ضمن سلسلة “إضاءات على المعرفة الغربية والحروب الاستعمارية” يعيد عنان الحمد الله موضعة المعرفة الحديثة والإنتاج المعرفي الاستعماري من خلال التأطير التاريخي لـ”النظام العالمي” للحداثة الاستعمارية، وتحويل المؤسسة العسكرية الغربية ثقافة الخصم إلى سلاح موجّه ضدّه، وتوظيفها في مكافحة التمرد.

(هذا المقال هو الرابع ضمن سلسلة “إضاءات على المعرفة الغربية والحروب الاستعمارية” للكاتب عنان الحمدالله. بإمكانكم الاطلاع على المقالات الثلاث السابقة من هنا:  المقال الأول، الثاني، الثالث. كما بإمكانكم الاستماع إلى المحاضرة التي قدّمتها الباحثة بدور حسن، بعنوان “خمسة قرون من الاستعمار: عن الشرايين التي لا تزال تنزف”، ضمن نشاطات الجامعة الشعبية، دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرّر المعرفي).

****

في الوقت الذي كان فيه الباحثون والأكاديميون- في الدراسات المناطقية بشكلٍ عامٍ، ودراسات “الشرق الأوسط” بشكلٍ خاصٍ- يناقشون نظرية التحديث (Modernization Theory)، كانت النظرية ذاتها محلَّ تشكيكٍ في ذاك الوقت. لم يكن هذا التشكيك نتيجةً للنقد العميق الذي تلقّته في سياق مجابهة نظرية التبعية وحسب، وإنّما في الأساس نتيجة الهزيمة العسكرية التي مُنيت بها الولايات المتحدة الأمريكية في المسرح العملياتي في فيتنام.1

جاءت نظرية التحديث في المقام الأول لاستدخال وإدماج “المجتمعات” رغماً عنها في دورة الحداثة/الكولونيالية لضمان هيمنة القوى الاستعمارية؛ فاستخدام علماء العلوم الاجتماعية الغربيين مصطلح (تحديث – Modernization) جاء ليدلّل على عملية تحوّلٍ ما اصطُلح عليها – في لغة علم الاجتماع الغربي- “المجتمعات التقليدية” إلى “المجتمعات الحديثة”. يقول لوكمان إنهم “رأوا في هذه العملية بعداً عالمياً، التي تُمثّل تطوراً أحاديّ الخطيّة، لأنه محتّمٌ على كل مجتمعٍ على وجه المعمورة خوضَ هذه العملية الانتقالية، رغم ما تحمله أحياناً من حالة عدم استقرار عنيفة ومؤلمة، إذا ما كان الهدف الهروب من “التقاليد” للوصول إلى “الأرض الموعودة” للحداثة”.  [1] 

لا يقتصر توصيف “المجتمعات التقليدية” في هذا السياق على عادات الشعوب المختلفة وتقاليدهم، بل يشمل أنماط حياتهم الخارجة عن نمط الحداثة الغربية، وذلك في مقاربةٍ يشير إليها جوهان جالتونج، مفادُها أنّ “الناس البدائيين”، الذين تم اكتشافهم بواسطة علمٍ اجتماعيٍّ ولم يكتشفوا علم الاجتماع بدورهم، لا يمكنهم المشاركة بشكل متساوٍ مع من أسّس العلوم الاجتماعية وعلاقتها بالعمران الحضاري؛ أيّ أنّ “البدائية” و”التقليدية” بناءاتٌ معرفيةٌ غربيةٌ بَنَتْ هيكليةً تراتبيةً تحاول ضمان استمرارية هيمنة الحداثة على ما سواها، في محاولةٍ لتحويلها جميعاً إلى صور مستنسخة عن “الأصل الغربي”، بما يضمن استدامة الاستعمار. [2]

ما وراء “نظرية التحديث”

