هناك مقولة يردّدها الجنود كثيراً، خصوصاً عند الحديث عن مكانة ودور المشاعر في الحياة العسكريّة، وعندما أقول الجنود، أقصد تسعة من جنود المشاة في الجيش الفرنسيّ حاورتهم بشكل شخصيّ في إطار بحوثي الجامعية، وغيرهم العديد ممّن نُشرت شهاداتهم على الإنترنت وفي الكتب، سواء كانت لجنود في الجيش الفرنسيّ، أم لآخرين في جيوش مختلفة هي بشكل رئيسيّ: الجيش الأمريكي، الجنوب أفريقي والإسرائيلي؛ أما المقولة فهي: “الجنديّ لا يخاف، الجنديّ يتوجّس”.
هناك مقولة يردّدها الجنود كثيراً، خصوصاً عند الحديث عن مكانة ودور المشاعر في الحياة العسكريّة، وعندما أقول الجنود، أقصد تسعة من جنود المشاة في الجيش الفرنسيّ حاورتهم بشكل شخصيّ في إطار بحوثي الجامعية، وغيرهم العديد ممّن نُشرت شهاداتهم على الإنترنت وفي الكتب، سواء كانت لجنود في الجيش الفرنسيّ، أم لآخرين في جيوش مختلفة هي بشكل رئيسيّ: الجيش الأمريكي، الجنوب أفريقي والإسرائيلي؛ أما المقولة فهي: “الجنديّ لا يخاف، الجنديّ يتوجّس”.
يعني أن ما يأتينا، نحن الآخرين، من حالِ شعوري أطلقنا عليه مسمّى الخوف، يأتي للجنود على شكل توجّس، أو هكذا يسمّونه، وهو إمّا طبيعيٌ أو يتمّ بناؤه فيهم. لكن، ماذا يعني الجنود بالتوجّس؟ وكيف يمكن التأكد من صحة كلامهم، أي كيف يمكن فحص فيما إذا كان مصدر هذه المقولة هو الواقع فعلاً أم شعورٌ آخرٌ هو الخجل أو العار أو المكابرة من التصريح بالخوف، لأنّ الجنديّ، كما هو معروف، ابن “مؤسسة ذكورية” طالما غيبّت المشاعر في تعريفها للجنديّ، أو اعتبرت حضور المشاعر عند الجنديّ علامة على “الجسد الخاطئ” الذي فشل في أن يُصبح جسداً محارباً؟
على أيّة حال، سيتوقّف هذا المقال عند السؤال الأول بعد محاولة الإجابة عليه، أما السؤال الثاني، فمن الصعب عملياً حسمه دون توسيع دائرة المقابلات الإثنوغرافية على الأقلّ، ولهذا موضع آخر. لكن، حتى ذلك الوقت، سأفترض صحّة المقولة، انطلاقاً من الثقة التي يجدر بالباحث الإثنوغرافي أن يخلقها بينه وبين مخبريه، فهي خطوته الأولى ودليله المستمر أثناء عمله، وأعتقد جزافاً أنّني نجحت في ذلك. ثمّ انطلاقاً من الثقة بالأدوات البحثيّة المعتمدة، وبمقارنة ما تمّ جمعه من موادّ إثنوغرافيّة بعضها ببعض، وبمواد أخرى شبيهة حول العالم.
ماذا يعني الجنود بالتوجّس؟ أو قبل ذلك، ماذا يعني التوجّس؟
للإجابة على هذه الأسئلة، سأعود مرّة أخرى إلى محاولات قراءة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (١٨٨٩-١٩٧٦)، أو بالتحديد، إلى الرابع والعشرين من يوليو ١٩٢٩، حيث ألقى هايدغر محاضرة بعنوان “ما الميتافيزيقا؟” في جامعة فرايبورج إثر توليه منصب الأستاذية هناك، وهي واحدة من أكثر محاضرات هايدغر شيوعاً وتأثيراً، وقبل كلّ شيء، انتقاداً، ذلك أنّ هايدغر، في هذه المحاضرة بالذات، وقف أمام العلم ووجّه إليه سؤال العدم، قائلاً بأنّ “العلم لا يعترف بالعدم ولا يبالي به لأنّه ليس موضوعاً ولا كائناً، ولكنّه مع ذلك يستنجد به عندما يريد أن يفكر في ذاته، ليس هذا فقط، بل إنّ العلم ليس ممكناً أصلاً لولا تجلّي العدم في انتمائه للكون، وبالتالي، إنّ العدم أسبق من العلم”[1].
