نعلمُ أنّ الكثير من سرديات شعبنا النضالية منذ انطلاقة المقاومة الفلسطينية هي إما غيرُ مكتملةٍ، أو مغيبةٌ، أو مفقودةُ؛ فسِيرُ المقاومة والمقاومين لم تتمتّع بالحصانة الكافية تأريخاً وتحليلاً ونقداً لمنع اندثارها/نا. وهذه مسألةٌ جوهريةٌ تحتاج لإعادةِ تقييمٍ وعملٍ دؤوبٍ في مبحثٍ منفصلٍ. لذلك، كان لا بدَّ من التوقف عند ما هو أبعدُ من مجرد معرفةِ نظريةِ “يعلون” كإجابةٍ ناجزةٍ، بالسعيِ إلى تفكيك عقلية العدوّ وكشف حِيَله. من هذا المنطلق، أسعى في هذه المقالة إلى تحليل تفاصيلِ لحظةِ المواجهة والاشتباك كي لا نترك للعدوّ مجالاً ولو ضئيلاً للعبث بسردية الفدائيّ باسل الأعرج أو إخفائِها وتشويشِها. السؤال البديهي في هذه الحالة هو؛ لماذا قرر العدوّ تصويرَ عملية الاغتيال؟ ثم لماذا نُشر الشريطُ بهذه السرعة؟ ولماذا كان الشريطُ قصيراً زمنيّاً، وبدونِ صوتٍ كذلك؟ ولماذا تم “المونتاج” بهذه الطريقة؟ وما هو الإيحاءُ المقصودُ من تثبيت الكاميرا بهذه الوضعية؟ وما علاقةُ حركة الكاميرا وانسيابيتها بالتأثير العاطفي على المشاهد؟
* “اليمام”: وحدة “مكافحة الإرهاب” الخاصّة الصهيونيّة.
ثمانٍ وثلاثون ثانية نشرها العدوُّ في شريطٍ مصوَّرٍ يُظهر عملية تصفية الفدائيّ باسل الأعرج بعد ساعاتٍ فقط من تنفيذ الاغتيال. لا أخفي أنّ الشريط أصابني، في البداية، بكآبةٍ عميقة، لأتذكرَ على الفور نظرية كيّ الوعي التي طورها قائدُ الجيش الصهيوني “موشيه يعلون” إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي تهدف إلى تشويه الذاكرة والوعي الجمعي الفلسطيني، وكيّ الذهنية الفلسطينية التي تؤمن بأنّ المقاومة العنيفة سبيلٌ ممكنٌ للتحرير.
نعلمُ أنّ الكثير من سرديات شعبنا النضالية منذ انطلاقة المقاومة الفلسطينية هي إما غيرُ مكتملة، أو مغيبة، أو مفقودة؛ فسِيرُ المقاومة والمقاومين لم تتمتّع بالحصانة الكافية تأريخاً وتحليلاً ونقداً لمنع اندثارها/نا. وهذه مسألةٌ جوهريةٌ تحتاج لإعادةِ تقييمٍ وعملٍ دؤوبٍ في مبحثٍ منفصل. لذلك، كان لا بدَّ من التوقف عند ما هو أبعد من مجرد معرفة نظرية “يعلون” كإجابةٍ ناجزة، بالسعي إلى تفكيك عقلية العدوّ وكشف حِيَله. من هذا المنطلق، أسعى في هذه المقالة إلى تحليل تفاصيل لحظة المواجهة والاشتباك كي لا نترك للعدوّ مجالاً ولو ضئيلاً للعبث بسردية الفدائيّ باسل الأعرج أو إخفائها وتشويشها.
