كان له اسمان، سوق الإثنين أو سوق البرّين. الإثنين لأنه كان يُقام بشكل دوري في كل يوم إثنين من أيام الأسبوع. ولأن فيه كان يجتمع تجّار بر مصر وبر الشام معاً، سَمّاهُ اللدادوة سوق البرّين. ومن أهل اللد من أطلق عليه “سوق النوادر على البيادر” في إشارة إلى واقعهِ وموقعهِ، فقد تعرّف عموم أهل المدينة إلى ما نَدر وبَدر من خلال هذا السوق. [1] كما قيل عنه أنه “يوم المدينة”. [2] إذ هو أكبر سوق للمواشي والطروش والأنعام، عرفتهُ فلسطين وبلاد مصر وبر الشام.

ذاعَ صيت سوق البرّين (الإثنين) في اللد، منذ مراحل مبكرة من التاريخ العثماني للمدينة، وقد تبدلت مواقعه غير مرة، إلى أواخر عثمانيتها، حيث كان يُقام السوق عند بيادر المدينة شرقاً، [3] فقيل عنه “سوق النوادر على البيادر” قبل أن يجري نقله بإيعاز من بلدية اللد في ثلاثينيات القرن الماضي مع الانتداب البريطاني على البلاد إلى الناحية الشمالية من المدينة، قرب مطار كفر جِنِّسْ، [4] الذي عرف بمطار اللد الدولي، ثم (بن غوريون) إلى الشمال – الغربي من حارة المسلخ.

نقل موقع السوق، من شرق المدينة عند بيادرها إلى شمالها بالقرب من مطارها، يعود إلى حاجة البلدية في إخراج سوق الحَلال والطرش إلى مكانٍ أوسع وأرحب بعيداً عن سَكنات المدينة. [5] هذا عدا عن مشكلة اعتداء مواشي ودواب التجار القادمين الدائم على كروم وبيارات اللدادوة، ما كان يتسبب بتحامل أصحابها على تجار المواشي والدواب إلى حد الاشتباك في بعض الأحيان، إذ طباع اللداودة مُستمدة من اسم مدينتهم اللد، أي “قومٌ شديدُ الخصومة ولدودي العداء” إذا ما عادوا. ممّا حدا بالبلدية إلى شراء قطعة أرض، ونقله وبناء سور يجري السوق داخله.

كثيرة العقود التي أبرمتها البلدية، والعهود التي وثقتها بعض عائلات المدينة لتنظم علاقة تجار المواشي بأصحاب الكروم والبيارات، والتي حُدّد من خلالها، زمان ومكان مرور المواشي والدواب، التي يجب على أصحابها الالتزام فيها. [6] كما فرضت البلدية المكوس والضرائب على الطرّاشين والدوّابين، والرسوم على أماكن بَسْط الباعة والتجار.

أعلاه، وثيقة تعود لعام 1905، وهي عقد اتفاق، بعد اجتماع دعا إليه كبار عائلة حسونة، في واحدة من زواياهم في مدينة اللد، من أجل حل مشكلة اعتداء مواشي ودواب التجار القادمين إلى سوق البرّ (الإثنين) على كروم ومزارع بعض الأراضي الواقعة على الطريق المؤدية للسوق. ويلزم نص الاتفاق الموقع بين تجار المواشي وأصحاب المزارع والكروم، تجار المواشي بإدخال المواشي إلى السوق من فجر يوم الإثنين، لا قبل ذلك ولا بعد. كما نص على المرور فيها من طريق واحدة مؤدية للسوق دون سواها.

يبدأ البرّين قبل الإثنين، منذ بعد ظهر يوم الأحد، مع وصول تجار الطَرش والحَلال، بقطعانهم التي يظلّ طنين أجراسها يُدوّي مسموعاً من يافا على حَرف البحر، الغَنم والمِعزى، الجِمال والبقر والخيل، البِغال والحَمير -أجلّكم الله- التي كان عَجاج غُبارها يحجب مداخل مدينة اللد من جهاتها الأربع، لتتدافع الطروش والدواب الرأس على الرأس، بينما يختلط التجار بالزوّار كتفاً إلى كتف، في ازدحام يصعب على الكلب فيه التعرّف إلى صاحبه كما يُقال.

السوق، كان يعزم على كل أهالي مدن وقرى قضاء الرملة واللد، إذ كانت الجمعة الحامية تحدث في الرملة مرة من كل عام مع موسم زيارة النبي صالح. أما سوق البرّين هو يوم اللد الحامي مرة في كل أسبوع. من “وادي لِخيار” غَربة في لهجة أهل القضاء، كان يفدُ فلاّحو بير سالم، وصَرفنديّ العمار والخراب مُحمّلين بأحمال القَطان والخُضار، ومن الدبانية شَرقة ظَلَ ينسلَ عبر واديها أهل الحديثة وجمزو والكُنيّسة ودانيال، ونسائهم يتمايلن مترنحات تحت مواعين فخار اللبن والجبن والسمن الثابتة على رؤوسهن. بينما ومن عند مجدل يابا، نزولاً إلى طيرة دندن ودير طريف، وصولاً إلى بيت نبالا على الحد الشمالي مع اللد، كان يهبُ سكان هذه الديار للمدينة عبر وادي جسر الملك الظاهر (جِنداس) منذ فجر الإثنين للترزق في البرّين.

من كل أرياف ومدن فلسطين قاطبة، ومن مصر وبر الشام من سوريا ولبنان، فهذا صاحب مؤلف “دواني القطوف”، يتذكر يوم كان مَعّازي موارنة جبل لبنان بشلايا قُطعان ماعزهم على اختلاف أنواعها، السمرا المنوحة، والشامي، ومنها “الجَلب” المُهجنة للحَلب، يقصدون بها سهل فلسطين الساحلي، عبر سيف البحر حتى نهر العوجا، ومن هناك إلى أسواق بيع الحَلال بين يافا والقدس [7] في إشارة لبيعها في سوق البرّين.

