كانت عصا الشيخ زكريا “تُطقطق” في طرقات القرية، وهو في طريقه إلى المسجد ليرفع آذان المغرب، عندما جاءت زينب إلى أمّي تشكو إليها هيجان وجع الحرمان من الولد. كلّ ما كانت ترجوه زينب من الله أن يرزقها ولداً “تطلع فيه من هذه الدنيا”…

 

(1)

كانت عصا الشيخ زكريا “تُطقطق” في طرقات القرية، وهو في طريقه إلى المسجد ليرفع آذان المغرب، عندما جاءت زينب إلى أمّي تشكو إليها هيجان وجع الحرمان من الولد. كلّ ما كانت ترجوه زينب من الله أن يرزقها ولداً “تطلع فيه من هذه الدنيا”. طال الرجاء وجرتْ دموعٌ كثيرةٌ على خدَيْها، ولم يأتِ الضنا.

كانت زينب كلّما هجمت عليها الأحزان وضاقت بها الدنيا، تأتي إلى أمّي تبثّ شكواها وتروّح عن نفسها بالبكاء بين يديها، وأنا أرقُبُها من بعيدٍ وقلبي يتقطّع لبكائها. وهي التي كانت كلّما تعبُر عتبة دارنا، تعبُر معها البهجة والوَنَس، فتمدّ يدها في عبّها وتخرج لي ملبس القضامة الذي أحب، وأغفو على حضنها، وهي تقرأ لي بصوتها الدافئ الحنون من كتاب “ألف ليلة وليلة”.  

مسحتْ أمّي دموع زينب بخِرقتها ومسدّت شعرها، وهي تقرأ القرآن على رأسها، إلى أن هدأ سرّها وانقطع دمعها، وطلبتْ منها أن تأتينا صباحاً لنزور الحرم الشريف!      

هبط الصباح نديّاً على قريتنا. فتحتْ أمي باب الدار، مردّدةً دعاءها الأثير “يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم”، وجلستْ تحت الدالية تشرب قهوتها الصباحيّة على أنغام مقدّمة البرنامج الإذاعي اليومي “مع المزارع” للحاج مازن القبّج، الذي كانت تحرص على الاستماع إليه يوميّاً:

هيه يا فلّاح … هيه يا فلّاح
قديش بحب الفلّاح
بيده المعول ما بيرتاح
والغبرة على طاقيتوه
والخُضرا عطا إيدو
عطا إيدو عطا ايدو

دقّتْ بابَنا خالتي زينب، كما كنتُ أناديها، وجلستْ تشارك أمي قهوتها، ومن ثمّ سرنا نحو التوتة الكبيرة ننتظر في ظلّها مرور باص بيت إكسا، الذي كان يعبُر قريتنا في طريقه إلى القدس.

صعد بنا الباص نحو القدس. ولمّا وصلنا المشارف، لمعتْ قبة الصخرة تحت شمس الضحى من بعيدٍ، فيا للطلعة البهيّة والبُرهة الأبديّة! 

(قبّة حمام العين ، خالد عودة الله، رمضان 2019)
(قبّة حمام العين ، خالد عودة الله، رمضان 2019)

دخلنا من باب العامود في طريقنا إلى حمام العين؛ أولى محطاتنا في رحلة طلب العوض بالولد لخالتي زينب. كانت خيوط أشعة الشمس تعبُر سقف الحمام المرصّع بفتحاتٍ زجاجيّةٍ ملوّنةٍ، وتلوّن البخار المتصاعد من أجران المياه، حين بدأت أمّي بسكب الماء على خالتي زينب، وهي تُرتّل أدعيتها على إيقاع الماء. كلّما استعدتُ تلك اللحظة السحريّة الطافحة بالحنيّة، حضرتْ معها مقولة ابن عربي ” والحَمّام من الحميم، والحميم: الصاحب الشفيق”. [1] 

وممّا يحسن ذكره، هنا، أنّ إحدى العادات التي كانت مُتّبعةً في قرى قضاء القدس ذهابُ الفتيات قبل زفافهنّ بعدّة أيامٍ إلى حمامات القدس القديمة، للاغتسال بماء القدس المبارك والتمدّد على بيت النار من أجل طرد البرودة من أجسامهنّ لتحضيرها للحمل.

