رحلةٌ إلى فلسطين في عشرينيّات القرن الماضي، بدأها الأديب اليوناني “كازانتزاكي” متعاطفاً مع الصهيونية وأنهاها في موقفٍ مخالفٍ لها، ولكن ليس رفضاً لجوهرها الاستعماري. ما الذي قاده لهذا الموقف؟ وكيف نظر إلى البلاد وأهلها؟ مقال لخالد بشير
في عشرينيّات القرن الماضي، وبالتزامن مع بدايات الاستعمار الإنجليزي لبلادنا فلسطين، دوَّن الأديب اليوناني “نيكوس كازانتزاكي” (1883-1957م)، صاحب رواية “زوربا” الشهيرة، مشاهداته وتأمّلاته لرحلته إلى فلسطين؛ جاءها عبر البحر في رحلةٍ دينية، ونزل في يافا قاصداً المقدّسات، وجال في البلاد.
ساهمت بداياته المهنية ككاتبٍ صحافي في صقل وتشكيل رؤاه ومنظوره للعالم وصياغة تجربته وأسلوبه الأدبي الخاصّ. إذ تطلّب منه العمل السفر إلى بلدانٍ عديدةٍ، ممّا جعل ما دوّنه يتعدّى الوصف ليكون تسجيلاً لتأملاتٍ وملاحظاتٍ وحواراتٍ مرتبطةٍ بما عاين، وتتمحور حول القيم والمعاني الجمالية والإيمانية.
في تدوينه لمشاهدات رحلته إلى فلسطين عام 1926، [1] يجمع “كازانتزاكي” ما بين التصوير التفصيلي للإنسان والفضاء الفلسطيني، وما بين تأمّلاته وخواطره، وما بين حواراتٍ دارت بينه وبين يهودٍ صهاينة استوطنوا في فلسطين. تبدأ الرحلة بوصف المشاهدات، قبل أن تتمحور حول مناقشة الصهيونية ومشروعها الناشئ في فلسطين.
“الشرق السحري”
على خلاف غيره من الرحّالة الأوروبيين، كان “كازانتزاكي” يشعر بنوعٍ من الرباط يشدُّه إلى “الشرق” و “المشرق”؛ كونه ولِد ونشأ في جزيرة كريت اليونانية، أواخر القرن التاسع عشر، والتي كانت جزءاً من الدولة العثمانية آنذاك. إلا أنَّه لم يختلف كثيراً والرحّالة الأوروبيين المستشرقين في النظر إلى الشرق باعتباره فضاءً يزدحم فيه كلّ ما هو سحري وعجائبيّ وروحانيّ.
يبدأ “كازانتزاكي” بوصف مشهد الوصول إلى يافا: “ظهرت يافا داكنةً بجانب الرمال البيضاء أمامها، وعلى يسارها ظهرت المدينة اليهودية الجديدة؛ “تل أبيب”. ثمّ يشرع برسم صورةٍ بصريّةٍ للمدينة، يسرد فيها العناصر المميّزة فيها، وهي الفضاء المفعم – من المنظور الاستشراقي الغربي – بالحياة والألوان والروائح: “رمال، حدائق، نساءٌ عربيات ذلِقات اللسان، أشجار تينٍ بري، قطوف تمر. أرصفة، أسوار، أبوابٌ حصينة، جلابيات بيضاء، شالاتٌ حمر وخضر، رائحة التوابل الشرقية، فواكه منثورة، صيحاتٌ هائجة”.
ينتقل “كازانتزاكي” إلى القدس، ويصف أجواءها خلال احتفالات سبت النور في كنيسة القيامة واحتشاد الحجاج فيها، ولا تغيب عن وصفه للمشهد نظرته الاستشراقية: “كان المسيحيون العرب، غائمو العيون، المنفعلون، الذين يطلقون الصيحات، يرتدون الطرابيش والجلابيب الملوّنة، ويتسلقون السطوح القرميدية… والأمهات يكشفن عن صدورهنّ، أمام هذه الجموع الغفيرة، ليقمن بإرضاع أطفالهن”.
