يعدّ مفهوم الثأر أساساً في تشكّل الوطنية الفلسطينية وحافزاً لما هو كامنٌ للتمثّل على أرض الواقع، بل ونظاماً قائماً بذاته يُرهب العدو ويضعه في حالة قلق هدّام دائمة.

مقدّمة

يعبّر مفهوم التحوّل في النموذج عن تغيّر إحدى الفرضيات الأساسية التي كانت سائدة لفترة من الزمان، تُمرَّر من خلالها الشروح، وتُبنى عليها المناهج والمعايير، وصولاً إلى تبلور الممارسة امتناعاً أو إقداماً؛ وبناءً على ثنائية المعقولية-اللامعقولية التي لازمت العلوم التطبيقية والإنسانية على حدٍّ سواء، ومدى قدرتها على قولبة المعرفة المُتوخّى قولبتها لإقصائها أو احتوائها بتقطيع أوصالها.

وهذا ما انسحب على الثأر مفهوماً وممارسة، سواءً أكان ذلك نتاج تراكم/اختلاط سياقات تاريخية مختلفة تمحورت حول الثأر، أخذ شكله ومفهومه منها، مثل الثأر عند العرب الأوائل الذي امتد إلى يومنا الحالي، والذي كانت المشاكل العائلية والعشائرية في مدينة الخليل آخر تمظهراته. يأتي ذلك رغم مجيء الإسلام ليُعيد قراءة الثأر ويموضعه ضمن الاجتماع الإسلامي في مفهوم القصاص، ورغم ما بنته الثقافة المجتمعية من نبذ للثأر المجتمعي واستبداله بالثأر من العدو الصهيوني، فنرى ترداد مقولات على شاكلة “خليهم يورجوا مراجلهم وفورة دمهم على اليهود، بدل على بعضنا البعض”. 

 كما أن ثمّة عمليات ضخّ ممنهجة لفرضيات ومقولات بصورتها المباشرة وغير المباشرة، كثفّت ما هو سلبي-منفّر وغير معقول في الثأرية بالنسبة المقاومة. وربّما كان أهمها ما تم تداوله داخلياً من تصنيف للمقاومة-الثأر على أنها مقاومة سلبية تفتقد البوصلة، وتدخل في إطار ردود الأفعال والعشوائية بمعناها السلبي.

ومن هذا المنطلق، تأتي هذه المداخلة كمحاولة لاستخراج معرفة مغايرة من تجارب عملياتية-فكرية للمقاومة، سطّرت من خلال ممارستها فلسفة خاصة بها، وأعادت موضعة الكثير من المفاهيم في سياقها، وقامت ببناء منظور آخر يخرجنا من دوائر وثنائيات المعقول واللامعقول التي يرتسم بها الوضع الحالي الموسوم بالعجز.

إن إحدى تلك المفاهيم التي أعادت المقاومة الاعتبار لها هي الثأر، حيث استطاع الأخير أن يأخذ موقعه داخل منظومة النضال ومعادلاتها من خلال الممارسة بأيدي المقاومة، وتعدّى في كثير من الحالات والنماذج كونه أحد أركانها أو أشكالها إلى اعتباره أساساً في تشكّل الوطنية الفلسطينية، والحافز لما هو كامنٌ للتمثّل على أرض الواقع، بل ونظاماً قائماً بذاته يُرهب العدو دون وجود الفاعلين على الطرف الآخر وبغيابهم عن المشهد، ودون الاشتباك معه “في علاقات”؛ فبمجرّد تموقع الفكرة ضمن المنظومة الفكرية الشعبية/الحزبية، فهي قادرة على جعل العدو في حالة قلق هدّام دائم يقطن في هواجسه وما يترتب على ذلك.

يبتدئ تاريخ الثأر فلسطينياً من أولى بوادر تشكّل عمليات الثأر والانتقام التي مارسها الفلاحون الفلسطينيون بعدما رأت حركة الاستيطان اليهودية في الوجود العربي خطراً فطردتهم من أراضيهم، فعمد الفلاحون إلى عمليات الإغارة على المستوطنات الصهيونية لحرق المزروعات وتخريب البنية التحتية.