السؤال البديهي في هذه الحالة هو؛ لماذا قرر العدوّ تصوير عملية الاغتيال؟ ثم لماذا نُشر الشريط بهذه السرعة؟ ولماذا كان الشريط قصيراً زمنيّاً، وبدونِ صوتٍ كذلك؟ ولماذا تم “المونتاج” بهذه الطريقة؟ وما هو الإيحاء المقصود من تثبيت الكاميرا بهذه الوضعية؟ وما علاقة حركة الكاميرا وانسيابيتها بالتأثير العاطفي على المشاهد؟
يُظهر الشريطُ ذو الجودة الرديئة مجموعةً من الجنود المدجَّجين بالسلاح يتسلّلون ليلاً من غيرِ إضاءة؛ أيّ دون الإعلان عن وجودهم بصخبِهم المعتاد. ثمّة تعمُّدٌ في إظهار الجنود بهذه الصورة المريبة لترهيب كلّ من تسوّل له نفسُه السيرَ على نهج الفدائيّ باسل، باعتبارهم قادرين على التسلل تحت جنح الليل في أيّ مكانٍ.
لنتوقف بدايةً عند أسلوب وضع الكاميرا؛ فقد تم تثبيتُها بطريقة الـ (Steady Cam)، التي تجعل من الصورة بثباتها وثقتها مماثلةً تماماً لطريقة ألعاب الـ (Counter Strike) واسعة الانتشار والمصممة من منظور الشخص الأول؛ أيّ اللاعب. فالجزء الذي يظهر ثابتاً أمام الكاميرا يمنح المشاهدَ إحساساً وكأنّه ممسكٌ بقبضة الآلة القاتلة التي ستنفذ المهمة، تماماً كما في اللعبة المذكورة.
من الواضح أنّ هذا التوريطَ البصريَّ المخادعَ مقصودٌ. فمن جهة، يُوظَّف لإظهار “الثبات” أو “الثقة” عند الجنود الذين يؤدّون المهمة. ومن جهةٍ أخرى، يُوظَف للتحايل على المشاهد وإشعاره بأنّه ليس متفرجاً يراقب عن بعدٍ فحسب، بل إنّه من يقوم بالفعل أيضاً.
يُدرك العدوّ جيداً الأثرَّ النفسيَّ جرّاء هذا الإرباك غير المباشر، والذي لا نستسلم له بوعينا بالطبع. كخطوةٍ تمهيدية، يسعى العدوُّ أولاً لإحداث حالةٍ من التشويش عند المتلقي في الطريق نحو إيصال فكرةٍ أعمق، وهي الأخطر برأيي؛ أن يقول لنا: أنتم شركاءُ في اللعبة “القتل”؛ أيّ قتل الفكرة التي يريد وأدها عملياً ومعنوياً بأسرع وقتٍ.
إذا ما أردنا تحليل عنصر الزمن، يمكننا القول إنّ الشريط صُمِّمَ، قصداً، ليكون قصيراً زمنياً، ولتكون لقطاتُه متتابعةً بسلاسةٍ أيضاً. ومن أجل تحقيق هذه التقنية الزمنية الدقيقة؛ استُخدم أسلوبُ المزج أو الـ (Dissolve) لربط كل اللقطات ببعضها البعض.
في بديهيات علم الإخراج، يُستخدم هذا الأسلوب للإيحاء بأنّ كلَّ ما سنراه هو وحدةٌ واحدةٌ متتاليةٌ لم يحدث فيها أيُّ قطعٍ زمنيٍ أو توقّفٍ. فلم يستعمل من أعدّ الشريط تقنيةَ القطع، (Cut)، بتاتاً، رغم أنّها أنسب لتوضيب مجموعةٍ من اللقطات المتتابعة ذاتِ الزمن القصير جداً، كما هو الحال بالنسبة لهذا الشريط. فلماذا قام بهذا الاختيار تحديداً؟
برأيي، أراد العدوّ من ذلك أن يرسخَ في ذاكرتنا الشعورية، عندما سنشاهد الشريط، أنّ اغتيال الفدائيّ باسل (الفكرة) يماثل إحساسَ الحلم أو الكابوس الكئيب كلما استذكرنا لحظات اغتياله.
هناك أزمانٌ تحتوي وقائعَ وتفاصيلَ في الشريط بُترت لمصلحة هذا الإيهام؛ فقرابة ساعتين من المواجهة يحولُّها العدوّ إلى ثمانٍ وثلاثين ثانيةً. ساعتان أو ربما أقلُّ من سرديتنا تغيب عنّا بعنف.
