يقارب عبد الجواد عمر تجربة الحرب السوفييتية على أفغانستان مع تجربة الهزيمة الأمريكية في فيتنام، مقتفياً أوجه التشابه بين الحالتين على الصعيدين العسكري والسياسي، ومستكشفاً دور الحرب السوفييتية في انهيار الاتحاد السوفييتي. ترجمتها رؤى مشارقة.

* ترجمة: رؤى مشارقة

خاضت الولايات المتحدة الأمريكية حربَ استنزافٍ في فيتنام دامت 10000 يوم. ترمز هذه الحرب إلى الفشل الأمريكي في تحقيق أهدافها السياسية من خلال القوة العسكرية. في الواقع، تُعتبر التجربة الفيتنامية متأصلةً في الذاكرة الأمريكية، ما خلق لها مكانةً مهمةً ودائمةً في التاريخ الأمريكي تجلت في متلازمة فيتنام. تعود الأخيرة إلى الثقافة السياسية الاستقطابية التي اُبتليت بها الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حملتها العسكرية في فيتنام، والنفور السياسي الذي نتج إثر تكلفة التدخلات العسكرية على المجتمع الأمريكي؛ أي التكلفة المادية والمعنوية، وتلك المرتبطة بأعداد الجنود القتلى. من ناحية أخرى، سرعان ما واجه الاتحاد السوفييتي تجربةً مماثلةً في إنقاذ حلفائه المتهالكين في أفغانستان، حينما اجتاحت الحرب الباردة دول العالم الثالث.

إنّ أوجه التشابه بين الحربين لافتةٌ للنظر؛ فبينما كانت الولايات المتحدة تدعم حليفاً ضعيفاً يتجسّد في الحكومة الوطنية الفاسدة وغير الديمقراطية في الجنوب الفيتنامي، حاول الاتحاد السوفييتي إنقاذ النظام الشيوعي الضعيف الذي يقاتل من أجل البقاء ضد ميليشيات متنوعة ومتعددة في أفغانستان. تكبَّد الأمريكيون خسائرَ فادحةً في حرب فيتنام، إذ بلغ عدد ضحاياهم حوالي 58000، بينما وصل عدد ضحايا الاتحاد السوفييتي في أفغانستان إلى حوالي 15000 قتيلٍ، ليترك هذا العددُ من الضحايا الاتحادَ السوفييتيَّ ضعيفاً من الناحيتين الاقتصادية والسياسية

صحيح أن كلتا الحربين خلّفتا آثاراً متتالية تجاوزت المعارك في أدغال فيتنام وجبال أفغانستان الوعرة، غير أن واحدةً من هاتين الحربين أدت إلى سقوط إحدى القوى العظمى في الحرب الباردة، إذ شكلت أفغانستان فيتناماً للاتحاد السوفييتي، لكن تأثيرها كان أكبر من تأثير فيتنام على الولايات المتحدة الأمريكية، إذ سارعت إلى تساقط الاتحاد السوفييتي وانهياره.

إشكاليات الشرعية السياسية

ثمّة ثلاثة عناصر سياسية حدّدت ضعف نظام الحزب الشيوعي الديمقراطي في أفغانستان. أولاً: عدم وجود الشرعية السياسية نظراً لأيديولوجية الحزب غير المرنة، إضافةً إلى عدم قدرته على تشكيل تحالف ملموس مع القوى السياسية القبلية والثقافية الأفغانية بخليطها الغني. ثانياً: اعتماده الشديد على الدعم الأجنبي، خاصةً من الاتحاد السوفييتي. ثالثاً: ضعف الجيش بسبب انقسام الولاءات في الجيش. تاريخياً، افتقرت أفغانستان للتماسك السياسي بسبب التنوع العرقي والقبلي والمذهبي. كما شكلت تضاريسها الوعرة عقبةً رئيسيةً في تكوين هويتها الوطنية المشتركة.