وحتّى تكتمل الصورة، لا يغفل “كازنتزاكي” عن وصف الرائحة، لتمتزج وتتكامل مع عناصر الحركة والأصوات والألوان، فيقول: “كانت رائحة العرق البشري تملأ الجو… كانت الأنفاس تتردد واحداً بعد الآخر، وكانت الروائح المختلطة تهب عليّ، بعضها يحمل رائحة الخمر والثوم، وبعضها يحمل رائحة الشموع المحترقة، والبخور، واللبان. وبين لحظة وأخرى كان يداعب أنفي شذا رائحة زهور الربيع السماوية؛ فقد جاءت إحدى الفلاحات وهي تحمل باقة من الزهر، ووضعتها على القبر”.
وبالطبع، لا يكتمل هذا الوصف الاستشراقي للمشهد المشرقي الحيويّ، الزخِم بصرياً وصوتياً، إلا بالإشارة لعنصر القذارة باعتباره جزءاً من المشهد، واصفاً عبوره في شوارع القدس: “كنتُ أحاول المرور بسرعةٍ خلال هذا الحشد البشري الحائر، وأنا مفتونٌ بسحر الألوان، والعطور، وضجيج أولئك الأناضوليين القذرين الرائعين.
وفي بيت لحم، يتوقّف عند وصف النساء، وتفاصيل ملابسهنّ وزينتهنّ: “بعد ذلك، تقدّمت نسوة بيت لحم، وهنّ يرتدين عصابات الرؤوس المخروطيّة الطويلة، وشالاتهنّ البيضاء الناصعة، ورمَيْن بأنفسهنّ داخل هذه الأمواج المختلطة ألوانها، في تناغمٍ مُنعِش وعنيف، يشبه احتفالات عودة القوّات المحاربة… أخذت الأذرع السمراء تضرب بعنف، وأخذت الأساور التي تزيّن معاصم النساء تصطخب، ولمعت أظافر النسوة المطلية بالحناء كقطراتٍ من الدم”.
روحانيّة تقود إلى الصهيونية
لا تقتصر تأمّلات “كازانتزاكي” على الوصف التفصيلي لظاهر المكان، بل تتجاوزه لما ترتبط به من معانٍ وتمثّلات، وما لعبته ثنائية الروحاني (الإيماني) مقابل الماديّ (الإلحادي) من دورٍ في بناء الهاجس المعنوي الأكبر الذي كانت تفرضه طبيعة العصر الحداثي. إذ يستذكر “كازانتزاكي” رحلته إلى موسكو قبل أشهرٍ قليلةٍ من قدومه إلى فلسطين، فبينما فلسطين هي مكانٌ ومقصدٌ للحج الديني، فإنّ هناك في موسكو قِبلةً جديدةً أو “قدس جديدة”، كما يسمّيها، ويصفها بأنّها “قدس القلوب الهائجة الثائرة”، هي قبلة للمؤمنين بالمادّة، وهو يعني تحديداً المدّ الاشتراكي البلشفي الصاعد في حينه هناك.
أراد “كازانتزاكي” من هذه المقابلة إبداء قدرٍ من الاحتفاء بالصهيونية وتقديمها باعتبارها “تحقّقاً روحانياً” في مواجهة النزعات المادية الطاغية، فيُمكن تلمّس عقدة مقابلةٍ ما بين الحلم المادي في روسيا، والروحاني المؤمن في فلسطين. وهو باعتباره مؤمناً مسيحياً فإنه لا يجد صعوبةً في تبنّي مقولات الصهيونية ذات المضمون الديني الخلاصيّ.