تُلخّص هذه الجملة قدراً كبيراً من الفلسفة الهايدغرية، وبمجرد الانتهاء من تشريحها، ينبغي أن نكون قد أجبنا على كل هذه الأسئلة، كلّ سؤال يعادل قضية فلسفية: ما هو العدم أو اللاشيء عند هايدغر؟ ماذا يعني أن تكون؟ هل مقولة “العدم أسبق من العلم” مقولة إبستمولوجية تعني هل المعرفة ممكنة بهذه الطريقة (أي من خلال سابقيّة العدم على العلم) أم مقولة أنطولوجية تعبّر عن طريقة وجودنا في هذا العالم؟ السؤال الأخير والسابق لأوانه هو: هل مقولة “العدم أسبق من العلم” هي نفسها مقولة “الشعور يسبق الإدراك”؟.
لا يتناول هايدغر هذه الأسئلة سؤالاً سؤالاً ليجيب عليها، في الحقيقة، هو يخلق طرقاً للتفكير ويمشيها، ثم يتكفل هذا الطريق أو ذاك بالإجابة الضمنية أو الصريحة على مجموعة الأسئلة المطروحة. فيما يخصّ قضية العدم والعلم، بدأ هايدغر هذا الطريق بسؤال يفهمه العلم جيداً: “هل هناك تجربة نكون فيها أمام اللاشيء؟” نعم، التوجّس بالتّأكيد، هكذا جاءت إجابته بدون مقدمات تقريباً.
في الحقيقة، اختار مترجمو هايدغر للعربيّة مفردة “القلق” كترجمة لما يطلق عليه هو “angst” الألمانية، وأعتقد بأنّ مفردة “التوجّس” أدقّ في الدلالة على ما يقصده هايدغر، لأنّ محور الفرق بين الخوف، ومعه الأحوال الوجدانية الأخرى، وبين التوجّس هو أننا نخاف مثلاً من شيء محدّد وعلى شيء محدّد، كما إنّ “الخائف والمتخوِّف بكونه مشدوداً إلى ما يوجد فيه، وفي سعيه إلى أن ينجو منه، يصبح مرتبكاً إزاء شيء آخر، فاقداً للصواب كليّة”[2]. كذلك، فإنّ القلق، أو على الأقل، القلق كما أعرفه، يمكن أن يكون قلقاً من وعلى شيء واضح ومحدّد، القلق من أن يعلم أبي أني أدخّن السجائر ومن أن يصيبني السرطان بسببها على سبيل المثال.
في حين لا يسمح التوجّس بكلّ هذا الارتباك، فهو ليس توجّساً من شيء محدّد نعرفه، ولا على شيء محدّد، وإذا كنتُ متوجّساً وعلمتُ مصدر توجّسي، لا يكون هذا توجّساً أصلاً، فالتوجّس كما وصفه طرفة بن العبد في معلقته، يكون لِهجس خفيٍ أو لصوت مندّد:
“وخدّ كقرطاس الشآمي ومشفّر كسبت اليماني قده لم يجرد وعينان كالماويتين استكنتا بلهفي حجاجي صخرةٍ قلت مورد طحوران عوار القذى فتراهما كمكحولتي مذعورةٍ أم فرقد وصادقتا سمع التوجّس للسرى لِهجس خفي أو لصوت مندد”[3].
لا يشبه التوجّس إذن غيره من الأحوال، فهو “لا ينشأ عن تمثّل اللاشيء وإدراكه وفهمه، بل إنّ اللاشيء لا يكون حاضراً إلا في التوجّس، إن التوجّس هو الذي يكشف اللاشيء، يكشف وحشة الكينونة-في-العالم حيث لا يبقى الكائن بالنسبة لنا معتاداً ومألوفاً وقائماً رهن إشارتنا، في تجربة التوجّس، في الإحالة إلى الكائن في كليّته وهو ينفلت، ينكشف للكينونة كونها ملقى بها ومتروكة لذاتها”[4].
