يناقش عبد الجواد عمر مفهوم التعاقب الجيلي للحرب وإشكالاته، تحديداً في ضوء ما تُعرف بـ”حروب الجيل الرابع”. يفنّد الكاتب افتراضات الانتقال الخطيّ للحروب، ونفي انطباق “ثالوث كلاوزفيتز” على الحروب الجديدة لاعتباراتٍ أيديولوجيةٍ وسياسيّةٍ.
مقدّمة
شهدت نهاية الحرب الباردة طفرةً في الإنتاجات النظرية التي تُعنى بوصف طبيعة الحرب وتحوُّلاتها، بل ومستقبلها كذلك. في ظلّ هذه الطفرة في النظريات والابتكارات المفاهيمية، ظهرت نقاشاتٌ محتدمةٌ ارتبطت بعمق التغيّرات التي ستطال البيئة الاستراتيجية الكبرى على إثر تهاوي وسقوط المنافس الأيديولوجي والاستراتيجي للغرب -الاتحاد السوفيتي، فضلاً عن التحدّي الذي ألقت بثقله ثورة المعلومات على منطق عمل الجيوش وآليّته.
إنّ قائمة المفاهيم التي أُنتجت في العقود الثلاثة الماضية مُحيّرةٌ؛ إذ تشمل على حروبٍ منخفضة الوتيرة (Low-Intensity Warfare)، والتمرُّد العالمي (Global Insurgency)، والحرب الهجينة (Hybrid Warfare)، فضلاً عن الحرب غير النظامية (irregular warfare)، والثورة في الشؤون العسكرية (RMA)، والحرب الشبكية (information warfare)، والعديد من المفاهيم والاصطلاحات الأخرى التي يُفترض أن تساهم في تفسير “بيئة” الحرب وطبيعتها، خاصّةً وأنها تتّسم بالتعقيد المتزايد.
زعمت مجموعةٌ من المُنظّرين أنّ الحرب المستقبلية هي امتدادٌ واستنساخٌ لأشكالٍ سابقةٍ من الحروب، في حين أنّ الحرب الجديدة تمرُّ بتحوّلٍ جيليٍّ جديدٍ جرّاء عدم اتساقها مع أطروحة الجنرال البروسي-الألماني “كارل فان كلاوسفتز” حول ثالوثية الحرب. تُعتَبر الأخيرة أداةً مفيدةً لتصوّر فوضى/ ضبابية الحرب؛ إذ يُمَوضع “كلاوسفتز” التوترَ بين ثلاثية الحكومة والشعب والجيش كأساسٍ لفهم الحرب.
بات نفي الثالوث أحدَ الثيمات الأساسية لمُنظّري التتابع الجيلي للحرب. بهذا المعنى، لن تتلاقى بُنى الدول في حروبٍ تحفظ خطوط العلاقة والتوتر بين الدولة والجيش والشعب، بل سنشهد بتعابير مُنظّري الجيل الرابع للحروب مشكلة الحرب غير-الثالوثية؛ أي تلك التي تخوضها جماعاتٌ مسلحةٌ ومليشياتٌ وشبكاتٌ اجتماعيةٌ مستندةٌ إلى مدلولٍ جديدٍ من الحروب يوطّد من الأساس العرقي والإثني والديني.
في هذا السياق، يقول “إيفانز” في إشارةٍ لمُنظّري الجيل الرابع من الحروب: “… مشكلة الأمن في القرن الحادي والعشرين ليست مشكلة الحروب الثالوثية بين الدول، إنّما الحروب غير الثالوثية التي تشنّها مجموعةٌ متنوّعةٌ من المتمردين وغير النظاميين في النزاعات التي تحدّدها الاختلافات العرقية والأصولية الدينية”. وبهذا، كان أيضاً لـ”مارتن فان كريفيلد” توافقه الواضح مع طبيعة التحوّلات التي تشهدها الحرب، مُؤكِّداً أنّ حروب القرن الحالي ستكون “من النوع المعروف خطأً بالحروب منخفضة الوتيرة”.
