توجّه هذه المقالة نقداً إلى النظام التربوي القائم على الاستلاب والاضطهاد، وتبحث في آفاق الانعتاق من هذا النظام لبناء منهج تربوي تحرري، خاصةً في سياق الشعوب التي تصبو للتحرّر من الاستعمار.
تسهب المراجع الأكاديمية في شرح أساليب واستراتيجيات التدريس التعليمية الموجّهة في غالبها إلى الدارسين في حقل علم التربية، أو إلى فئة المعلمين والمعلمات، باعتبار المعلم ميسراً ومسهلاً أثناء التفاعل التعليمي- التعلّمي الذي يدور مع الطلبة. تتراوح أساليب التدريس بين الطرق الكلاسيكية مثل طريقة المحاضرة والمناقشة والاستنباط والاستقراء وحل المشكلات والعروض العلمية والاكتشاف الموجّه، فضلاً عن معايير اختيار طريقة التدريس، وصولاً إلى أساليب حديثة مثل التعلّم بالتوليد واستراتيجية التعليم التعاوني، والتعليم بالمتشابهات واستراتيجية اتخاذ القرار. [1] لكن تبقى أغلبية المراجع التي تناولت الأساليب التدريسية ذات طابع اختصاصي وموجهة لفئة معينة، إضافةً إلى أنها تفتقر إلى بنيوية الخطاب مع بقية العلوم والدراسات الاجتماعية، وضعف في الربط بين أساليب التدريس والوقائع الاجتماعية والسياسية.
لو أسقطنا طُرقاً مثل المحاضرة أو العروض العلمية على منطق عمل نظام سياسي أو اجتماعي، سيتبين لنا أن ثمّة حالةً من التسلط والاضطهاد في البنية الاجتماعية أو السياسية، كتلك الموجودة في الخطاب السياسي الديكتاتوري الذي يتصف بنمط إطلاق الأوامر لتابعيه، أو النظم الأبوية الاجتماعية في العائلة التي تفرض ثقافة تعسفية في المجتمع. بالمقابل، لو أسقطنا على ذات المنطق أساليبَ مثل المناقشة والتعليم التعاوني، سنكون بذلك أمام نمط تقدمي لمسار الحياة الاجتماعية والسياسية.
تقوم الحياة التربوية، إجمالاً، على نمطٍ من الهرمية والتسلط، تُصوِّر فيه المعلم بأنه ذو مكانة عليا، يتمركز فيها على طاولة منفصلة تقود جمهور الطلبة، والذين يُعبَّأوا بدورهم بمعلومات وأفكار يمتلكها وحده دون أخذ تجاربهم، مهما كانت بسيطة، بعين الاعتبار. لا يملك المعلم عنفاً معلوماتياً تجاه طلبته فحسب، بل بإمكانه التسلح بأدوات عقاب جسدي أيضاً، فهو الشخص الذي يمتلك سلطة حمل عصا كأسلوب تربوي تجاه الطلبة. كمجتمعٍ تحت الاستعمار، بنينا منهجاً تربوياً خاصاً بنا، إلا أنه محكوم بعلاقة القوى مع السلطة الاستعمارية ويفتقر للحاجة التحررية ومراعاة السياق العام، بل هو أفضل ممثّل لحالة الاضطهاد التي يقودها الاستعمار وتتسرب إلى البُنى التربوية والتعليمية على حد سواء.
تنطلق هذه الورقة من سؤالٍ مفادُه: كيف يمكن لسلطة مرتبطة بالمنظومة الاستعمارية أن تبني منهاجاً تحررياً ونظاماً تربوياً أكثر اتساقاً مع السياق المجتمعي، ويتمحور في النطاق التربوي والاجتماعي والسياسي المرافق لهذه النظم؟ كما تسعى الورقة في القسم الأول إلى كسر علاقات القوى بين المعلم والمتعلم من خلال التنظير للحوار واعتماد التساوي كسمة أساسية تُعلي من القيم الاجتماعية في المجتمعات التحررية. أما في القسم الثاني، فستبحث الورقة في آفاق تبني استراتيجية تربوية تتوافق مع سمة الحوار وحاجات البيئة التحررية.
