تشهد السنوات العشر الأخيرة اهتماماً بحثيّاً متزايداً بإرث وفلسفة المحقق “هانس شَّارف” Hanns Scharf في حقل دراسات الاستجواب والاستخبارات. يُطلق الباحثون على هذه االفلسفة في استخراج المعلومات من الأسرى والمستجوبين اسم “تقنية شارف”، وتقوم على بناء علاقة وديّة بين المحقق والأسير، والابتعاد عن الضغط الجسدي، واستخراج المعلومات بطريقة غير مباشرة، بالاعتماد على استراتيجية مركبة للاستجواب.
“من تاريخ الحروب والتحقيق مع الأسرى يمكن الاستنتاج بأنه: لا الوطنيّة، ولا التحكم بالنفس، ولا استخدام المنطق قادرة على منح أي أسير القوّة الكافية لمواجهة الهجوم المنظم الذي يشنّه المحقق عليه باستخدام الحقائق والأدلة من السياق”.
“بالمعاملة الإنسانية الحسنة سعيتُ لخلق بيئة للاستجواب، ينسى فيها الأسير أنه يتم التحقيق معه، تربك توقعاته وما تمّ تدريبه عليه لمواجهة العنف والضغط الجسدي والنفسي في عملية التحقيق”.
(هانس شارف)
تشهد السنوات العشر الأخيرة اهتماماً بحثيّاً متزايداً بإرث وفلسفة المحقق “هانس شارف” Hanns Scharf في حقل دراسات الاستجواب والاستخبارات. يُطلق الباحثون على هذه الفلسفة في استخراج المعلومات من الأسرى والمستجوبين اسم “تقنية شارف”. وتقوم هذه التقنية على بناء علاقة ودّية بين المحقق والأسير، والابتعاد عن الضغط الجسدي، واستخراج المعلومات بطريقة غير مباشرة، بالاعتماد على استراتيجية مركّبة للاستجواب.
تقدم هذه المقالة تعريفاً بتقنية “شارف” ومكوناتها، والأسس المعرفية التي تقوم عليها، ومن ثم في الجزء الثاني سنقوم بعرض ونقاش مجموعة من الدراسات الميدانية التي قامت بفحص فاعلية وطريقة عمل هذه التقنية في الحصول على المعلومات من الأسرى والمعتقلين.
المُستجوِب الأعظم
“ما الذي أخذه مني؟ أنا متأكد بأنه استخرج معلومة ما، ولكني لا أملك أدنى فكرة ما هي هذه المعلومة”.
(العقيد الطيّار هربرت زيمكي، أسير حرب سابق في الحرب العالمية الثانية، خضع لاستجواب شارف).
هانس شارف (1907-1992) هو المحقق الرئيس في سلاح الجوّ الألماني النازي، ومسؤول التحقيق مع الطيّارين من أسرى الحرب من قوات الحلفاء وبشكل خاصّ الطيّارين الأمريكيين والإنجليز، وصاحب المعرفة العميقة والموسوعية بقوات سلاح الجوّ الأمريكي العاملة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.
قام شارف باستجواب ما يزيد عن 500 طيّار أمريكي وبريطاني في مركز الاستخبارات والتقييم التابع لسلاح الجوّ النازي خلال الحرب العالمية الثانية. وقد راكم شارف نجاحات متتابعة في التحقيق واستخراج المعلومات، وابتكر فلسفةً جديدةً في التحقيق صارت تعرف باسمه “تقنية شارف” scharff- technique، ومنحته لقب المستجوِب الأعظم The Master Interregator.
وفي مجتمع المخابرات الدولي، يعتبر شارف مثالاً وقدوةً للمحققين، وشخصيّةً تُثيرُ الإعجابَ، ذات قدراتٍ نفسيّةٍ “خارقةٍ” جمعت ما بين التعامل مع الأسرى بطريقة ودودة وإنسانيّة وبين الكفاءة العالية في الحصول على معلومات دقيقة ونوعيّة منهم.
بدأ شارف عمله في مركز الاستجواب الألماني بمراقبة دقيقة لأساليب واستراتيجيات الطيّارين، أسرى الحرب، في مقاومة طرق التحقيق التقليدية (التقنية المباشرة)، والتي تقوم – أي طرق التحقيق – على توجيه أسئلة مباشرة والضغط الجسدي والنفسي للحصول على أجوبة.