كما يُجادل مُنظِّرو التعاقب الجيلي للحرب بأنّ طبيعة وشكل الحرب مرّت بثلاث نوباتٍ رئيسيةٍ. شملت هذه النوبات حربَ الجيل الأول، والتي اعتمدت بدورها على التشكيلات المُنضبطة والصارمة المُوجّهة نحو تعظيم كتلة القوات المُشارِكة في صراعٍ معينٍ. بينما شدّدت حروب الجيل الثاني على ما يسمّيه ليند (Lind) بالشعار الفرنسي: “المدفعية تغزو، والمُشاة يحتلّون”.
عبّر التحوّل من الجيل الأول إلى الثاني عن التحول في الاعتماد على المشاة والتكتُّلات الجسدية للجيوش الغازية والمدافعة، نحو الاعتماد المتزايد على قوة النيران غير المباشرة والأشكال الاستنزافية للحرب. أمّا على صعيد الانتقال للجيل الثالث من الحرب، فيمكن فهمه أساساً من خلال تفكيك العلاقة بين الكتلة -الجيش والبنية اللوجستية المرافقة له- والزمن. بتعابيرَ أخرى، فاضلت استراتيجيات حروب الجيل الثالث الزمن والتحرّك السريع على حساب الكتلة، وبالتالي على مناورةٍ عسكريةٍ يُمكنها إغراق الخصم وهزيمته قبل أن يستطيع تجميع أوصال كتلته للدفاع المُجْدي عن النفس.
وقد كان للجيش الألماني والصهيوني تجربةٌ جدّيةٌ مع أشكال المناورة السريعة. ويمكن القول إنّ الانتقال الجيلي ينتج تكتيكاتٍ واستراتيجياتٍ جديدةً ذات علاقةٍ وطيدةٍ مع التطوّرات الحاصلة على الصعيد التقني، مُشكِّلاً شخصيةً جديدةً للحرب.
أمّا في الحديث عن الجيل الرابع للحرب، فإنّ مفهومه يتقاطع مع المنظور الدارويني للتطوّر في الطبيعة؛ بحيث تمرّ الحرب بعملية انتقاءٍ وإقصاءٍ وتأقلمٍ لتكتيكاتٍ واستراتيجياتٍ وأدوات بناءٍ، ترتكن إلى ما يُنتجه العقل البشري من تقنيةٍ، فضلاً عمّا تُلقّنه الحروب السابقة من دروسٍ.
يشكّل الانتقال إلى حروب الجيل الرابع ضمن بُنية الانتقال الجيلي التطوّرية صيرورةً ترتبط بالإمكانيات التي ولّدتها التقنيات الجديدة وشكل الحروب التي تتّخذ طبائع أقرب لما يُمكن تأطيره بتصاعد دور “البيرتزان” الشمتي؛ أي موقع التمرُّد في حروب الجيل الرابعة، فالخصم هنا ليس عبارةً عن دول، بل حركات مقاومةٍ وتحرُّرٍ.
وكما يُعلل “هاميس”: “يوظّف الجيل الرابع من الحروب جميع الشبكات المتاحة -السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية- لإقناع صانعي القرار السياسيّ للعدو بأنّ أهدافهم الاستراتيجية إما غير قابلةٍ للتحقيق أو مُكلّفةٌ للغاية”. لا يقتصر تعريف “هاميس” على إعلاء وتعظيم شأن “الشبكة” على حساب البنية، ولا يُشكل فقط نزعة ما بعد الحرب الباردة للتركيز على ما يُمكن الإطلاق عليها الحروب غير التقليدية، ولكنه أيضاً يُحيل الحرب إلى كونها نموذجاً تحليلياً دائماً مستمراً بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي.