( حمّام العين خالياً إلّا من وجع الذكريات، خالد عودة الله،  رمضان 2019)
( حمّام العين خالياً إلّا من وجع الذكريات، خالد عودة الله، رمضان 2019)

بعد الحمام، بدّلت أمّي وخالتي زينب ثوبيهما “بروزتين” من القماش الأبيض، وفاحت رائحة “كريم الفنجال”، مُعلنةً اكتمال طقس التطهّر والتعطّر للولوج إلى عالم القداسة والنور. مشينا في السوق العِتِم (سوق القطانين) نحو الحرم الشريف، حتى إذا صعدنا درجات باب القطانين، اندلق نور القبة الذهبيّة ما بين زُرقتين. والوصول إلى الحرم الشريف من السوق العِتِم تجربةٌ مفعمةٌ بالروحانيّة، لا يمنحها أيُّ طريقٍ آخر إليه، فما أن تعبُر سور القدس حتى يبدأ الضوء بالخفوت. فإذا وصلتَ السوق العتم، بلغتْ العتمة أقصى درجاتها. فما أن تصعد باب القطانين أقربَ الأبواب إلى قبّة الصخرة، وبعد أن تكون العين قد اعتادت على الظلمة، حتى تهلّ الأنوار القدسيّة دفعةً واحدةً، فتلهج الألسن بما شاء الله، وتسير مجذوباً نحو النور والفيروز. وما أن تعبر باب الصخرة الغربي، حتى تلِجَ في عتمةٍ ثانيةٍ، فإذا نزلتَ إلى المغارة فهي العتمة الثالثة؛ كأنما الحنّان منّ عليك بالعودة إلى رحم الأمّ؛ أُمنية كلّ شقيٍّ بدنياه “يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ”.

 بعد الصلاة في مغارة الصخرة ورفع الأكُفّ إلى الله تحت كوّتها، صعدنا لنتبرّك بأثر قدم الرسول (ص) ومسح البدن بما عَلِق من المسك الأبيض على اليدين. وبعد الطيب من أثر الحبيب، همستْ أمّي في أذن خالتي زينب، فجثتْ على ركبتيها وأخذت تحبو على يديها مِن بين العواميد الرخاميّة التي تحمل “قبّة الرسول” . 

(احتفظتْ ذاكرتي بالمشهد الغريب لسنواتٍ طويلةٍ دون أن أعرف سرّه وحقيقة أمره، إلى أن سألتُ أمي أثناء زيارتنا لقبّة الصخرة عن هذا الطقس الغريب، فأخبرتْني بأنّ المرأة إذا تأخّر حملها، تأتي إلى الحرم وتحبو من تحت خَبطة النبي عليه السلام، وبإذن الله تحبل وتنفكّ عوقتها!)

(فرن أبو علي، خالد عودة الله، رمضان 2019)
(فرن أبو علي، خالد عودة الله، رمضان 2019)

بعد أن اكتملتْ مشاعر الزيارة وطلب الحاجة، وتدلّى حبل الرجاء من السماء، وانشرحتْ الصدور بالأمل، ولأنّ البهجة لا تكتمل في عُرف أمي إلّا بلذّة الطعام، فقد تركتْنا أنا وخالتي زينب على صحن قبة الصخرة، وأخذت اللحم المفروم الذي حملته معها من لحّام قريتنا أبي كمال، إلى فرن محمد علي (أبي علي) في عقبة الشيخ ريحان، لتخبز لنا أقراص اللحم التي اشتُهرت بها في قريتنا حتى قالوا “قرص فاطمة القدورة رطل”. في انتظار عودة أمّي، رحتُ “أتسحسل” على جانبي درج البائكة الغربية، إلى أن طلّت أمّي وسلّتها تتمايل على رأسها، فحلّت صرّتها، وانكشف المكنون، وبانت الأقراص المقمّرة، فأكلنا لقمةً هنيّةً في الحضرة الزكيّة.

(" سحسيلة" البائكة الغربية، وقد أوقفت  الأوقاف جريان  متعة أطفالنا على جوانبها، خالد عودة الله، 2018)
(" سحسيلة" البائكة الغربية، وقد أوقفت الأوقاف جريان متعة أطفالنا على جوانبها، خالد عودة الله، 2018)

(2)

يحدّثنا نعوم بك شقير، في كتابه “تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيّتها”، عن أمٍّ بدويّةٍ هاج الشوق في صدرها لابنها، فسافرتْ من سيناء للقائه في الحرم القدسي: 

“وكنتُ أكلّم الشيخ سليمان معيوف من الرميلات (من قبائل سيناء)، قلتُ: وأين تذهب الروح بعد الموت؟
قال: العرب تعتقد أنّ الأرواح تجتمع في بئر القدس إلى يوم الحساب، فيذهب الصالحون إلى الجنّة والأشرار إلى النار. وقيل لبدويّةٍ (من سيناء) فُجعتْ بابنها أنّ روحه في بئر القدس، فذهبتْ إلى البئر ووقفتْ عند فمها ونادت ابنها باسمه، فأجابها الصدى، فلمّا سمعتْ الصوت ظنّت أنّ ابنها يجيبها، فرمتْ نفسها في البئر وماتت، ومن ذلك الوقت وضعوا شبكةً من الحديد على فم البئر، وهذه البئر هي بئر الورقة”. [2]