من خلال دراسة هذه الأساليب الدفاعية والتفاعل ما بين المحقق والمستجوَب وصل شارف إلى نتيجة مفادها أن هذه الطريق التقليدية عاجزة عن استخراج كمية كافية من المعلومات من الأسرى، والأهم من ذلك، أنها ذات فعالية منخفضة في الحصول على معلومات تتصف بالدقة والمصداقية. من المهم التنبيه هنا إلى أن المقصود باستخراج أو استنباط المعلومات، هو الحصول عليها بطريقة غير واعية عند المُستجوَب الأسير.
لغز الخطوط البيضاء في سماء المعركة
قبل الخوض في شرح تفاصيلها، نروي هذه القصة التي تلخص تقنية شارف.
في الحرب العالمية الثانية، كانت القوات الأمريكية تطلق صليات من الرصاص الشعّال والتي تخلّف وراءها خطوطاً بيضاء بدل الخطوط الحمراء المُعتادة. كان تبدّل الألوان مسألةً محيّرةً للاستخبارات العسكرية الألمانية. أحد الأسرى الأمريكيين كان قد انتهى للتوّ من جولةٍ منعشةٍ بصحبة المحقق هانس شارف في الريف الألماني، وكذلك مشاهدة فيلم سينمائي بصحبته، وبعد أن التهم الأسير الأمريكي قطعة الكعك البيتي اللذيذ الذي تصنعه زوجة شارف، قال شارف له في سياق محادثةٍ ودّيةٍ: “يبدو أن الأمريكان يعانون من نقص في المواد الكيماوية التي تشع باللون الأحمر اللازمة لصناعة الطلقات الشعّالة”.
أجاب الأسير الأمريكي بكل تلقائية: “لا ليس السبب نقصاً في المواد الكيماوية، وإنما هي إشارةٌ متفقٌ عليها بين القوات الأمريكية على الأرض والطيّارين لإشعار الأخيرين بقرب نفاذ الذخيرة لدى القوات الأرضيّة، وبالتالي ضرورة العمل على تزويدها بالدخيرة بالسرعة القصوى”. لم يُظهر شارف أيّ انفعالٍ واستمر بكل هدوء في تبادل أطراف الحديث مع الطيّار أسير الحرب.
المُحقق أسيراً مُستجوَباً
يمكننا القول بأن عَصب تقنية شارف في الاستجواب هو قيام المحقق/ المستجوِب بنقلة إدراكية، بحيث يفهم ويستوعب عملية التحقيق من وجهة نظر ومن موقع الأسير، وذلك بهدف توقع واستباق ردود أفعاله وتصرفاته، أي فهم الحيل والاستراتيجيات التي يتعامل فيها الأسير مع عمليات التحقيق ويواجهها، وفقاً للافتراض أن الناس يقومون بالتحكم بسلوكياتهم من أجل الوصول إلى غايات مرغوبة أو تجنب نتائج غير مرغوبة.
ولأن المعلومات هي المادة التي يدور حولها الصراع في غرفة التحقيق فإنٰ شارف اهتمٰ بمعرفة “معضلة التحكم بالمعلومات وإدارتها”، كمعضلة أساسية يواجهها الأسير، وتتلخص في محاولته الموازنة ما بين الإفصاح عن كمٍ محددٍ من المعلومات للحصول على منفعةٍ أو فائدةٍ ما (من مثل الراحة أو الانتهاء من التحقيق)، وبين عدم الإفصاح عن معلومات محددة تعود بالضرر عليه. ولهذا يقوم الأسير، في بداية عملية الاستجواب، ببناء فرضية/ قناعة/ تقدير للموقف حول كم ونوعية المعلومات المعروفة مسبقاً عند المحقق.
والطريقة التي يدرك بها ويفهم فيها المستجوَب/ الأسير عملية التحقيق سوف تؤثر بالضرورة على طريقة بنائه لاستراتيجياته المضادّة للتحقيق وإدارته لمعضلة المعلومات، بهدف تحديد طبيعة وحجم المعلومات التي سيسمح لنفسه بالإفصاح عنها، ويمكن تلخيص هذه العملية بالخطوات التالية:
(1) لن أبوح بالكثير خلال التحقيق.