وتطوّر الأمر بناءً على ما خطّه شيخ المناضلين بهجت أبو غربية في مذكراته، حيث عمد والشهيد عبد القادر الحسيني وآخرين إلى تطوير مفهوم الثأر بحيث يصبح مفهوماً وطنياً وليس فردياً أو عائلياً، فيقول: “كنّا نَعجَب لعائلة يُقتل أحد أفرادها من قبل عرب أو حتى أقارب، فتهبّ للأخذ بثأرها من العائلة المعتدية ولو كانت من أقرب الأقربين، وفي الوقت نفسه لا تتحرك للأخذ به إذا كان الصهاينة أو الإنكليز هم الذين قتلوا قريباً لها. لذلك كنّا نقول: “إذا قُتل عربي في صفد أي في أقصى أطراف فلسطين فعلينا نحن في القدس أن نأخذ بثأره لا أن نتواكل ونقول أن على أهله الأقربين أو على أهل بلدته أن يثأروا له”، وهذا الرأي أقرب ما يكون إلى نظرية تقديم التناقض الرئيسي على التناقض الفرعي”(1).

إن رؤية الشهيد عبد القادر الحسيني وشيخ المناضلين بهجت أبو غربية، وإن كان الأخير قد أطّرها في إطار تقديم التناقض الرئيسي على التناقض الفرعي، تحمل أساساً من أساسات بعث الوطنية الفلسطينية الشعبية، وتحويل حدث استشهاد أيٍ من العرب الفلسطينيين إلى حدث عابر للعائلة أو القرية أو المدينة ليَطال كل فلسطين. كما يمكن فهمها على أنها إعادة تعريف للحَمِيّة العائلية، كما الحسين عليه السلام عند قوله “أنوفٌ حمية”، بدلاً من تفكيكها، وتحويلها إلى حَمِيّة وطنية. كما يمكن النظر إليها على أنها جزء أصيل من الذات الفلسطينية الفاعلة التي كيّفت الثأر الذي في داخلها استجابةً لخطر الحركة الاستيطانية اليهودية.

لقد استمر ظهور الثأر لما بعد النكبة، فقد صدرت عن هيئة مقاومة الصلح مع “إسرائيل” نشرة سياسية فكرية أسبوعية عام 1952 في بيروت، تمّ عنونتها بـ “الثأر”، وكانت تعدّ المنبر الرئيسي لحركة القوميين العرب التي كان شعارها في البداية (وحدة، تحرر، ثأر). ومن أهم ما تناولته نشرة “الثأر”، مناداتها بالثأر حلاً لاغتصاب فلسطين من خلال محاولة تقديم فهم منهجي للقضية الفلسطينية، بتحديد مُعسكريْ الأعداء والأصدقاء، وأثر نشوء الكيان الصهيوني، والطرق الواجبة لتحرير فلسطين. لاحقاً، ظهر تنظيم سياسي كان أحد روافد حركة القوميين العرب (الفرع الفلسطيني) عُرف بمنظمة شباب الثأر. بعد هذه المقدّمة الموجزة، ننتقل للحديث عن الثأر من خلال نماذج -لا حصرية- وما عناه الثأر فيها.

الثأر المقدّس: هدم للجدران وطرق للكامن

ومن خلال قراءة لإحدى أدبيات المقاومة عنوانها “عمليات الثأر المقدس” للأسير المجاهد حسن سلامة، مخطط سلسلة العمليات الاستشهادية التي أعقبت اغتيال الشهيد يحيى عيّاش، يتضح أن الثأر أخذ موقعه كمحطّم للسجون المعرفية واللامعقولية المقيّدة للممارسة.

قد تخضع المقاومة في لحظة تأزُّم تحت نير الواقع، فيتسربل اليأس ثنايا روحها، كنتيجةٍ لما نطلق عليه بـ “الظروف الموضوعية”، وهذا ما حصل عند عودة المُطارَدِين الذين تواجدوا خارج قطاع غزة إليه وقبل استشهاد يحيى عيّاش، فحسب سلامة: “الكلّ تفاجأ بوضع القطاع ومشاكله ووضع السلطة وتصرّفاتها (كوكيل للاحتلال في مطاردة واعتقال المجاهدين وإحباط عمليات المقاومة) ووضع الحركة وهمومها -يقصد حركة حماس- كلّ هذه الأمور كانت بمثابة صدمة كبيرة لهؤلاء الشباب، وقد حاولوا بقدر استطاعتهم عمل شيء ولكن الظروف كانت أكبر من الجميع أو هم تصوروا ذلك”.

وهنا يمكن قراءة عبارة “أو هم تصوروا ذلك” على أنها التحقق الفعلي لـ المفارقة أو المقولة: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة” وارتباطها باللامعقولية والسجن المعرفي المقيّد لإرادة الممارسة. ومع تواتر الأحداث كما يرويها حسن سلامة، تكشّفت الأسئلة داخل المقاومة، ووصلت إلى الحدّ الذي توضع فيه جدواها على طاولة النقاش، إلى أن شكّل اغتيال يحيى عيّاش لحظة مفصلية وضربة قاسية كادت أن تفتك بالمقاومة نظراً لما تُمثّله رمزية عيّاش في أطر المقاومة والشارع الفلسطيني.    