في هذا السياق، فهم اثنان من المثقفين المؤثرين في الولايات المتحدة الأمريكية الأساس الذي قامت عليه فكرة التحديث منذ البداية، وأماطوا اللثام عن الوجه الآخر لما أُطلِق عليها “المعرفة الموضوعية”. الأول هو الاقتصادي والمؤرخ والت روستو الذي عمل لاحقاً لدى الحكومة الأمريكية، حيث رأى في نظرية التحديث سياسةً لمكافحة التمرد تخدم المصالح الأمريكية. أما الثاني، فهو صموئيل هنتغتون الذي شرعن عمليات القصف الواسع والممنهج (سياسة الأرض المحروقة) للريف في جنوب فيتنام. أضفى هنتغتون على  نظرية التحديث منطقاً فكرياً مُعَقلناً وُظّف كاستراتيجية عسكرية لمواجهة المقاومة الفيتنامية، ووجد فيها الجواب لمواجهة حروب التحرير الوطنية التي تقودها الجهات الشيوعية الماوية على وجه الخصوص.

تعتمد حروب التحرير الوطنية في العقيدة الماوية على الأرياف، إذ تنظر إلى المقاومة باعتبارها سمكةً في بحرٍ من الناس، وبالتالي يهدف القصف الأمريكي إلى تجفيف منابع قوة العقيدة الماوية في خوض حروب التحرير الوطنية، بما يخلّفه هذا القصف من موجات الهجرة القسرية واسعة النطاق من الريف للمدينة (والتي من المفترض أنها أكثر حداثةً من الريف، وتحت سيطرة القوات الأمريكية والحلفاء في حينه)، وذلك تحت مسمّى التحديث- التمدين الإجباريين  (Forced-draft urbanization and modernization)، و”الثورة الحضرية المرعية أمريكياً” ( American-sponsored urban revolution). 2. بالتالي، سيخرج جنوب فيتنام من “مرحلة تكون فيه الحركةُ الثوريةُ الريفيةُ آملةً بقدرتها على توليد قدرة كافية للوصول إلى القوة المطلوبة”. [3]  

ويمكن تلمّس أهمية مواجهة الماوية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ما أورده الباحث فارس جقمان في مقاله “ثورات الجنوب (1): الثورة الصينية وإنهاء قرن الذل” على باب الواد:

“تشكّل الثورة الصينية إحدى أهم ثورات الجنوب العالمي أو “العالم الثالث”. ظهرت آثارها في مرحلة حروب التحرير التي خاضتها الشعوب المسحوقة خلال القرن العشرين، وتأثرت الحركات الثورية الجنوبية بالفكر الشيوعي وصبغته الصينية الماوية. من جياب في فيتنام، إلى جيفارا في كوبا، ووصولاً إلى الثورة الفلسطينية في مخيمات الشتات. كل هذه الحركات الثورية استمدت نظرياتها الثورية وتكتيكاتها العسكرية وبناها السياسية من التجربة الصينية، وبالأخص من التجربة الماوية ونظرتها للتنظيم الثوري من جهة، وطريقة خوضها حروب التحرير من جهة أخرى. ولربما نظر كل أحرار العالم إلى الجنوب كمصدر للإلهام الثوري وكنقطة بداية في دحر الاستعمار ومن ثم الرأسمالية العالمية.”

كما يبرز، هنا، التعاون الذي أبرمته حركة “الفهود السود” الأمريكية مع الصين الماوية، والذي ساهم في تثوير الخدمات الطبية للأفارقة الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية. من جانبٍ، عبّر هذا التعاون عن انتقال تقنيات المعرفة الُمقاوِمة عبر الحدود. ومن جانبٍ آخر، عبّر هذا الفيديو المرفق بعنوان “كيف ثَوَّرت حركة الفهود الأسود الخدمات الطبية في أمريكا” عن انتقال المعرفة من المستعمَرات، كممارسات مكافحة التمرد، إلى المركز الإمبريالي- الولايات المتحدة الأمريكية- إذ إنّ ممارسات مكافحة التمرد تم تطبيقها على مواطني الولايات المتحدة الأمريكية تحت ادعاء البحث عن مخلّص الأفارقة الأمريكيين تحت برنامج  (COINTELPRO)  (How The Black Panthers Revolutionized Healthcare In The U.S. n.d).

