كان الناس يقاتلون بشراسة عن حيزهم ومكانهم الخاص، وما تبقى لهم بعد أن ضاع كل شيء، “هو الأقصى اللي ضايلنا اذا راح ما ضل النا اشي”، وكانت الجماهير تدافع عن كرامتها المُهددة، وقد كانت مقولة “خسران الكرامة” هي أكثر المقولات تداولاً بين الناس>
الجزء الثاني، هنا.
(1)
بعملية أولاد العم محمد جبارين (الجمعة 14 تموز 2017) وصلت الملحمة النضالية “انتفاضة القدس”، التي انطلقت قبل أكثر من 3 سنوات، إلى ذروتها، لتتجسد في فعلٍ شعبيٍّ جماهيريٍّ غاضبٍ وعنيدٍ عمادُهُ آلافُ المرابطين والمعتصمين على أبواب المسجد الآقصى المبارك. إذ لا يمكن فهم الاعتصام والمواجهة العارية على أبواب الأقصى دون الرجوع إلى حالة الاشتباك الشعبية التي تشكّلت وتراكمت في القدس خاصّةً وفلسطين عامّةً، على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، وذلك منذ استشهاد الطفل محمد أبو خضير، وما تبعه من مواجهات في كافة أنحاء القدس، ومروراً بالعديد من العمليات الفدائية ونقاط الاشتباك المستمرة مع قوات الاحتلال ومستوطنيه. وبهذا المنظور، تُعدّ هذه الحالة الشعبية حول الأقصى (معركة الأبواب) استمراراً لنضالات وتضحيات عشرات الشهداء الذين ارتقوا فيما سُمّي “بالعمليات الفردية”، في مسعاهم البطوليّ لعودة الفلسطيني إلى فاعليته في التاريخ، تلك الفاعلية التي أريد لها أن تنتهي عند أوسلو وما تبعها من ترتيبات.
(2)
أطلق الفدائيون الثلاثة النارّ على عناصر شرطة الاحتلال عند باب حطة، متجاوزين كلّ الخطوط الحمراء، ومبادرين إلى تغيير ما يسمى “الوضع القائم” المفروض صهيونياً في المسجد الأقصى المبارك، الوضع القائم الذي يَحتكِرُ الاحتلال القرارَ في تغييره متى شاء وكيف شاء. إنّ مقولة “الوضع القائم”، أي عدم قيام “إسرائيل” بإجراءات أحادية الجانب تُغيّر من وضع المسجد الأقصى عما كان عليه قبل 1967، وهمٌ كبيرٌ، فما تقوم به “إسرائيل” هو عمليةُ تهويدٍ مستمرة بفرض حقائق على الأرض. بينما يبقى الدور الوحيد الذي تقمصه الفلسطيني في تلك العملية هو أن يكون داعياً للحفاظ على “الوضع القائم” الذي لا وجود له.
والمسألة الثانية الخطيرة في مقولة “الوضع القائم” أنها تفصل بين ما تقوم به “إسرائيل” في القدس والبلدة القديمة عن وضع المسجد الأقصى، إذ لا يمكن أن يبقى المسجد الأقصى على حاله في الوقت الذي يتم تهويد محيطه المباشر، فبالتالي فإن الوضع القائم ذلك يتغير بتصاعد عملية التهويد والتهجير في محيط المسجد الأقصى.
وهنا نشير إلى أن المسجد الأقصى ليس متحفاً ولا معبداً، المسجد الأقصى مركز النسيج الحياتي في القدس والبلدة القديمة، وأحد الآثار المباشرة لمشروع البوابات الالكترونية لو مرّت كان فصل المسجد عن محيطه اليومي والمباشر.
كان إطلاق النارّ على الشرطيين العرب في شرطة الاحتلال، حرّاس الوضع القائم، هو إطلاق للنارّ أيضاً على مستقبلٍ نتجه إليه، نحو “حالة التواطؤ مع عدونا” التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى أفقٍ لوجودنا نتجه إليه بكليتنا فعلاً وعملاً، حتى ولو كنا لا نرغب به. في الحقيقة وبعد التخلص من الكثير من التوصيفات الزائدة والأقمطة، لا يوجد فرقٌ جوهريٌّ ما بين شرطيّ/ جنديّ عربيّ يخدم في جيش وشرطة الاحتلال وبين من ينسق أمنياً مع الاحتلال.
(3)
في النهاية، إن كلّ الصراعات مهما كانت أشكالها وأسلحتها، هي صراعات ما بين إرادات. قدّر العدوُّ أن العمليةَ الفدائية فرصةٌ ذهبيّةٌ، ليقصم ظهر الفلسطينيين الذين يحاولون في هبتهم الشعبية المستمرة منذ ثلاث سنوات، التمرد على إرادته والمستقبل الوحيد الذي يريده لنا عبيداً أذلاء أو عملاء، أراد العدو رداً يتناسب وحجم التحدي وخرق الخطوط الحمراء وخرق قواعد اللعبة التي حدد أصولها في القدس. لم يكن العدو يريد أقل من فرض سيادته الفعلية الكاملة على القدس عبر فرضها كاملة على المسجد الأقصى، ويحلّ بذلك التوتر الأساسي في المشروع الصهيوني الذي يجعله مشروعاً قلقاً مهزوزاً، كل موازين القوى لصالحه، ويمتلك فائضاً من القوّة والقدرة والسيطرة، وأخضع الإقليم للتطبيع معه، ولكنه عاجز عن الحسم في القدس قلب مشروعه ومؤشر نجاحه الأساسي.
