يضيء هذا المقال على السيرة السياسية والعسكرية للشهيد محمد سدر، أحد قادة العمل العسكري في مدينة الخليل إبان انتفاضة الأقصى. سيرةٌ تمتد وتتداخل مع سيرٍ عديدةٍ لمقاومين رافقوا الشهيد في درب النضال العنيد. سيرة وإن غابت، فأثرها عميقٌ لم يغب يوماً، ولن.

من الخليل بدأت الحكاية، حيث ولد محمد أيوب سدر طفلاً لن يبقى عادياً. وسريعاً سيرحل شاباً لا يتجاوز عمره 26 عاماً، لم ينل العدو من عزيمته شيئاً، لم ييأس يوماً، ولم يتراجع. وترجّل أخيراً عن مسيرته العسكرية مشتبكاً في وادي الشعابة، بعد أن أوجع العدو بعملياته العسكرية سواءً تلك التي نفذها بذخيرته، أو تلك الاستشهادية التي خطط وحضر لها، قبل أن يقتل ويصيب فيها عشرات الصهاينة.

لطالما اعتبر العدو الشهيد محمد سدر واحداً من أخطر المقاومين في الخليل. وسعى دوماً للنيل منه كونه أحد القيادات العسكرية في المدينة، ظناً منه أن ذلك بداية طريقه للوصول إلى خلايا المقاومة وإحباط عملياتها وتفكيكها. كما اعتبر العدو اغتياله سدر، الرد على قتل القائد الصهيوني العسكري لمنطقة الخليل اللواء “درور فاينبرغ” في عملية زقاق الموت. ما يشير إلى الوزن العسكري الذي كان يمثله محمد سدر في عيون العدو.

ومن هنا يأتي هذا المقال ليضيء على السيرة السياسية والعسكرية للشهيد محمد سدر، أحد قادة العمل العسكري في مدينة الخليل إبان انتفاضة الأقصى. سيرةٌ تمتد وتتداخل مع سيرٍ عديدةٍ لشهداء وأسرى ومقاومين رافقوا الشهيد في درب النضال العنيد. سيرة وإن غابت، فأثرها عميقٌ لم يغب يوماً، ولن.

بداية الطريق: الحركة الطلابية وسؤال العمل العسكري

التحق محمد سدر عام 1997 بجامعة “بوليتكنيك فلسطين” في الخليل لدراسة الهندسة الميكانيكية، وما أن انتظمت مقاعد الدراسة حتى بدأت فكرة الانخراط في أنشطة الحركة الطلابية تتقلب في رأسه. لم يكن في حينه قد حدد توجهاته الفكرية وخطه السياسي بدقة، لكنه حسم رغبته بالالتحاق بإحدى الأطر الإسلامية؛ “الجماعة الإسلامية” [1] أو “الكتلة الإسلامية”. [2]

علمت “الجماعة الإسلامية” الذراع الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي، بسعي محمد سدر الالتحاق بإحدى الأطر الإسلامية، فسارعت مُحاولةً استقطابه وضمه إلى صفوفها. اقتنع محمد سدر بمبادئ وأفكار “الجماعة الإسلامية”، والتحق بهم وأصبح من أكثر شبابهم نشاطاً وعطاءً.

وفي عام 1998 كان الطلاب على موعدٍ مع انتخابات مجلس الطلبة؛ فبدأ محمد سدر وزملائه في “الجماعة الإسلامية” التحضير للانتخابات وتنظيم أنشطةٍ تساعدهم في تعريف الطلبة بمبادئهم وتوجّهاتهم السياسية والفكرية بهدف استقطابهم للتصويت لصالح كتلتهم.

كانت تلك المرة الأولى التي تشارك فيها “الجماعة الإسلامية” في انتخابات مجلس طلبة جامعة “بوليتكنك فلسطين”. لم يكن رصيدها كبيراً لدى الطلبة؛ إذ حصلت على ثلاثة مقاعد، فيما حصلت “الكتلة الإسلامية” و”الشبيبة الفتحاوية” [3]على ذات العدد من المقاعد؛ أربعة عشر مقعداً.

لم تحصل إحدى الكتل الطلابية المشارِكة في الانتخابات على نسبة 51% من المقاعد، [4] ما يعني عدم قدرة أيٍّ منها على تشكيل مجلس الطلبة إلا بتحالفٍ مع “الجماعة الإسلامية”. بدأت المفاوضات بين الأخيرة وكلتا الكتلتيْن، فيما كانت الأمور تذهب نحو تحالفٍ بين “الجماعة الإسلامية” و”الشببية الفتحاوية” مقابل إفراج السلطة الفلسطينية عن أربعة أسرى سياسيين من سجونها.