ولا بدّ من الوقوف على ما خطَّه سلامة عن الشهيد يحيى عيّاش، باعتباره نموذجاً لعدم الخضوع لاعتبارات الواقع ومعرفته المعقولة حوله، بل “كان شغفه بالعمل وتطوير أساليب العمل”، وصموده في وجه المشاكل والخطوب وصراعه معها حتى النهاية؛ فكان “يعيش في وضع أكبر من الجميع” كما وصفه سلامة.

طبيعة هذا المنطق الذي مثّله يحيى عيّاش، ربما كان محدوداً ومقتصراً على المقرّبين حوله كحسن سلامة وآخرين في حينه، لكنه لم يرتقِ إلى التجسيد الفعلي كما كانه عيّاش، وهذا ما تُدلل عليه حالة الارتباك التي عاشتها المقاومة في تلك الفترة. إلى أن كان لدم العياش أن يذيب صقيع الواقع بظروفه “الموضوعية”، فينبثق الثأر ليبلور تلك الحالة الجماعية من الإجماع على ضرورة تحطيم السجون المعرفية، تحفيزاً لما هو كامن في النفوس من خلال الممارسة المغامِرة الواعية لمغامرتها وممارستها. هي تلك اللحظة التي حوّلت المستحيل واللامعقول إلى ممكن معقول؛ بل ومتحقّق لاحقاً بتنفيذ عمليات الثأر.

وقد عبّر عنها سلامة بوصفه للمشهد: “وتم ترتيب مراسم الدفن بعد وصول أهله من الضفة ودفن الشهيد، وليعود المطاردون بأحزانهم وجراحهم التي كانت أكبر من التصوّر ولتدور نقاشات كلها كانت نابعة من شدّة الحدث وعدم إمكانية تصديقه. وطغى فقدان الشهيد على كل المواضيع التي كانت تُطرح سابقاً من أجل وضع المطاردين، كان الجميع يتحدّث عن الثأر، وليس سوى الثأر، مهما كانت الظروف والتضحيات، لأن الضربة كانت قوية كادت أن تشلّ الجميع دون استثناء خاصة المطاردين الذين عاشوا مع الشهيد”.

أما عن مقولة “الممارسة المغامِرة الواعية لمغامرتها وممارستها”، فهي رديف شكلي للمقولة الأكثر عمقاً التي سطّرها سلامة قولاً وممارسة: “حياة المجاهد عبارة عن سلسلة مغامرات يسلكها بعد أخذ جميع الاحتياطات اللازمة”. ففي شقّها الأول (كمغامرة)، تعبير عن طرق باب المجهول، وتشريع آفاق الاحتمالات على مصراعيها، واستنفاد الفرص التي كانت مطوية تحت عرين اللامعقول واللاممكن في السجون المعرفية، بِـ “تطريز الأمكنة بقدم من حجر أنحف من إبرة لا بالخُطى المُنهكة”، ومتوجّة بالإيمان العميق وصلابة الإرادة. وهذا ما سيلحظه القارئ في كتيّب سلامة في كثير من المواقع، بدءاً بما تخللته الأحداث لحظة خروجه من قطاع غزة صوب الضفة الغربية وما واجهه خلال ذلك العبور المحفوف بالمخاطر، وانتهاء بطيّ آخر صفحة من الكتيّب.

أما شقّها الثاني (واعية لمغامرتها وممارستها/أخذ جميع الاحتياطات اللازمة)، فتحمل الوعي والإحاطة بحيثيات العمل المقاوم وضروراته وأهدافه، وخصوصاً في مثل تلك الحالات، أهمّها كما وردت في الكتيّب: الإعداد الخالي من الثغرات (قدر الإمكان)، والسرية في العمل والتحرّك بحذر وعدم لفت الانتباه.

ولكن لعلّ أبرز ما يمكن استنتاجه مما خطّه سلامة أنه يعيد الاعتبار إلى الإيمان وشعور النفس المؤمنة المجاهدة كمركز يجعل من إثنينية (ثنائية) الإرادة والعقل متهافتة؛ فالشعور الإيماني المنبثق عن النفس المؤمنة المجاهدة محرّك لنفضة الإنسان، والناظم للإرادة والعقل في إطار كلية الإيمان التي تستحوذ على النفس وملكاتها وحواسّها دون الوقوع في الإثنينية المصطنعة. وبذلك يمكن فهم أن الاصطدام بما يطلق عليه “الظروف الموضوعية” في حالات عديدة على أنه تعبير على نقص في الإيمان يؤدي بصاحبه إلى الانصياع والقنوت.