خضعت أفغانستان، لعدة قرون، لسيطرة نظام حكم مركزي تحلّى بعلاقات طيبة مع القوى الأجنبية، بينما قاوم نفوذ الغرباء من خلال موازنة دبلوماسية دقيقة. كما كانت أفغانستان تعتمد على حكم النخبة، إلى حدٍ كبيرٍ، إذ شكلت التحالفات القبلية والمحلية الأساس في تشكيل الشرعية السياسية للحكام المتعاقبين. في هذا السياق، يؤكد الباحث دوجلاس بورير أن خلق فسيفساء نظام وطني موحد من الشعوب واللغات والثقافات لم ينجح أبداً في أفغانستان. في المقابل، كانت مقاومة الغزاة الأجانب من الأمور التي وحّدت الأفغان، فضلاً عن التعاطي مع الإسلام كقوةٍ سياسيةٍ متعددةِ الثقافات قدمت، تاريخياً، نوعاً من التماسك الاجتماعي والثقافي.

 سيطر الحزب الشيوعي الشعبي الديمقراطي الأفغاني على الحكم في أفغانستان من خلال انقلابٍ أحدثه في تاريخ 27 نيسان عام 1978، وسرعان ما قدّم الحزب إصلاحاتٍ جذريةً، تمثّلت في حقوق المرأة وإصلاح الأراضي، بيد أن هذه الإصلاحات واجهت الرفض والغضب الشعبي من مجتمع متدين وقبلي. لم يتوقف تحدي هذه الإصلاحات عند حدود الغضب العام، بل سرعان ما انتقل إلى تمردٍ شاملٍ ومنظّمٍ ومسلحٍ. أبرزت الخلافات الداخلية، التي نشبت بين كبار قادة الحزب الشيوعي الأفغاني، عدم كفاءتها وعجزها عن تأسيس شرعية سياسية حقيقية وعضوية، بل تنازعت مختلف الفصائل والتيارات داخل الحزب الشيوعي على السلطة.

في هذا السياق، يقول الباحث مايكل ماكبريد: “بالإضافة إلى الإصلاحات الشيوعية والأيديولوجية والخطابية، فإن انتماء تراكي وأمين إلى اتحاد الكونفدرالي الغزالي زاد من عدم شرعيتهما بين شرائح كبيرة من الأفغان”. علاوةً على ذلك، تميز حزب الشعب الديمقراطي بالحماسة الأيديولوجية للشيوعية؛ أيديولوجية عارضت في بعض جوانبها العادات والثقافة المحلية.

على إثر ذلك، شهد الحزبُ الشيوعيُّ اشتباكاتٍ شخصيةً، تمثّلت في الصراعات الدامية المتتالية داخل لجنته المركزية، وهو ما يوضحه دوجلاس بقوله: “باختصار، ثمّة ركيزتان للشرعية السياسية ترسّختا في أفغانستان، وهما: الدين الإسلامي الذي يتشارك به الجميع، وربما الأهم من ذلك احترام التنوّع في الثقافات التقليدية التي تتمثّل في العائلة الممتدة، والعشيرة، والوحدة القبلية”. بالتالي، افتقر النظام الشيوعي إلى كلا الأمرين، ما جعله أكثر اعتماداً على الاتحاد السوفييتي ودعمه في عملية بقائه السياسي.

أمّا على صعيد الحالة الفيتنامية التي تتشابه مع نظيرتها الأفعانية، فقد تواجهت فيها قوتان سياسيتان. تمثّلت الأولى في الحزب الشيوعي الفيتنامي، أمّا القوة الأخرى فكانت حكومة “نغو دينه ديم” التي حاولت الولايات المتحدة إنقاذها. سعت فيتنام الشمالية إلى إعادة توحيد البلاد تحت قيادة القائد الأسطوري “هو تشي منه“. ومع ذلك، لم يكن الطرفان خصمين متساويين، بل على العكس من ذلك، إذ كان جنوب الفيتنام يعاني من تمزقات تشبه تلك التي واجهها الحزب الشيوعي الأفغاني .