أفرجت السلطة الفلسطينية عن الأسرى الأربعة، وقدّم ياسر عرفات عرضاً مالياً للجماعة الإسلامية بقيمة 41 ألف دولار شريطة عدم التحالف مع “الكتلة الإسلامية”. في تلك الأثناء، تواصل الدكتور رمضان شلح والشهيد الشيخ أحمد ياسين، واتفقا على ضرورة تحالف “الجماعة الإسلامية” مع “الكتلة الإسلامية” وجاء القرار إلى “الجماعة الإسلامية” من أمينهم العام بضرورة تنفيذ ذلك.

(الشهيد محمد سدر أثناء تكريمه)

أثمر التحالف تولي محمد سدر مسؤوليّة اللجنة الاجتماعية، التي انعكست عليه بعلاقاتٍ واسعةٍ داخل الجامعة وخارجها، كما خدمته فيما بعد بنشاطه العسكري وحياة المطاردة، إضافةً إلى أهميتها في قدرته على بناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ مع العديد من الشباب الذين عمل على تجنيدهم ونفذوا لاحقاً عملياتٍ عدة.

تولى محمد سدر العديد من المهام في تلك الفترة، فكان عضو اللجنة المالية لـ”الجماعة الإسلامية” إلى جانب توليه عضوية اللجنة الاجتماعية في مجلس الطلبة، ولم يثنه ذلك عن تفوقه الأكاديمي؛ إذ ترأس الشهيد عرافة حفل إحدى مهرجانات تكريم المتفوقين التي عقدتها “الجماعة الإسلامية” عام 1998، وأثناء ذكره أسماء المتفوقين، ذكر اسمه، ونزل عن المنصة يتقلد هديّته، ثم عاد مكملاً أسماء بقية الطلبة المتفوقين.

لم ينحصر دور الحركة الطلابية في جامعة “بوليتكنيك فلسطين” على الأنشطة داخل أسوار الجامعة، وامتد ليشمل المشاركة في فعالياتٍ وطنيةٍ من مظاهراتٍ ومواجهاتٍ وإضراباتٍ متنوعة، وكان محمد سدر، أحد أعضاء مجلس الطلبة في ذلك الحين، يدعو زملاءه عبر وقفاتٍ أمام مجلس الطلبة من أجل المشاركة في تلك النشاطات.

شكّلت المشاركة في المواجهات سؤال الوعي الأول بضرورة العمل العسكري؛ بدأ إثرها التفكير الفعلي بالعمل العسكري عند “الجماعة الإسلامية” في نقاشٍ طويلٍ بين محمد سدر ومحمد أبو طبيخ، واتفقا على ضرورة القيام بأنشطةٍ عسكرية، وتوجَّها إلى قيادة الحركة في الخليل بغية الحصول على الدعم المالي والعسكري، لكنهم لم يتمكنوا من إقناع قيادة الحركة بإشراك الإطار الطلابي في الأنشطة العسكرية.

إصرار المحمّدين على ضرورة الانخراط في العمل العسكري، جعلهم يفكرون بالحصول على الدعم المالي بطرقٍ أخرى، فقررا الذهاب إلى المسجد الأقصى لجمع التبرعات. وبالفعل، أدّيا صلاة الجمعة فيه وبدأت عملية جمع التبرعات لصالح “الجماعة الإسلامية”، وحصلا على مبالغ أكثر من توقعاتهم، ثم توجها إلى مدينة رام الله، حيث جمع محمد سدر تبرعاتٍ أخرى من التجار وأصحاب المصانع والمؤسسات الخيرية.

عاد المحمدان بالتبرعات إلى الخليل، وقررا شراء مسدّس بالمبلغ الذي بحوزتهم، وبدأت عملية البحث عمّن يؤمّنه لهم. لكن، سرعان ما علم بعض أفراد “الجماعة الإسلامية” بقضية جمع التبرعات، ودارت نقاشاتٌ حول “ماذا يجب أن نفعل بهذه الأموال؟”. قبل أن يُتخذ القرار بتحويلها للنشاطات الطلابية التي تنفذها”الجماعة الإسلامية”.

السجن.. مركزاً للبناء ونقطةً للانطلاق

بدأت عيون العدو في تشرين أول 1999 تتفتح على نشاط “الجماعة الإسلامية” في جامعة “بوليتكنك فلسطين”، ليشُنّ حملة اعتقالاتٍ واسعةً طالت أبنائها، آخرهم عضو لجنتها المالية محمد سدر. أصدر العدو بحقهم أحكاماً متفاوتةً لا تتجاوز العامين -باستثناء محمد أبو طبيخ الذي توالت عليه أحكام الاعتقال الإداري- قبل أن ينقلهم إلى نفس القسم في سجن مجدو.