في محاولة التنظير للحوار
غالباً ما يرتبط نجاح النشاط التربوي بالنسبة لكل جماعة بعنصرين: الأول، الجِبلة التربوية الخاصة بالجماعة؛ أيّ القيمة التي يعطيها النشاط التربوي في قراراته وأحكامه وقيمة المنشأ الاجتماعي لمنتوجات النشاط التربوي. والثاني، الرأسمال الثقافي، أيّ الثروة الثقافية التي تنقلها النشاطات التربوية. [2]
تبرز هذه الورقة أساليب التدريس ذات الطابع الحواري، باعتبار الحوار جِبلةً تربويةً وطريقةً لانتقال النشاط الثقافي. كما تتحدث عن ميزات هذه الأساليب التدريسية الحوارية، وما قد تسهم به في نطاقات أخرى غير التربية والتعليم، فضلاً عن كيفية تسلل بعض هذه الأساليب التدريسية الحديثة إلى قضايا جمعية وجودية أكثر خطورةً، وتوظيفها في تربية المضطهدين بالمعنى “الفريريّ”، نسبةً إلى باولو فريري، وهو مُنظّر في حقل التربية التحررية وعلم النفس المجتمعي.
تأتي أهمية الحوار في السياق التربوي-التعليمي من خلال التشديد على أن الكلام ليس حكراً على أحد، بل هو حقٌ لكل إنسان سواء كان معلماً أو متعلماً أو قائداً أو تابعاً، فلا يمكن لأحد أن يتحدث نيابةً عن الآخر. [3] وتؤدي التفاعلية والتشاركية دوراً أقوى في حل المشكلات والتحرر من الظروف الاضطهادية، وتنسلخ من خلالها السلطة المعرفية للمعلم، وتأخذ طابعاً متساوياً وتشاركياً مع الطلبة مع التأكيد على مبدأ “المعلم الطالب، والطالب المعلم”.
يشبه هذا الغياب السلطوي للمعلم حالة غياب سلطة ثقافية نخبوية– تتمثل في طبقة المثقفين مثلاً- في المجتمع، وهذا ما دعا إليه أنطونيو غرامشي، بحيث يتوجب على المثقف أن يتوحد مع الجماعة، وأن يكون مثقفاً عضوياً؛ أيّ أن يكون ملتزماً بقضايا مجتمعه وآلامه، فالإنسان النشط بين الجماهير هو من يقوم بنشاط عملي فيما بينها. [4]
يقترب – إلى حدٍ ما- تجريد “فريري” للمعلم من سلطاته وتبنيه لسمة الحوار والتشارك الجمعي مع ما أسماه غرامشي “الحس المشترك” لدى المثقف العضوي، والذي يتسم بملامح الانخراط والمشاركة مع المجتمع وعذاباته، على اعتبار أن “المجموعة الثورية التي ترفض التعلّم مع عامة الناس ليست ثورية، بل تصبح نخبوية وتنسى النقطة الجوهرية، في إحدى أطروحات ماركس حول فيورباخ**، القائلة بأن المربي (المعلم) نفسه يحتاج إلى تعليم”. [5]
يتمثّل ذلك تربوياً في استراتيجية التعليم النشط، إذ يشترك المتعلّمون في العملية التعليمية بصورة فعالة، بعيداً عن كونهم مجرد متلقين سلبيين أو مضطهَدين معرفياً، إضافةً إلى إتاحة التواصل بين المعلم والمتعلمين في جميع الاتجاهات. [6] وهذا ما يتوافق، في إسقاطاته المتباينة، مع الطرح “الفريريّ” الحواري في تربية المضطهدين وحق الجميع بالكلام على اختلاف درجاتهم ومواقعهم، وعلاقات القوى في ما بين المتحدثين. ويتسم أسلوب الحوار والمناقشة في البعد التربوي والتعليمي بحالة من التبعية لطريقة المحاضرة، أو استكمالاً تلقينياً للمحاضرة، بحيث يبقى الحوار تحت عباءة أسئلة محددة يطرحها المعلم، وفي أفضل الحالات لا تخرج عن الموضوع الذي يتم تحديده منهجياً، وضمن علاقة القوة بين المعلم والمتعلم.