منهجية الردّ السريع شفاء للصدور

يوم الإعلان عن إغلاق المسجد الأقصى بعد عملية آل الجبارين، ظهر تقرير في إحدى الصحف الصهيونية تحت عنوان (المخاطرة المحسوبة- Calculated Risk)، يستشرف فيه أن الإغلاق لن يؤجج الأحداث.  وفي حال إن حدث ذلك، فإن أجهزة الأمن الصهيونية قادرة على ضبط إيقاع الأحداث والسيطرة عليها، ولكن على الفلسطينيين أن يفهموا أن عملية المسجد الأقصى كانت خرقاً للخطوط الحمراء الصهيونية على أكثر من صعيد؛ فمنطق “المخاطرة المحسوبة” هي جزء أساسي من تقنيات الضبط والسيطرة “العقلانية” في كيفية تعامل الأجهزة الأمنية الصهيونية مع الأحداث وتبعاتها، ومحاولة التوفيق والمواءمة بين الردع من جهة، ومحاولة ضبط “الصدف” واللايقين النابعة من أي إجراء صهيوني ردعي من جهة أخرى.  يمكن تتبع ذلك في كيفية تعامل الأجهزة الأمنية الصهيونية مع العمليات الشعبية منذ سنتين، وهذا ما ثبت عند عملية عمر العبد وانتصار القدس مؤخراً، محوّلة أي قياسٍ لـ “المخاطرة المحسوبة” إلى “مغامرات غير محسوبة” التي رافقته من حرب تموز 2006 على لبنان، مروراً بحروب غزة، لتشمل اليوم الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني.

ولكن السياق التاريخي للمقاومة الفلسطينية أيضاً يثبت عجز وقصور المؤسسات الصهيونية في هذا الإطار، ولعلّ أبرز محطاتها اغتيال الشهيد رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى في مدينة طولكرم، والمعروف بصقر الكتائب أو صاحب الردّ السريع، والذي شكّل اغتياله إحدى العلامات الفارقة في تحديد مسارات الانتفاضة الفلسطينية الثانية بحسب عدد من المحللين والمسؤولين الصهاينة.

يُروى عن الكرمي في مقابلة مع أهله، أنه بعد اغتيال الدكتور الشهيد ثابت ثابت مسؤول حركة فتح في طولكرم، قرر الكرميّ تشكيل مجموعات الشهيد ثابت ثابت (قبل تشكّل كتائب شهداء الأقصى) للثأر للشهيد. ولم يتوقف ثأر الكرمي للشهيد ثابت ثابت، بل امتدّ إلى ثأره لطفلة استشهد والدها، فكما تروي شقيقته: “كانت العائلة تجلس أمام التلفزيون، وعرض آنذاك صورة لطفلة صغيرة عمرها 6 سنوات، كانت تبكي أباها الذي قتله الجنود الإسرائيليون في قرية “شويكة” المجاورة لطولكرم”. وتضيف: “إن رائد تأثر بمشهد الفتاة حتى البكاء، وأقسم لها وهي على شاشة التليفزيون بأن ينتقم لأبيها، ونفذ في ذات الليلة عملية قَتَل فيها مستوطناً وجرح آخرَ بحالة خطيرة”.

هذا وكان الثأر لرفيق دربه الشهيد فراس الجابر الوقع الأكبر، ففي فيديو مصوّر يقول الكرمي: “بسم الله الرحمن الرحيم، باسم كتائب شهداء الاقصى، نوعد فراس، خلال 24 ساعة ثاره، ثأره، رح يكون داخل، جوات اسرائيل، ضرب الكيان الصهيوني وجنود إسرائيليين قوات المستوطنين، اليوم معهم بس 24 ساعة بنكون منتقمين لفراس إن شاء الله”. وخلال عرس الشهيد فراس الجابر وهو محمول على الأكتاف، توالت الأنباء عن ردّ الكتائب على استشهاده، فتعالت الأصوات بالتكبير والترديد “كتائب كتائب، كتائب كتائب”، وغمرت الحشود حالة من الابتهاج.

بهذا، كان القائد الكرميّ ورفاقه -إلى جانب كونهم مقاتلين- مواكنَ للحرب النفسية والحرب النفسية المضادة، تبعث الأمل في نفوس الناس وتشفي صدورهم، وتجعل من الطرق الالتفافية مصائد يحسب المستوطنون لها ألف حساب عند التنقّل فيها.

