اندور أو عين دور كما غنّاها الشّعراءُ يوماً، قريةٌ جبليّةٌ سهليّةٌ، كانت تُطلُّ من صافح تلّ جرن الرأس على مدّ مرج ابن عامر، الذي يفترشُ سَهلُه منها غرباً حتّى جبال الناصرة، وإلى الغرب جنوباً جبل الدَّحْي الممتد حتى قريتي الفولة والعفولة. إلى الشّرق، تدمعُ جداولُ عيونِها مروراً بكفر مصر ونهر الشَرَّار، ليحملَ ماؤها الماءَ شرقاً إلى حيث غُدران الـمخرخش، وحتّى نهر الأردن.

شمالاً منها، ينتصبُ جبلُ الطّور تعلوه كنيسة الأرملة، وتـزنّـرهُ قرى: دبورية وأم الغنم وعشائر الصبيح العربيّة. من الجهة القبليّة، تحد اندور تلال مالوف، وواد خلّة معروف الذي ينداح حتى سولم وقرية قومية المهجرة جنوباً.

تمتدُّ حدود اندور في تسعين فداناً من الأرض، رَسَمَتْها سككُ عيدان ثيرانها التي ألزمها هزُّ كرباج الحرّاثين. نصفُ فدادينها كان صيفيّاً في السّهل، ونصفُها الآخر شتويّاً في الجبل، فكانت اندور بنتَ السّهل والجبل معاً.

عاش الدوارنة –أهالي عين دور- في حارتين، الغربيّة والشرقيّة، توّزعت عليهما حمائلُ القرية الأربعة، المناصرة والقنانبة –الدلاقمة- غرباً، بينما الحيّاك والصوالحة شرقاً، إضافة إلى بيتٍ وبستانٍ لرافع الفاهوم، الذي قيل إنّه ناصَفَ الدورانة في الأرضِ والمحصول. بيتُ رافع نَسَفَهُ الإنجليز، بينما رافع نفسه صَفّاه الثوّار، فانقسمتْ الثورة على نفسها بمقتله سنة 1937. [1]

لعين دور عينان، عين الدلّافة وعين الصفصافة. تنبعُ الأولى من غربيّ القرية، والدلّافة لأنَّ ماءَها كان يدلِفُ من صخرٍ على شكل ثديي المرأة، في داخل مغارة يدخلها الخيّالُ راكباً لوسع بابها. يتذكّر الدوارنة كيف مَنَحَها تكوينُها الصخريّ ترميزاً أكسب ماءَها قداسةً ذاع صيتُها في كلِّ منطقة المرج، فما من امرأة تأخّر حملُها إلا تعرّت داخل الدلّافة كتعويذةٍ لفكِ عقرها. كما كانت العينُ مقصدَ الزوّار ومشربَ الثوّار قبل نصب كمائنهم، ومروىً للهائمين ومغسلاً للتائبين منهم. أمّا الصفصافة، النابعة من شرقيّ القرية، فقد اعتمدها الدوارنة لسقي الطُرْش والدوابّ لقوّة تدفقها. ويذكر الحاج أحمد الحايك يوم أنْ زارَ الشّهيدُ عبد القادر الحسيني قرية اندور سنة 1937، كيف أبى الحسيني أن تشرب فرسُه من دلو ماء قدّمه لها أحد النواطير، وأصرّ على إسقائها من عين الصفصافة. [2]

كانت اندور كُـفْـريّة [3] المعالم والأثر، ففي تلال مالوف بركٌ حُفرت من زمن الرومان، وأجران معاصر عنب صخريّة، أُطلِق على نبيذها نبيذ “الأندرينا”، ومن هنا جاء اسم القرية اندور، يظنُّ أحمد الحايك. [4] كما يتذكّر الدوارنة مغارةَ العجوز التي ألهمتْ قصصُ دفائن الذهب فيها مغاربةَ المندل وفك الرَّصَد. [5] في اندور، سردابٌ صخريٌّ يتسعُ لاختباء لواءٍ كاملٍ من الجيش، يُسمّيه أهلُ القرية سرداب أبو برجس، ويقال إنّ أحمد النيني، الجدّ الأول لعائلة الفاهوم، كان يُعِلِّمُ فيه القراءةَ والكتابةَ قبل أن ينتقلَ إلى الناصرة.