يبقى أسلوب الحوار أوسع وأكثر نجاعةً، وليس طريقةً قائمةً بحد ذاتها، كما هو مطروح في أدبيات طرائق التدريس، إذ يعتمد الحوار، وفق مراجع التدريس، على طرح الأسئلة المتوافقة مع مستوى الطالب/ة الأكاديمي. [7] وهذا يفترض في تركيبه بنية معرفية ضئيلة للطلبة واستهانة في مهاراتهم المعرفية، والتي يستلزم اكتشافها من خلال ممارسة حقهم في الكلام أولاً، وقبل تحديد الأسلوب.
إن تقسيم الطلبة إلى مجموعات متفاوتة معرفياً يشكل نوعاً من الاضطهاد بحقهم، وانتزاعاً لإنسانيتهم ككائنات عقلانية تمتلك القدرة على التفكير والتأمل، ما يقود إلى ترسيخ أعمق لضرورة إعادة إنتاج طبقات معرفية متفاوتة، وحالة من التبعية لهذه المنظومة المقيدة لقدراتهم ومعارفهم، مع ضرورة التشديد على الصفة الحوارية التطورية منذ الأزل، والمركب الأساسي للتفاهمات البشرية.
وفي هذا الصدد، يقول مايكل أوكشوت: “نحن الوارثون، ليس من خلال السؤال عن أنفسنا أو عن العالم، ولا من خلال تراكم الجسد المعرفي، بل عبر الحوار، الذي بدأ في الغابات البدائية، وامتد وصنع الوضوح عبر مسار القرون. إنه الحوار الذي يدور في الأماكن العامة وبيننا. والتعليم، بشكل صحيح، هو الاستهلال في المهارة والشراكة في الحوار الذي نتعلمه للتعرف على الأصوات، وإدراك المناسبات الملائمة للحديث، والتعليم أيضاً يمنحنا العادات الفكرية والأخلاقية المناسبة للحوار”.[8]
يدرك أوكشوت الحوار كطريقة للتفكير التأملي الذي يرتبط ارتباطاً سببياً بالحوارات الاجتماعية، وما تتضمنها من نطاقات فرعية أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار القيود التي من الممكن أن تُفرض على الحوار، مثل النزعة الذهنية، والقلق الشخصي، والمصالح الاقتصادية، أو انعدام الخبرة والمرونة. [9]
البحث عن تعليم حواري تحرري
استناداً إلى الفرضية التي تم طرحها حول فضاء التعليم كبنية تحررية تستند إلى ثيمة الحوار، ثمّة أنماط تدريسية يمكن تصنيفها ضمن هذا الإطار، وأولها، وبشكل مبدئي وحذر، قالب التعليم التعاوني. يعتمد هذا القالب لتحقيق هيكليته على شروط معينة تهدف إلى تسهيل وتشجيع الجهود المبذولة في إنجاز المهام الأكاديمية. تتجلى هذه الشروط في عدة جوانب؛ أولاً: التوافق الإيجابي بين عناصر المجموعة التعاونية من ناحية الأهداف والأدوار. ثانياً: توافق الوظائف والهوية والعدو الخارجي. ثالثاً: سيادة تواصل تفاعلي بين أعضاء المجموعة، والتي تقوم بنفسها بمهام التقييم والمعالجة من أجل تسهيل وتشجيع الجهود المبذولة في إنجاز المهام الأكاديمية. [10]
في هذا الطرح من التعليم التعاوني، لا بدّ من التطرق إلى جزئية التوافق ومآلاتها، إذ إن التوافق في الهوية والعدو الخارجي يؤدي دوره كأي توافق في مجموعة اجتماعية أكبر. يمكن إسقاط ذلك بشكل واضح ودون تردد على نظرية الهوية الاجتماعية، فالتعاون والتوافق بين المجموعة التدريسية يشبه ذلك التوافق والميزات المتوافرة في أي جماعة اجتماعية أوسع لها ميزاتها الديناميكية والنفسية، وآليات التعامل مع العوامل أو المخاطر الداخلية والخارجية.