الإشكاليات التأريخية لـ”الجيل الرابع”
يستند مقال “الحرب تتطوّر نحو الجيل الرابع” لـ”توماس هاميس” إلى مجموعةٍ من الدراسات المعرفيّة حول الحروب وتعاقُبها الجيلي والزمني، يحاول من خلالها استحضار تلك المقاربات السابقة في محاولةٍ لاعتماد نموذجٍ جديدٍ للحروب في العصر الحالي، فكما يُسهب: “… أعتزم القيام بتوضيحٍ حول تطوّر شكلٍ جديدٍ من الحرب، هذا النمط مرئيٌّ ومختلفٌ بشكلٍ واضحٍ عن أشكال الحرب التي سبقته.”
وكما سبق وأسهبنا، تلعب التحوّلات التقنية بعلاقتها مع التكتيكات والاستراتيجيات المُتّبعة دوراً مهمّاً في فهم التحوّلات في الحرب وتحديد الانتقال من جيلٍ إلى آخر. ولكنّها بالقيام بتلك التقسيمات، تفترض نوعاً من أنواع القطيعة مع ما سبقها من أجيالٍ مختلفةٍ من الحرب. في الحقيقة، فإنّ التطوُّر المزعوم للحرب عبر الأجيال لا يلغي تعايش أنماطٍ مختلفةٍ من الحروب في الحقبة ذاتها، فكما يعلل “ديفيد سورنسون” بقوله: “لقد قاتل الهوتو والتوتسي في رواندا بأسلحةٍ من الجيل الثاني والثالث في حروب استنزافٍ جماعيةٍ، في حين أخذ الإيرانيون والعراقيون أسلحة الجيل الثالث في حربٍ تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ الحرب العالمية التي اندلعت في أوروبا.”
من حيث الجوهر، لا يمكن التعاطي مع عملية الانتقال الجيلي للحروب دون الأخذ بعين الاعتبار الدلائل التاريخية المُعاكسة، فضلاً عن إمكانية تعايش العديد من أنماط القتال وأشكالها في الحقبة ذاتها. بتعبيرٍ آخر، قد تكون حروب الجيل الرابع كما غيرها من مفاهيم تتّخذ توجُّهاً مركزياً أوروبياً كونها تصف -بالغالب- التطوّرات الحاصلة لأنماط الحروب التي تخوضها القارة العجوز وحلفاؤها في الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”، خاصّةً على مستوى الانتقالات التقنية الكبرى وأنماط العِداء؛ أي التحوّل من العداء للشيوعية نحو العداء للمجموعات الجهادية.
كتب “كينيث ماكنزي” مقالاً يتناول ما يراها ضحالةً مفاهميةً على مستوى مفهمة الجيل الرابع للحروب. يرى “ماكنزي” إشكالية التقسيم الجيلي للحروب ترتبط بعدم دقّتها التاريخية؛ فهي تتجاهل الحروب التي سبقت اتفاق “ويستفاليا” (Westphalia)، ولا تُعطي “نابليون” وما أحدثه من نقلةٍ في شكل الحرب حقّه.
كما يعزو “ماكنزي” ضعف المفهوم أيضاً إلى ما يسمّيه تغلُّب التغيرات على صعيد التقنية والتكتيك على حساب “الأفكار”. كما يخلُص إلى أنّ “قراءةً بديلةً لتاريخ الحروب قد تُظهر تأثُّر اتجاهاتٍ معينةٍ في تطور الحروب بشكلٍ مباشرٍ بالمجتمع والشخصية والمكان أكثر من إمكانية أيّة نظريةٍ -مهما كانت مُعقّدة- استيعابه.”
لم يقتصر نقد “ماكنزي” على ما أسْماها ضحالة المفهوم، إنما امتدّ إلى المنهج الذي ينطلق منه التقسيم الجيلي والزمني للحروب، واصفاً إيّاه بالمنهج “الديالكتيكي” البسيط في وصف التحوّلات بين الأجيال، ما يجعلها خطيةً وغير-تاريخيةٍ.