لم تكن الممارسات المعرفية التي مثّلها كل من روستو وهنتغتون مبادراتٍ فرديةً، بل كانت جزءاً من إطار أكبر لبرنامج مكافحة تمرد تطوّر في فيتنام سُمّي بـ”العمليات المدنية ودعم التطورات الثورية”. (Civil Operations and Revolutionary (Development Support (CORDS)

وباختصار، فإن هذا البرنامج يهدف إلى “جمع الاستخبارات الثقافية والإنسانية، وتطوير برامج اقتصادية واجتماعية تهدف إلى تقويض دعم الحركات الشيوعية، إذ إن ما يميز البرنامج CORDS هو نظام جمع المعلومات وكتابة التقارير الذي ركّز على عواملَ تُعتبر أساسيةً للترويج للأمن والاقتصاد والتنمية والحوكمة، وتزويد الحكومة بما هو ضروري حتى على مستوى القرية الصغيرة/الكَفر”. [4]

ولعلّه من المفيد الإشارة إلى أن الباحثة ماندي تيرنر تعتبر سياسات بناء السلام الغربية، التي تتضمن ترويجاً للأمن والاقتصاد والتنمية والحوكمة، سعياً نحو نسخة حديثة من بعثات التحضير (civilizing missions)؛ هدفها محاولة زرع الأشكال السياسية-الاجتماعية والاقتصادية الغربية، أو نسخة مثالية عنها فكرياً، لضمان الأمن والهيمنة. [5]

“نظام التضاريس البشرية”

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أطلقت برنامجاً آخرَ وصفه البنتاغون بـ CORDS القرن الواحد والعشرين، وهو برنامج “نظام التضاريس البشرية”  (Human Terrain System) الذي صُمّم كمحاولةٍ لمواجهة الفشل العسكري الذي مُنيت به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق.

وفي هذا البرنامج، تم إدماج علماء العلوم الاجتماعية والعلوم العسكرية في مسرح عمليات القوات الأمريكية في كلٍ من العراق وأفغانستان، واعتُبر السكان مركز ثقل الحربين على العراق وأفغانستان. جاء هذا التطور في خضم ما أسمته مونتجمري مكفيت “تحديد المنظور العراقي”؛ أي الحرب على العقل العراقي، فالإطار الأوسع لمقولات مكفيت يبين كيف “أن نظام التضاريس البشرية يمثل المحاولة الأولى (على حدّ معرفتنا) لإدماج رؤى العلوم الاجتماعية في القدرات العملياتية العسكرية”. [6] [7]

وكما ورد في أحد كتيبات نظام التضاريس البشرية:
“ستستخدم فِرق التضاريس البشرية (Human Terrain Teams) أدوات خريطة التضاريس البشرية المكونة من المعدّات (Hardware) والبرامج (Software) التنموية، لاغتنام (Capture)، ودمج (consolidate)، ووَسم (tag)، واستيعاب (ingest) بيانات التضاريس البشرية. كما ستستخدم  فرق التضاريس البشرية معلومات التضاريس البشرية التي تم تجميعها لمساعدة القادة في فهم الارتباط العملياتي للمعلومات كما يتم تطبيقها لعمليات (Processes) وحدة التخطيط. تشير التوقعات إلى أنها ستقود إلى أفعالٍ يتم تطويرها من الهيئة (Staff) واختيارها من القائد، وستكون أكثر اتساقاً ثقافياً وانسجاماً مع “السكان المحليين”، والتي ستؤدي بدورها إلى نجاحٍ أكبر في عمليات مكافحة التمرد. فقلب الصراع بين قوى التحالف والمتمردين ثقة السكان الأصليين”. [8]

وأشارت مكفيت إلى نموذج (Model) سابق افتقر الى الفعالية المطلوبة، وسُمّي بالتحضير الثقافي للبيئة3 (Cultural Preparation for the Environment) (CPE)، والذي كان سبباً للانتقال نحو تصوّر (Conceptualize) نظام التضاريس البشرية، مرشحين مسمّى “نظام التضاريس البشرية” للربط بين جهود علماء الاجتماع والمصطلحات المستخدمة (Terminology) من جهة، واللغة العسكرية من جهة أخرى، لتسهيل التفاهم المتبادل. [9]