قبل المباشرة في شرح ما يريد هايدغر قوله هنا، هناك الكثير مما يجب أن يُقال للتعريف بفلسفة هذا الرجل، وسيوفّر هذا المدخل للهايدغرية فرصة أكبر لفهم التوجّس أولاً، ثم العلاقة بين التوجّس والعدم، وبالتالي، ماذا يعني الجنود بمقولة “الجنديّ لا يخاف، الجنديّ يتوجّس”.
فلسفة “هايدغر”
بداية، من كان يكون كُن كوناً وكياناً وكينونة فهو كائن، الكينونة هي المبحث الأساسي في فلسفة مارتن هايدغر. في اللغة العربية، لا تحتاج الجملة الإسميّة إلى فعل الكينونة في تركيبها نظراً لكونه واضحاً ومفهوماً بشكل ضمنيّ، وهو ما يُعرف نحويّاً بالإسناد، فنقول “المكان جميل” ولا نقول “المكان هو جميل أو المكان يكون جميلاً” كما في اللغات الأجنبية.
والكينونة كمبحث فلسفي لم يبتدعها هايدغر، بل عالجتها الأنطولوجيا على الدوام وضمن ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، الكينونة هي التصوّر الأكثر كليّة أو بداهة، معنى ذلك أنّ كلّ ما نقوم به من تفكير أو ممارسة قائم بشكل ضمنيّ أو صريح على فهم ما للكينونة شريكاً في ذلك. ثانياً، الكينونة هي التصوّر غير القابل للتعريف لأنها التصوّر الأعمّ والأفرغ، ولأنها ليست من الكائن في شيء، فلا تستنبط من التصورات العليا ولا تستعرض من التصورات الدنيا. أخيراً، الكينونة هي التصوّر المفهوم بنفسه، أي ما يمكن فهمه بلا زيادة أو نقصان كقول “المكان جميل، أنا مبتهج، إلخ”[5].
لم يقتنع هايدغر بهذه التعريفات الأنطولوجية القديمة والوسيطة للكينونة، بل أدانها وأصرّ على ضرورة إعادة طرح السؤال عن معنى الكينونة بشكل يليق بها (فكرة معاودة التساؤل عن معنى الكينونة هي بمثابة كلمة مفتاحية مهمة جداً للدخول في عالم هايدغر، سأعلّقها هنا لشرح شيء يسبق هذه الخطوة، لكن يجب أن تظلّ في البال على أنها محطة رئيسية في هذا النص).
بنظر صاحبنا، فإنّ الخطيئة الكبرى للنظريّة العلمية هي أنها تعاملت مع الأشياء في العالم انطلاقاً من حضورها الخارجي من أجل كسب المعارف منها؛ مثلها في ذلك مثل الحركات الاستعمارية القديمة في تعاملها مع “الشعوب الأخرى”، باستثناء الاستعمار الصهيوني الذي رأى “فيك” كل احتمالات فنائه وما يزال. ما قامت به العلوم هو إذن تقزيم الأشياء إلى رسوم كاريكاتوريّة تعسفيّة بالتعامل فقط مع مظهرها الماديّ-الخارجيّ، في حين أن هنالك دوماً أكثر مما يمكن قوله أو رؤيته في الأشياء[6].
في الحقيقة، لم يكن هذا خطأ العلوم وحدها، فحتى الفينومينولوجيا -التي عقد عليها هايدغر الآمال في بداياته- قد خيبّت ظنّه، والفينومينولوجيا بحسب مؤسسها إدموند هوسيرل، وهو ذاته أستاذ هايدغر ثم زميله ثم خصمه اللدود، هي طريقة راديكالية للتفكير، تقوم على ضرورة إدراك حقائق الأشياء كما تكشف عن نفسها للكائن في وعيه. هوسيرل يدعو إلى تجنّب كافّة الاعتقادات والتفسيرات السابقة على التجربة، سواء عن طريق الأديان أو التقاليد الثقافيّة أو الحسّ المشترك اليومي، أو عن طريق العلم نفسه، والنظر إلى الأشياء في الطريقة التي تتمظهر بها داخل الوعي، لأن الأشياء-في-ذاتها هي في نهاية المطاف ظواهر (phenomena) “تحدث” داخل الوعي الإنساني، وكلّ وجود للأشياء خارج هذا التمظهر هو وجود ثانوي لا يؤخذ به عند البحث عن حقيقتها[7].
