حول الحرب الشعبية طويلة الأمد، وحركات التحرّر الوطني تختبر استراتيجياتٍ عسكريةً مختلفةً تشمل طرق تنظيم الجهود العسكرية والبناء الهندسي، وتكتيكات الكرّ والفرّ، بما يتناسب مع معرفة العدو وإمكانيّاته وخصائصه الاجتماعية والسياسية ونقاط قوّته وضعفه.

في دراسته لما أطلق عليه “الثورة الأخرى في الشؤون العسكرية“، يعزو العميد الصهيوني “ايتاي برن” هزيمة جيشٍ متطوّرٍ كالجيش الصهيوني إلى النقلة النوعية التي أحدثتها المقاومة اللبنانية في الحرب الهجينة. يجادل العميد الصهيوني أنه وبينما اعتمد العدوّ الصهيوني على استراتيجية تحقيق التباعد؛ أيّ خوض المعارك دون المشاركة فيها، استندت تكتيكات حزب الله على محاولة الوصول إلى الجندي الصهيوني دون تعريض بنية المقاومة اللوجستية وقوّاتها لنيران سلاح جوّ العدو. نجحت المقاومة اللبنانية في تحقيق معادلة الردع في جنوب لبنان وعلى طول الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلّة، وتضّمنت استراتيجياتها آليات إطلاقٍ للنار تحت تهديد سلاح الجو الصهيوني، وبناء مقرّاتٍ مموّهةٍ ومنظومة أنفاق، فضلاً عن الإعداد النفسي لقوّات المقاومة وتطوّر مهاراتها التكتيكية. 

خاتمة

خاضت الماكينة العسكرية الغربيّة العديد من الحروب خلال السنوات الثلاثين الماضية، خسرت خلالها الكثير وربحت الكثير أيضاً. عرض هذا المقال عدداً من النظريات الغربية التي حاولت تفسير أسباب هزيمة القوى الغربية أمام تنظيماتٍ عسكرية وحركات تحرّرٍ في بيئة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تستثني هذه التفسيرات الاستراتيجيات العسكرية المستندة على “البربرية”؛ أيّ تلك التي تستند على سياسة الأرض المحروقة، ممّا يزيد من أهمية قراءتها اليوم. إذ تقدّم هذه المقاربات بطش الجيوش الغربية وإرهابها العشوائي على أنّه غير واردٍ، مدعيةً أنّ هذا العنف يخضع لعدسةٍ أخلاقيةٍ تنبع من كون الدولة الليبرالية فاضلة.

تحالف الإسبان مع الفرنسيين لإخماد ثورة الريف في المغرب موظّفين شتى أساليب القمع بما يشمل الأسلحة الكيماوية، وذلك بعد مقتل أكثر من 15 ألف جندي إسباني في “كارثة أنوال” في عام 1921؛ هذه الملحمة التي أسّس بها عبد الكريم الخطابي لما أصبح يُعرف بـ “حرب العصابات”. أما اليوم، يبدو أنّ القوى العسكرية الغربية بحاجةٍ للعودة إلى أيدولوجيات سياسية “شمولية” و”فاشية” و التخفّف من الخطاب الليبرالي بما يحتمل ارتكابها المجازر لحسم صراعاتها العسكرية؛ أي التخفف من الاعتذار للضحايا. ويمكن القول إنّ شعرةً تفصل ما بين صعود “ترامب” والشعبوية اليمينية وبين النزعة الانعزالية عند القوة العسكرية الأكبر، وبالتالي عودة الحروب الشاملة التي لا تحاول ادّعاء إنسانيتها أو طهارتها، تماماً كما حصل ويحصل في غزة.

*****

الهوامش: 

[1] Ivan Arreguin-Toft, (2001). “How the Weak Win Wars: A Theory of Asymmetric Conflict,” Journal of International Security. p. 97

المراجع، بالإنجليزية: 

Barry, Ben. (2011). Libya’s Lessons. Journal of Survival, pp.5-14.
Brun, Itai. (2010). While You’re Busy Making Other Plans – The ‘Other RMA, Journal of Strategic Studies, Vol. 33, No. 4, 535-565.
Carendall, Rusell. (2014). America’s Dirty Wars: Irregular Warfare from 1776 to War on Terror. Cambridge University Press.
Cassidy, Robert M. (2000). Why Great Powers Fight Small Wars Badly. Military Review.
Cassidy, Robert M. (2004). ‘Winning the War of the Flea’, Military Review, URL.
Cordesman, Anthony H. (2015). Transition in Afghanistain: Losing the Forgotten War? Center for Strategic and International Studies. URL.
Desch, Michael C. (2002). ‘Democracy and Victory: Why Regime Type Hardly Matters’, International Security, Vol. 27, No. 2, pp. 5–47.
Hallion, Richard P. (2010). Strike from the Sky: The History of Battlefield Air Attack, 1910-1945. 2nd edition, University of Alabama Press.
Ivan Arreguin-Toft, (2001). “How the Weak Win Wars: ATheory of Asymmetric Conflict,” Journal of International Security.
Jacobson, Gary C. (2010). George W. Bush, the Iraq War, and the Election of Barack Obama. Presidential Studies Quarterly, Vol. 40, No. 2, pp.207-24.
Jones, Clive. (1997). Israeli counter‐insurgency strategy and the war in South Lebanon 1985–97, Small Wars & Insurgencies, 8:3, 82-108.
Kober, Avi. (2013). From Heroic to Post-Heroic Warfare. Armed Forces & Society Vol 41, Issue 1, pp. 96 – 122.
Levy, Yagil. (2012). Israel’s Death Hierarchy: Casualty Aversion in a Militarized Democracy. NYU Press reference. Kindle Edition.
Mack, Andrew. (1975). “Why Big Nations Lose Small Wars: The Politics of Asymmetric Conflict,” World Politics.
Merom, Gil. (2003). How Democracies Lose Small Wars: State, Society, and the Failures of France in Algeria, Israel in Lebanon, and the United States in Vietnam. Cambridge University Press, Kindle Edition.
Record, Jeffery. (2006). ‘The American Way of War: Cultural Barriers to Successful Counterinsurgency’, Policy Analysis, No. 577, URL
Schenloff, Natasha. (2015). “Limits Challenges and Opportunities for Modern Counterinsurgencies”. Submitted to Johns Hopkins University. Online, URL.
Shaohua, Yang. (2009). How can Weak Powers Win? Chinese Journal of International Politics, Vol. 2, No.3. pp. 335-371.
Tratz, Sergio. (2013). Why do Big States Lose Small Wars? Coleç. Meira Mattos, Rio de Janeiro, Vol. 7, No. 28, p. 147-155.
Ivan Arreguin-Toft, (2001). “How the Weak Win Wars: A Theory of Asymmetric Conflict,” Journal of International Security. p. 97