ورجوعاً إلى برنامج “التضاريس البشرية”، فقد شرح  ديفيد برايس المقدمات المنطقية التي يقوم عليها البرنامج، حيث دلّل على أن “عِدّة التضاريس البشرية” يمكن أن “تساعد القوات العسكرية الأمريكية المحتلة على فهمٍ أشمل للقاطنين في المناطق المحتلة”. [10]

ويوضّح روبيرتو جونزاليس الأمر في كتيّبه حول مكافحة التمرد بالحديث عن الكيفية التي حاولت فيها المؤسسة العسكرية الأمريكية تحويل ثقافة “الخصم” إلى سلاحٍ موجّهٍ ضدّه، واعتبرها جونزاليس استمراراً لسياسة “فرّق تسد” القديمة. كما يشير إلى أن برنامج التضاريس البشرية يتعامل مع الناس كحيّزٍ جغرافيٍّ يجب استعماره، وأن الكائنات البشرية كأرض أو إقليم (territory) يجب أن تُؤسر. وهذا ما دللّ على التحول في العقيدة العسكرية الأمريكية نحو الحروب المتمركزة حول السكّان والثقافة. 

ورغم ما أوردته مكفيت Mcfate عن نموذجٍ سابقٍ على نظام التضاريس البشرية، إلا أنها لم تتطرق- على سبيل المثال- إلى برنامج فينكس الشهير (Phoenix) الذي طوّرته المؤسسة العسكرية الأمريكية لتسهيل استعمار فيتنام. [11] كما لم تتطرق مكفيت إلى ما أشار إليه برايس حول أن الحرب العالمية الثانية قد صنعت تحولاً في حقل الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، باعتبار أن الحرب لفتت الانتباه إلى ثقافاتٍ ومشاكلَ جديدةٍ ومحددةٍ. كما أنها مثّلت الحرب القابلة للأنثروبولوجيا التطبيقية الأمريكية. [12]

نحو إخماد ثورة المستعمَر

ومن المشاريع السابقة أيضاً، في ذات الإطار، مشروع كاميلوت (CAMELOT)؛ والذي شكّل تطوّراً رغم عدم استمراره وإغلاقه، بحسب جوهان جالتونج في مقاله “الاستعمار العلمي”، الذي أكّد أن المعيار الذي جعل هذا المشروع (كاميلوت) ذا حمولةٍ سياسيةٍ بالأساس يكمن في تصميم المشروع ذاته، إلى جانب تمويله السياسي والعسكري.

صورة مرفقة من مقال "الاستعمار العلمي" لجوهان جولتانج، تمثل محاكاة الاستعمار لبعض الأطروحات الدينية حول شجرة المعرفة والعصيان المعرفي لآدم وحواء؛ من حيث تجريد الاستعمار للناس من معارفهم وذواتهم، ومن ثم استنساخ واحتكار تلك المعرفة بصورة عنيفة.

وعلى سبيل المثال، يميّز الكاتب المعايير التي يتم من خلالها تصميم المشاريع عبر سؤالين؛ “ما هو المنظور المتضمن في “التصميم” عند دراسة “النظام السياسي”؟ وهل هنالك منظورٌ يعبّر عن رؤيةٍ سياسيةٍ دون أخرى، متضمِّنٌ في “التصميم”، يودي بنتائج تكون لصالح مسار عمل سياسي بدلاً من آخر؟” بمعنى أنه أصبح يُنظر إلى مشاكل العالم من وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية، لا من إدراكٍ ذاتيٍّ لمشاكل العالم. [13]

وبهذا الصدد، كان السبب الرئيسي وراء إسقاط مشروع كاميلوت التشيلي وأمريكا “اللاتينية” عموماً، رفض علماء الاجتماع4 التعاونَ مع المشروع، بعد صدور وثيقةٍ تقدّم المشروع من مكتب بحوث العمليات الخاصة (Special Operations Research Office SORO) التابع للجامعة الأمريكية (American University) في واشنطن، جاء فيها:
“مشروع كاميلوت دراسةٌ هدفُها تحديدُ جدوى تطوير نموذجٍ عامٍ للأنظمة الاجتماعية، من السهل فيه التوقّع والتأثير على جوانب سياسية مهمة للتغير الاجتماعي في دول العالم النامية. يُعتبرالبرنامج مجهوداً بحثياً يستغرق ثلاثاً إلى أربع سنوات، يخصص له حوالي مليون ونصف المليون دولار سنوياً. هذا المشروع مدعومٌ من الجيش ووزارة الدفاع، وسيتم تنفيذه بالتعاون مع وكالات حكومية أخرى. ولدى الجيش الأمريكي مَهمّةٌ مُهمّةٌ في الجوانب الإيجابية والبناءة لبناء الأمة، إلى جانب المسؤولية في مساعدة حكومات صديقة في التعامل مع مشاكل التمردات الفاعلة.” [14]