تشكّلت الحكومة الفيتنامية الجنوبية من الأقلية الكاثوليكية، كما كان نظام الحكم هناك مثقلاً بالفساد والمحسوبية. شَكَّلَ هذان العنصران سبباً رئيسياً  في فشل التدخل الأمريكي. بالمقابل، كان التدخل الأمريكي بحد ذاته سبباً رئيسياً في نزع الشرعية عن نظام جنوب الفيتنام، نظراً لتعاونه مع قوة أجنبية. تمّ نزع الشرعية عن جنوب الفيتنام من خلال ربطه بـ”الإمبريالية” الأمريكية، وهو ما يتقاطع مع ما كانت تبثّه شمال الفيتنام مراراً وتكرارا عن طبيعة الدولة الفيتنامية الجنوبية، حتى إن تلك النظرة  قد تغلغلت في بنيان المجتمع الفيتنامي الذي عرَّف نظام ديم بـ “ديم الأمريكي”.  

 يمكننا الخلوص ممّا استعرضناه آنفاً إلى أن تدخّل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في فيتنام وأفغانستان كان على أساسٍ غامضٍ لدعم أنظمة لا تحظى بشعبية كبيرة وتفتقر للشرعية السياسية. عانت هذه التدخلات من الجهل الثقافي والاجتماعي، إذ اتّسمت بقلة التجربة والجهل في النسيج الاجتماعي الأفغاني والفيتنامي، خصوصاً على صعيد القوة القومية الفيتنامية وجذور الشيوعية الأصيلة، وكذلك قوة الثقافة الدينية والقبلية الأفغانية، ورفضها الحكمَ الأجنبيَّ والنخبويَّ الشيوعيَّ. بعبارةٍ أخرى، تدخّلت القوى العظمى في صراعٍ محليٍّ مع انحيازٍ لطرفٍ ضعيفٍ وغير مؤهل، إذ لم تكن تدخلات تلك القوى إلا تعميقاً لنزع الشرعية في نظر الشعب الأفغاني والفيتنامي.

فشل الاستراتيجية العسكرية

خاض السوفييت حرباً دمويةً ووحشيةً في أفغانستان، تواجهت فيها قوةٌ منظّمةٌ من المجاهدين ضد قوة النيران والآلات العسكرية السوفييتية المتفوقة. غير أن السوفييت مُنيوا بالفشل العسكري هناك، والذي يمكننا أن نُرجعه إلى أربعة عوامل أساسية؛ أولها غياب التماسك العسكري وضعف الاستراتيجية العسكرية السوفييتية، بالإضافة إلى نقص التعاون والتنسيق بين الجيش السوفييتي والدبلوماسية السوفييتية. ثاني تلك العوامل يتمثّل في الاعتماد الكبير على القوة النارية، وذلك لتخفيف الرفض السياسي الداخلي السوفييتي للحرب. ثالثاً: فعالية تكتيكات المجاهدين ومهاراتهم في توظيف الجغرافيا والأيديولوجيا والتكتيكات العسكرية، ورابعاً: توافر الدعم الدولي للمجاهدين من النواحي العسكرية والسياسية واللوجستية، وتضمن ذلك فتحَ الحدود الشرقية الباكستانية، التي شكلت قاعدةً وملاذاً آمناً للعمليات الأفغانية.

كما كان معدل التغيُّر المستمر لقادة الجيش المشرفين على الجهود العسكرية من الأسباب الرئيسية لفشل الاستراتيجية العسكرية السوفييتية، وهو ما يتقاطع مع ما يقوله ماكبريد في سياق تقييمه لجهود الجيش السوفييتي: “التكرار في تغيير القيادة، والخلافات بين القادة العسكريين والقادة المدنيين، والنقص في التنسيق بين المجموعات المتباينة العاملة في أفغانستان؛ كلها منعت السوفييت من تكوين وحدة عملياتية قوية كافية للقضاء على المجاهدين”. وبالفعل، فقد تمّ تقسيم جهود الحرب بين لجنة أمن الدولة  (كي جي بي) ووزارة الشؤون الداخلية، ووزارة الشؤون الخارجية المخصصة للمساعدات الاقتصادية والتنمية، ووزارة الدفاع.