(بئر الورقة، خالد عودة الله، رمضان 2019)
(بئر الورقة، خالد عودة الله، رمضان 2019)

تقع بئر الورقة أو “جبّ سليمان”  تحت الجزء الشرقي من المصلّى القبليّ، ولها فمّان؛ الأول كان يقع في الرواق الشرقي الثاني للمصلّى القبليّ (المسجد الأقصى)، على يسار الداخل من الباب الشمالي مقابل المحراب وقد سُدّ هذا الفم، على الأغلب، خلال ترميمات المسجد الأقصى في الثلاثينيات، والفم الثاني لا يزال موجوداً في الرواق المكشوف شرقي المسجد المسقوف. وأمّا تسميتها ببئر الورقة فتعود لقصة الصحابي “شريك بن حباشة” التي حدثتْ في عهد سيدنا عمر بن الخطاب. تقول الحكاية إنّ “شُريكاً” ذهب لينشل الماء من البئر، فسقط دلوه فيه، فنزل إلى البئر ليتسعيد دلوه، فانفتح في البئر بابٌ دخل فيه “شريكٌ” فوصل الجنّة.

ولمّا عاد من رحلته في بطن البئر، حاملاً معه ورقةً من شجر الجنّة، بُعِثَ إلى الخليفة عمر بخبرٍ حول الواقعة، فكان جوابه: إذا يبستْ الورقة وتغيّرتْ، فليست من الجنّة. وتذكر الحكاية بأنّ الورقة لم تتغيّر، وأنّ سيدنا عمر رأى في حادثة “شريكٍ” تصديقاً لنبوءةٍ وردتْ في حديثٍ نبويٍّ شريفٍ: “ليدخلنّ الجنّة رجلٌ من أمّتي يمشي على رجليه وهو حيٌّ”. وكان من العادات المتبعة إلى وقتٍ غير بعيدٍ أن يُفتح بئر الورقة في رمضان ليشرب الناس من مائه الحلو كما يُوصف.

(فمّ بئر الورقة في داخل المصلى القبلي قبل  هدمه وسده خلال ترميمات الثلاثينات)
(فمّ بئر الورقة في داخل المصلى القبلي قبل هدمه وسده خلال ترميمات الثلاثينات)

ورغم أنّ القدس فقيرةٌ بمصادر المياه، يُنقل ويُجر الماء إليها من خارجها بعسرٍ ومشقّةٍ، إلا أنّها من أغنى مدن الأرض بأساطير الماء وحكايته العجيبة. تتواشج في هذا التراث العجائبي الجميل معتقداتٌ شعبيّةٌ مُوغلةٌ في القِدم، أَنْسنتْ الآبار والعيون وأسكَنتْ الأرواح فيها، مع مرويّاتٍ وأحاديث تزخر بها أدبيات فضائل بيت المقدس والمسجد الأقصى، تقول إنّ منبع كلّ أنهار العالم من تحت صخرتها المشرّفة، وإنّ ماء عين سلوان وعين الشفا في السوق العتم يختلطان بماء زمزم في العاشر من محرّم، وكثيرٌ غير ذلك:

دخلنا في القدس حمام لطفٍ وسرور وبهجة وصفاءِ
ماؤه مثل ماء زمزم طعما وهو من تحت صخرة الله جائي
حاصلٌ منه للمريض شفاء فلهذا ملقَّبٌ بالشفاء

(3)

 بعد صلاة الجمعة في رمضان، حيث يعود للحرم بعضٌ من وجهه القروي الذي حجبه الجدار عنه، جلستُ في قبّة الصخرة أُمتّع النظر بحوار العروق المطرّزة على أثواب القرويّات مع زخارف قبّة الصخرة، حتى تراءتْ لي الزخارف النباتيّة تفيض من مزاهرها على القُبّة، وتمتدّ لتُورِقَ على أثواب الأمّهات والجدّات، فلا تعرف بداية العِرق من منتهاه. في فورة الجمال والحنين هذه، رحتُ أقتفي آثار رحلتي بصحبة أمّي وخالتي زينب، وأنا أتشوّق لمعرفة إذا ما كان طقس الحبو تحت قبّة الرسول لا يزال مُمارَساً إلى يومنا هذا. لكنّ المفاجأة كانت بأن دائرة الأوقاف قد سدّت الفتحة ما بين أعمدة أثر قدم النبي (قبّة الرسول) عليه السلام، لا بلّ صار أثر قدم الرسول من الخرافات والخزعبلات التي يُشدَّد على نفيها في كتب معالم الأقصى المعاصرة، وبحسب ما يقوله سَدَنة قبة الصخّرة عند السؤال عنها.