يتكرّر هذا النقد لدى “كولين غرايز”، مفنّداً التقسيم الزمني المُبسّط والاتجاهات الخطية في تلك التصنيفات. يحذّر “غرايز” من أنّ التحولات والثيمات الجديدة في الحرب تأتي عادةً على شكل مجموعاتٍ؛ فهي تتفاعل مع بعضها البعض وسياقاتها الزمانية والمكانية كذلك. وعليه، فإنّ ما يحدّد شكل الحروب نتائجُ وعواقب توظيف تلك الاتجاهات الجديدة؛ أي أنّ عواقب ونتائج استخدام التقنيات والأفكار في الحروب هي ما يحدّد مستقبلها، وليست التقنية والأفكار بحدّ ذاتها. بعباراتٍ أخرى، لا يجب فصل الحرب عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تتشكّل في ظلاله، والتي تتأثر وتؤثّر فيها.
“مارتن فان كريفيلد” و”ثالوث كلاوزفيتز”
هناك نقدٌ آخرُ وضروريٌ لمفهمة “الجيل الرابع للحروب”، خاصّةً على صعيد نفي النظرية لفكرة “كلاوزفيتز” التثليثيّة في الحروب الجديدة. يُجادل المؤرّخ العسكري “مارتن فان كريفيلد” في كتابه “التحوّل في الحرب” بأنّ “الحرب التثليثية ليست حرباً بحرف دبليو (Capitalized)(W)، لكنّها مُجرّد إحدى الأشكال العديدة التي اتخذتها الحرب”.
لا يُمكن إغفال نقطة “كريفيلد”؛ فهي تذهب في صُلب وصميم الفهم الحداثيّ للحرب وسيولتها المُفتَرضة في الجيل الرابع للحروب. لفهم الارتباك والصراع ما بين “كريفيلد” و”كلاوسفتز”، علينا أيضاً فهم ما قاله الأخير بدقةٍ. يفترض “كلاوسفتز” في كتابه “في الحرب” أنّ الحرب تتألّف من:
“العنف البدائي والكراهية والعداء والتي تعتبر قوةً طبيعيةً عمياء، ومن ألاعيب الصدفة والاحتمالات والتي في ظلّها يمكن للروح الإبداعية أن تتنزّه بحريةٍ، ومن عنصر خضوعها كأداةٍ في السياسة، ما يجعلها خاضعةً للعقل وحده”
بهذا المعنى، يتألف الثالوث الكلاوزفيتزي من طبقتين؛ إحداهما العقل والعاطفة والحظّ، والأخرى تتضمّن الحكومة والشعب والجيش. ولا تزال هذه المُقاربة مهمّةً في فهم طبيعة حروبنا الحديثة؛ إذ إنّها لا تقتصر على ثالوث الحكومة والشعب والجيش. إنّ الانتقال إلى الحروب غير التقليدية والهجينة التي تخوضها الميليشيات المسلّحة لا ينفي أنّ الحرب لا تزال قائمةً على العاطفة والصدفة والعقل، حتى في سياق الحروب التي تحدُث في معظمها داخل الدول بدلاً من أن تكون بين الدول.
إنّ تأكيد “كريفيلد” على أنّ “عالم كلاوزفيتز لا يمكن أن يوفّر لنا إطاراً مناسباً لفهم الحرب” هو ببساطةٍ غير دقيقٍ. لكنّ هذا ليس مجرّد دفاعٍ عن وجهة نظر “كلاوزفيتز” للحرب، أو عداءً أُكِنّه لـ “كريفيلد” كونه صهيونيّاً، إنّما هو أيضاً محمولٌ على ما يحاول “كريفيلد” التوصُّل إليه في مفهمته للحرب بأنّ المجموعات “المسلحة” أو تلك المرتبطة بالمقاومة -كفلسطين ولبنان وغيرها- لا تخضع لأهواء “كلاوزفيتز”، بل إنّها تعمل خارج ثلاثية الحكومة والمجتمع والجيش وما تعنيه من ضوابط أخلاقيةٍ وسياسيةٍ في الحرب.