الثورة
لم يجرِ أن رَمَت قريةٌ بكامل لحمها على خطّ النّار مثلما فعلتْ ورمَتْ قريةُ اندور. فقد دلف الدوارنة بدمائهم مبكراً منذ سنة 1921، كما انتبهوا لأحداث البراق سنة 1929، ومنهم من تحمّس لها وهاجم ثكنةً عسكريّةً للإنجليز في طبريا، غضباً على إعدام حجازي والزير وجمجوم.

في سنة 1933 استقبلت قرية اندور المجاهدَ المحرّض في حينه الشيخ عزّ الدين القسّام، برفقة عبد الحميد الحايك ابن اندور المُقيم في بلد الشيخ وقتئذ. التقى القسّام برافع الفاهوم مموّل السّلاح وداعمه في القرية، وبأبي إبراهيم الصغير الذي سيصبح قائدَ فصيل القرية، وأحد أبرز قيادات الجليل بعد استشهاد القسّام واندلاع الثورة. [6]  بعد هذه الزيارة، كانت اندور قد باتت معبّأةً بلغة التمرد وواجب الاشتباك.

وتزامن قدومُ سعد الدين السويداني من بني خالد في حوشان السوريّة إلى اندور مع انطلاق شرارة ثورة 1936، ليأخذَ بيد القرية إلى وقعة الشرّار، أشهرِ معارك الجليل في وقتها. دخل السويداني القرية متخفياً ومتذرعاً بطلب الرزق، وأصرّ على العمل راعياً للغنم، وبعد أن تمَّ له، باشر ينشّ الغنم إلى حيث يمرُّ خطّ أنبوب “شركة نفط العراق البريطانيّة –IPC “، القادم من كركوك العراق عبر الأردن، والذي كان يمرُّ بقرب بيادر اندور وصولاً إلى حيفا. راقب سعد السويداني حركةَ الدوريات الإنجليزيّة على خطّ الأنبوب، وأعدّ خطّةً لتفجيره تشمل كميناً لدوريات العسكر. [7] 

في أواخر آب من سنة 1936 استيقظ أهالي قرى المرج على رائحة الدخان المنبعث من أنبوب النفط، كان الدوارنة قد فجّروا الماسورة، فالتحقت فصائلُ قضاء الناصرة بفصيل اندور، وعند الشَرّار كمن الثوار للدورية الإنجليزيّة القادمة لاستطلاع الأمر. اختلط أزيزُ الرصاص بصرخات الثوّار وصراخ عسكر الإنجليز إلى أن تعرّقت راحاتُ الفدائيين القابضة على بنادقها بعد اشتباكٍ دام ليلةً بأكملها.

استشهد في المعركة سعيد الحسين ابن قرية اندور، ودُفِنَ بعيداً عنها. طَوّقَ الإنجليز في اليوم التالي القرية بحثاً عن الفدائيين، ونُسف بيت رافع الفاهوم بتهمة دعم التمرد وتمويله. لوقعة الشرّار وقعٌ في ذاكرة مرج ابن عامر كلّه، فغنّى لها الشعراء:

بين القصر والشرّار

صار الي عمرو ما صار

دوريـة ودّت ميـة

رجعوا منها ست نفـار … [8]

بغلة الأُمّة
لا صاحب لها ولا مالك يعرِفُه النّاس، أو لِنَقُل أنَّ الدوارنة تناسوا من يكون صاحبُها، بعد أن باتت تلك البغلة محسوبةً على الثورة والثوّار. من المعروف أنّ الثورة استعانت بالخيل لتُعيل الثوّار على الحركة والمباغتة والتنقل، غير أن تلك البغلة توّلت مهمةَ نقل ذخيرة الثورة، فسُميت بـ”بغلة الأُمّة”، فعلى ظهرها كانت تحمل ما لا طاقةَ للخيل والجمال على حمله، الرصاص والذخيرة والألغام وكلّ ما يتصل بحاجة الفدائيين.