(2) سوف أحاول معرفة ما الذي يبحثون عنه، ومن ثمّ أحاول كل جهدي عدم إعطائهم ما يبحثون عنه.
(3) وفي المقابل لا جدوى ولا معنى لإنكار ما يعرفونه عني بالفعل.
وإذا فهم المحقق العملية المكوّنة من تفاعل العوامل الثلاثة السابقة، بعد أن يتقمص شخصية الأسير ويضع ذاته مكانه، يمكنه أن يفك شيفرة إدارة الأسير للمعلومات كشفاً وحجباً.
مهاجمة الخطّة الدفاعية للأسير وتأزيم “معضلة التحكم وإدارة المعلومات”
بعد أن يصل المحقق إلى تصوّرٍ واضحٍ للخطّة الدفاعية للمستجوَب لمواجهة عملية الاستجواب، يقوم المحقق ببناء استراتيجية لمهاجمة هذه الخطّة من خلال تأزيم “معضلة التحكم وإدارة المعلومات”، وذلك بالاشتغال على كيفية إدراك وفهم الأسير لعملية الاستجواب، وتشويش هذا الفهم والإدراك بحيث يصبح الأسير غير قادرٍ على إدراك كمية ونوعية المعلومات التي أفصح عنها بطريقة غير واعية.
وأما المدخل لذلك فهو القيام بمجموعة من العمليات الإدراكية النفسية، بحيث يتم تضخيم قناعة الأسير بأنّ المحقق يعرف عنه كل شيء، مع التشديد على أن يصل الأسير إلى هذه القناعة بشكل ذاتي ودون تدخل واضح من قبل المُحقق. ومن ثمّ تشويش وعي الأسير بأهمية المعلومات التي يدلي بها فيعتبرها معلومات غير مهمة، كل ذلك في سياق حواري وبدون ضغط وبأقل قدر ممكن من الأسئلة المباشرة.
العناصر الأساسية في استراتيجية شارف للاستجواب:
أولاً: التودد وبناء علاقة إنسانية مع الأسير، ونبذ العنف والتعذيب والضغط الجسدي والنفسي، والوصول إلى وضع يكون الاستجواب فيه عبارةً عن محادثةٍ ودّيةٍ وعميقةٍ ما بين الأسير والمحقق.
ثانياً: عدم الضغط والإلحاح في طلب المعلومات.
ثالثاً: الإيهام بمعرفة كل شيء عن الأسير.
رابعاً: تقنية التأكيد أو نفي صحة المعلومة، حيث يقوم المحقق بتقديم إدعاء/معلومة في سياق الحديث دون أن يظهر اهتمامه بهذا الإدعاء، على أمل أن يقوم الأسير بتأكيد هذا الإدعاء أو نفيه (كما حصل في مثال الرصاص الشعّال السابق)، في مقابل أسلوب السؤال المباشر: لماذا لون خطوط الرصاص الشعّال أبيض وليس أحمر؟، مع التشديد على عدم إظهار المحقق للانفعال بحصوله على أية معلومة مهمة أو جديدة.
في الجزء الثاني من هذا المقال سوف نستعرض بعضاً من الدراسات الميدانية التي أجريت لفحص كفاءة “تقنية شارف” في الاستجواب مقارنة بالأسلوب المباشر، ولفهم طريقة عملها من وجهة نظر علم النفس والعلوم السلوكيّة.
يتبع.
——————————–
المراجع:
1. Pär Anders Granhag, Steven M. Kleinman & Simon Oleszkiewicz (2016) The Scharff Technique: On How to Effectively Elicit Intelligence from Human Sources, International Journal of Intelligence and Counter Intelligence, 29:1, 132-150.
2. Raymond F. Toliver, The Interrogator: The Story of Hanns Joachim Scharff, Master Interrogator of the Luftwaffe. (Atglen: Schiffer Publishing Ltd., 1997).
3. LEARNING FROM HISTORY: WHAT IS SUCCESSFUL INTERROGATION?By: LTC Ronny Kristoffersen, RNN[https://globalecco.org/learning-from-history-what-is-successful-interrogation] (accessed: June 25 2017).