هنا مثلاً نجد وصفه التفصيليّ المحتفي بمشهد صلاة اليهود عند حائط البراق: “لقد اجتمع اليهود في هذا المكان الذي جاؤوا إليه من جهات الأرض الأربع، ليغرقوا جميعاً في هذا الطقس البكائي الغريب، جاؤوا من غاليسيا، بسترهم الطويلة، وشعورهم التي تتهدل على الصدغ، ومن الجزيرة العربية بجلابيبهم البيضاء، ومن بولندا بشعورهم الحمراء القصيرة، ومن بابل بكلّ جلالهم ومهابتهم، تلك المهابة التي يتصف بها الآباء التوراتيون، وجاؤوا من روسيا، وإسبانيا، واليونان، والجزائر”.
ويستطرد: “كانوا مبعثرين في كلّ بقاع الأرض، في غيتوهات اليهود المظلمة، وفي العصور الوسطى، كانت الجدران العالية تفصلهم عن بقية المدينة… وكانوا يلبسون لباس الخزيّ… حتى يتمكّن معذبوهم من تمييزهم… وفي مخاض حياة العار هذه، وفي حمّى الموت والاستشهاد، كان هذه الحائط يومض أمام عيونهم، كأنّه الملجأ. كان يومض في مدارج روسيا المغطاة بالثلج، وفي سهول إسبانيا المشمسة، وكان صهيون يسمو في صرخاتهم وبكائهم. بعد ثمانية عشر قرناً ها هم الآن ينوحون، ووجوههم تتّجه نحو هذا الحائط. وبعد قرونٍ عديدة، ها هم الآن يرسلون ممثليهم: الفقراء، والمسنين، الذين سخِرت منهم شعوب الأرض، إلى هذا الحائط، حتى يستطيع “يهوه” أن يرى الهوة السحيقة التي سقط فيها شعبه المختار، وليدرك أنّه قد حان الوقت كي يتذكّر ويحفظ كلماته، ألم يعدهم بأنه سيورثهم الأرض؟”.
يمكن القول إنّ النزعة الإيمانية، بالإضافة إلى مواجهته التيارات المادّية الملحدة، دفعتاه للتقاطع مع الصهيونية. يظهر ذلك جليّاً في حواره مع “صديقٍ عبريّ” كان بصحبته، ووصفه له بأنه “كان من المغامرين الملحدين الجدد، المنطقيين”. يبدأ الحوار باستدارة الصديق نحوه: “أرسل إيماءةً ساخرة، وقال: يعتقدون أن صرخاتهم التي يطلقونها في الهواء قادرةٌ على إعادة بناء القدس، في حين أنّ الإنتاج الضخم، وتوزيع الثروات، هما وحدهما القادران على خلق الجنس البشري الفعّال، وبناء القدس الجديدة”، ردّ عليه: “يا رفيق هذه الأصوات التي تسخر منها، كانت دائماً البشائر التي زرعت البذور في الهواء، فبعد ألفٍ أو ألفين من السنوات، جئتم أنتم أيّها السيكولوجيون، والمنطقيون، كي تحصدوا ثمارها. إنّ الإعداد الروحيّ للواقعيّة يتمّ دائماً بهذه الطريقة. إن غصص القلب التي تصرخ، تتحوّل إلى أصواتٍ وعواصف، وتجد قلوباً أخرى، وتدخل إلى العقول، والأيدي، والقوى الفاعلة، لتعبّئ تلك القوى المرئية وغير المرئية”.
لاهوت استعماري
يتفق “كازانتزاكي” في نظرته لأرض فلسطين مع المنظور الاستعماري؛ أراضٍ مهملة بالعموم، جزءٌ كبيرٌ منها صحراوي، باستثناء بعض المدن هنا وهناك. وبوصفٍ يمزج بين الواقعية والرومانسية يتحدث “كازانتزاكي” عن صحراء البحر الميت: “لقد اكتوت عيناي وأنا أنظر إلى تلك الصحراء المتبخّرة من القدس حتى نهر الأردن، والبحر الميت. لم أرَ زهرةً واحدةً تنمو، ولا قطرة ماءٍ تتصاعد من تلك الأرض الجافة، كانت الجبال موحشةً صارمةً وصعبة المنال؛ كانت نموذجاً رائعاً للفنان الذي يعشق الجمال المتقشّف التراجيدي في هذا العالم، ونموذجاً رائعاً للخصب الذي يتوالد داخل الأنبياء الذين يريدون العيش داخل عزلتهم، لكنّه للناس العاديين، الذين يريدون أن يبنوا بيوتاً، ويزرعوا أشجاراً، وينجبوا أطفالاً، فإن هذه البريّة الموحشة القاسية لا تحتمل أبداً”.