ولم يكن المشهد الأخير حِكراً على عرس الشهيد فراس الجابر، بل كان حاضراً في آلاف أعراس الشهادة الفلسطينية، تردد الجماهير في فلسطين وامتداداتها في مخيمات الشتات الدعوة لمختلف الفصائل والتشكيلات العسكرية بالثأر لشفاء الصدور، كما كنّا نرى أيضاً توزيع الحلوى. على ضوء ذلك، يمكن قراءة ما أقرّه القرآن الكريم: “قاتلوهم يعذِّبهم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينْصركم عليهم ويشفِ صدور قومٍ مؤمنين”. وبناءً عليه، يمكن النظر إلى منهجية الرد السريع باعتبارها ضرورة مجتمعية لشفاء ما في الصدور من ألم وحزن، تعطي المجتمع الدافعية للاستمرار في النضال رغم ما يُمارَس صهيونياً.

التاريخ: وصل الدم بالدم

عاصرت الحاجّة أم خالد مراحل القضية الفلسطينية منذ التشريد الأول إلى اليوم. أُعدم والدها على مرأى من عينيها في عام 1957، وقالت في روايتها عن استشهاده: “لم أنسَ عيون أبي عندما ودعتنا بنظرات وقد حُشرت بها الدموع، وكأنه كان على علم بأنها اللحظات الأخيرة التي سيغادرنا فيها إلى الأبد”. لم تكن يوم استشهاد أبيها إلا طفلة، فلم تقوَ في حينها على دراسة عضلات البندقية لتأخذ بالثأر من قاتلي والدها ومغتصبي الأرض. هذا الثأر الذي لم يفارقها ومازالت تبتغيه ليطفئ نيران قلبها، فما كان لها إلا أن تجد في ابنها السند لهذه المهمّة، ولم تكتفِ الوالدة بالاتكاء على ولدها، بل شاركته في إعداد وتجهيز عتاده في لحاقه بـ”سرايا القدس”، نزولاً عند قول رسول الله “من جهّز غازياً فقد غزا”، لتكون يد ولدها يدها الضاربة في أعناق المحتلّين مرّتين، فالثأر يورّث كما القضية (2).

وفي ملحمةٍ أخرى من ملاحم العصر؛ ملحمة “زقاق الموت” لأبناء “سرايا القدس” أكرم عبد المحسن الهنيني، ولاء هاشم داود سرور، وذياب عبد المعطي المحتسب، لبّى الشهداء في العاشر من رمضان ثأر من سبقوهم على هذا الدرب من جند وقادة ومن تحمّلوا فراق أحبابهم، ومنهم القائد إياد صوالحة قائد “سرايا القدس” في جنين، ويوسف بشارات وعبد الباسط أبو سنينة وأسعد أبو تركي وياسر الأدهمي.  وكما لم يغب عن أبطال زقاق الموت النظر إلى جهادهم على أنه ثأر لشهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي في ذكراها الثامنة في حينه. وكانت من وصايا الشهداء، النهي عن المهادنة والمساومة على أي ذرة من تراب أرض فلسطين؛ “فالشهيد يطلب الشهيد، والبندقية لغة العصر، والدم قانون المرحلة”.

في هذه الوصايا، كان تكبيل الدم بالدم والشهيد بالشهيد في سنسلة النفس يعضد بعضهم بعضاً فيها، دعوة للناس للاستناد عليها في مواجهة التجريف السياسي نحو المساومة والمهادنة باعتبارها قطعاً وقطيعة مع بوصلة الدم-فلسطين، سنسلة النفس المؤمنة بالتحرير في مواجهة جدار جابوتنسكي الحديدي القائم على فكرة قتل أي أمل بمحو الكيان الصهيوني من الوجود، والذي تحوّل إلى عقيدة أمنية وسياسية وإعلامية صهيونية، وامتدّ إلى بعضٍ من عالمنا العربي والإسلامي وأصبح جزءاً لا يتجزأ منه. كما أن هذا التكبيل الذي ارتضاه الشهداء، يلعب دورَ محفّزِ الذاكرة (ما مضى) في مواجهة النسيان في زمن الشدّة والبلاء، واستشراف آفاق المستقبل من حاضرٍ مرسوم بالدم. فهذا هو التاريخ الباطني لقضية فلسطين وحلّها في آن، مهما طفا على السطح من غثاء واستحكم.

وما كلمات الشهيد المؤسّس فتحي الشقاقي عن التاريخ والجرح الاستعماري إلا التأكيد على ذلك: “يا جرح تفتّح يا جرح، يا أهلي هاتوا الملح حتى يبقى حياً هذا الجرح، لن أغفرها لك، لن أغفرها لك، تلعنني أمي إن كنت غفرت، تلفظني القدس إن كنت نسيت، تلفظني الفاء تلفظني اللام تلفظني السين تلفظني كل حروفك يا فلسطين، تلفظني الطاء تلفظني الياء تلفظني النون، تلفظني كل حروفك يا وطني المبغون، إن كنت غفرت، إن كنت نسيت”. فسلامٌ على أولئك الذين رأوا سنسلة النفس تريد أن تنقضّ فأقاموها.