لا يحتوي الشريطُ أيَّ عنصرٍ إضافيٍ غيرَ الصورة الكابوسية. لا شيءَ آخرَ قد يضفي روحاً وحياةً أو دراماتيكيةَ متوقّعة. وهذا يقودنا، بديهياً، إلى تعمُّد تغييب الشريط الصوتي بهدف شلِّ قدراتنا الحسيّة على التفاعل، والتحكم بمنسوب الغضب الذي سنشعر به. فنصبح، بالتالي، متلقين سلبيين محبَطين، نشعرُ بالهزيمة والعجز، غيرَ قادرين على تكوين صورةٍ ذهنيةٍ مكتملةٍ عن أي شيء يتعلق بعملية الاغتيال، لتتعمّقَ بذلك فكرةُ المهمة السهلة والخالية من أيِّ مقاومةٍ، كما ذكرنا سابقاً. أضِفْ إلى ذلك أنّنا نصبح مسلوبي المخيلة التي يُفترض بها أن تُستفَزَ تلقائياً كميكانزمٍ دفاعيّ، لتعويض النقص في حكايا المقاومين.
إنّ المخيالَ الشعبيّ، بطبيعته، ينشطُ ويُبدعُ في إنتاج سرديات المقاومين، فتظهرُ لدينا الأغاني والتفاصيل البطولية كبديلٍ، أحياناً، عن عملية التأريخ. هذا المخيال يبثُّ الروحَ ويجددُ الحياةَ في سِيَر مناضلينا التي سنحملها معنا في كل المناسبات.
من أجل كلّ ذلك، لا يريد لنا العدوُّ أن نعرف شيئاً أو نبني مخيلةً ما عن باسل وعن تفاصيل ما قام به هذا البطل، بل يريد فقط أن يصدمنا ويُفجعنا سريعاً دون أدنى فرصةِ اشتباكٍ مع الحقيقة التي قد تُطيل من عُمرِ هذه الحكاية فيما بعد.
يعي العدوُّ كلَّ ذلك جيداً، لذلك بادر إلى إنتاج هذا الشريط الذي سنشاهده مراراً وتكراراً بعد مرور وقتٍ لا بأسَ به من فورة الغضب ومهرجانات الخطابة؛ عندما سنبحث فطرياً عن أيّ دليلٍ ملموسٍ يروي ما حصل أو جزءاً منه، فيكون هذا الكابوس بانتظارنا.
تشريح الشريط
استخدم العدوُّ أسلوباً محدّداً في تقنية المونتاج “توضيب اللقطات” لإظهار حقيقةٍ مضللة، لكن مع التدقيق قليلاً، يمكننا تفكيكُ الخدعة وكشفُ أسلوبِها، وبالتالي إبطالُ مفعولِها. لربما، أنتجت هذا الشريطَ معاملُ الاستخبارات للتقنيات والتحليل والرصد المعقّدة. لكن من يتمعّن فيه، يدرك أنّه من الممكن إنتاجه من على جهاز حاسوبٍ على طاولة مطبخ، دون تقنياتٍ عاليةٍ وخِدَعٍ مُبهرة.
بعد دخول الجنود إلى البيت في الثانية 00:06، تتحرك الكاميرا باتجاه المطبخ على ما يبدو. تكتشف الكاميرا المكانَ بشيءٍ من المبالغة نحو اليمين وإلى الأمام. في الثانية 00:16، تخرج الكاميرا من المطبخ وتلتفُّ يميناً ويساراً، ثم تمتزج لقطتان متتابعتان ببعضهما البعض بدقةٍ في الثانيتين 00:17 و00:18، فيما لا تزال الكاميرا في حالةِ بحثٍ تصيبُك بالدوار “الحلم المزعج”، حتى يصلَ الشريطُ إلى الثانية 00:20 لحظةَ صعود الجندي نحو العلّيّة. في هذه اللقطة، نشاهده يستخدمُ كشافاً ضوئياً ليكتشفَ المكان، بدون أن يُصدِر أيَّ ردةِ فعلٍ. وهذا يدفعنا للشكّ بأنّ باسل لم يكن مرئياً بالضرورة، وربما كان غيرَ موجودٍ لحظتَها في ذلك الموقع، فهل كان الفدائيّ باسل يناور الجنود؟ ربما!