لكنّه أيضاً يخالف تلك النظرة بوقوفه عند بعض الاستثناءات التي يؤكّد فيها على الوجود الفلسطيني المتجلّي في مراكز حضاريةٍ وأراضي زراعيةٍ خصبة، فليست جرداء مهملةً كما في الرواية الصهيونية. فيصف أريحا بالقول: “وفجأة، ترى أريحا تبتسم لك، كواحةٍ معزولة، وتجد نفسك أمام بساتين الرمّان، وأشجار الموز، والتين، والتوت، وكلّها محاطةٌ بسياجٍ من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، فترتاح عيناك”. قبل أن يستدرك: “ولكنّ هذه الواحة سرعان ما تختفي وتبتلعها الرمال!”. ثم يردف عن حيفا، والخليل: “في حيفا ترى بساتين الرمّان المزهرة والمتجددة، وبساتين أشجار البرتقال والليمون، وفي الجنوب، في مدينة إبراهيم الخليل القديمة، تحسّ بألفة وطمأنينة الأرض وهي تستقبل محراث الإنسان”.
كما يصف الشمال الفلسطيني، مكملاً ما ابتدأه من تفنيدٍ لصورة فلسطين الصحراوية القاحلة: “في السامرة والجليل، تبدو الجبال أكثر ودّاً وألفةً في مظهرها العام، حيث ترى الطيور والمياه والأشجار، تعطي للطبيعة أُنسها وألفتها”، إلا أنّ النظرة الاستشراقية نازعته ليستدرك من جديد: “ولكنّ أمراض الحمّى تقتل الناس، حتّى الطيور التي تحلّق فوق الرؤوس يدركها الموت”.
يختتم “كازانتزاكي” وصفه البانورامي لأرض فلسطين بالعودة للتوافق مع السردية الصهيونية الاستعمارية، والقائمة على ربط الخراب والإهمال في فلسطين بالوجود والحضور العربي، فيقول: “في العصور التوراتية، كانت فلسطين تفيض بأنهار اللبن والعسل، وكانت قطوف العنب ثقيلة جداً، لدرجة أنّ القطف الواحد كان بحاجةٍ إلى رجلين لحمله. أما الآن، فإنّ المظهر الفلسطيني غير ظاهر، فقد جلب العرب صحراءهم الموروثة معهم”!.
ثمّ ينتقل، عبر وصفٍ يمزج الرومانسية مع المنطق الاستعماري، للحديث عن النمط الاستعماري الاستيطاني الزراعي مُبدياً إعجاباً وإشادةً به، يتحدث فيه عن “روحٍ يهوديةٍ” تعمّر وتُحيي الموات وتبدّد الخراب، وتعيد النور إلى الأرض (فلسطين) المتروكة والمهجورة: “لكنّ نفَساً جديداً يتبلور، فالروح اليهودية القديمة تهبّ مرّة أخرى، فوق سهول وأودية فلسطين المقفرة. لقد عاد اليهود، ليحرثوا الأرض ويشقّوا أقنية الماء، ويزرعوا، ويبنوا، إنّهم يحاربون بطريقةٍ نبيلة، يستثمرون الأرض، كي يتمكنوا من التغلّب عليها وقهرها. إنّهم يحاربون كي يعيدوا النور، والمتعة، إلى بلادهم المتروكة والمهجورة”.