(محمد سدر وبعض أبناء الجماعة الإسلامية في جامعة بوليتكنك فلسطين، سجن مجدو مطلع عام 2000)

لم يتعرض محمد سدر في حينها للتحقيق، إذ أصدر العدو بحقه حكماً بالسجن لسبعة أشهرٍ بتهمة الانتماء إلى “الجماعة الإسلامية” والانخراط في العمل الطلابي والمشاركة في المسيرات، قبل أن يتحرر في نيسان 2000.

اتخذ محمد سدر وزملائه السجن مركزاً لبناء الذات معرفياً ودينياً ونفسياً، ومركزاً للتخطيط للعمل العسكري بعد الخروج من السجن، واتفق محمد سدر ومحمد أبو طبيخ على تجميع ما يحسب لهم كمستحقاتٍ للأسرى من أجل شراء السلاح بعد تحرّرهم. وهو ما نفذه منذ اللحظة الأولى بعد نيله الحرية؛ إذ اشترى محمد سدر قطعة سلاحٍ من ماله الخاص، وتم تكليفه -بشكلٍ سريّ- ببدء تشكيل خليةٍ عسكريةٍ لسرايا القدس، بالتزامن مع تكليفه المسؤولية الميدانية لحركة الجهاد الإسلامي في مدينة الخليل.

استغل محمد سدر دوره كمسؤولٍ ميدانيٍّ لحركة الجهاد الإسلامي؛ وعمل على تجنيد العديد من أبناء وأنصار الحركة في صفوف سرايا القدس، وكانت قناعته بتجنيد أكبر قدرٍ ممكنٍ من الشباب في صفوف الجهاز العسكري وتدريبهم ونقل الخبرات العسكرية إليهم؛ في سبيل الحفاظ على استمرارية الفعل العسكري لأطول فترةٍ ممكنة.

صورة للشهيد محمد سدر بعد تحرّره من السجن مباشرةً

موعدٌ مع الفرج… موعدٌ مع السلاح

بقتل اثنيْن من الصهاينة وجرح اثنيْن آخرين، افتتح محمد سدر عمله العسكري بعملية إطلاق نار على مستوطنة “خارصينا” رفقة مقاتلٍ آخر، تلاها اشتباكٌ مسلحٌ خاضه الشهيدان محمد سدر وعبد الرحيم (القيق) التلاحمة وآخرون، مع دوريةٍ بالقرب من معسكر المجنونة بالقرب من دورا-الخليل، واستمروا في ملاحقة “الجيب” إلى أن تمكنوا من فتح بابه وإلقاء قنبلةٍ يدويةٍ بداخله.

وفي كانون أول 2001، جاء السؤال عبر سماعة الهاتف: “ألو، محمد سدر معي؟”، بينما توقف محمد بمركبته على إشارة المرور في “مربعة سبتة” في الخليل، رد:”تفضل”. ليأتيه السؤال التالي: “سمعت بدك تبيع سيارتك”. وبينما كان المتصل ينهي جملته الأخيرة محاولاً إلهاء سدر، حتى بدأ الأخير يتتبع أزيز طائرة الأباتشي التي لم تتأخر وأطلت سريعاً قادمة من خلف الجبل -منطقة الحاووز- قبل أن تطلق صاروخها.

كان الصاروخ أسرع من أن تصل يد سدر إلى مقبض باب المركبة التي كان فيها زوج عمته وابنه الطفل برهان الهيموني الذي استشهد على الفور، وتبعه بعد عامٍ ونصف والده محمد الهيموني متأثراً بجراحه. كما استشهد الطفل شادي أحمد عرفة وأصيب 10 آخرين كانوا في المنطقة. فيما قذف الصاروخ سدر أمتاراً إلى الخارج، محروقاً، وفاقداً سمعه، ولا يقوى على فتح عينه.

محاولة الاغتيال جاءت بعد ساعتين من مكالمةٍ تحذيريةٍ أجراها أحد المحامين مع سدر أخبره خلالها أنه بات مطلوباً على قضية قتل جنديّين، على إثر اعتقال العدو أسامة اسعيد الذي أخضع لتحقيقٍ عسكريٍّ قاسٍ، قبل أن يصدر بحقه حكمٌ بالسجن المؤبد عن مسؤوليته تنفيذ عملية “خارصينا” مع الشهيد سدر. تزامن ذلك مع الكشف عن مسؤولية سدر في التحضير والتخطيط لعملية حاتم يقين الشويكي الاستشهادية، التي نفذها في التلة الفرنسية شمالي القدس، في الرابع من تشرين ثاني 2001 بفتح النار على حافلةٍ بكل من فيها، وقتل خلالها اثنيْن من الصهاينة وجرح ما يفوق الأربعين، قبل أن يرتقي شهيداً.

