نعيد في “باب الواد” نشر مقال “دموع الطبيب الأبيض” للراحل جوزيف سماحة. وبالرغم من أنّ المقال نُشر في العام 1985، وقد جرت مياهٌ كثيرةٌ في النهر العربيِّ منذ ذاك التاريخ، إلا أنه لا يزال يحتفظ براهنيّته في مسألتين؛ الأولى: سِجالُه الموسوعيُّ مع “المثقّفين البيض” المتضامنين مع قضايا العالم الثالث والمُنقلبين عليه لاحقاً، والثانية: في كونه علامةً في فنّ كتابة المقال السياسيِّ المُكتِنز بالثقافة الموسوعية للكاتب في زمن غلبة مقال الرأي برصيدٍ معرفيٍّ هزيلٍ.
مقدمة
نعيد في “باب الواد” نشر مقال “دموع الطبيب الأبيض” للراحل جوزيف سماحة. وبالرغم من أنّ المقال نُشر في العام 1985، وقد جرت مياهٌ كثيرةٌ في النهر العربيِّ منذ ذاك التاريخ، إلا أنه لا يزال يحتفظ براهنيّته في مسألتين؛ الأولى: سِجالُه الموسوعيُّ مع “المثقّفين البيض” المتضامنين مع قضايا العالم الثالث والمُنقلبين عليه لاحقاً، والثانية: في كونه علامةً في فنّ كتابة المقال السياسيِّ المُكتِنز بالثقافة الموسوعية للكاتب في زمن غلبة مقال الرأي برصيدٍ معرفيٍّ هزيلٍ.
ملاحظة: نُشرت هذه السطور في العدد 39 لمجلة اليوم السابع، بتاريخ 4 شباط 1985.
****
عندما أصدر جيرار شاليان كتابه “أساطير ثوريّة”، لم يقُل له أحدٌ ما بالك تُحطّم أساطيرَ لعبتَ، في السابق، دوراً في خلقها والترويج لها؟
لقد كتب شاليان كثيراً عن ثورات العالم الثالث، مُعمِّماً وعياً أسطورياً عنها، ومُرتكِباً أخطاءَ في تناولها يمكن إدراجها في خانة الألف باء، لكنّه “تاب” وشارك بفعاليةٍ في لعبة عضّ الأصابع التي مارسها ويُمارسها جيلٌ من مثقّفي الغرب في أوروبا والولايات المتّحدة.
لقد كنّا من ضحايا “الوعي الأسطوري” لجيرار شاليان، بدليل كتابه الشهير عن المقاومة الفلسطينية الذي تنقلب استنتاجاته بين المتن والخاتمة أيّما انقلابٍ. كنّا ضحية أنّ الرجل “أحبّنا” ووضع على كاهلنا أعباءَ ثورته المُؤجّلة؛ فلم تكُن على “قدّ المقام”، وقُمنا بما نستطيع أن نقوم به، فأنكَرَنا ثلاثاً قبل صياح أيّ ديكٍ.
وهو في ذلك مثله مثل عددٍ من مُثقّفي الغرب ومُناضليه الذين وقفوا إلى جانب شعوب العالم الثالث و”زادوها” في وقفتهم، إلى حدٍّ ساهموا معه في لعبة التعمية التي لعبها بعضُ مثقّفينا ومُناضلينا.
كان الأشد وعياً بيننا يطرح، مازحاً، السؤال التالي: “هل كان نزعُ الاستعمار نزعاً للحضارة ؟”، وكنّا نُعيد ونُكرّر ونحاول تعميق السؤال النهضويّ الأساسيّ: “كيف ندمج بين التقدّم والأصالة؟ بين التغيير والهُويّة؟ بين المستقبل والذاكرة؟ في الوقت الذي سارع بعضُ الغربيين إلى تقديمٍ مُسبقٍ لجواب “خميني مقلوب” كونوا على عكسنا، ارفضونا جملةً وتفصيلاً. نفى هذا البعضُ نفسَه ولعب بهذا المعنى لعبةَ الأكثر تخلفاً بين دُعاة التحرُّر لدينا.
ثمّ كان الانقلاب من دون سابق إنذارٍ، الانقلاب الذي يرفضُ الاعتراف بأنّ بين الأسود والأبيض تندرجُ تنويعاتٌ من الرماديِّ لا حصْرَ لها.
لو حصلت حربُ فيتنام ثانيةً، لوجب أن نكون إلى جانب أميركا، يقول جاك برويل “اليساري” الفرنسي السابق الذي ملأ صخبُه سماء باريس ذات يوم، دفاعاً عن حقّ الشعب الفيتناميِّ في تقرير مصيره!
لقد كان مطلوباً من الفيتناميين وغيرهم أن يقرّروا مصيرهم وفق شروطٍ تُمليها عليهم العواطف النبيلة لأصدقاء برويل، ولكن عندما لعب التاريخ لعبته، وبدا أنّ حقّ تقرير المصير هذا مُحاطٌ بظروفٍ معقدةٍ وقابلةٍ للانتكاس، كان لا بدّ من رمي الولد مع الغسيل الوسخ؛ أي رَمي ملحمة النضال الوطنيِّ مع أخطاء ما بعدها، وهي أخطاءٌ يسهل تفسيرها ولو أنه يصعب تبريرها… كلّها.