ولكن، ما يختلف في الجماعات الاجتماعية أنه لا يوجد في ما بينها مُيسّر “معلم”، بل تحكمها خواص ذات مدى أوسع ومصالحُ متنازعٌ عليها وظواهرُ سيكولوجيةٌ تعمق من حدة الصراع والتنازع، مثل التعصب والتمييز. وهذا ما لا يجب أن يتوافر في ما بين مجموعات التعليم التعاوني، أو يأخذ طابعاً تنافسياً ويتحول إلى سمة حوارية تناظرية حول معتقدات وآراء أو معلومات واستنتاجات الطلبة غير المتوافقة مع البقية، ثم يسعى كل من الطرفين للتوصل إلى نقطة توافق في إطار عملية من الجدل بالمناظرة. [11]
كما أن الصراع البنّاء في المدارس بين الطلبة يأخذ على عاتقه مهمة تعليم مهارات التفاوض والتوسط بين الأقران. [12] والمقصود هنا بالتفاوض كأسلوب حواري بيني في داخل المجموعة، إذ يؤدي دوراً في تقوية عناصر المجموعة الواحدة وحلّ الصراعات الداخلية. ففي السياق التعليمي يتوجب تدريس هذه المهارات كجزء من حالة الصراع البنّاء بين أفراد المجموعة التعاونية الواحدة، والحديث عن هذا النمط من الصراع والتنافس مشروط بوجود بيئة تعاونية. ففي البيئة الصفّية المبنية على مقاربة نظرية تعتمد على “التعليم الحواري”، يتقولب المجتمع فيها بشكل غير مباشر، متمثلاً في مهام التعليم التشاركي، والمجموعات الصغيرة، والمشاركة والاهتمام أكثر من المنافسة، مؤكداً على الجانب التأثيري أكثر من المعرفي. [13]
ويمكن المضي في ما سبق إلى توظيف مفهوم “الحوار النقدي” بين التلاميذ بشكل تطبيقي وخلق حديث فعّال في ما بينهم، أو مع المعلم في ظل التقليل من سلطته. يترك هذا فسحةً حواريةً أوسع بين التلاميذ، تكون فيها مهمة المعلم المركزية هي ترسيخ ثقافة التحدث بين الطلبة، [14] والعمل كميسر للحوار، وراسم للحدود؛ أي أشبه بعمل شرطي المرور أو رئيس فريق المشجعين.
في تلك الحالة، إذا انخرط المعلم بالحوار، حتى ولو بشكل بسيط، فمن الممكن أن يفقد الحوار بنيته وطاقته، فعلى الطلبة أن ينخرطوا في حوار نشيط في ما بينهم، حتى في ظل غياب المعلم،[15] بل يتوجب على غيابه أن يتحول إلى كينونة طالب، بحيث يسمح المعلم لنفسه أن يتعلم، ويُخضع أفكاره للتساؤل والبحث والتغيير المستمر.
ويذهب “سبنسر كاغان” إلى مقاربة بنيوية أوسع في التعليم التعاوني، يرى فيها بأن المعلمين يتدربون على هياكل تعليمية متعددة، ولا يتوجب عليهم تصميم طرق لخلق التوافق الإيجابي والمسؤولية الفردية، بل التركيز على الأسس المناسبة للهياكل المعطاة من أجل أهداف أكاديمية أو اجتماعية محددة، ففن التدريس مبني على الاختيار المناسب للهيكلية مع تحديد الهدف، أياً كان. [16]
إن مقاربة “كاغان” أكثر تحررية من التعليم التعاوني التقليدي المطروح لدى الثنائي جونسون، إذ يتحرر ساغان من المنهاج التعليمي والقوالب الأكاديمية، إلى إجراءات تعليمية تتوافق مع الهدف المطلوب، سواء كان اجتماعياً أو أكاديمياً، ويركز على سلوكيات محددة في المعلم وليس مبادئ عامة، ثم يترك القرار للمعلم باختيار الهيكلية المناسبة في غرفة الصف.
ويبدو طرح “كاغان” هنا كافلاً لقدرٍ أكبر من الحرية للمعلم كقائد للعملية التربوية، ولا بد أن يقود هذا الطرح إلى عملية تعليمية منسجمة بين الطرفين، أي: المعلم والطلاب. ولكن، قد يؤدي منح المعلم حرية أكبر في هذا المجال إلى فرض هيمنة تربوية على الطلبة، ويتحول إلى ديكتاتور أكاديمي، فطرح “كاغان” يركز بشكل مستمر على خلق مهارات وإجراءات لدى فئة المعلمين وكيفية اختيار الهيكلية المناسبة للهدف المراد تحقيقه في بيئة الصف.