في ذات السياق، علّق رئيس التحقيق الخاص في مشروع كاميلوت، والمنتدب من مجلس النواب التشيلي اندريس ايلوين بالقول: “تدّعون في هذا المشروع تحليلَ مشكلات الإنسان، الجوع، البطالة… إلخ، بينما لا تُدرس هذه المشكلات الحيوية من أجل أهميتها الكامنة فيها، بل تُدرس لأنها قد تكون أسباباً في انتفاضة أو ثورة. وبكلماتٍ أخرى، لا يحلل مشروع كاميلوت البطالة ليكتشف مسبباتها ويدرس حلولها؛ فالمسألة لا تكمن في دراسة حاجات الإنسان لإشباعها، بل إن المشاكل الاجتماعية – بالنسبة لهم- تستمد أهميتها من كونها تؤدي إلى توترات. بالمختصر، لم تتم بلورة هذا المشروع في محاولةٍ لحلّ مشكلات الجوع في أمريكا اللاتينية، ولكن لتفادي الثورة.” [15]  وينطبق هذا الأمر كذلك على دعم الحكومة الأمريكية للمدرسة النقدية في الجامعات الأمريكية للمساهمة في حل المشكلات الداخلية التي تعاني منها.5

شروط الاستعمار العلمي

ومن أبرز النقاط التي تناولها جالتونج، تعريف الاستعمار ضمن منطق الحرب البحتة؛ فاعتبره “عملية يجري فيها نقل مركز ثقل أمة ما إلى خارجها؛ أي إلى المستعمِر.  تُعرف هذه العملية أيضاً بالاستعمار السياسي، إذ يكون مركز ثقل (center of gravity) صناعة القرار لدى المستعمِر، لا المستعمَرة. وينطبق هذا أيضاً على الاستعمار الاقتصادي والعلمي.

أمّا بخصوص الاستعمار العلمي، فهو بحسب ما جاء في المقال “عملية نقل تواجد مركز ثقل استحصال المعرفة حول الأمة وذاتها، من داخلها إلى الخارج”. ويتحقق الاستعمار العلمي من خلال آليات عدّة منها؛ ادعاء الأحقية للوصول غير المحدود إلى البيانات من الدول الأخرى. وثانيها، تصدير بيانات حول الدولة إلى الدولة- الوطن لتتم “معالجتها” وتحويلها إلى “بضائع مصنّعة” كالكتب والمقالات.

وبحسب الكاتب، فإن عالم الاجتماع الأرجنتيني Jorge Graciarena شبّه هذه العملية بعملية “تصدير” المواد الخام بأسعار رخيصة 6، وإعادة استيرادها كبضائع، إذ إن المراحل “المهمة والصعبة” تتم في الخارج، في أمةٍ أخرى. أما النمط الأكثر شيوعاً، بحسب الكاتب، يُعرف باستنزاف العقول؛ إذ تتم ضمن هذا النمط “دعوة الباحثين من خلال تقديم منح دراسية وبحثية، فيما يتم لاحقاً إغواؤهم بالامتيازات التي تقدمها الدول الغنية، فينقضي معظم وقتهم كعلماء مبدعين. ومن الممكن أن يُعاد تصديرهم إلى الدول النامية، أو إلى مؤسسات دولية كباحثين بيروقراطيين.” [16]

يُشبه هذا “التصدير” و”الاستيراد”- الذي تتوخّاه الدول الغربية- النتائجَ التي كانت تتوخاها الولايات المتحدة الأمريكية من استمرار مشروع كاميلوت. فبحسب الكاتب، “كان لاستمرار المشروع أن يمنح الفرص للباحثين من “الدولة النامية” لاكتساب رؤى في طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي يقلدونها”، وأن يكون الأمر بمثابة إغناء الخبرات والمعارف الإنسانية بتبادلها في سبيل بلورة تصميم معرفي-علمي معولم. [17]