لا أقل من رأس برأس: نهج الأحرار واحترام الذات

“في 17 أكتوبر زغرد كاتم الصوت، في فندق ريجينسي تنفّذ قرار الموت…في ذكرى الأربعين سقطت ورقة التوت…كتائب أبو علي جابوا الثار المحتوم”. تلك بعض من كلمات أغنية شعبية جاءت لتؤرخ لعملية اغتيال الوزير الصهيوني رحبعام زئيفي، ثأراً للشهيد أبو علي مصطفى على يد كتائبه. ابتدأ الأمر مع اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى، حينها خرج القائد أحمد سعدات في خطاب يطالب فيه الجناح العسكري للجبهة الشعبية بالثأر لدماء أبو علي مصطفى، ورغم أن ما هو متوفر من الخطاب لا يتعدى الدقائق المعدودة، إلا أنه يعطي رؤية عن خلفية الثأر الذي طالب به سعدات، ففيه يقول: “لن نكون ندّاً للأعداء ولن نستحق احترام الشهداء، ولن نستحق احترام شعبنا بشهدائه وقادته وأطفاله وشيوخه ونسائه، إذا لم يكن شعارنا.. العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس.. فعهداً لنا يا رفيقنا أبا علي، عهداً لك يا معلمنا، عهداً لك يا رمزنا، عهداً لك يا عنوان عزتنا، ألا يكون شعارنا أقلّ من الرأس بالرأس…هذا لكم يا كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، يا رجال قوات المقاومة الشعبية”.

إن الندّية التي تحدّث عنها سعدات هي نديّة الأحرار رغم القيود والاستعمار؛ فالحرّ هو من يشعر بالنّدية لا العبد، وفي ذلك خروجٌ آنٍ عن ثنائية مستعمِر-مستعمَر، التي تجعل من الأخير موضع الفعل الاستعماري ورد الفعل لا موضع الفاعل. وكما تم التوضيح سابقاً، فإن الثأر كمفهوم وممارسة سابق على وجود المستعمِر. كما أن فعل الثأر وإن كان في ظاهره ردة فعل، إلا أنه في الأصل فعل الذات الفلسطينية في تعاطيها مع ما يقع عليها من ردود أفعال، وبهذه الحالة ردة فعل الآخر الاستعماري الصهيوني على وجود الذات الفلسطينية. وإذا ما كان الاستعمار ينحو دائماً منحى تحطيم الناس على كافة الأصعدة، واقتلاعهم من جذورهم الثقافية والاجتماعية والأرض المحتضنة لهم، ليُضحوا مُعدَمي الماضي والحاضر والمستقبل، فيسهل عليه تحويلهم إلى عبيد مسلوبي الإرادة والفعل، فإن الثأر يضحي تعبيراً عن الإرادة الحرة، مقروناً باستعادة احترام الذات وتثبيتها.

القلق البنّاء وتخليق القلق الهدّام

في مساء يوم الثاني عشر من شباط عام 2008، كان موعد الشبح- بحسب ما أطلق عليه أعداؤه من الصهاينة والأمريكيين- القائد في حزب الله عماد مغنية (الحاج رضوان) مع الشهادة، حينما اغتيل في سوريا بعملية أمريكية-صهيونية مشتركة بُعيد خروجه من اجتماع مع قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية المتواجدة في دمشق في حينه. لم يتأخر الإعلان عن عملية الاغتيال كثيراً، كما لم يتأخر التحضير لعرس الحاج رضوان في لبنان، وفي ذات اليوم خرج السيّد حسن نصرالله صاحب الوعد الصادق، الذي وللمرّة الأولى في التاريخ كانت وما تزال كلمته كقائدٍ للمقاومة تعلو على كلمات قادة الصهاينة عند جمهورهم؛ ليقول في اغتيال الحاج رضوان في سوريا: “أيها الإسرائيليون، إذا كنتم تريدون حرباً مفتوحة، فلتكن حرباً مفتوحة في كل مكان”.