وبينما كان التغيُّر في القيادات العسكرية ُمقوِّضاً للجهود العسكرية السوفييتية، فقد كانت التذبذبات والصراعات على صعيد القيادة السياسية هي أيضاً تلقي بثقلها على المعارك في جبال أفغانستان. بذلك، عانت القيادة السوفييتية السياسية من تغيراتٍ في الهرم السياسي، نظراً للفشل في أفغانستان، خاصةً بعد وفاة “ليوند بريجينيف” والتغييرات السريعة والمتتالية في المراتب العليا للجنة التنفيذية التي رافقت وفاته.

كما فشل السوفييت في توحيد جهودهم من خلال تشكيل مكتب قيادة مركزي، حيث سلط أحد الصحفيين السوفييت الضوء على ذلك، حين قال: “من أحد مشكلاتنا في أفغانستان … هو أن الاتحاد السوفييتي لم يكن لديه مكتبٌ مركزيٌّ مسؤولٌ عن مختلف الوفود السياسية والعسكرية من الوزارات المختلفة”. لعبت هذه التغييرات، التي ارتبطت مع ضعف التنسيق، دوراً سلبياً في بناء استراتيجية عسكرية واضحة المعالم، تجمع ما بين الجهود العسكرية والدبلوماسية، وترتبط بأهداف سياسية قابلة للتحقيق. 

 ظنَّ السوفييت المتواجدون في أفغانستان أّنّ بمقدورهم تجاهل قوانين حرب العصابات عبر استخدام القوة النارية المتفوقة، وتطبيق التعاليم الكلاسيكية السوفييتية للحرب الهجومية. ولكن كما يلاحظ الباحث هلالي، فقد “تم إنشاء القوات المسلحة السوفييتية وتجهيزها وتدريبها لحرب عالية الكثافة في السهل الشمالي الأوروبي، لكن التضاريس والبيئة الجغرافية والواقع الطبوغرافي في أفغانستان كانت تختلف كثيراً عن المناخ المعتدل والتضاريس المفتوحة في أوروبا”.

على إثر ذلك، خاض السوفييت حربَ تضاريسٍ صعبةً، دون التجهيز العسكري والتدريب اللازم للقيام بمهمات “مكافحة التمرد” على قمم الجبال الأفغانية. علاوةً على ذلك، ركّزت الاستراتيجيات العسكرية السوفييتية على تأمين المدن الرئيسية، وشبكات الطرق، والبنية التحتية الأساسية. ومن أجل القيام بذلك، وضع السوفييت قواعدَ وثكناتٍ كبيرةً بجانب المدن وفي داخلها.

لم تُسعف تلك الاستراتيجية السوفييت، فقد تُرجم هذ التركيز على المدن إلى تجاهل شبه كامل للريف الأفغاني، كما لم تساهم سياسة الأرض المحروقة التي عَوَّل عليها السوفييت عبر توظيف قوة النيران البرية والجوية في استمالة الريف الأفغاني وقبائله لحكم الحزب الشيوعي، بل ساهم بشكلٍ مباشرٍ في تقوية شوكة المجاهدين والمليشيات المختلفة التي تمركزت في الريف الوعر، إذ تمكّن المجاهدون من شنِّ ضرباتٍ وإجراء هجماتٍ بالدقة والتناسق اللازمين لإحداث خسائر مباشرة في قوات الجيش السوفييتي.

أرجع الباحث إدوارد ويسترمان فشل الاستراتيجيات العسكرية السوفييتة في الحرب الأفغانية إلى ستة عوامل أساسية؛ وهي: توافر الملاجئ للمجاهدين، وفشل التدخل الجوي السوفييتي في إعاقة تحركات المجاهدين، وعدم تعويل المجاهدين على اللوجستيات المعقدة، إضافةً إلى صغر حجم القوات السوفييتية المشاركة في الحرب، خصوصاً قوة مكافحة التمرد، عدا عن عدم خلق وتطوير أساليب مناسبة لمكافحة التمرد، وإدخال تقنية صواريخ الأرض (السام) المحمولة، ما حيَّد التفوق الجوي السوفييتي.