بعد العملية الاستشهادية، صعد اسم محمد سدر كواحدٍ من أهم رجالات العمل المسلح في مدينة الخليل. وبينما كان العدو يحاول الوصول إليه، اعتقله الأمن الوقائي بعد محاولة اغتياله مباشرةً ونقله إلى المقاطعة في مدينة الخليل، حيث تلقى العلاج. وما أن بدت عليه علامات التعافي، نقل إلى الزنازين وبدأ التحقيق معه حول امتلاكه مدفع “هاون”؛ إذ نصب محمد سدر المدفع قبالة إحدى المستوطنات في الخليل، محاولاً قصفها إلا أنه فشل لخللٍ تقنيّ فيه.

صمد محمد سدر في التحقيق الذي استمر معه عدّة أيامٍ، ولم ينته إلا بذهاب مجموعةٍ مسلحةٍ من سرايا القدس إلى عائلة المحقق المسؤول عن ملف محمد سدر وتهديده. ليُغلق الملف دون أن يتمكن جهاز الأمن الوقائي من الحصول على أية معلومةٍ حول مدفع “الهاون” الذي كان بحوزته.

إلى غرف الأسرى نُقل محمد سدر، حيث باشر استكمال نشاطه، ومحاولة لقاء نور جابر الذي كان قد رتب له سابقاً ذياب الشويكي، ولكن لم يتم بسبب اعتقال محمد سدر. وما أن ترتبت أمورهم قليلاً داخل السجن، حتى أرسل ذياب الشويكي مجدداً رسالةً إلى نور جابر يبلغه رغبته بلقائه داخل السجن، وتم ذلك كلقاءٍ تمهيديٍّ للقاء محمد سدر فيما بعد.

هدف اللقاء بين محمد سدر ونور جابر إلى ترتيب البنية التنظيمية لسرايا القدس، وتوحيد الجهود للمحافظة على استمرارية العمل العسكري، إضافةً إلى تسهيل حياة المطاردين من خلال توفير المأوى والمأكل لهم، ومساعدتهم على التواري عن أعين العدو وعملائه، شكّل ذلك اللقاء عودة الروح إلى نور جابر الذي فقد رفاق دربه في جولاتهم التي خاضوها ضد العدو الصهيوني، والذي ضاقت به ليالي الوحدة والمطاردة، في زمنٍ اعتقد فيه أنه الوحيد الذي يعاني تلك المعاناة، فخفف محمد سدر عن نور جابر وقدم له بعض التسهيلات، كما نصحه بعدم التواصل مع قيادة الحركة في الخارج؛ إذ أن قنوات الاتصال مراقبةٌ وربما تؤدي إلى اكتشاف مكانه واعتقاله.

لم تتجاوز مدة اعتقال محمد سدر 60 يوماً، إذ غضب أهالي الأسرى السياسيين في سجون السلطة الفلسطينية، وهجموا على مقرات الأمن الوقائي والمخابرات والاستخبارات، وقاموا بتحرير كافة الأسرى الموجودين هناك. وذلك خوفاً من تكرار العدو قصفه السجون، كما حدث في سجن غزة المركزي في حينها.

“فَجِّر اضرِب لا ترحم من فيها”

ما أن خرج محمد سدر من سجون السلطة الفلسطينية، أمّن له نور جابر المأوى بطلبٍ من ذياب الشويكي، حيث آواه في بيتٍ مستأجر، وفي إحدى مغر وادي الجوز لعدة شهور، وعاش سدر وجابر أيام المطاردة سوياً، واتفقا على البدء بالتخطيط والتحضير لتنفيذ عدة عمليات.

قرر الشهيد محمد سدر التحضير لعمليةٍ استشهاديةٍ مزدوجةٍ في إحدى المستوطنات، وتواصل مع شاهر حلاحلة طالباً منه اختيار موقع ورصده في مستوطنة “بيت شيمش”، كما طلب منه اختيار أحد الشباب للمشاركة في تنفيذ العملية. بينما قام محمد سدر بالتواصل مع نبيل النتشة الذي جنّده في وقتٍ سابق، وأبلغه بتكليفه تنفيذ عمليةٍ استشهادية.

كان شاهر حلاحلة قد جند الشهيد علي أبو بسمة (حلاحلة)، الذي لم يتجاوز في حينه الثامنة عشرة من عمره، وبدأ بالتدرب على حمل السلاح وإطلاق النار ورمي القنابل، وعندما تأكد شاهر من جهوزيته وقدرته على الاشتباك بسرعةٍ وخفّةٍ ونباهة، جمعه ومحمد سدر. لم يتمكن محمد سدر من إخفاء قلقه من صغر سنّ علي، وضعف بنيته الجسدية، فسأل عن إمكانيته تنفيذ عمليةٍ من هذا النوع، لكن ما أن تكلّم علي وبدت عليه ملامح الواثق بالذات، والواعي بطريقه التي يسلكها، ثم ألحق كلامه بصرخات “الله أكبر”، وتلاها بصرخات نشيد “فجر اضرب لا ترحم من فيها“، حتى أدرك محمد سدر أنه أمام شاب يمتلك من البنية النفسية والعقيدة القتالية ما يكفيه لخوض العملية.