(4)
كان المخطط الصهيوني أن يَبقى المسجد الأقصى المبارك مغلقاً لأسبوع كامل، بحيث تكمل الأجهزة الأمنية إخضاع الناس وفرض السيادة عليه عبر البوابات الالكترونية كاشفة المعادن والكاميرات وغيرها، ويكمل ما أنجزه (تركيب الكاميرات) جزئياً قبل سنتين بموافقة “الوصي الأردني”، وعطّلته الجماهير المقدسية حينها عندما أبدت اعتراضاً شديداً عليها، وكانت إحدى تجليات ذلك الاعتراض الملصقات التي انتشرت في الأقصى ومحيطه: “كل كاميرا ستركب في المسجد الأقصى ستكسر”. كان تركيب البوابات الالكترونية الـ11 على أربعة من أبواب الأقصى، إعلاناً عن وضع قائم جديد يجري تشييده، والشروع في تنفيذ رؤية “الإرهابي روني ألشايخ” قائد الشرطة الصهيونية لفرض السيادة الصهيونية في القدس.
كانت رؤية “روني ألشايخ”، مسؤول لواء القدس السابق في الشاباك، والذي يعتبر نفسه خبيراً بالقدس وأهلها، تشييد جهازٍ معقدٍ للسيادة من خلال منظومة أجهزة للمراقبة والتعقب تتكون من كاميرات ذكية وبوابات كشف المعادن المرئية، والأهم من ذلك أجهزة كشف المعادن المخفية في الأرضيات (وهذا هو سبب قيام العدو بحفر الأرضيات)، بحيث يمكن تعقب ومراقبة كل داخلي المدينة والمسجد، كل ذلك مربوط بقاعدة بيانات استخبارية. بشكل فعلي، كان يجري تحويل القدس والمسجد الأقصى المبارك إلى معبرٍ واحدٍ كبيرٍ.
(5)
تتكامل خطة “ألشايخ” مع عمل “يورم هليفي” قائد لواء القدس في الشرطة الصهيونية، الذي تقوم رؤيته القمعية في القدس، على ضرورة أخذ “مخاطرات محسوبة في المجال الأمني”، وتعميق اختراق المجتمع المقدسي عبر بعض قياداته المحلية (المخاتير ومدراء المراكز الجماهيرية)، وخلق تواجد شُرطي دائم في قلب الأحياء المقدسية، من خلال بناء مراكز للشرطة تحتوي على مجمع للخدمات البلدية، وقد افتتح المركز الشرطي الأول بالقرب من حاجز شعفاط قبل أشهر. تعيد “مراكز هليفي” إلى الأذهان “قلاع تيجرت” (نسبة إلى مخططها تشارلز تيجرت) التي بناها الاستعمار البريطاني في فلسطين لقمع ثورة 1936، وهي مبانٍ لشرطة الانتداب البريطانية تحتضن أيضاً الدوائر الحكومية، أقيمت في وسط التجمعات السكانية الكثيفة ومفارق الطرقات المركزية، في محاولة للسيطرة على المجتمع. ولا زالت العديد من هذه المباني التاريخية إلى يومنا هذا تشغلها مراكز الشرطة الصهيونية ومقار سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية.
ترى القراءة البحثية الصهيونية للمجتمع المقدسي، والتي ترشد المخطط القمعي الأمني، بأنّ المقدسيين بعد الجدار “يتوجهون نحو الغرب أي غرب المدينة”، وأن الجيل المقدسي الجديد يمر بعملية تحول في هويته نحو الأسرلة، وأن التعليم هو المدخل الأساسي لهذه العملية، أي الاندماج في النظام التعليمي الصهيوني وسوق العمل، ويستدلون بذلك بتوجه أولياء أمور لنحو 3000 آلاف طالب مقدسي إلى المحكمة العليا الإسرائيلية بطلب فتح مدارس للبلدية في القدس لاستيعاب أبنائهم. كما يستدلون على ذلك من خلال المؤشرات الاحصائية التي تشير إلى تراجع مستمر في نسبة “الاحتجاجات على خلفية قومية” في المدينة.
وتحاول الشرطة الصهيونية عبر جهاز الحرب النفسية، التشديد على أن العناصر المثيرة للقلاقل وتشكل خطراً على الاستقرار، تأتي من خارج المدينة المقدسة من الضفة (دير أبو مشعل مثلاً) وفلسطين المحتلة 1948.