بالفعل، كان المجاهدون قادرين على تكييف أساليب قتالهم مع طبيعة أرض المعركة، لكنهم- بشكلٍ عامٍ- حافظوا بشدةٍ على أساليبهم القديمة والقاتلة باستخدام التضاريس الجبلية لصالحهم، والهجوم الليلي، وتحمل وقبول الخسائر البشرية العالية نتيجة التفوق السوفييتي التكنولوجي. كما استفاد المجاهدون من خطوط الدعم المنبثقة عن باكستان، ومن الملاجئ التي وفرتها المخابرات الباكستانية، وأيضاً من الدعم المالي والعسكري الذي تلقوه من مختلف الشركاء الدوليين، فتضمنت القائمة الولايات المتحدة وحلفاءها بالمنطقة كالسعودية.

على نحوٍ مشابهٍ، اعتمدت الولايات المتحدة في فيتنام على القوة النارية من أجل حل التناقض ما بين الرغبة الأمريكية في نهايةٍ سريعةٍ لحرب فيتنام وما بين توظيفها لحربٍ محدودةٍ جغرافياً. بذلك، لم تستطع الولايات المتحدة ضرب الفضاءات الجغرافية العسكرية من ملاجئ وأنفاق، والتي استخدمها الفيتناميون الشماليون وحلفاؤهم الجنوبيون لشن هجماتٍ ضد القوات الأمريكية، وهو ما يقوله هيرنج بوضوح :”لم تطور الولايات المتحدة استراتيجياتٍ مناسبةً للحرب، كونها افترضت أن تطبيق قوتها العسكرية سيكون كافياً.” علاوةً على ذلك، نجح الفيتناميون الشماليون وحلفاؤهم في الجنوب في توظيف الجغرافيا والتحمل والإرادة، ونظامٍ معقدٍ من التحالفات السياسية مع الاتحاد السوفييتي والصين، فضلاً عن البساطة التكتيكية في الحرب من أجل “التحرير الوطني”، ما عزز من الاستنتاج القائل بأن الحرب الفيتنامية لا يمكن لها أن تنجح ضمن حدود تكلفة سياسية مقبولة.

في كلتا الحربين، خاض كلٌّ من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية حرباً ضد معارضةٍ ملتزمةٍ وفعالةٍ وقادرةٍ على توظيف قواعد حرب العصابات. في نهاية المطاف، فشلت القوى العظمى في إنتاج استراتيجية عسكرية ملائمة لواقع المعارك، ما أدى إلى فشلها في تحقيق أهدافها .

النتائج السياسية

 انسحب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان بعد حربٍ دمويةٍ استمرت تسع سنوات. أثَّر الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، بشكل عميق، على النظام السياسي السوفييتي، بالرغم من أن معظم القراءات المتعلقة بانهيار الاتحاد السوفييتي لا تعتبر الحرب سبباً رئيسيا لتهاويه، بل يعتبر معظم المراقبين أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي عواملَ ذاتيةً، تتعلق إما بالشخصيات التي تتضمن دور  ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، أو نتيجةً لأسباب اقتصادية، خصوصاً على صعيد عدم قدرة الاتحاد على مواكبة التطورات التكنولوجية في المراكز الرأسمالية.

في الواقع، لم يسترعِ فشل الاتحاد السوفييتي في أفغانستان كثيراً من الانتباه، على الرغم من إمكانية اعتباره ركيزةً أساسيةً في فهم وتفكيك الأيام الأخيرة للنظام السوفييتي. يمكننا اختزال تأثير الحرب في أفغانستان على النظام السياسي السوفييتي في أربعة عوامل رئيسية؛ وهي: الفشل في تحقيق الأهداف السياسية المعلنة من خلال توظيف القوة العسكرية، ما أثّر بدوره على عقلية صناع القرار في الاتحاد السوفييتي، كما لُقِنَ الجيش الأحمر درساً؛ مفاده أن القوة والتدخل العسكري لا يضمنان بالضرورة التماسك السياسي الداخلي للجمهوريات السوفييتية المختلفة.