السبب الذي دفع بهوسيرل إلى إنشاء هذا الحقل الجديد هو رغبة عميقة لديه باجتثاث الفلسفة من العلوم الطبيعيّة، وقد وافقه هايدغر الشابّ على هذا، أي كما قلت للتوّ، في الوقت الذي كان فيه هايدغر فينومينولجياً تلميذاً لهوسيرل، وقد عبّر في أحد المواضع عن هذه المرحلة وما قبلها بقوله: “لقد رافقني لوثر الشابّ في بحثي، وكان أرسطو الذي كرهه لوثر نموذجي. لقد أعطاني كيركغارد الحوافز، وغرس فيّ هوسيرل العينين”[8].
في العام ١٩١٩، بدأ هايدغر مهمته في إحداث ثورة داخل الفينومينولوجيا لتحويلها إلى شيء مختلف تماماً (ثورة داخل الثورة) من خلال مساهمته الأبرز لهذه الحقبة، عبر مفهوم الحدث أو الـ Vollzug بالألمانية (event)، فالأشياء كما يعتقد لا تكشف عن ذاتها للوعي بل تحدث. الأشياء ليست حضورها الخارجي إذن، ولا ما يظهر للوعي، وإنما أحداث مستقلة بذاتها، أما مثاله على ذلك فيقول: “عندما يستخدم الأستاذ وطلابه قاعة المحاضرة بأدواتها المتنوعة، هم يأخذونها كأمور مسلّم بها. اللوح هو ببساطة شيء يستعمل لغرض ما في زمن ما دون الحاجة إلى تمظهره للوعي أو على الأقل قبل ذلك، كذلك الأقلام، المقاعد، إلخ. والآن (يسأل هايدغر)، ماذا سيحصل لو دخل “زنجيّ من السنغال” قاعة المحاضرة هذه؟ هذا الأجنبي عديم الحظّ ربما لا يملك أدنى فكرة عما تعنيه القاعة وأدواتها، ربما سيتوتّر لأنه لا يتقن استخدام اللوح، لكن حتى مع ذلك، لن يرى السنغاليّ اللوح أو المقاعد الدراسيّة على أنها بلا معنى، بلا لون، بلا هيئة، وبالتالي، لربما يعتقد بأنّ اللوح أداة أخرى لطقوس الفودو أو لسحر ما، أو ربما يراه درعاً للحماية من ضربات الحجارة والأسهم. إنّ فشل السنغاليّ في فهم القاعة لا يعني كون القاعة تصوراً كلياً لا يقبل الحدوث (الممارسة العمليّة)، وإنما يمكن كما رأينا أن يفسّر القاعة على أنها ضرب من المعدات الغرائبية انطلاقاً من عالمه هو”[9].
كيف وليس ماذا، هكذا هو العالم بالنسبة لهايدغر الشابّ، وهو ما جعله يضيق ذرعاً بالفينومينولوجيا ليغادرها إلى الأبد، ويُدينها كما أدان العلوم، فالفينيمينولوجيا، كما العلوم، قزّمت الأشياء إلى حضورها الخارجي، وفي هذه الحالة، إلى حضورها الخارجي في الوعي[10]. ثم عاد ليضيف على ما أكّده سابقاً بأن الأشياء حقيقةً ما هي إلا أحداث. لفهم شيء ما، علينا النظر إليه كحدث مستقلّ بحدّ ذاته، لا باعتباره شيئاً تُسرد عنه القصص-الخرافات عن طريق آخر-مراقِب[11]، وكما قال في الكينونة والزمان، محطة ما بعد الخروج ومحطتنا التالية في هذا النصّ: “أن تتعامل مع الكائن بطريقة سردية هذا شيء، أما أن تدرك الكائن في كينونته فهذا شيء آخر”[12].