اتفق محمد سدر وشاهر حلاحلة على إلغاء العملية فيما لو تم اعتقال أيٍّ منهما، إلى حين كشف مجريات التحقيق. ودّع كلٌ منهما الآخر، وبقي علي مع محمد سدر ليبيت عنده.

لم تكن مجريات العملية كما كان مأمولاً لها، فقد انتشر خبرٌ يفيد بخروج علي حلاحلة لتنفيذ عملية، وعلى إثر هذا الخبر، اعتقل العدو شاهر حلاحلة من منزله، وعامله كقنبلةٍ موقوتةٍ بتحقيقٍ ميدانيٍّ قاسٍ للحصول على معلوماتٍ حول مكان علي حلاحلة، ومكان تنفيذ العملية المخطط لها.

لم يلغ محمد سدر العملية كما تم الاتفاق وسارع بتنفيذها في 20 آذار 2002، إذ نقل الاستشهادييْن نبيل النتشة وعلي حلاحلة إلى منطقة أم الروس غرب مستوطنة “بيت شيمش”، حيث خاض الاستشهاديان اشتباكاً مسلحاً أوقع عدّة قتلى صهاينة، قبل أن يرتقيا شهيدين.

يوم دُبّ الرعب في قلوب الأعداء

بناءً على الاتفاق بين محمد سدر ونور جابر على ضرورة الاستمرار بتنفيذ العمليات، أخذ الأخير يخطط لتنفيذ عمليةٍ في ملعب مستوطنة “كريات أربع”. عقد كلٌ من محمد سدر ونور جابر ومحمد عمران اجتماعاً استمر أربع ساعات، اتفقا في نهايته أن تكون العملية داخل زقاق المستوطنة، وذلك بعد اعتقال العدو الأسير جبارة الرازم، وخشية أن ينكشف أمر العملية على إثر التحقيق القاسي الذي تعرض له.

طلب نور جابر من محمد سدر أن يقترح اسم استشهاديٍّ ينفذ العملية، فعمل محمد سدر على وصل نور جابر بالشهيد ذياب المحتسب، وبعد أن تغيرت الخطة، وأصبحت العملية تحتاج إلى أكثر من منفّذٍ، أبلغ محمد سدر كلاً من ولاء سرور وأكرم الهنيني بتكليفهم تنفيذ العملية الاستشهادية، رفقة ذياب المحتسب، وبإمارة نور جابر ومحمد عمران.

بدأ نور جابر تدريب الاستشهاديين الثلاثة على إطلاق النار في منطقة ذات طوبوغرافيا تشبه منطقة تنفيذ العملية، كما طوّر معهم لغة التواصل أثناء الفعل العسكري، التي تحتاج إلى سرعةٍ ونباهةٍ وخفةٍ في استقبال الإشارة وإرسالها.

تسارعت الأحداث باغتيال العدو الصهيوني الشهيد إياد صوالحة في مدينة جنين، ما اضطر الخلية إلى تبكير تنفيذ موعد العملية. فيما خرج الأمين العام رمضان عبد الله شلّح ينعى الشهيد، وأضاف: “المطلوب رد قاسٍ وسريع”، في إشارةٍ منه إلى سرايا القدس بضرورة الرد على عملية اغتيال الشهيد صوالحة. لبّى نور جابر ومحمد سدر ومحمد عمران نداء أمينهم العام، ونُفذت العملية في 15 تشرين ثاني 2002.

في تلك الأثناء، بدأ محمد سدر بالتنسيق بين سرايا القدس في الخليل، وسرايا القدس في دورا التي شكل خلاياها منيف أو عطوان وماجد أحمد أبو دوش، بالتواصل مع قيادة الحركة ومطالبتها بتوفير الدعم المالي والعسكري لتشكيل خلايا عسكرية في دورا، وفصلها عن الخلايا العسكرية في الخليل، وحصل ما أرادوا، شريطة المحافظة على التنسيق بين الخلايا العسكرية في المنطقتين.

عمل منيف أبو عطوان على استئجار بيتٍ في قرية تفوح؛ للحفاظ على التواصل والتنسيق بين الخلايا العسكرية في الخليل ودورا. تردد محمد سدر وعبد الرحيم القيق (التلاحمة) ومنيف أبو عطوان وماجد (أحمد) أبو دوش وغيرهم على ذلك البيت لتدارس الوضع الأمني في جنوب الضفة الغربية ووضع الخطط للاستمرار في تنفيذ العمليات ضد العدو.