يبقى هذا التدريب هو الكفيل الوحيد لصنع معلم يوفر بيئة تعليمية تتسم بالحرية. وتكون الحرية هنا مع الطلبة، فالحوار وإعطاء الطلبة فسحةً من الكلام والتعبير والحق في طرح المواضيع والأساليب التعليمية هو أحد أبرز تجليات الحرية في السياق الأكاديمي، وما لها من إسقاطات أشمل تتجاوز غرفة الصف نحو البيئة المجتمعية الأوسع، من أجل أهداف تحررية.
وتنبع القفزة النوعية في بنية التعليم التحرري، في تحول التعليم التعاوني إلى تعليم تشاركي (collaborative learning)، كونه لا يقتصر فقط على المجموعات الصغيرة التي تريد التعلم، أو الصفوف الأكاديمية، بل يمتد إلى جماعات مكونة من المئات أو الآلاف أو الملايين، تتداخل جميعها في مستويات مختلفة. كما لا تقتصر عناصر تعريف التعليم التشاركي، كالتعلم من الممارسة طويلة الأمد للأعمال البشرية والخبرة المهنية، على المواد التعليمية والمنهجية أو المؤسسة التعليمية فحسب، بل يخطو التعليم التشاركي إلى أبعد من ذلك ليصبح خليةً في النسيج التعليمي التشاركي. [17]
إن في هذه الجزئية عودةً جوهريةً إلى روحية الطرح “الفريريّ”، وذلك في حديثه عن الثنائية التي يُبنى بها الناس، والمضطَهَدون على وجه الخصوص، وهي ثنائية الكلمة والعمل. الكلمة كفعل تفكير يؤسس إلى أدبيات الحوار في المجتمع الساعي إلى التحرر، والعمل كنشاط متداخل مع المنظومة التعليمية التحررية، ليصبح عملاً تعاونياً ضمن مفاهيم ما بعد “فريريّ”.
إن ما يميز التعلم التشاركي، عن كلٍّ من التعليم التعاوني والتقليدي، أنه لا يغير ما يتعلمه الناس بقدر ما يغير السياق الاجتماعي الذي يُطبق فيه. لكي نفكر جيداً كأفراد، علينا التفكير بشكل جمعي، وهذا هو التعليم الذي يمكّننا من التحاور بشكل أفضل. [18]
نستخلص من هنا أن أطروحات التعليم التشاركي لم تكن بعيدة عن روح تربية المعذبين لدى “فريري”، بل كانت تثبت فعّاليتها بأدوات تطبيقية ونماذج أكثر قابلية للممارسة. فلا يمكن بناء مجتمع تحرري قائم على نموذج تعليمي اضطهادي يرسخ حالة العذاب الجماعية، ويدفع الجماعة المضطهَدة إلى استخدام آلية التماهي مع المتسلط والإعجاب بتصرفاته، وصولاً إلى حالة خطيرة من الاستلاب العقائدي. [19]
على وقع ذلك، سيتسرب هذا التسلط السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى الظرف الأكاديمي للجماعة، وتتحول عملية التربية إلى ضرب من ضروب الخنوع للاضطهاد، وإبعادها عن ضرورتها التحررية كشرط للارتقاء بالجماعة الإنسانية.
ختاماً
خَلُصت هذه الورقة إلى التشديد على إمكانية الربط بين النظريات التعليمية في إطار البيئة المدرسية وإمكانية تطبيقها على المجموعات الاجتماعية الأوسع (وبالأخص التي تعيش حالة تحررية وتبني ذاتها في سياق خلاص جماعي من الغبن التاريخي الواقع عليها). بذلك، تحتاج الجماعة إلى سياق تعاوني تشاركي بين عناصرها المترابطة ترابطاً عضوياً وبنيوياً.
لهذا السياق ميزاتٌ توافقيةُ وتواصليةٌ، أبرزها الحوار، كنقطة التقاء وتكامل بين أصول علم التربية والتحرر. يبدو، بذلك، التعليم التشاركي أفضل نموذج تعليم حواري حسب المبادئ التي يستند إليها، ومدى تطبيقه لأسس الحوار النقدي، ونتائجه الإيجابية في المجال التربوي للمجتمع التحرري.