إذن، يتفق من خلالها مع المنظور الاستعماري الصهيوني لأرض فلسطين. لكنّ الصهيونية منها ما هو ذو بُعدٍ ماديّ كما كان حال الغالبية من الاتجاه الصهيوني العماليّ، ومنها ما هو ذو بُعدٍ وطابعٍ رومانسي ديني–ثقافي. وبحكم ميل “كازانتزاكي” إلى الروحانية والإيمان، يُبدي ميلاً لهذه الأخيرة، مستشهداً بقول حاخامٍ يهوديٍ قابله، يقرن تحرير اليهود-وهو تعبيرٌ ذو مضمونٍ ديني يتعلّق بتصورات الشعب اليهودي عن العقاب الإلهي بالتشتت والوعد بالعودة إلى الأرض الموعودة- يقرن هذا التحرير بامتلاك و “تعمير” فلسطين، وهو ما يُمكن أن نطلق عليه “لاهوت استعماري”، فيقول: “حاخامٌ يهودي من أصحاب الشركات العقاريّة الجديدة، كان يتحدث لي ويقول: كلّ إنسانٍ يحمل على عاتقه مهمةً حقيقيةً تتعلّق بالأشياء التي يجب عليه أن يحرّرها: عليه أن يحرّر أرضه، أدوات تجارته، جسده وعقله، لكن كيف؟ عن طريق استعمالها، وتهذيبها، وتطويرها، فإذا لم يستطِع تحريرها، فلن يكون بإمكانه تحرير نفسه. وكذلك، فإنّ لكل شعبٍ مهمةً رئيسيّةً تتعلّق بالأرض، والموروثات، والأفكار، وهذه الأشياء يجب أن تتحرر، فإذا أراد اليهود أن يتحرروا، فيجب أن يمتلك الشعب اليهودي فلسطين”.
ضد الصهيونية.. الشتات خيرٌ
تبلغ الرحلة ذروتها في الجزء الأخير منها، وهو المشهد الذي يحاور فيه “كازانتزاكي” فتاةً يهودية صهيونية في القدس، ويسجّل انقلاباً في هذا الحوار. فهو وإن كان قد اتفق مع المنظور الاستعماري للصهيونية ولم يخالفه، إلا أنّه عاد ليفصح عن معارضةٍ صريحةٍ للصهيونية، ولكن ليس من منطلق إيمانٍ بضرّرٍ صهيوني سيلحق بأهل فلسطين، وإنّما من منطلق إيمانه بأن اليهود يجب أن يظلّوا مقترنين بالشتات، وأنّ الشتات هو وطنهم، وأنه هو أساس تكوين شخصيتهم، والدافع الكامن وراء إبداعاتهم.
يصف “كازانتزاكي” الفتاة التي التقاها في حديقةٍ للأطفال اليهود في القدس: “فتاةٌ يهودية شابّة، تعمل معلمة، وتدعى “جوديت”، كانت في حوالي العشرين من العمر”. سألها: “ماذا حصل كي تصبحي صهيونية؟”. قالت: “كنتُ قلقةً حائرة، فقد كانت أوروبا كلها تبدو لي قديمة، مألوفة، ومبتذلة، كنتُ متعطشةً لشيءٍ جديد، ولهذا فقد جئت إلى فلسطين”.
يضع “كازانتزاكي” هذا الوصف والمنطق الدافع لـ”التصهين”، ليعود ويقدّم الصهيونية باعتبارها رحلةً ذات مضمونٍ روحاني وقيمي، إذ يرى أنّ رحلة هذه الفتاة نحو الصهيونية أقرب إلى مغامرةٍ وتعطّشٍ لخوض تجربةٍ غير مألوفة، تجربة خلق عالمٍ وكينونةٍ جديدين. يؤكد “كازانتزاكي” هذا المعنى، فيعود مجدداً للمقارنة بين الرحلة والمغامرة الصهيونية ذات المضمون الديني، وبين المغامرة والتجربة الصاعدة آنذاك في روسيا البلشفية، ذات المضمون الإلحادي: فيسألها: “قلت: لِمَ لَمْ تذهبي إلى روسيا، يقولون إن عالماً جديداً يتشكّل هناك؟ قالت: لأنّه لا توجد حريّة هناك. مجموعة فظّة قاسية، تحكم الآخرين، كلّ الآخرين. والحقيقة إن مجموعة البروليتاريين هذه لم تكُن تريحني مطلقاً. كنتُ أريد الحريّة”.