وفي إحدى ليالي التخطيط، طلب محمد سدر من منيف أبو عطوان مساعدته في شراء سيارةٍ بهدف استخدامها في تنقلات أعضاء الخلية، وبعد عدة أيامٍ تمكن منيف أبو عطوان من توفير سيارة سوبارو زرقاء اللون، وتغطيتها بسواتر زرقاء. على أنّ تبيت عند منيف أبو عطوان، إذ يعمل ميكانيكي سيارات ووجودها لديه لا يثير الشكوك، وهي ذات السيارة التي استخدمت في نقل منفذي عملية زقاق الموت.

كما عمل محمد سدر على تأمين شقةٍ في منطقة الجلدة في الخليل؛ بهدف أن يبيت فيها الاستشهاديون قبل تنفيذ العملية، وودّع الشباب بالدموع الممزوجة بالفخر، وتصويرهم مقاطع فيديو تنقل وصاياهم إلى أهاليهم وأحبتهم، وجلس ينتظر بدء تنفيذ العملية.

ما أن بدأ الإعلام يتحدث عن عمليةٍ كبيرةٍ مجهولة التفاصيل في الزقاق، اتصل محمد سدر بالأمين العام رمضان عبد الله شلّح، وأخبره أن المنفذين هم أبطالٌ من سرايا القدس، وأنّ العملية ما زالت مستمرّةً، طالباً منه الخروج إلى الإعلام لتبني العملية.

شكلت عملية زقاق الموت حدثاً مفصلياً لدى المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني، إذ دبّت العزيمة في رجال المقاومة، وأدخلت الفرح إلى قلوبهم وزادت ثقتهم بقدرتهم على إيلام العدو وإلحاقه بالكثير من الخسائر. في ذات الوقت، تضاعف القلق الصهيوني حيال تطور وتنامي العمليات العسكرية في الضفة الغربية. خاصّةً أن العملية أسفرت عن قتل أربعة عشر من ضباطه وجنوده من بينهم قائد قوات العدو في منطقة الخليل اللواء “درور فاينبرغ”.

تكثفت عمليات ملاحقة المطاردين محمد سدر ونور جابر ومحمد عمران وغيرهم من رجالات المقاومة، ما أدى إلى تضييق الحركة على المقاومين، إلّا أنّه لم يقعدهم عن تنفيذ العمليات، إذ نفذ محمد سدر العديد من عمليات إطلاق النار داخل الخط الأخضر، وجنّد العديد من الشبان لتنفيذ عمليات أخرى. ووسط عمليات الملاحقة المستمرة، نجى محمد سدر ورفيقه عبد الرحيم القيق (التلاحمة) من محاولة اغتيالٍ نفذتها طائرات العدو حينما كانا في منطقة الحرس شمال مدينة الخليل.

حكايا المطاردة: “رشّاش وفراش بلتقوش”

وفي أحد أيام المطاردة والاختفاء، ذهب أحدهم لإرسال الطعام إلى محمد سدر في المغارة التي يبيت فيها، ليجده منتفخ الوجه لكثرة لسعات البعوض أثناء نومه. لم يهن على ذلك الشاب ظروف محمد سدر، فتحدث إليه مُحاوِلاً إيجاد حلٍّ سياسيٍّ يخلّصه من الظروف التي يعيشها في مُغر الجبال وبين أشجارها، فردّ محمد: “في طفولتي كنت أحلم أبني دار وأعمل عيلة واشتري سيارة وأعيش بمستوى اقتصادي عالي، بس اليوم، لو يعطوني الإعفاء وكل أحلامي كاملة على أطلع من هون، مش رح أطلع من هون”.

(صورة للشهيد محمد سدر أيام المطاردة)

في لقاءٍ آخر، حاول الشاب مجدداً أن يقنع محمد سدر بالبحث عن ظروف اختفاءٍ أفضل من ظروفه التي يعيشها، فردّ محمد: “رشاش وفراش بلتقوش“. في إشارةٍ  إلى أنّ ظروفه الأمنية وطريقه التي اختارها لا تسمح له بالبحث عن معاني الراحة.

لم يكن محمد سدر على تواصلٍ مع عائلته طوال فترة مطاردته، لكنه كان يبعث أخباره إلى أهله من خلال الشاب المسؤول عن إيوائه، الذي بدوره ينقل أخبار محمد إلى امرأةٍ تقوم بدورها بإيصال الرسائل الشفهية إلى عائلة محمد سدر.