هذا يعيدنا تلقائياً إلى خلاصة هايدغر الأولى، وهي ضرورة معاودة التساؤل عن معنى الكينونة والنظر إليها بوصفها مسألة مخصوصة، والقضيّة هنا شائكة جداً، فالسائل والمسؤول والمسؤول عنه والمسؤول لأجله ظاهرياً أطراف مختلفة (هكذا كانت منهجية الفلسفة والعلوم وما يسميه هايدغر الفهم الوسطي والفضفاض (الشعبي، اليوميّ) للكينونة في التعاطي مع تصوّر الكينونة)، لكن، في الحقيقة، لا فصل بينهم وهم كلهّم واحد، فالكائن يتساءل عن معنى كينونته لغرض السؤال نفسه.
في الحقيقة، هذه هي النتيجة النهائيّة للكينونة والزمان، وما يريد هايدغر قوله هنا هو أن التساؤل عن معنى الكينونة طابعٌ خاصٌّ بالكينونة ذاتها، وأن هناك ضرورتين لإدراك هذا الأمر: أولاً، تجاوز الفهم الوسطي والفضفاض للكينونة، أي أنه بمجرد ما أن يُقذف بالكائن إلى هذا العالم، فهو “يتحرك دوماً ضمن فهمٍ ما للكينونة (الثقافة)، وأنه، انطلاقاً منه، يتولّد السؤال عن معنى الكينونة والنزعة إلى تصوّرها. نحن لا نعرف ماذا تعني الكينونة.
ولكن ما أن نسأل: “ما تكون الكينونة؟” حتى نلتزم فهماً ما للفظة “يكون (ist)”، وذلك من غير أن نتمكن من أن نحدد، على صعيد التصوّر، ماذا يعني أن يكون”[13]. هذا هو المعنى الحقيقي لمثال “التفكير سنغالياً” كما جاء في المثال السابق، وكذلك “التفكير فلسطينياً، صهيونياً، دينياً، إلخ”. ثانياً، أخذ الخطوة الفلسفية الأولى في فهم مشكل الكينونة والتي تتمثّل في ألاّ نسرد قصة، وذلك يعني ألاّ نعيّن الكائن من حيث هو كائن ضمن مصدره بالرجوع إلى كائن آخر[14].
كون التساؤل عن معنى الكينونة طابع خاص بالكينونة ذاتها لا يعني أن الأمور بخير، وأنها لا تستدعي توجسّاً ما، لي، لكَ، أو لهايدغر. كما قلت، يُقذف بالكائن إلى هذا العالم، ويبدو أنه أثناء الطريق (مجازاً)، وبطريقة ما، تضيع من هذا الكائن كينونته، فينحطّ في مشاغل الحياة. وصفة الانحطاط في العالم تعني هنا الانهماكَ في الكينونة –معا-الواحد-مع-الآخر، لا كينونة الفضول والالتباس[15]، ولا بالمعنى السلبيّ لمفردة انحطاط، أي لا يكون الكائن السائل عن كينونته وعن معنى هذا العالم، وإنما تعني، بكل بساطة، أنّها تعيش ما تلاقيه. هنا يكمن الفرق عند هايدغر بين أن تكون أصيلاً فتسأل عن معنى كينونتك، (والأصالة هنا في التوافق بين فعل التساؤل ذاته وبين كون التساؤل عن معنى الكينونة طابعاً خاصاً بالكينونة ذاتها)، وبين أن تكون لا-أصيلاً فتغفلَ عن ذكر كينونتك، وتتبّع هواك فيكون أمرك فرطاً بمقياس هايدغر.
لتبسيط ذلك، أو ربّما لإعادة ترتيب كل هذه الفوضى، أطلق هايدغر على الكائن الذي يسأل عن معنى كينونته مفهوم الدازاين، والدازاين كلمة ألمانية مكوّنة من مقطعين: المقطع الأول، دا (da)، مصدرها داس (das) ولها دلالات عدّة، يمكن أن تعني “هناك” لكن ليس بالمعنى الجغرافي، بالإنجليزيّة نقول مثلا “There they go”، ويمكن أن تعني أيضاً “هنا”: “Here they come”، كذلك يُمكن أن تعني “عندها، منذ، إلخ”. المقطع الثاني، زاين (sein) ويعني أن تكون (to be).
وبدمج المقطعين يصبح لدينا مصطلح دازاين (dasein) بمعنى أن تكون هناك، هنا، عندها، إلخ. وهو مصطلح شائع جداً في الألمانية عند الإشارة إلى الأشياء، وهذا يعني أن استخداماته متعددة، كما يعني أيضاً أن هايدغر لم يكن أول من اعتمده كمفهوم، ففي القرن الثامن عشر مثلاً، استعمله الفلاسفة الألمان كترجمة للمصطلح اللاتيني Existenz .