يصحّ حديث الكاتب في حال أن المشاركة المعرفية متأتية من المساواة الحضارية، تكون فيها علاقات القوة متكافئة، وليست مبنيةً على الاستعمار، إلى جانب كون التصميم المعرفي- العلمي المعولم للحداثة ينفي التنوّع الإنساني تحت مسمّى الإنسانية. وبذلك يناقض الكاتبُ نفسَه، فيذكر على سبيل المثال كيف أن التراكم المعرفي “للمركز” -الاستعماري- حول “الأطراف يتجاوز التراكم المعرفي “للأطراف” حول ذاتها، وحصولها على استقلالها، فنرى انتشار رسائل الدكتوراة والمجلات والمؤسسات المتخصصة بالدراسات المناطقية على اختلافها في “المركز”، والتي تتّم دراستها باللغة الاصطلاحية المعيارية “للمركز”، وتساهم في التلاعب بالمستعمَر.  [18] 

ويروي جالتونج قصةً حول لوحة معلّقة في غرفة الرئيس السابق لغانا كوامي نكروماه (Kwame Nkrumah)، تظهر فيها شخصية رئيسية للرئيس نفسه، وهو يصارع آخر سلاسل الاستعمار. ويصف جالتونج الصورة كالتالي:
“السلاسل مطواعة، هناك رعدٌ وبرقٌ في الأجواء، الأرض تهتز. من كل هذا، تخرج ثلاث شخصيات بيضاء شاحبة هاربة. الأولى، رأسماليٌّ يحمل حقيبةً. والثانية، قسيس أو مبشّر يحمل إنجيلاً. والشخصية الثالثة تحمل كتاباً عنوانه الأنظمة السياسية الإفريقية، إنه الانثروبولوجي أو عالم الاجتماع بشكل عام. إذا ما كانت السلاسل ترمز إلى الاستعمار السياسي، فالرجال الهاربون يرمزون إلى الاستعمار الاقتصادي والثقافي والعلمي على التوالي”. [19]

عن المبادرة الواعية لذاتها

نحاول من خلال هذه الإطلالة المعرفية القصيرة فهم كيفيّة موضعة المعرفة الحديثة والمعاصرة ضمن ما اُصطلح بتسميته “القرن الأمريكي”، أو ما يمكن تسميته “بالإنتاج المعرفي في عصر الإمبراطورية”. كما ومن خلال هذا التأطير التاريخي لـ”النظام العالمي” للحداثة/الكولونيالية الأوروبية، والتي استمرت الولايات المتحدة الأمريكية في الإمساك بزمامها وتطويرها، يمكن الخروج بنتيجةٍ مفادُها أن الاستعمار، بكافة أشكاله، هو أحد محركات – إن لم يكن المحرّك الأساسي- التاريخ الغربي عموماً. ولعلّ أولى الخطوات نحو تجاوز الاستعمار العلمي الانطلاقُ من كسر ثنائية “المركز-الأطراف”.

في الختام، لا يجب أن يُفهم من هذا الحديث التوقف عن البحث العلمي المنهجي واللامنهجي، الأكاديمي منه أو غير الأكاديمي. على العكس، بل هي دعوة إلى الشروع في البحث العلمي، لكن مع محاولة إعادة النظر في المنهجيات والتصاميم البحثية. كما أنه لا يجب الاستمرار في الركون إلى التصاميم البحثية المعتمدة على “الهندسة العكسية” للمشاريع البحثية في هذا العصر؛ أي محاولة استقاء المعرفة فقط من خلال البحوث الغربية حول منطقتنا. كما ولا يجب المبالغة في قدرة “الإمبراطورية” ومرونتها على توظيف واستنساخ الأفكار، فجميع المشاريع السابقة آنفة الذكر قد هُزمت وباءت بالفشل. كل ذلك يُحتّم على المستعمَر التمسّك بمبادرات واعية لذاتها ورؤيتها التحرّرية.