وجاء بعد عصر ثورات العالم الثالث وانتفاضاته عصرُ المحاسبة الدقيقة إلى حدّ أن دراسةً لموقف جريدة ليبراسيون الباريسية (جريدة التعبير عن أقصى اليسار الفرنسيِّ السابق في لحظة اندماجه بالمؤسّسات وانزعاجه منها) تُبرهن على أنها تكفُّ بصورةٍ شبه منهجيّةٍ عن دعم أي ثورةٍ بمجرد أن تنتصر.
لم يعد المِعوَل رمزاً للتمرّد، بات رمزاً للدفن؛ دفن النزعة العالمثالثيّة التي اخترقت الثقافة الغربيّة لفترةٍ، وشكّلت مكوّناً من مكوناتها.
فالأزمة الاقتصادية مناسبةٌ مُثلى للانكفاء، ودعوات “الخصوصية” والتميُّز لدينا أفضلُ حجّةٍ للتنصُّل والتبرُّؤ لديهم وإدارة الظهر. في الحالتين، هي المدخلُ للنقد المتشاوف والتوطئةُ لدفع مقولة حقوق الإنسان، بديلاً عن مقولة حقوق الشعوب؛ أي لمطالبتنا، مرّةً أخرى، لتجاوز شروطنا التاريخية والقفز برشاقةٍ إرادويةٍ صعبةٍ عن حالة الفوات التي نعيشها منذ منتصف السبعينيّات، وما عدا هذا هو المزاج العام لقطاعٍ غربيٍّ عانقَ قضايانا حتّى المشاركة في خنقها.
أمريكا تداوي جراح فيتنام، والثورة المحافظة تتسرّب إلى ثنايا المجتمع المدنيِّ قبل أن تنتزع السلطة السياسيّة، مُستكملةً حربها الأيديولوجية في عموم الولايات، شُعاعها الليبراليُّ يتأخّر في الوصول إلى أوروبا، ولكنه يصلها أخيراً حاملاً إليها العدوى؛ الثأرية الألمانية تتململ، الوحدة المقدّسة تنعقد حول حملة تاتشر في الفولكلاند، والاشتراكية الفرنسية تواجه حَرَج “المشاركة” في احتفالات انطلاقة الثورة الجزائرية، وترتبك أمام مُعضِلة كاليدونيا.
منذ منتصف السبعينيّات والضمير “الغربيُّ” يحاول استرجاع نقائه وصفائه. يفتعل عذريةً جديدةً، ويُنتج ثقافة التبرير التي لا تُراجع الماضي القريب فحسب؛ بل تُمهّد لمستقبلٍ داهمٍ يمنح الدول المعنية حقّ التدخل لإعادة صياغة العلاقات الدولية وِفق مصالحها.
النَيْبولية: هي الوصفُ الذي يُمكن إطلاقه مجازاً على هذه الظاهرة الثقافية – السياسية الجديدة
ف. س. نيبول (V. S. Naipaul)
هذا الزنجيُّ الأبيض هو اكتشافٌ سياسيٌّ رُقّيَ إلى رتبة الأدب في هذا العصر الجديد، وبات المرشّح الدائم لجائزة نوبل قريبةٍ. ميّزاته أنه يقول للغرب ما يريد هذا الأخير سماعه، ويقوله مُتمتّعاً بميزةٍ هي أنه ينحدر من جزيرةٍ هنديةٍ نائيةٍ، وجال في بلدان العالم الثالث حتى خَبِرها وعرفها تماماً، وبات في وُسعه أن يحاكمها ويُعلن سقوط حركاتها التحرّرية.
إنّه اعتراف العالم الثالث، عالمنا: بذنبه، بقصوره، بتخلّفه العضويِّ، وبالتالي بتخلُّف حركاته السياسية وثقافته، وهو بالتالي شهادةُ براءةٍ للآخرين يحتاجونها، وهم في مرحلة التبرّؤ من الشياطين التي سكنتهم لسنواتٍ.
ولأنه كذلك، فإنّ تلامذته المباشرين وغير المباشرين يتكاثرون كالفطر. “مارك كرافش”، في فرنسا يقلّده بموهبةٍ أقلّ وباسكل بروكنر يكتبُ عن “دموع الرجل الأبيض”، متأسّفاً على كلّ موقفٍ اتُّخذ إلى جانب الشعوب المضطهدة. و”برنارد-هنري ليفي”، “الفيلسوف الجديد” يكتشف أصوله اليهودية مُعتنقاً، في الآن نفسه، الصهيونية السياسية، ومُعتقِداً في الحقّ بدعم “الثورات الوطنية” الموجّهة ضدّ الاتحاد السوفياتي فقط. و”ألين فينكلكراوت” يكتب مُهاجِماً “إدانة إسرائيل”، مُقدّماً حُجَجاً “باهرةً”، منها مثلاً أنّ عدد ضحايا صبرا وشاتيلا هو أقل ممّا قيل في الصحافة.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن يصبح الجوّ الثقافي الفرنسي مُستعداً لتقبّل كتاباتٍ من النوع الذي يكتبه “جان-بيار بيرو نسيل هوغوز”، مراسل “لوموند” السابق في مصر. هذه الكتابات التي تستحقّ تطبيق وصفة “ويلهالم رايش” عليها: اهزأ من النازية، فهذه خيرُ طريقةٍ لمحاربتها.