يبدو وكأنّ ابتسامة “كازانتزاكي” ارتسمت مع هذه الإجابة، ليعود ويؤكّد: “قلت: وهل وجدتها هنا، في فلسطين؟ قالت: هنا نعمل بشكل حرّ، نحاول، نجرب، ونبحث من أجل إيجاد شيءٍ ما. هنا تستطيع أن تجد شعباً تعمل معه، طبقاً لمزاجك الشخصيّ، هنا تجد الثوريين المتطرفين في ثوريّتهم والمحافظين الموغلين في تقليديتهم، هنا تجد الحريّة. للمرة الأولى أشعر أنني حيّة، وقويّة، وقادرة على حبّ الأرض التي لم ألتفت إليها أبداً وأنا في أوروبا، وقادرة على الإحساس بالغبطة لأنني أنتمي للجنس اليهوديّ”.
إلى هنا يكتفي “كازانتزاكي” في تقرير مدى شمول الصهيونية لمضامين الحرية والمعاني الإيجابية، لينقلب في الحوار ويذهب لتقرير وشرح منظوره، الذي وإن كان يرى في الصهيونية الكثير من المعاني التي يتفق وإيّاها، إلا أنه يقرّر ما يؤمن به صراحةً بخصوص اليهود وقضيتهم؛ إنّه لا يؤمن بفكرة الوطن القومي لليهود المقترن بأرض وجغرافيا محددة، ويردّ عليها: “بعبارةٍ أخرى، لقد بدأتِ بفقد حريتك، لقد بدأتِ بتقييد نفسك وشدّها إلى ركنٍ معيّن من الأرض، وبدأتِ بتضييق مساحة قلبك، فبعد أن كان فيه متّسعٌ لكلّ العالم، أصبح الآن يميّز، ويفرّق، ويختار، ولا يتقبّل سوى اليهود، ألا تشعرين بالخطر؟”.
لا ينتهي الحوار، بل يتواصل، تنطلق الصهيونية الشابة في التعبير عن حالة النزوع والاضطرار إلى الدولة، إلى الاستقرار والارتباط بأرضٍ محدّدة، وتجيب: “نحن لا نريد أن نظلّ اليهود الرُّحّل، أكثر من ذلك”. هذا الجواب الذي يبدو صادقاً ويعبّر عن حالةٍ من الحاجة والاضطرار، هو ببساطة المنطق الذي يقوم عليه هذا البعد من الصهيونية، فيردّ: “هذا هو الخطر الذي أتحدث عنه، أنتم لا تريدون التقدّم أكثر من ذلك. إذا كان الهدف من الحياة هو السعادة، أن تأكلوا جيداً وتناموا بأمان، وتعيشوا بسلام، فهذا ليس سوى تبريرٍ بأنّكم تريدون أن تهربوا من الاضطهاد. لكن إذا كان الهدف من الحياة، أصعب من ذلك بكثير، وهو أن يناضل المرء من أجل إحداث أقصى ما يستطيع من تغييرٍ في سلوكه وتفكيره، وقيمه الجمالية، وأن يسمو على عذاباته، عندها، وبلا جدال، تكون الحركة الصهيونيّة منافية ومناقضة لمصالح جنسكم اليهوديّ”.
لا يرفض “كازانتزاكي” الصهيونية من حيث جوهرها الاستعماري وارتباطها بتأسيس “وطن قوميّ” في فلسطين، بل انطلاقاً من إيمانه برؤيةٍ أكثر روحانيّة ورومانسية لليهودية واليهود. إنّه يؤمن بخصائص محدّدةٍ مقترنةٍ بتشكيل نفسيّة وشخصية اليهودي. إنّ “إبداع اليهودي”، بالنسبة له، مقترنٌ بالقلق وعدم الراحة وعدم الركون. أمّا الصهيونية فهي في جوهرها انتقالٌ باليهودي إلى حالةٍ من الراحة والدعَة والرخاء. حالةٌ من الاستقرار، وبالتالي حالةٌ من الموت والفناء. الصهيونية تميت اليهودي، ليس بالمعنى المادي، وإنّما هو موتٌ من ناحية تعطّل الإبداع، وتعطّل الخصوصيات المقترنة بالتكوين النفسي وبالذروة الحضارية والإبداعية لليهوديّ.