يؤكد “جون ستون” في نقده أنّ كلّ ما يشير اليه “كريفيلد” باعتبار الحروب منخفضة الوتيرة لا تندرج تحت الحروب التثليثيّة، نابعٌ من تحيّز “كريفيلد” لشكلٍ محددٍ من الحروب. فهو يرى أنّ كل الحروب عليها أن تُخاض فقط كحملةٍ سريعةٍ تهدف إلى نزع قدرات العدو بأسرع وقتٍ ممكنٍ، على شاكلة النمط الصهيوني في حرب العام 1967؛ أي حرب مناورةٍ بريةٍ سريعةٍ.
ما كان يُشير إليه “جون ستون” أنّ الإشكالية الحقيقيّة عند “كريفيلد” هي محاولته تفسير “الاهتزازات” التي مرّ بها الجيش الصهيوني، خاصّةً في المواجهة مع “أعداء” جددٍ في الجنوب اللبناني وغزة والضفة الغربية. يمكن القول إنّ كلّ النقاشات والتأويلات حول الجيل الرابع من الحروب وسقوط الثالوث وصعود الحرب الشبكية وأنماطٍ جديدةٍ من العداء، تهدف إلى تفسير الفشل النسبي في حروب “إسرائيل الجديدة” وتوفير القاعدة المعرفية لصعود استراتيجياتٍ جديدةٍ تستند في لبّها على معادلة تحقيق الألم على شاكلة عقيدة الضاحية.
بالمحصلة، يمكن أن يكون الثالوث عاملاً مساعداً في تطوير وبناء خطط العمل الاستراتيجية في سياق الحرب التقليدية وغير التقليدية. يشكّل فهمه ومكوّناته لدى العدو والمقاومة كذلك خطوةً أساسيةً باتجاه تطوير التكتيكات والاستراتيجيات، بدءاً من التعبئة وصولاً إلى تصميم هيكل المقاومة وأنماط تنظيمها وعملها وخرائط الاستهداف.
الجيل الرابع والهوس بالتمرد
يُركّز مفهوم الجيل الرابع للحرب على أطوار التمرُّد وأنماطها المختلفة، خاصّةً ما يُطلِق عليه منظِّرو الجيل الرابعة بالتمرُّد العالمي؛ أي التمرُّد المُستند إلى الشبكات الاجتماعية بالدرجة الأولى، وليس إلى فضاءاتٍ جغرافيةٍ محصورةٍ. يرى “ليند” أنّ أنماط التمرُّد الجديدة ترتبط بشبكاتٍ عابرةٍ للوطنيات الضيّقة، وتمتلك بُنًى عقائديةً رصينةً ومتطوّرةً، كما تشكّل خطراً بسبب توظيفها المعقّد للثقافة والحرب النفسية كوسيلةٍ وهدفٍ في الحرب.
أرى أنّ ثمّة مُغالاةً كُبرى عند العديد من مُنظّري الجيل الرابع للحرب، لعدة أسبابٍ يكْمُن أهمّها في أنّ الحرب لطالما اتخذت بُعداً عالمياً، خاصّةً في القرنين العشرين والواحد والعشرين. كما اتّسمت أيضاً بأبعادٍ أيديولوجيةٍ لا يمكن تجاهلها، تمثّلت في الصراع مع النُظم السياسية الشمولية في ألمانيا وإيطاليا، أو الصراع الذي عمّ كافّة أرجاء الكوكب بين الشيوعية والليبرالية.