كان لهذا الحديث الأوليّ أن يقرّر مكان الردّ على اغتيال الحاج رضوان الذي حدث خارج الأرض اللبنانية، أي أنه سيكون في أي مكان من مبدأ المثل بالمثل. ولم تكد تلك الكلمات تخرج من السيد حسن نصرالله، حتى أصيبت “إسرائيل” بحالة من القلق والهلع، وأعلنت حالة الاستنفار داخل “إسرائيل” وفي خارجها حيث السفارات والممثليات، كما وأقرت عدداً من الإجراءات “الوقائية”. ومرّ الوقت ثقيلاً على “إسرائيل” شعباً وقيادة ما بين يوم الاغتيال والأربعين، لتخرج بعدها صحيفة “والا” العبرية بتساؤل: “لحظة، إذن لماذا اغتلنا مغنية إذا كان الشرق الأوسط لم يتحول إلى مكان أكثر أمناً، ويعيش الجميع بضغط خشية الرد؟ فمعروف أن وظيفة قوات الأمن هي منح الأمن، لا نشر انعدام الأمن”.

في الأربعين، خرج السيّد حسن نصرالله مرة أخرى، وهذه المرّة كان أكثر وضوحاً وعمقاً من حديثه الأول إبّان التشييع قائلاً:

“أما الإسرائيليون الصهاينة فأنا أقول لكم بعد استشهاد الحاج عماد وما قلته في تشييعه وفي أسبوعه، هم قلقون وخائفون ومرعوبون، ليس فقط في فلسطين بل في كل أنحاء العالم، دعوهم يقلقوا، دعوهم يخافوا، فليذوقوا طعم القلق والخوف والرعب الذي طالما أذاقوه لشعوبنا ولأهلنا…لماذا يتبرع البعض لطمأنتهم؟ نعم حصل بعض القلق في لبنان لكن انا أستشهد بالآية الكريمة وأعدل كلمات: “إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجونَ”…الإسرائيليون قلقون فليبقوا قلقين، بل يجب أن يبقوا قلقين، وعليهم أن يعرفوا أن دمنا لا يُسفك أو يُترك في الطرقات، الذي قتل شهيدنا القائد يجب أن يعاقب ويجب أن يذوق طعم العقاب لا لأننا قوم ثأر، لأننا قومٌ نؤمن بأن لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لنحفظ بقية الحياة يجب أن يعاقب القتلة وسيعاقبون إن شاء الله، وكما قلت لكم نحن نختار الزمان ونختار المكان ونختار العقاب وطريقته ووسيلته”.

هذه الكلمات لم تقتصر على إنشاء معادلة للردع، ولا إعلاء من قيمة دم المقاومة واحترام الذات فقط، بل أرسى فيها السيد حسن نصرالله بفعله قبل قوله لما يمثّله، القلق الوجودي الهدّام في “إسرائيل”، وميّزه عن القلق الذي يصيب المؤمنين ممن لا يخشون الموت، والمحتسبين عند الله أجرهم وشهادتهم، ذاك القلق البنّاء الذي صنع النّصر وتَمثَّله الحاج رضوان في حياته إلى يوم استشهاده. وهنا، فإذا كان في الموت لدى العدوّ محفّزٌ دائمٌ للقلق اليومي الهدّام والقلق الاستراتيجي الوجودي بتذكيرهم الدائم أنهم عابرون على هذه الأرض، وأنهم لا ينتمون إليها وما يترتّب على ذلك، فإن في الموت والقصاص عند المؤمنين حياة.

هذا الربط بين القلق-الموت في صيغتيه المتنافرتين بين ما لدى المؤمن وما لدى العدو، نلحظ تجلّيه لدى المؤمنين في ردّ فعل والدي الحاج رضوان عند وصول الأنباء الأولية، حين قيل لهم أن نجلهم تعرّض إلى حادث، فما كان للأب سوى التساؤل: كيف بعد كلّ هذه السنين أن يتعرّض نجله لحادث يودي بحياته بدلاً من الشهادة؟ وعندما أخبر باستشهاد ابنه، ذهب ليصّلي صلاة شكر لله. كما أن هذه العلاقة بين القلق البنّاء-الموت والتصالح معه بل والسعي إليه في ثقافة المؤمن، تتجلّى بصورة أكبر في ما ردّده الشهيد جهاد عماد مغنية: “خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وخيّر لي مصرع أنا ملاقيه، إلا من لحق بيّ استشهد ومن تخلّف عن الركب لم يبلغ الفتح”. وما عبّرت عنه حياة الشهيد عبد العزيز الرنتيسي وما خطّه مرئياً:”هل نخاف نحن الموت؟ إنه الموت سواءً بالقتل أو السرطان، الموت واحد، نحن جميعاً ننتظر الموت آخر يوم في حياتنا، لن يتغير شيء، سواءً أكان بالأباتشي أو بالسكتة القلبية، أنا أفضل الأباتشي”.