فتحتْ هذه التجربة عيني على الاتجاه المتزايد في أدبيّات معالم المسجد الأقصى لتعقيم المسجد الأقصى من الأحاديث والروايات الواردة في أدبيات فضائل بيت المقدس، بحجّة كونها أحاديثَ موضوعةً وإسرائيلياتٍ. يمكن لزائر المتحف الإسلامي في الحرم أن يرى لوحةً جميلةً أُزيلتْ من قبّة الصخرة، خُطّ عليها حديثٌ منسوبٌ للنبي (ص): “صخرة بيت المقدس من صخور الجنّة”. هذا بجانب محاربة المعتقدات والممارسات الشعبيّة المتعلّقة بالحرم القدسيّ الشريف، بوصفها بدعاً وأفعالاً للجُهّال.

( المتحف الإسلامي ، خالد عودة الله، رمضان 2019)
(المتحف الإسلامي، خالد عودة الله، رمضان 2019)

( خابية أثر قدم الرسول وقد سُدّت الفتحة ما بين الأعمدة التي تحملها، خالد عودة الله، رمضان 2019)
( خابية أثر قدم الرسول وقد سُدّت الفتحة ما بين الأعمدة التي تحملها، خالد عودة الله، رمضان 2019)

يمكن تفهّم الحرص على تثبيت الهويّة الإسلاميّة للمسجد الأقصى وتنقيتها في خضمّ اشتداد الصراع مع الصهاينة على المسجد الأقصى ومواجهة أباطيله حول المكان، حيث أصبحت الروايات والمسمّيات إحدى أهمّ الجبهات الرئيسة لهذا الصراع؛ من مثل التشديد على عدم جواز إطلاق مسمّى الحرم على المسجد الأقصى المبارك، وعلى تسمية المصلى القبليّ عِوضاً عن المسجد الأقصى.

للمفارقة، لا ترى كتب المعالم هذه إشكالاً في استخدام مسمّى الأقصى القديم للتسوية تحت المصلى القبليّ، مع أنّ هذه المسميات تاريخيّةٌ مثبّتةٌ في كثيرٍ من كتب فضائل المسجد الأقصى وكتب الزيارة. وبالتالي، لا يمكن إرجاعها إلى جهل الجيل الحاضر بحقائق الأقصى. وكذلك الأمر فيما يتعلق بكلٍّ من القصّة والحديث حول “بير الورقة”؛ إذ ترويهما العديد من كتب الحديث المعتمدة؛ من مثل كتاب الثقات لابن حبّان، بينما تسكت عنهما كتب المعالم هذه، مُكتفيةً بالإشارة إلى ورود العديد من “الروايات الغريبة” حول بئر الورقة. 

وبالمناسبة، لا أرى إشكالاً في تسمية المسجد الأقصى (ما دار حوله السور) بالحرم والتي تعود للعصر الأيوبي. ويبدو لي أنّ ما يُساق من حُججٍ لدحض هذه التسمية، والمتمثّلة في الخوف من إيقاع أحكام الحرم المكيّ الخاصة على المسجد الأقصى، لا علاقة له بفهم الناس للاسم واستخدامهم له. إذ يطلقونه على الأمكنة المقّدسة في بلادنا، من مثل قرية الحرم؛ حرم سيدنا علي بن عليم قضاء يافا، من باب الإجلال والتقديس، دون أن يخطر في بالهم ما يقلق الفقيه من هذه التسمية.  

قناعتي أنّنا نخسر الكثير بمحاربتنا لهذا الإرث الحيّ، والذي يُقلَّل من قيمته بوصفه بـ “الشعبي ومعتقد العامة”، حيث يكمُن التحدي أمامنا في قدرتنا على دمج هذا الإرث في أدبيات المعالم والكتب الإرشاديّة كأحد مكونات روايتنا الدينية والتاريخيّة الحيّة الممتدّة لآلاف السنين حول المسجد الأقصى، من خلال النظر للأساطير من زاوية وظيفتها في بناء الهويات الجمعيّة. فالأساطير لا يمكن اختزالها ضمن ثنائيات الخطأ والصواب والحقيقي والزائف، إنّما هي كوّةٌ نعبُر من خلالها إلى ذهنيّات الناس ومشاعرهم؛ أشواقهم وآمالهم وآلامهم وعلاقتهم الحميمة بالأمكنة.

*****

الهوامش: 

[1] ابن عربي، الفتوحات المكية . م.س، ج1 ص 686
[2] اُنظر: تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتّها لنعوم بك شقير، ص 335.