في سياقٍ متصلٍ، يشير “إتشيفاريا” من وجهة نظرٍ تاريخيةٍ أنّ هذا الصراع الأيديولوجي والعالمي يمثّل القاعدة وليس الاستثناء. أمّا الإشكالية الأخرى في تعظيم التمرّد وأشكاله في الحقبة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، فتمثّلت في آليّة تفسير التمرّدات بوصفها نتاج بنًى عقائديةٍ، وسلخها عن العوامل الاجتماعية والاقتصادية المُشكّلة لها. بذا، تصبح كلٌّ من “حماس” و”القاعدة” و”تحرير تيمور” في نفس الخانة.
أما البُعد الإشكاليّ في إعلاء التمرُّد يكمُن أساساً في أنّ ما أطلق عليه “داويت اينزنهاور” بـ”المتلازمة الحربية-الصناعية” تحتاج إلى خلق عدوٍّ جديدٍ بعد أن يتهاوى العدو والمنافس الأيديولوجي الأوضح. يفسّر هذا استقرار العداوة على الخطر الذي تُشكّله الصين، وبعض جيوب التمرُّد المنبثقة من الإسلام السياسي وما يمثّله في الصراع الحضاري.
باختصارٍ، احتاجت القوة العسكرية الأمريكية إلى ما يتيح لها إعادة تقديم بُنيتها العسكرية بصورةٍ أقرب للشرطة العالمية. يفترض “ليند” مثلاً أنّ الحرب “من المُرجّح أن تكون مُشتتةً على نطاقٍ واسعٍ وغيرَ محدّدةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ، وسيُطمس التمييز بين الحرب والسلام إلى نقطة التلاشي. ستكون الحرب غير -خطيةٍ، ربّما إلى درجة عدم وجود ساحات قتالٍ أو جبهاتٍ محدّدةٍ”.
أهمية مفهوم الجيل الرابع للحرب
وعلى الرغم من شرعية تفكيك ونقد مفهوم الجيل الرابع للحروب فيما يتعلّق بهوسه في التمرّد ومكافحته، وتعاطيه مع الانتقال الجيلي للحروب بشكلٍ لا-تاريخيٍ وضمن نموذجٍ ديالكتيكيٍّ بسيطٍ، فضلاً عن إشكالية إنكاره الثالوث الكلاوزفيتزي. إلّا أنّ المفهوم يضعنا أمام صياغةٍ جديدةٍ للعناصر المُشكّلة لبيئة الحرب، والتي تشمل كلّ التقنيات الحديثة بما فيها شبكات الاتصال الجديدة، والاتجاه نحو مُحاربة أشكال متغيّرةٍ وجديدة من التمرُّد.
كما وأنه على الرغم من انطواء التعاطي مع الخصم والتمرُّد كحالةٍ واحدةٍ عابرةٍ للزمن والجغرافيا على قصورٍ مفاهيميٍّ، خاصّةً وأنّ الحرب كما يؤكّد “إبفانز” ظاهرةٌ معقدةٌ للغاية لا يمكن لنا حصرها في شكلٍ مُحدّدٍ. إلا أنه يشير إلى بعض الظواهر المهمّة في الحروب الجديدة التي شهدتها ساحاتٌ مختلفةٌ، كان لفلسطين ولبنان والعراق ولمنطقتنا بشكلٍ عامٍّ حصّةٌ كبيرةٌ منها.
تتمثّل إحدى تلك الظواهر في التأكيد على الدور الذي ستؤدّيه الحروب غير التقليدية في العصر المعاصر، وهو توقُّعٌ ثبتت صحّته في النهاية. إذ لا يمكن إنكار أهمّية وقوة الفاعلين من غير الدول؛ فقد أثبتت مجموعات المقاومة على شاكلة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وغيرها على أنها مُقتدرةٌ، وتخلط بين التكتيكات التقليدية وغير التقليدية، في توظيفٍ هجينٍ ومرونةٍ شكّلت نمطاً مُستجدّاً ومتطوّراً من القدرة على تحدّي بنيةٍ عسكريةٍ متفوٍقةٍ تقنياً كتلك التي يملكها العدو. لقد كان التوجُّه نحو المواجهة غير المباشرة مع بنى الجيوش الغربية استراتيجيةً ناجعةً استطاعت كسر هيبتها في المنطقة العربية وأنجزت ما لم تنجزه العديد من الموجّهات الكُبرى.