تتواصل أحداث الشريط والجنديُّ يأخذُ وقتَه في البحث حتى الثانية 00:24. عندها، يبدأ إطلاقُ النار، حيث نرى الجنديَّ بالأسفل مع البقية بعيداً نسبياً عن موقعه الذي كان فيه.
إنّ عملية مزج اللقطتين “الجندي مكتشفاً العلّيّة (السدّة)، ولحظة إطلاق النار” تقصدُ إيهامَنا بأنّ الجنديَّ وجد باسل في العلّيّة، وبدأ فوراً بإطلاق النار. لكن لو أنّ ذلك حصل فعلاً، لأبدى الجنديُّ أيَّ ردةِ فعل، وهو يبحث بالعلّيّة، أو كانت لتبدُر عن بقية الجنود، وبالتالي كنا سنرى لقطةً واحدةً متكاملةً تُظهر ذلك.
يستمرُّ إطلاقُ النار حتى الثانية 00:28، أيّ لأربع ثوانٍ فقط! ثم تنسحب الكاميرا باتجاه “الكاريدور” (الممرّ) في المنطقة المُعتمة، وهذا دليلٌ قطعيٌّ أنّ الكاميرا اضطرّت أن تهرب من إطلاقِ نارٍ مضادّ.
لم يجد من نّفذ مونتاج هذا الفيديو مهرباً من استخدام الثانيتين 28 + 29 اللتين تَلَتَا إطلاق النار، “هروب الكاميرا”، ليحافظ على السلاسة والانسيابيّة في مزج اللقطات التي اعتمدها منذ البداية، موهِّماً إيّانا بعدم حدوثِ أيِّ مفاجأة.
لقطةٌ جديدةٌ في الثانية 00:30؛ الكاميرا في موضعٍ متراجعٍ إلى الخلف، حيث تبدو العلّيّة مُقابلةً، على نحوٍ معاكسٍ للمكان الذي انتهت فيه اللقطة السابقة عندما هربت الكاميرا إلى الأمام أسفل العلّية في “الكاريدور” (المَمَر) المعتم. يعود إطلاق النار من جديدٍ على العلّيّة من الثانية 00:30 حتى الثانية 00:32، أيّ لمدة ثانيتين فقط، لتمتزج اللقطةُ فوراً؛ أيّ “هروب الكاميرا” بلقطةٍ أخرى “هروب آخر” ولقطةٍ أخرى كذلك “هروب آخر”. ويستمر الشريط دون إطلاقِ نار، بينما تبقى الكاميرا متواريةً حتى ينتهي الشريط.
الخلاصة
تمّ إطلاق النار في ستِ ثوانٍ فقط من أصل ثمانٍ وثلاثين ثانيةً بالفيديو. لم يمنح الفدائيُّ باسل العدوَّ فرصةً لإفراغ ذخيرته دفعةً واحدةً؛ أيّ لم تكن مهمةُ الاحتلال سهلةً وسريعةً وخاطفةً مع ابن الولجة، وإلا لقدَّم لنا العدوُّ شريطاً استعراضياً من لقطةٍ أو لقطتين طويلتين دون الحاجة لكل هذا المزج واللصق ولعب السيرك التقني بالثواني وحجب الصوت. ثانيتان ثم أربعُ ثوانٍ يا باسل هم الكابوسُ والحلمُ المؤرِّق لهذا الاحتلال وقدره القادم. نعم يا حبيب، أربعُ ثوانٍ فقط أطولُ زمنٍ فعليٍّ، وليس مجازيّاً في عمر الاستعمار، عندما يقاومه ويشتبك معه العاشقون الصادقون أمثالُك. وصلتْ الرسالةُ أيها الفدائيّ.
ساندرا ماضي
سينمائية فلسطينية
إجزم / قضاء حيفا