بيضاءُ تميل شعرةُ بدنها للزُرقةِ، ومنهم من قال عنها سوداء لونها بمثل سواد جانـح الشحرور. اختلف الناسُ في وصفها لأنّهم سمعوا بها أكثر مما تعرّفوا إليها في وقتها، فعلى ذمة الراوي، كانت تحمل أحمالَ الثوّارِ وتسيرُ بها ليلاً فقط، ووحدها دون مرافقٍ أو دليلٍ يتبعُها. وهذا ما كان يُجنِّب أيّاً من الثوّار الوقوع بقبضة الإنجليز إذا ما تم الانتباه للبغلة وحملها، لتصلَ حيث عليها الوصول إلى مخابىء الثوار ومعاقلهم في مغاور الجبال وجيوبها.

إلى جيوب جبل الطور، حيث كان يختبئ ثوار اندور، كانت تسير مُحملةً لمجرد أن يطلقها أحدُهم في الطريق المؤدّي للجبل. يقال إنّها كانت تعرف مواقعَ الثوّار والطرق المؤدية إليها، إلى حدِّ كانت تصل فيه إلى حيث فصائل الأصبح في الجاعونة ومُغر الخيط.

لم تعرُجْ بغلةُ الأمّة يوماً عن اللحاق بالثوّار، ومدّهم بما تيسّر من حمولة في خِراجها. حين ماتت البغلة، ذاع خبرُها في كلِّ قرى مرج ابن عامر، دون أن يعرف النّاسُ أين وكيف نفقتْ، فحدَّ عليها الدوارنة كما لم يحدّوا على أي فرسٍ أصيلة نفقت في ديارهم. ربما في حكاية بغلة الأُمّة بعضٌ من تخييل الناس الذين أشعلت مخيالهم غرابةُ القصة وطرافتها، ومع ذلك فقصة بغلة كانت تنقل ذخيرةَ الثورة حقيقة ثابتة يُجمِع عليها أهالي اندور، وكلّ أهل قضاء الناصرة في ذلك الزمن. [9] 

تطول قائمة شهداء قرية اندور خلال سنين الثورة وما بعدها، فمن معركة بدرية عند كوكب أبو الهوى إلى الشَرَّار، ثمّ كمين جسر المجامع، وحتى معارك سعسع وصفد اشترك فيها الدوارنة. كانت اندور آخر قرية فكّت حدادَها على الشهداء، ولما عادت أعراسُها، ظلّ مهرُ العروس فيها بندقيةً يُقدِّمُها العريس لوالد عروسه، وذلك طوال سنين ما بعد الثورة.

في السابع عشر من أيار 1948 داهمت عصابات الـ”هاغاناه” بالنّار والدخان قريةَ اندور واقتلعتها عن بِكرة أبيها. سقطت اندور وهام الدوارنة على وجوههم بعد أن قطع الدهر عليهم أيّارهم.

ستظلُّ اندور على موعدٍ مع كلِّ أيّار سبق أيّارها الأخير.. مع أيّار ابن عامر حين يشقرُّ السّهلُ ويصفرُّ القمح لتبدو حقولُه مثل أجنحةِ الدبّور تُـنير مرج اندور. أيّار الصباح المشطوف برِهامِ ماء النّدى، ولفحة شمس المرج التي كانت تحرق ذَنَب العصفور… أيّار الرعيان، وهدّة القطعان التي كان يصبغ سمارُ ماعزها وبياض غنمها ترابَ ابن عامر كلّما وَردت بتعدادها مستنزفةً آبار ماء السّهل. أيّار الفلاحين، وسواد سواعدهم، وجباههم تلمع كالمسك عرقاً، كلّما هبّ نسيمُ غروب المرج مُتسلّلاً تحت أكمام الحصادين.