علاوةً على ذلك، يعترف مُنظِّرو حروب الجيل الرابع بأهمية الحقائق التي لطالما كانت جزءاً مكوّناً من أيّ نمطٍ من أنماط العداء والصراع؛ أي تلك المرتبطة بمفهوم الإرادة العامة على الصعيد الشعبي في البناء المفاهيمي للجيل الرابع من الحروب، وبالتالي أهمّية الحرب النفسية والإعلام.
لكن لربما يكمُن أهمّ ما يقدّمه المفهوم في اتجاهه نحو تأطير الحرب كحالٍ دائمةٍ، كنموذجٍ لتفسير العلاقات الاجتماعية الاقتصادية. ولربما في ذلك بعض ما يُمكن البناء عليه، خاصّةً في العلاقة بين الحرب الدائمة والمحو الاستعماري في فلسطين ودلالته على شكل التحليل السياسي والمعرفي.
تشكّل ضبابية وسيولة العلاقة بين الحرب والسلام واقعاً فلسطينياً ملموساً، فنحن في حالة حربٍ دائمةٍ، قد تحتدم فيها طبيعة المواجهة أو مستواها. لكنّها بالنهاية تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ فكرة أنّ الحرب هي النموذج التحليلي الأنسب والأكثر ملاءمةً لسياقنا، وما تعنيه من تعريفات العدو والصديق، فضلاً عن تحديد الأولويات السياسية والاقتصادية لمجتمعنا، وصولاً إلى القيم التربوية التي ننتجها في مدارسنا.
ثمّة عنصرٌ آخر يشدّد على أهمّية الجيل الرابع للحروب وعلاقاتها، وهو تركيزها على “الشبكات” الاجتماعية والسياسية ودورها في ساحات المعركة المُعاصِرة. وهو ما يؤكّده تعريف “هاميس” للجيل الرابع من الحروب؛ إذ يتضمّن استخدامَ “جميع الشبكات”، ما يُسلّط الضوء على واقع معظم الجماعات الجهادية التي تعمل بطريقةٍ لامركزيةٍ ومُترابطةٍ. وكما يلاحظ “خوان كانالز”: “يمكن رؤية الشبكات الجهادية، مثل تلك التي كانت وراء هجمات 11 سبتمبر والتفجيرات في لندن ومدريد، من حيث الأنظمة التكيفيّة المُعقّدة، والمنظمات السريعة والناشئة التي تتجمّع وتُنظّم نفسها بطريقةٍ لا-مركزيةٍ”. وبهذا المعنى، فإنّ نموذج التمرُّد العالمي وثيقُ الصلة للغاية ومترابطٌ مع البناء المفاهيمي للجيل الرابع من الحرب.
يتكرّر هذا في أعمال كلٍّ من “ديفيد كيلكولن” و”جون ماكينلاي”، مع التأكيد على طبيعة هذا التمرُّد الجديد أو الفائق وميزاته السائدة، والمرتبط بالشبكات الاجتماعية والسياسية. كما يزعم “ماكينلاي” بقوله إنّ “المتمرّد العالميّ هو ظاهرةٌ حديثةٌ للغاية، فيروسٌ استغلّ التغيير العالمي، وازدهر في بيئةٍ شبكيةٍ تتكيّف بسرعةٍ مع كلّ فصلٍ جديدٍ من التطور التقني، خاصّةً في نقل المعلومات ونشرها”.
بهذا المعنى، كان مفهوم الجيل الرابع للحرب دقيقاً؛ لما يشير إليه من كون ساحة المعركة غير مُحدّدةٍ، يُمكن لها الظهور في أيّ زمانٍ أو مكانٍ، ولا تتطلب جهداً تخطيطياً كبيراً دوماً. وهي قائمةٌ على الشبكات الاجتماعية والأيديولوجية وما يترتب عليها من بنًى تنظيميةٍ عشوائيةٍ ولا-مركزيةٍ، تظهر وسرعان ما تختفي.