في ذات الوقت، لا يمكن اعتبار جميع من التحق بالجامعات أو بمنح دراسية وبحثية في الخارج بأنهم يساهمون بشكل أو بآخر بما يشبه أهداف مشروع كاميلوت التي أوردها جالتونج في مقاله؛ فالأمور لا تجري بهذه الميكانيكية. كما أنه لا يمكن النفي بشكل مطلق إمكانية تبادل الخبرات والمعارف من خلال الجامعات والمنح البحثية. ومثال ذلك مشاركة سمير أمين ضمن مجموعة طلابية عربية- أفريقية- فيتنامية، وكذلك مشاركة طلاب آخرين من “العالم الثالث” في مجلة مناهضة للاستعمار. [20] إلى جانب الإمكانات المتوفرة للاطلاع مثلاً على المخطوطات المنهوبة في المتاحف والجامعات والمراكز البحثية. بعبارةٍ أخرى، لا يمكن الوقوع في أسر عدم المبادرة في البحث العلمي ومراكمة المعرفة ذاتياً تحت مسمّى احتمالية استثمارها لصالح العدوّ في إطار برامجهم التي تنحو منحى إدماج العلوم الاجتماعية والانسانية ومخرجاتها في الحروب الاستعمارية.

ولا بد من الانتباه أيضاً إلى أن بعض المنح موجّهةٌ لأغراض خاصّة، وأن المعرفة قد تُستخدم في غير محلّها. ومثال ذلك، ما أورده برايس من حادثة استيلاءٍ على عمل أنثروبولوجي لأغراض عسكرية دون معرفة مؤلفه، حيث قامت القوات الخاصة الأمريكية في العام 1962 بترجمة عمل إثنوغرافي للباحث Georges Condominas، عن حياة قرية Montagnard في central highlands  في فيتنام، وقامت باستخدامها في عملياتها، ما أدى إلى تعذيب سكان القرية. ولكن مرةً أخرى، لا يمكن الوقوع في أسر عدم المبادرة في البحث العلمي ومراكمة المعرفة ذاتياً تحت مسمّى احتمالية استثمارها لصالح العدوّ.

*****

الهوامش والملاحظات:

1- شكّل الصراع بين نظريتي التبعية والتحديث عدة أمور، فمن جهةٍ أولى أساسية، ساهم في تشكيل سياسات حقل دراسات “الشرق الأوسط” في الغرب، إلى جانب بناء شبكة مناهضة للإمبريالية. ومن جهةٍ ثانيةٍ، شكّلت نظرية التبعية التي طوّرها المصري سمير أمين سلاحاً في تلك الفترة لمواجهة نظام أنور السادات الذي اتخذ سياسة “الانفتاح” وما ترتّب عليها. ومن جهةٍ ثالثةٍ، اٌعتبر الصراع في الجزائر والهند-الصينية مُسرّعاً لخروج النظرية إلى العلن، بعدما كانت حبيسة الأدراج بحسب تيموثي ميتشل. ومن جهةٍ رابعةٍ أساسيةٍ، ارتبط كل ذلك بالصراع حول فلسطين على المستويين النظري والعملي. ويقول تيموثي ميتشل بهذا الصدد إن الصراع بين النظريات مثّل استراتيجياتٍ والتزاماتٍ في السياسات الفكرية للحقل. ومن الجدير ذكره أن نظرية التبعية طوّرها سمير أمين من خلال أطروحات عالم الاقتصاد الأرجنتيني  Raul Prebisc. للاطلاع على الموضوع أكثر، انظر/ي:

Mitchell, Timothy. 2004. The Middle East in the Past and Future of Social Science. Vol. III, chap. 3 in The Politics of Knowledge: Area Studies and the Disciplines, edited by David L. Szanton, 1-32. Berkeley: University of California Press.
2- لمزيدٍ من المراجع والنقاشات حول استراتيجية “الأرض المحروقة” العسكرية الأمريكية كأسلوب للتحضير والتمدين الإجباريين مارسته الولايات المتحدة الأمريكية:  https://en.wikipedia.org/wiki/Forced_draft_urbanization
3 التحضير الثقافي للبيئة ((Cultural Preparation for the Environment (CPE)، وهو عبارة عن معدات لقاعدة بيانات اجتماعية-ثقافية مصمّمة لخدمة الوحدات العسكرية بمعرفة ظرفية (زمكانية) (Situational Knowledge) للبيئة العملياتية التي يشتغلون فيها.
4- كان لرفض علماء الاجتماع في أمريكا “اللاتينية” التعاون مع مشروع كاميلوت، أن قام بإحباط إنهاء علم الاجتماع اللاتيني لمدة تتراوح بين 10 سنوات الى 20 سنة. فبالنسبة لهم، اعتُبر هذا الأمر تلاعباً معرفياً -هيمنة (حرب) ناعمة- من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، قائلين: “نحن نفضل التدخل العسكري بدلاً من هذا التسلل المتلاعب، فعلى الأقل نحن ندرك حقيقة التدخل العسكري”.
5- للاطلاع على الموضوع اقرأ/ي:

Price, David H. Weaponizing Anthropology: Social Science in Service of the Militarized State. Petrolia and Oakland, CA: CounterPunch and AK Press, 2011.
Giroux, Henry A. The University in Chains: Confronting the military Industrial-Academic Complex. Boulder, London: Paradigm Publishers, 2007.

6- انظر/ي: “إضاءات على المعرفة الغربية والحروب الاستعمارية”، الجزء الثاني.   
7- ومن الأمور المثيرة للاهتمام التي أوردتها مكفيت؛ كان هناك محاولة لتعديل منهجية إجراء البحوث الميدانية (المقابلات)، فصيغت ضمن وقع الشعور بالحرب، أي أنه يجب على أعضاء فريق التضاريس البشرية إجراء مقابلات مع السكان على سبيل المثال في فترةٍ زمنيةٍ لا تتجاوز قدرة قناص عراقي على التموضع في مكانٍ ما حول القوات الأمريكية بقصد استهدافهم في كمين.

*****

المراجع:

[1] Lockman,Z. (2004). Contending Visions of the Middle East: The History and Politics of Orientalism. Cambridge: Cambridge University Press. P 134
[2] Galtung, J. (1967, Apr. – May). Scientific Colonialism. Transition(30), p. 152
[3] Lockman 2004, 135, 142-143
[4] Gonzalez, R. J. (2009). American Counterinsurgency: Human Science and the Human Terrain. Chicago: Prickly Paradigm Press. p.4, p.6.
[5] Mandy Turner. (2015). Peacebuilding as counterinsurgency in the occupied Palestinian territory. Review of International Studies. p.88.
[6]Gonzalez, R. J. (2009). p. 4, p. 6;
[7] Montegomery Mcfate, J. H. (2015). Unveiling the Human Terrain System. In M. Mcfate, & J. H. Laurence (Eds.), Social Sciences Goes to War: The Human Terrain System in Iraq and Afghanistan (pp. 1-44). London: C. Hurst & Co.
[8] Price, D. H. (2011). Weaponizing Anthropology: Social Science in Service of the Militarized State. Petrolia, Oakland: CounterPunch and AK Press. p. 103.
[9] Montegomery Mcfate, J. H. (2015), 1-44.
[10] Price, D. H. (2011). p. 103.
[11] Gonzalez, R. J. (2009);
[12] Price, D. H. (2008). Anthropological Intelligence: The deployment and Neglect of American Anthropology in the Second World War. Durham and London: Duke University Press.
[13] Galtung, J. (1967, Apr. – May).  p. 12.
[14] Galtung, J. (1967, Apr. – May). p. 11.
[15] Galtung, J. (1967, Apr. – May). p. 12.
[16] Galtung, J. (1967, Apr. – May). p.13.
[17] Galtung, J. (1967, Apr. – May). p.15
[18] Galtung, J. (1967, Apr. – May). pp. 14- 15.
[19] Galtung, J. (1967, Apr. – May). p. 13.
[20] 17- Mitchell, T. (2004). The Middle East in the Past and Future of Social Science. In D. L. Szanton (Ed.), The Politics of Knowledge: Area Studies and the Disciplines (Vol. III, pp. 1-32). Berkeley: University of California Press. p.13