وفي إحدى الأيام، أرسل محمد سدر صوراً إلى أهله، لكن المرأة رفضت نقل الصور “لأنها حرام شرعاً”، إذ اتّخذ تديّنها الطابع السلفيّ. حاول الشاب مفاوضتها وإقناعها بخصوصية الظرف ومدى شوق والدته لتأمّل تفاصيل وجه ابنها الذي لم تره منذ أكثر من 18 شهراً. إلا أنها لم تتراجع عن موقفها.

قرر الشاب أن يحمل مسؤولية إيصال الصور على عاتقه، بالرغم من الخطورة الأمنية المترتبة في ظلّ ما يفرضه العدو من مراقبة على العائلة، لكن تقديره لمشاعر والدة محمد سدر دفعه للمجازفة. لبس معطفاً، ووضع قبعةً على رأسه، ولبس نظارةً في محاولةٍ لإخفاء ملامحه، ووصل إلى منزل العائلة وسلمهم الصور وطمأنهم عن أحوال ابنهم.

صورة للشهيد محمد سدر أيام المطاردة، وهي إحدى الصور التي رفضت المرأة إرسالها لذويه

وما أن خرج واستقل تاكسي قريب، حتى سمع أزيز طائرة الأباتشي تقترب. وفكر حينها باحتمالية مراقبة العدو لمنزل عائلة محمد سدر، وقد اعتقد أنه محمد السدر. ورجّح إمكانية قصف التاكسي، وأخبر السائق بضرورة التوجه السريع نحو أقرب منطقةٍ مفتوحةٍ، في محاولةٍ لتخفيف الأضرار المادية والبشرية. وخلع نظارته وقبعته ومعطفه؛ لتتضح ملامحه قبل أن ينزل من التاكسي، وبعد دقائق قليلة غادرت الطائرة دون تنفيذ أي قصف.

الليلة الأخيرة في وادي الشعابة

نادت العديد من الأصوات منذ بداية انتفاضة الأقصى بالبحث عن هدنةٍ بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني، نتيجةً لكثافة العمليات الاستشهادية التي نفذتها المقاومة. وفي إحدى مفاوضات الهدنة، أرسلت قيادة حركة الجهاد الإسلامي إلى كوادرها رسالةً تطلب فيها التصويت على رفض الهدنة أو قبولها، وتعدّدت الآراء من حول محمد سدر، فمنهم من يريد الهدنة حتى يتمكن من تحسين الظروف الداخلية، ومنهم من يريدها حرباً مفتوحة. وأرادها محمد سدر حرباً مفتوحة، بقولٍ يُنقل على لسانه: “احنا ما خرجنا من بيوتنا مشان نروح على الهدنة”.

توصلت القيادة السياسية للمقاومة الفلسطينية إلى اتفاق هدنةٍ مع العدو الصهيوني رعته شخوصٌ من السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن العدو الصهيوني سرعان ما اخترقها باغتيال قيادات المقاومة، إذ اغتال إياد صوالحة، ورائد الكرمي أحد قيادات كتائب شهداء الأقصى في طولكرم. وفيما بعد، اغتال عبد الله القواسمي، أحد قيادات كتائب القسام في الخليل، وكان ورثة وجنود القواسمي يتأهبون للثأر، إلا أن الإرادة السياسية لدى حركة المقاومة الإسلامية “حماس” طالبتهم بالتروي.

وفي 14 آب 2003، وبينما يتخذ محمد سدر من إحدى بيوت وادي الشعابة ملاذاً، وصل إليه العدو وبدأ محاصرته لساعات طويلة بالجنود المدجّجين بالسلاح والصواريخ الخفيفة، والصراخ عبر مكبرات الصوت مطالبينه الاستسلام. لكنه أبى، مُصرّاً على خوض معركته الأخيرة بكلّ قواه وذخيرته المتبقية.

بدأت عملية محاصرة البيت منذ المساء، واستمرت حتى ساعات ظهيرة اليوم التالي. أدخلو عليه كلاباً فقتل إحداها. ثم حرقوا المنزل، وبدأ اشتباكٌ عنيفٌ بين محمد سدر وجنود العدو استمر لساعات، أوقع فيه محمد عدة قتلى في صفوف العدو، قبل أن تبدأ جرافاته هدم المنزل، وإطلاق الصواريخ الخفيفة التي جاءت متأخّرةً بسبب خوف العدو من احتمالية قيام محمد سدر بتفخيخ المنزل ومحيطه بالمتفجرات.

سكت صوت رصاص محمد، مُعلناً صعوده الأبديّ نحو السماء، فيما أخذ جنود العدو جثمانه ووضعوه في مقابر الأرقام حتى أُفرج عنه في 31 أيار 2012.