سلامٌ على اندور وأهلها وشهدائها، وعلى الراحلين إلى أن يعودوا سالمين… سلام.

*****

الهوامش

[1] قُتِل رافع الفاهوم بتاريخ 30/12/1937، وأثار مقتلُه حفيظة الكثيرين، لأنه كان يدعم الثورة بالمال والسلاح. هناك من يتهم مجموعةً من الكف الأسود بقتله، بينما يتهم آخرون عصاباتِ الـ”هاغاناه” باغتياله عن طريق عربيٍّ مأجور. اُنظر: قنانبة، مصطفى الأسعد، رافع الفاهوم، فلسطين في الذاكرة، 22/12/2010.
[2] مقابلة مع الحاج أحمد يوسف الحايك من قرية اندور، ضمن برنامج توثيق الذاكرة الفلسطينية، موجودة على “يوتيوب“، أجراها سعيد عجاوي، في تاريخ 2/6/2007.
[3]  كفرية: أي أثريّة فيها مواقع سكنها الرومانُ قديماً.
[4] وهناك رأيٌ آخر عن أصل تسمية القرية يقول بأن عين دور كلمة كنعانيّة الأصل وتعني الماء المُخبأ، بينما يقول الحاج أحمد الحايك إنّ التسمية اندور ترتبط بخمرة “الأندرينا” الرومانية. اُنظر المقابلة المُشار إليها سابقاً، الجزء الثاني.
[5]  “تقول الحكاية الشعبيّة حول الذهب المدفون في مغارة العجوز، بأنه مرصود، لا ينفك رصده إلا على وجه امرأة عجوز نصرانيّة، لذلك سُميت بمغارة العجوز”. ما زالت هذه الحكاية قائمة حتى اليوم في منطقة مرج ابن عامر وقضاء الناصرة. في مقابلة مع حفّار الذهب الحاج محمد أبوليل أبو العبد من قرية عين ماهل قضاء الناصرة، أجرى الكاتب المقابلة في 25/12/2019.
[6] اُنظر، قنانبة، مصطفى الأسعد، رافع الفاهوم، فلسطين في الذاكرة، 22/12/2010.
[7] أشار الحاج أحمد الحايك في مقابلته إلى دور الشيخ سعد السويداني بالتفصيل، كما ورد اسمه ودوره عند مصطفى الأسعد، رافع الفاهوم، فلسطين في الذاكرة.
[8] وردت أغنية الشرّار كاملة، في مقابلة مع الحاج محمد أحمد أبو راتب من قرية اندور، ضمن مشروع التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موجودة على “يوتيوب“، أجراها عبد المجيد ياسين دنديس، في تاريخ 23/4/2004.
[9] ورد ذكر قصة “بغلة الأُمّة” في مقابلة مع السيد إبراهيم أبو زينة من قرية اندور، ضمن مشروع التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موجودة على “يوتيوب“، أجراها عبد المجيد ياسين دنديس، دون تاريخ. كما ورد ذكرها في مقابلة الحاج أحمد الحايك المُشار إليها سابقاً. وعن التفاصيل المتعلّقة بدور البغلة أيضاً اعتمدنا على ما رواه المرحوم محمود يوسف ذياب حبيب الله ابن قرية عين ماهل في أكثر من مناسبة، وهو بالمناسبة أخ الشهيد فهد يوسف ذياب حبيب الله الذي استشهد خلال الثورة في معركة كبشانة سنة 1938. (للمزيد عن هذه المعركة، اقرأ/ي كبشانة الفداء