من العراق وحتى من بلاد الحِجاز، كان يفد التجار إلى سوق البرّين، فحكاية إيواء أمراء الكويت لأبناء الحاج سعيد الهنيدي اللداوي بعد النكبة، تعود إلى تعارف جرى في سوق الإثنين أحسن فيه الحاج ضيافة الأمراء في بيته قبل النكبة في اللد. فكان وفاءُ دين عن معروفٍ من أيام البرّين. [8] كذلك القبارصة -من قبرص- كانوا يؤمّون اللد عبر البحر من أجل سوقها، [9] ومن خلالهم تعرّف الفلسطينيون إلى الدواب القبرصية كالحمير والبغال، فصار “الحمار القُبرصي” في حينه مَضربَ مثلٍ في ذاكرة فلّاحي فلسطين، لجهامته وقوته، وقدرته على الحَمل والتحمل.

كما تسلل يهود المستعمرات المجاورة لمدينة اللد، للمشاركة في السوق، منهم يهود مستعمرة “بيت شيمن” المُقامة على أراضي عُرفت ببيت عَريف من شرقي المدينة، وكذلك يهود المستعمرة الألمانية “ويلهلما” في الناحية الشمالية من اللد، والتي عرفت كمزرعة للبقر الأجنبي الحَلوب، [10] الذي تعرف إليه أهل فلسطين من خلال سوق البرّين، وصار يُعرف بالـ”بقر الهولندي” إلى يومنا.

لم يكن سوق البرّين، سوقٌ للحَلال والطرش فقط، لكن وحده من كان يدب الحياة في أسواق مدينة اللد الداخلية – الدائمة. فأسواق الأقمشة والألبسة تستعيد عافيتها يوم الإثنين، فهو يوم كِسوة العُرسان القادمين من القرى والبلدان. دكاكين الألبان والقَطان، الصّاغة والدبّاغة، وخانات المدينة الستة، كلها كانت تكتظ بالزوار والتجار، وأشهرها “خان الحلو” الذي ظلّ مقصد تجار الحَلال الأجانب، ومنهم القبارصة لاستكمال بيع دوابهم فيه، على مدار باقي أيام الأسبوع. [11] في إثنين اللد الطويل، مشرّعة بيوت المدينة لا تعرف أبوابها الزرفيل، ويُسر حال اللدادوة، مرده إلى سوق الحَلال.

بعد النكبة وسقوط مدينة اللد في تموز عام 1948، ألغى الصهاينة سوق البرّين، بعد أن ضاق بَرّ البلاد على أهله الباقين فيه. في سنوات الخمسينيات، حوّل الصهاينة سوق اللد من يومه الإثنين إلى الثلاثاء. [12] وظلّ سوق الرملة على حاله كل يوم أربعاء، بعد أن جرى اجتثاث الموارد الاقتصادية والاجتماعية لمدينة اللد وريفها من حولها، ولعموم مدن وأرياف فلسطين الساحلية. كما صار يوم الثلاثاء بفعل التحويل الاستعماري للبلاد، هو يوم السوق الأسبوع الدوري في عموم مدن وبلدات الداخل الفلسطيني المحتل.

ما من إمرأة لِدّية أو فلّاحة من ريف المدينة في عرس ابنها، إلا وغنت للعريس والسوق معاً:

لذبحلك من كيسي دين  …..  عنزة من سوق البرّين

الطريف، أن لسوق البرّين أو الإثنين، أثرٌ تركه في الرزنامة الاجتماعية لأهل مدينة اللد، إلى حدّ صار فيه “الإثنين” يومٌ يُسمّى بالسوق وليس العكس، فإذا ما عَدّ اللدادوة أيام الأسبوع، قالوا: الجمعة، السبت، الأحد، السوق، الثلاثاء….وهكذا.

**** 

الهوامش:

[1] السيد حلتة، عودة، مقابلة شفوية، مدينة اللد، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، 21/4/2005. ج1.
[2] منيّر، إسبير، اللد في عهدي الانتداب والاحتلال، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 4، بيروت 2011، ص 21.
[3] حلتة، عودة، المقابلة السابقة، ج1.
[4] أطلق اللدادوة على مطار اللد بعد إقامته سنة 1937، اسم مطار “كفر جِنِّس” نسبة لأراضي كفر جِنّس الواقعة شمال المدينة، والتي أقيم عليها المطار. عن ذلك، راجع النابلسية، محمد، مقابلة شفوية، مدينة اللد، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، 7/12/2004.
[5] أطلق أهالي اللد على الأحياء المُقامة حديثاً، اسم سَكنات، والسَكنة تعني الحي الجديد.
[6] وثيقة ميثاق اتفاق، لعائلة حسونة، ضمن الأوراق العائلية، تعود لتاريخ: 2 ربيع الأول سنة 1323 هجرية.
[7] المعلوف، عيسى اسكندر، دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف، المطبعة العثمانية، بعبدا – لبنان 1907. ص 257.
[8] الفار، مصطفى، مقابلة شفوية، مدينة اللد، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 19/4/2005.ج1.
[9] الفار، مصطفى، المقابلة السابقة، ج1.
[10] النخلة، محمد، مقابلة شفوية، مدينة اللد، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 6/3/2004.
[11] الفار، مصطفى، المقابلة السابقة، ج1.
[12] منيّر، إسبير، المرجع السابق، ص 22.