فيما بعد، استخدمه الشعراء بمعنى الحياة، وتمّ اعتماده لترجمة “الصراع من أجل البقاء” عند داروين إلى الألمانية (Kampf ums Dasein)[16]. لكن بلا شكّ، فإنّ مصطلح الدازاين، بتوظيف هايدغر له، قد أخذ بُعداً خاصّاً. وعلى أيّة حال، بغضّ النظر عن المعارك اللغوية حول هذا المصطلح، علينا أن نتذكر دوماً أن الدازاين هو الكائن المتسائل عن معنى كينونته، لا بحثاً عن إجابة، وإنما لغرض السؤال نفسه.
وينبغي أن نلاحظ إصرار هايدغر على تجنب استخدام مصطلح “إنسان” مكان مصطلح الدازاين، “ذلك حتى لا يترك من معنى الكائن الذي ينبغي استجوابه حول معنى الكينونة سوى أنه يكون على نحو ما، أنّ له طريقة ما في الكينونة، ولذلك، فمصطلح الدازاين هنا ليس له أي مضمون أو تعيّن أنثروبولوجي، بل هو إشارة صوريّة إلى بنية كينونة محضة. ورغم أنّ الدازاين هو السائل عن معنى الكينونة، فهو أيضاً في الوقت نفسه المستجوَب في هذا السؤال عن معنى الكينونة”[17].
بكلمات أخرى، فضّل هايدغر مصطلح الدازاين على أي مصطلح آخر، لأنه لو قلنا مثلا “الكائن الحيّ” أو “الإنسان” أو “الهومو سابينز” أو حتى “الموجود”، نكون قد حملنا معنا الكثير من الأحكام والنظريات المسبقة عمّن نقصد، سنكون قد اعتقدنا مسبقاً أننا نتحدث مثلاً عن الإنسان كحيوان عاقل، أو كصانع أدوات، أو كقرد أفريقي متطوّر، أو كروح خالدة في جسد فاني، إلخ. وبالتالي، نكون قد وقعنا في ذات الفخّ الذي وقعت فيه الفلسفة والعلوم من قبل.
وبذلك، تكون النتيجة النهائية في معنى الدازاين هي أنّه الكائن البحت، المتجرّد من كافّة التعيينات الثقافيّة بالمعنى الواسع جداً للثقافة، والمتسائل عن معنى كينونته.
تابع/ي القراءة: الجنود وانفتاح الكينونة (2)
*****
[1] هايدغر، مارتن، كتابات أساسية، الجزء الثاني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٣، ص. ١٠.
[2] المصدر نفسه، ص. ٢٤.
[3] الزوزني، الإمام أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين، شرح المعلقات العشر، دار مكتبة الحياة، بيروت ٢٠١٣، ص: ١٠٣-١٠٤.
[4] مارتن هايدغر، كتابات أساسية، مصدر سابق، ص: ١٣.
[5] هايدغر، مارتن، الكينونة والزمان، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ٢٠١٢، ص: ٥٠-٥٢.
[6] Harman, Graham, Heidegger Explained : From Phenomenon to Thing, Open Court, Chicago, 2007, p. 23.
[7] Moran, Dermot, Intoduction to Phenomenology, Routledge, London, 2000, p. 4.
[8]هايدغر، مارتن، الأنطولوجيا: هرمينوطيقا الواقعانية، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠١٥ ص. ٣٤.
[9] Graham Harman, op.cit., p. 23.
[10] Ibid., pp. 24-25.
[11] Ibid., pp. 21-24
[12] Heidegger, Martin, Etre et Temps, Gallimard, Paris, 1986, p. 50
[13] مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، مصدر سابق، ص: ٥٥.
[14] المصدر نفسه، ص: ٥٥-٥٦.
[15] المصدر نفسه، ص: ٣٣٦.
[16] Inwood, Michael, A Heidegger Dictionary, Blackwell Publishers Ltd, Maiden-Massachusetts, 1999, p. 42.
[17] مارتن هايدغر، الكينونة والزمان، مصدر سابق، ص: ٥٧.