كلمة أخيرة
من الواضح أن التقسيم الزمني للحرب إلى أربعة أجيالٍ لا أساس له من الناحية التاريخية، وقد قدم باحثون جادّون تحدياً شاملاً لفرضية التقسيم الجيلي للحرب لأربعة أو خمسة أجيالٍ. يتجاهل بناءُ الأجيال الأدلةَ التاريخية المعاكسة، ما يُسلّط الضوء على الحاجة إلى إعادة صياغة هذه التصنيفات التبسيطية.
يذكرنا هذا بما كتبه “كلاوزفيتز” بأنّ “الحرب هي بالحقيقة كالحرباء”؛ إذ إنّها قد تُغيّر شخصيتها في بعض الأحيان، لكنها تحافظ على جوهرها. ينسحب الأمر ذاته على مفهوم الجيل الرابع الذي يبدو أنيقاً، لكنّه بالحقيقة ذو محتوىً ومضمونٍ ضئيلٍ.
****
المراجع:
Betz, David. (2008). The Virtual Dimension of Contemporary Insurgency. Journal of Small Wars and Insurgency, Vol 19, No.4. pp.510-540.
Canals, Juan. (2009). Fourth-generation warfare: Jihadist networks and percolation. Journal of Mathematical and Computer Modelling. pp.896-909.
Chadwick, Adam. (2004). The Sling and the Stone: Next Generation Warfare. National Public Radio. Link.
Creveld, Martin Van. (1991). “The Transformation of War”. Free Press, New York City, USA.
Creveld, Martin Van. (2000). Through a Glass Viewed Darkly: Reflections on the Future of Warfare. Link
Echevarria, Antulio III. (2005). Fourth Generation War and other Myths. Strategic Studies Institute.
Evans, Michael. (2005). Elegant Irrelevance revisited: A Critique of Fourth-Generation Warfare. Journal of Contemporary Security Policy, Vol. 26, No.2 pp.242-249.
Freedman, Lawrence. (2005). ‘War Evolves into the Fourth Generation: A Comment on T.X. Hamme’s. Journal of Contemporary Security Policy, Vol.26, No.2 pp. 254–263.
Gray, Colin. (2005). How War Has Changed Since the End of the Cold War? Parameters magazine, pp.14-26.
Hammes, Thomas X. (2005). Insurgency: War Evolves into the Fourth Generation. Strategic forum. Link.
Hammes, Thomas X. (2005). War Evolves into the Fourth Generation. Journal of Contemporary Security Policy, Vol.26, No. 2 pp.189-221.
Hoffman, Frank. (2007), 4GW as a Model of Future Conflict. Small Wars Jounral. Link.
Israeli Ministry of Foreign Affairs, Wave of Terror:2015-2017. July 22nd, 2017. Link.
Lind, William S. (1989). “The Changing Face of War: Into the Fourth Generation”. Marine Corps Gazette. Link.
Mackinlay, John. (2005). Defeating Complex Insurgency. The Cornwallis Group X: Analysis for New and Emerging Societal Conflicts. Link.
McKenzie, Kenneth. (1993). Elegant Irrelevance: Fourth Generation Warfare. Parameters Magazine.
Smith, Rupert. (2005). The Utility of Force: The Art of War in the Modern World. Knopf Doubleday Publishing Group. Kindle Edition.
Sorenson, David S. (2005). The mythology of fourth-generation warfare: A response to Hammes. Journal of Contemporary Security Policy, Vol.26, No.2, pp.264-269.
Stone, John. (2007). Clausewitz Trinity and Contemporary Conflict. Journal of Civil Wars, Vol 9, No.3, pp.282-296.