(6)
كانت سرعة وحدّة الرفض الشعبي المقدسي للواقع الجديد والذي صار عنوانه “البوابات الالكترونية”، هي العامل الحاسم في إفشال المشروع في بدايته. وهذا الموقف الشعبي هو الذي قطع الطريق على تفاهمات سياسية كان العدوّ يعوّل عليها مع الأردن وامتداداته الرسمية في القدس، والذي جرّب موقفه من موضوع الكاميرات قبل سنتين. ولكن الموقف الشعبي وسرعة التحشيد وكثافته وصولاً إلى حالة احتجاج شعبي واسع واعتصام على أبواب المسجد الاقصى وخاصة باب الأسباط أفشلا المشروع في مهده.
ومن المهم هنا التأكيد بأن ما أطلق عليه اسم “المرجعيات الدينية” لم تكن بشكل فعلي أكثر من ناطق رسمي باسم الجماهير، وللحقيقة فإن بعضها كان مرتبكاً في البداية ولكن الجماهير بنواتها الصلبة المقدسية هددت وتوعدت، وخلقت حالة ردع داخلية، أصبح من الواضح أن كل من يتجاوزها سيخسر مستقبله ووجوده في المدينة المقدسة، “راح يحرق حاله”، كما صاحت الجماهير محذرة المترددين والمرتبكين.
(7)
رأت الجماهير بوعيها النافذ الذي صقلته تجربة الاشتباك والمواجهة، بأن “إسرائيل” تتجه لتحقيق حلمها التاريخي، وأنها- الجماهير المقدسية – تخسر آخر ما تبقى من فلسطين “محرراً” بالنسبة لها – المسجد الأقصى. وأنها كذلك تخسر هويتها الذاتية النضالية التي طوّرتها في مواجهة اضمحلال هوية فلسطينية جامعة فككتها أوسلو وتبعاتها، فأفراد النواة الشعبية المقدسية الصلبة الفاعلة يُعرّفون أنفسهم أساساً بأنهم “أقصاويين”، استمراراً لهوية مقدسية تاريخية تشكّلت بوعي أهل القدس بذاتهم كحماة للمسجد الأقصى. في هذا الاعتصام، كان الناس يقاتلون بشراسة عن حيزهم ومكانهم الخاص، وما تبقى لهم بعد أن ضاع كل شيء، “هو الأقصى اللي ضايل لنا، إذا راح ما ضل النا اشي”، وكانت الجماهير تدافع عن كرامتها المُهددة، وقد كانت مقولة “خسران الكرامة” هي أكثر المقولات تداولاً بين الناس منذ يوم الجمعة 14 تموز.
(8)
إذا كانت عملية الجبارين قد تجاوزت كل الخطوط الحمر عند الصهاينة، فإنّ البوابات وغيرها كانت عند الجماهير خطاً أحمرَ أيضاً، وهكذا دخلنا في صراعٍ مريرٍ للإرادات استمر حتى اللحظات للأخيرة ولمدة 12 يوماً. لم ترَ الجماهير في جلّها بأنها تحاول استيعاب تبعات عملية الجبارين، أو أنها تحاول انقاذ ما يمكن إنقاذه، كانت الجماهير ترى في عملية والجبارين وعملية عمر العبد لاحقاً جزءاً من نضالها. ولهذا صدحت منذ البداية في الجمعة الأولى التي أغلق فيها المسجد القصى 14 تموز: ” جبارين … جبارين… جبارين”، “من الاقصى تحية إلى الأبطال الفحماوية”، ولم تنس الجماهير أن تُحيي صانعي الكارلو: “تحية بالألوفات إلى صناع الكارلوهات”.
ورأت تلك الجماهير فيما فعله “الجباريون” فعلاً جاء في وقته، كما كان يتردد على ألسنة المرابطين: “كان لازم يتكسروا روسهم، لو ما احنا قمنا بالعملية كان همّا سكروا الأقصى هيك هيك تحت أي مبرر”. كما رأى الكثيرون في العملية ثأراً شخصياً من أفراد الشرطة الصهيونية الذين يعرفونهم بأسمائهم: “مبروك، الكلب نزيه (اسم شرطي معروف بتنكيله بالمرابطين) اتصاوب في بطنه”.
كانت النقاشات والجدل حول العمليات الفردية وجدواها لا مكان لها في الميدان، وكانت الجماهير المقدسية تعي أن المواجهة مواجهة شاملة لا مكان فيها للثنائيات (فردي وجماعي أو عنيف ولاعنيف) التي تمزق الوعي المغترب، فمنذ البداية كان الهتاف: “من الصباح للرباح تسلم ايدك حج مصباح”، في إشارة للشهيد مصباح أبو صبيح. ولاحقاً في الأسبوع الثاني للاعتصام، رأت الجماهير المرابطة في عملية عمر العبد من كوبر امتداداً لنضالها الشعبي، وقد ساهمت العملية في رفع معنوياتها (ثلاثة بثلاثة) بعد يومٍ دامٍ من المواجهات (الجمعة 22 تموز) استشهد خلاله ثلاثة شبان في القدس، فهتفت في مساء السبت 23 تموز في باب الأسباط: “من الأقصى تحيّة لابن كوبر الأبية”.
يتبع…