يقرّر هذا عبر الإجابة على تساؤلها، “لِمَ لَمْ يأخذ الإنجليز والفرنسيون، واليونانيون، مثل هذا الدور من الترحال إذاً؟ أم أنّك تعتقد أن إسهاماتهم بمجملها قد تضاءلت لأنه أصبحت لهم بلاد؟” يجيب: “لكلّ شعبٍ مناقبه الخاصّة، وعيوبه الخاصّة، وبالتالي فإنّ له طريقته الخاصّة للوصول إلى ذروته، واليهود يمتلكون هذه الخاصيّة العظيمة: ألّا يرتاحوا، ألّا يتوافقوا مع حقيقة الزمن، أن يناضلوا من أجل الهروب، أن يعتبروا كلّ تمثالٍ سجّاناً، وكل فكرةٍ سجناً خانقاً. من خلال هذا الوضع الذي لا خلاص منه، استطاعت الروح اليهوديّة أن تحطّم التوازن، وأن تدفع نحو التكامل والارتقاء، وأن تثير عناصر الكبرياء والفخر في الحياة. هذه الروح لا تقنع، ولا تعرف التوقّف”.
بالنسبة لـ”كازانتزاكي”؛ الشتات هو القلق والمعاناة، وهو القوّة الدافعة للخلق والابداع، ويواصل إجابته: “كلّ هذه الأشياء التي تطلقون عليها “الشتات”، ألزمت الجنس العبريّ منذ ألفيْ عام، وشكّلته وكوّنته. لقد عانى اليهود وذاقوا الرعب والقتل، وقد ترك هذا صبغته التي لا تُمحى على نفسية اليهود. هذا هو السبب الذي جعل المثقفين الذين يحتلّون المراكز العُليا ويقودون صُنّاع القرار في العالم من اليهود، لأنكّم كنتم مشتتين في بقاع الأرض، وقلقين. هكذا كنتم في ذلك العصر البائد الذي دمّرتموهُ بأيديكم، الشتات هو وطنكم! لا جدوى من هذا الهرب من قدركم، والبحث عن السعادة والأمن، في هذا البلد النائي”.
يختم “كازانتزاكي” الإجابة والحوار، والرحلة، بأمنيةٍ وأمل، ظاهرهما العذاب وباطنهما الرحمة: “آمل، لأنني أحبّ اليهود، أن يتمكّن العرب، عاجلاً أم آجلاً من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”. يعزّز الأمل بالاستدلال والبرهان: “هذه الحركة الصهيونيّة الحديثة، أيضاً ليست سوى قناعٍ يلبسه قدركم المتجهّم ليخدعكم إلى ما لا نهاية، ولهذا السبب فأنا لا أخاف الصهيونيّة؛ كيف يستطيع خمسة عشر مليوناً من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟! لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم -وهذا هو الذي لا يجب أن تنسوه أبداً- جموعٌ من العرب السمر الأشدّاء المتحمسّين”.
*****
[1] نُشرت مشاهدات “كازانتزاكي” في الصحف اليونانية في عام 1926، ثمّ أعاد نشرها ضمن كتابه “ترحال” في عام 1927، والذي اشتمل على مشاهداته في كلّ من فلسطين ومصر وإيطاليا وقبرص. نُشرت النسخة العربية من “رحلة إلى فلسطين”، ترجمة منية سمارة ومحمد الظاهر، في عام 1989، عن مؤسسة خلدون للدراسات والنشر (عمّان-الأردن).