(جثمان الشهيد محمد سدر والجيش الصهيونيّ يخطفه من موقع الاغتيال)

تُجمع الروايات على إلحاحٍ غير طبيعيٍّ من العدو الصهيوني على محمد سدر لتسليم نفسه دون مقاومةٍ منه أو اغتيالٍ له. يتم تأويل ذلك، ضمن سياقيْن، يقوم الأول على خشية العدو الصهيوني من إشعال المنطقة إذا تم اغتياله، لأهمية دوره الذي لعبه في العمل العسكري، وبسبب الاحتقان الذي تحمله المقاومة نتيجة اغتيال عبد الله القواسمي في ذات الفترة. فيما يرى التأويل الآخر، أنّ العدو الصهيوني كان يريد اعتقال محمد سدر بهدف التحقيق معه وكشف البنية التنظيمية لسرايا القدس، والعمل على تفكيكها.

(تشييع جثمان الشهيد محمد سدر بعد الإفراج عنه من مفابر الأرقام في 31 أيار 2012)

“الواجب فوق الإمكان”

شقّ محمد سدر طريقه العسكريّ على شعار “الواجب فوق الإمكان”، وحثّ خطاه بإجراءاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ، والكثير من الكتمان الذي أفضى إلى غموض دوره في كثيرٍ من العمليات، كما ترك العديد من الأسئلة المبهمة حول العديد من العمليات التي نُفذت، منها عملية “عتنائيل” التي نفذها الاستشهاديان أحمد الفقيه ومحمد شاهين، إذ إنّ معالم الاشتباك واضحة، كما أنّ بعض الأدوار في النقل وتسهيل عملية الدخول إلى المستوطنة معلومة، فيما تبقى أسئلةٌ من قبيل مَن جنّد الشباب؟ ومَن خططّ؟، ومن وفّر لهم السلاح؟، أسئلةً مفتوحةً ذهبت إجاباتها بصعود أرواحٍ عشقت فلسطين نحو سمائها الأبدية. ومقابل ما حققه محمد سدر خلال عمله العسكري، برّر آخرون عجزهم السياسي بخطاب: “لم يكن بالإمكان أفضل مما كان”.

أخفى استشهاد محمد سدر الكثير من التفاصيل الأمنية خلفه، وعطّل العديد من العمليّات التي خطط لها وجنّد الشباب لها، إذ منع استشهاده دخولها حيّز التنفيذ من جهة، وكُشِف أمر بعضهم وخاضوا تحقيقاتٍ قاسية، وعاشوا أعواماً عديدةً في سجون العدو، من جهة أخرى.

استشهاد محمد سدر مثّل الضوء الأخضر للمقاومة الفلسطينية بالخروج من الهدنة وتكثيف عملياتها ضدّ العدو الصهيوني. فكان منها عملية الاستشهادي القسّامي رائد مسك في 19 آب 2003، أحد أصدقاء محمد سدر المقربين، في أحد الباصات في مدينة القدس. وأعلن نص بيان تبني العملية أنها نُفذت انتقاماً وثأراً لدماء الشهيدين عبد الله القواسمي ومحمد أيوب سدر. وقد وأوقعت نحو 20 قتيلاً صهيونياً وأكثر من مئة جريح.

لم يهدأ ثأر المقاومة، ونفذت مجموعات محمد سدر العديد من العمليات رداً على اغتيال العدو لقادة المقاومة، مثل عملية إطلاق النار على مستوطنة “نغوهوت” ثأراً لاغتيال ذياب الشويكي وعبد الرحيم (القيق) التلاحمة، إذ قتل المقاوم محمود حمدان خلالها اثنين من الصهاينة وأصاب آخرين، قبل أن يرتقي شهيداً. إضافةً إلى العديد من عمليات إطلاق النار التي نفذت في الشمال ضمن سلسلة الثأر لمحمد سدر وذياب الشويكي وعبد الرحيم (القيق) التلاحمة.

الهوامش
[1] الإطار الطلابي لـ”حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” في الجامعات، تم تسميتها فيما بعد بـ “الرابطة الإسلامية”.
[2]  الإطار الطلابي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الجامعات.
[3]  الإطار الطلابي لحركة فتح في الجامعات.
[4] كان مؤتمر مجلس الطلبة  في جامعة “بوليتكنك فلسطين” حينها يتمثل بواحدٍ وثلاثين مقعداً ممثلةً بأحد عشر لجنةً من لجان مجلس الطلبة.

المراجع

[1] أبو طبيخ، محمد. درب الصادقين: حكايات جهادية من بطولات المقاومة الفلسطينية، رام الله: دار الشهيد نعمان طحاينة للنشر والتوزيع، 2018.
[2] الحلبي، رامز إسماعيل. مجد صنع في الخليل، غزة: مركز تشرين الثقافي، 2019.
[3] مراجع أولية ومقابلات شفوية أجراها الكاتب.
[4] تمّ الحصول على الصور الموجودة في النص من عائلة الشهيد محمد سدر.