——–
الهوامش:
** لودفيغ أنرياوس “فيورباخ” فيلسوف وعالم اجتماع ألماني (1804-1872)، كان يرى أن الناس هم نتاج الظروف والتربية، لكن ماركس عارضه وانتقد رؤيته المادية، لتقضي فكرته بقدرة الناس على تغيير ظروفهم وضرورة إخضاع المعلم للتربية والتعليم، وبالتالي فإن المربي (المعلم) نفسه أيضاً يحتاج إلى عملية تربية (تعليم). ومن وجهة نظر ماركس أيضاً، فإن الذي يبقى ويصمد هو النشاط الإنساني العقلاني، الواقعي والمحسوس، ألا وهو العمل الثوري. [20]
قائمة المراجع:
[1] اللولو، فتحية صبحي سالم. (2006). ” استراتيجيات حديثة في التدريس”. الجامعة الإسلامية، كلية التربية: غزة.
[2] بورديو، بيير. (1994). ” العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع التربوي”. ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء، المغرب. بيروت ، لبنان.
[3] فريري، باولو. (2002). ” نظرات في تربية المعذبين في الأرض”. ترجمة مازن الحسيني، الطبعة الأولى، دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع بالتعاون مع المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية.
[4] Gramsci, Antonio. (1971). ” Selections from the Prison Notebooks”. Translated & Edited: Quintin Hoare & Geoffrey Nowell Smith. International Publishers, New York.
[5] Freire, Paulo. (1985). “The Politics of Education: Culture, Power, and Liberation”. Bergin & Garvey Publishers, Inc. USA.
[6] السيد علي، محمد. (2011). ” اتجاهات وتطبيقات حديثة في المناهج وطرق التدريس”. الطبعة الأولى. دار المسيرة للنشر والتوزيع: عمان، الأردن.
[7 ] شاهين، عبد الحميد حسن عبد الحميد. (2011). ” إستراتيجيات التدريس المتقدمة وإستراتيجيات التعلم وأنماط التعلم”. كلية التربية بدمنهور، جامعة الإسكندرية.
[8] Oakeshott, Michael. (1962). “Rationalism in politics”. London: Methuen
[9] Bruffee, Kenneth A. (2003). “Collaborative leaning and Conversation of Mankind”. Cross- talk in Comp Theory: Section Four (P 415- 436). The National Council of Teachers of English, 2003
[10] Jonson, D., Jonson, R. & Smith, k. (1991). “Active learning: Cooperation in the Classroom”. Minnesota: Interaction Book Company
[11] مرجع سابق.
[12] Jonson, D &Jonson, R. (1994). ” Constructive Conflict in the Schools”. Journal of Social Issues, Vol. 50, No.1.1994. P: 117-137
[13] Alexander, Robin. (2008). “Culture, Dialogue and learning: Notes on an Emerging Pedagogy”. Exploring Talk in School: Inspired by the Work of Douglas Barnes, Chapter 6. SAGE publication Ltd: Los Anglos, London, New Delhi, Singapore, Washington DC.
[14] Gilles, Carlo & M. Pierce, Kathryn. (2008). ” From Exploratory Talk to Critical Conversations”. Exploring Talk in School: Inspired by the Work of Douglas Barnes, Chapter 3 . SAGE publication Ltd: Los Anglos, London, New Delhi, Singapore, Washington DC.
[15] Dool, Richard & McMahon, Tim. (2008). ” Dialogue Intensive learning”. Board of regents of the University of Wisconsin system. 24th annual conference on distance teaching & learning.
[16] Kagan, Spencer. (1989). ” On Cooperative Learning: a Conversation with Spencer Kagan”. The Association for Supervision and Curriculum Development. Californian, USA.
[17] Dillenbourg, Pierre. (1999) “What do you mean by collaborative learning?” In P. Dillenbourg (Ed) Collaborative-learning: Cognitive and Computational Approaches. (pp.1-19). Oxford: Elsevier.
[18] (Bruffee, 2003)
[19] حجازي، مصطفي. (2005). ” التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”. الطبعة الخامسة، المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء، المغرب. بيروت، لبنان.
[20] نوري، عبد الجبار. (2017). ” أطروحات ماركس حول فيورباخ 1845″. مجلة الحوار المتمدن، العدد : 5433، فبراير، 2017.