ولعلّ استحضار فلسفة مارتن هايدجر الاستثنائية على ضوء هذه الفكرة سيكون مُتهافتاً، بعد ما خطّه المؤمنون جماعياً بالدم والقول والفعل، إلا أنه في نظر هايدجر، من خلال القلق (البنّاء) يتكشّف وجود الإنسان المنغمس في الحياة بكليّتها، وفي القلق نفسه تتكشّف الذات الحرّة والواعية والأصيلة في الوجود هادمةً للزيف.

هذا وميّز هايدجر بين القلق والخوف؛ فالخوف نابع من شيء بعينه، أما القلق فمنبعه غير محدّد وهو ملازم للوجود الإنساني. كما وربط هايدجر القلق بالتصالح مع الموت أو بلغته “الوجود باتجاه الموت” (Being-Toward-Death)، فهذا الوجود نحو الموت هو ما يفجّر طاقة الإنسان ليصبح ما هو عليه حقيقة. وفي لغتنا، عندما يتحوّل الإنسان إلى مشروع شهادة، بكل ما تعنيه تلك الكلمات من معانٍ مُختزنة، سيبلغ الفتح.

وعودة إلى ثقافة الثأر-القصاص بما هي تخليق دائم لذاك القلق الوجودي الهدّام لدى العدو، والذي يمكن تلمسّه على عدة مستويات وإن لم يكن بالإمكان تتبعه بشكل مباشر في بعض الحالات، كما هو حال المحاولات المستمرة للثأر لعماد مغنية. ففي خطاب السيّد نصرالله لعام 2012 في ذكرى القادة الشهداء قال: “أما من هو في دائرة الاستهداف، هني بيعرفوا حالهن، وعم يعملوا إجراءات وعم يتخبوا ولما بسافروا عالعالم عاملين إجراءات كبيرة وخطيرة بالسفر، وأنا أقول لهم: ابقوا كذلك لأنه ما دام هناك رجل أو شاب أو امراة أو طفل أو دم يجري في عروق أحدنا في حزب الله سوف ياتي اليوم الذي نثأر فيه لعماد مغنية ثأراً مشرفاً”.

وفي حالة أخرى أكثر وضوحاً للقلق الهدّام، تبلور الثأر لشهداء حزب الله الستّة الذين اغتيلوا في الجولان-القنيطرة بقصف صهيوني، باستهداف قافلة صهيونية على الحدود مع مزارع شبعا المحتلّة. فتسيير تلك القافلة على الحدود كان بدافع القلق الصهيوني من ثأر حزب الله، وبدافع ردع أي عمل ثأري محتمل، فإذا بالقافلة نفسها تتحول إلى موضع الثأر وموضوعه.

ولتوسيع النّظر في القلق الهدّام بما يتجاوز موضوعة الثأر، ليس أدل على ذلك من عنوان كتاب لباحثة صهيونية، “أمة على الأريكة، سياسات الصدمة في إسرائيل”، وهو عمل بحثي ميداني استغرق أربع سنوات (2008-2004)، تشرح فيه فيما تشرح، الشخصية الصهيونية والقلق الوجودي الملازم للشخصية الصهيونية، وذلك دون أن نذكر ما أصاب مستوطنة “تسيدروت” على سبيل المثال من تقويض للحياة فيها، والحوادث المتكررة في توهّم المستوطنين سماع أصوات عمليات حفر لأنفاق المقاومة، كما هو الحال لمستوطني الجليل أيضاً. كما لا يمكن إغفال القلق المجتمعي الذي أصاب الصهاينة بعدما تحدّث السيد حسن نصرالله عن إمكانية استهداف حاويات الأمونيا في أي حرب مقبلة، وغيرها العديد من الحوادث التي لا حصر لها. وربما في مكان آخر، سنبحث علاقة الإيمان من جهة، وعلم النفس في عالم لا إيمان فيه، بات الإيمان فيه عُرضة للتندّر، وعلاقته بالمشروع الصهيوني.

في الختام، نستحضر ما قاله الشهيد فتحي الشقاقي يوماً: “هذه الأمة على موعد مع الدم، دم يلون الأرض، دم يلون الأفق، دم يلون التاريخ، دم يلون الدم، ونهر الدم لا يتوقف دفاعاً عن العقيدة، دفاعاً عن الأرض والأفق والتاريخ، دفاعاً عن الحق والعدل والحرية والكرامة”.

****

المراجع:
(1) مذكرات المناضل بهجت أبو غربية 1916-1949: في خضم النضال العربي الفلسطيني. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى (1993)، ص49.
(2) “ثأر قديم” نذر استحقاقه بفلذة الكبد، موقع سرايا القدس