تأسيساً على ما سبق، أضعفت هزيمة الجيش الأحمر سمعة الأخير كقوة قتالية فعالة ومرعبة، مما شجّع التمرد ضد الاتحاد السوفييتي وهيمنته في شرق أوروبا. ساهمت أيضاً الحرب في ظهور طبقة جديدة من المحاربين القدامى ذوي شرعيةٍ سياسيةٍ للتحدث والتنظيم، والانخراط سياسياً في روسيا، وغيرها من الجمهوريات السياسية، الأمر الذي أتاح معارضة النظام القائم، وفتح المجال لإصلاحات ما عُرفت بسياسة “غلاسنوست“، التي كانت حاسمة في توفير المساحة لغير الروس للتمرّد على الاتحاد السوفييتي وهيمنته السياسية في شرق أوروبا.

بالفعل، كانت الحرب الأفغانية السوفييتية عاملاً رئيسياً في انهيار الاتحاد السوفييتي، في حين خرجت الولايات المتحدة من فيتنام مصابةً، وتعاني من استقطاب سياسي داخلي حاد، وعقلية جماعية تشكك بفاعلية التدخلات الأجنبية. غير أن التأثير الفيتنامي اقتصر على ذلك فحسب، وإنْ ساهم بشكلٍ كبيرٍ في الأزمة الاقتصادية في منتصف السبعينيات، خصوصاً أزمة التضخم. 

  ختاماً، يمكننا القول إن الاتحاد السوفييتي حاول، من خلال تدخلاته في أفغانستان، تعزيزَ قوة حلفائه الشيوعيين، وتوسيع حدود الاتحاد وصولاً إلى الخليج الفارسي. لكن تضاريس أفغانستان الوعرة وكفاءة المجاهدين أثبتتا أن حيازة أفغانستان مهمةٌ تصل حد الاستحالة. دعم الاتحاد السوفييتي نظاماً فاسداً غيرَ كُفءٍ، لا يتمتع بشرعية سياسية تُذكر في مجتمع محافظ وقبلي وديني. كما افتقر الاتحاد السوفييتي إلى استراتيجيات عسكرية فعالة، وفَشلَ في تحقيق وحدة تنسيقية، ما أدى إلى هزيمته في أفغانستان.

****

المراجع
1) لوغي فال، فريدريك. (2012). “ما حدث بالفعل في فيتنام “. الشؤون الخارجية. المجلد. 91 ، رقم 6.
2) بورير دوجلاس (1999). “القوى العظمى المهزومة: مقارنة أفغانستان وفيتنام”. فرانك كاس للنشر.
3) بيرد، وليام. (2010). “درس في تاريخ أفغانستان من أجل الانتقال السياسي الحالي”. معهد الولايات المتحدة للسلام.
4) هيرنج، جورج (2013). “الحرب الأطول في أمريكا: الولايات المتحدة وفيتنام ” 1950-1975 (صفحة 13)  ماكجرو هيل التعليم. 
5) هلالي، أ.ز (1999). “أفغانستان: تدهور الاستراتيجية العسكرية السوفييتية والوضع السياسي.” مجلة الدراسات العسكرية السلافية. 12: 1.
6) كالب، مارفن. (2013). “إنها تُدعى متلازمة فيتنام، وقد عادت”. بروكينغز.
7) ماكبرايد  مايكل. (2014). “حرب غير مريحة في مقبرة الإمبراطورية”. مجلة الحروب الصغيرة.
8) ماكنامرا، روبرت س ، جايمس بلايت ، و روبرت بريغام . “حُجَّة بلا نهاية: بحثاً عن إجابات لمأساة فيتنام”. نيويورك: الشؤون العامة  1999، صفحة 328.
9) ريوفيناي، رافييل وبراكاش، عاصم (1999). “حرب أفغانستان وانهيار الاتحاد السوفييتي”. استعراض الدراسات الدولية. 693-708.
10) ويسترمان، إدوارد (1999). “حدود القوة الجوية السوفييتية: فشل الإجبار العسكري في أفغانستان”. مجلة كونفليت للدراسات .