لم يكن ينقص هذه الكتابات “البيضاء” إلا أن تنضمّ إليها جماعة “أطبّاء بلا حدود”؛ فهؤلاء وهم يمثّلون انحطاطاً في التعاطي مع قضايا العالم الثالث من المستوى السياسي إلى مستوى “المعالجة الطبية”، رفضوا أن يبقوا خارج الحلبة، حلبة المساهمة في إراحة الضمير الغربي.
لقد كانوا يملكون أسلوباً في التعاطي مع العالم الثالث مفادُه أنّ مشاكله هي الجوع والفقر والأمّية، لا الاستعمار، والتخلُّف والتبعية، ولكن يبقى هذا المستوى في التعاطي مشبوهاً.
كذلك لم يكن أمامهم إلا أن يبتدعوا مؤسّسة: “حرية بلا حدود”، وإلا أن يعقدوا بإشرافها ندوةً قبل أيّامٍ يطالبون فيها “الرجل الأبيض” بالكفّ عن ذرف الدموع. لسنا مسؤولين عن تخلُّف هذه المناطق، ولا لفقرها علاقةٌ برفاهيتنا، هذا هو جوهر الأطروحة الجديدة. وبما أنّها تأتي من “رهبان الطب”، فإنّها منزّهةٌ عن أيّ غرضٍ، ولكن ما هو سبب التنبُّه إلى هذه “البديهية” -الحمقاء، حتى لا نقول أكثر- اليوم؟
صور الفقر والمجاعة في إثيوبيا والسودان والساحل الإفريقي تهدِّدُ بأن تبقى جذوة “العالمثالثية” متّقدةً في الذهن الغربي. ومع أنّ طريقة تقديمها تُزَوّر المشكلة تماماً، فإنّ المطلوب يبقى الاحتراز، لئلا يخرج من يؤسّس على هذه “الصور” نظريةً سياسيةً تستعيد عناصر الماضي وتُحوّل الجوع إلى “تجويع”، وتضع البنك الدولي، مثلاً، تحت المجهر، وتتحدّثُ عن رفاهية الغرب المُقتات من وجع الآخرين.
ومن هو أفضل لدرْء هذا الخطر من “الأطباء الذين لا حدودَ لهم”،؛ أي من الأطباء الموجودين على أرض المعركة؟
تدخُّل هؤلاء هو “القولُ اليقين”، وهو الإثبات الحاسم بأنّ ما يفعله الغرب هو الإنقاذ لا التجويع، والعناية لا خلق ظروف المرض.
وهكذا يصبح ممكناً التجاوبُ مع نداء “باسكال بروكنز” إلى الرجل الأبيض “لا تذرف الدموع”؛ فأطبّاؤنا البيض يعالجون، بدموعهم، أمراضاً لا دخلَ لنا في إنتاجها. ومن لا يصدّق ذلك، فليقرأ بيان “حريّة بلا حدود” الذي أصدره الأطباء إياهم متدخّلين، عبره، في تفسير العلاقات الدولية عن طريق القول بأنّ التخلف هو قَدَر الشعوب المتخلفة، ولو أنّ هذه الشعوب تسمّيه: خصوصية!
لن نحصل من هؤلاء الأطباء إلا على “إبر التخدير”، ولماذا نتوقّع أكثر من ذلك طالما أنّ “إبرة تخديرٍ” ما أصابت الخطاب المُنمّق عن تفاوت الشمال والجنوب ليحلّ محله خطابٌ حاسمٌ عن “صراع الشرق والغرب”؟ لقد ذاب التفاوت في الصراع، وبلغت النزعة الأطلسية مداها، وباتت “آني كريغل” تجد في سفّاحي صبرا وشاتيلا عناصرَ من المخابرات الألمانية الشرقيّة اندسّت في صفوف القوّات اللبنانية.
هذه النزعة الأطلسية، المصحوبةُ بتهديد أحلام التغيير السياسي والاجتماعي في بعض دول الغرب، وبتجذُّر قوى الردّة والحنين إلى العهود الاستعمارية، وبغلبة الزاد الفكريِّ المبرِّر لحملاتٍ حاليةٍ والمُمهِّد لحملاتٍ لاحقةٍ، هذه كلّها مسؤولةٌ عن إفراز ردّتيْ فعلٍ؛ تأتي الأولى من جانب مُحبطين هامشيين يائسين، يضربون بالسلاح رموزَ هذا التحوُّل، أو رموز هذه “الأمركة الريغانية” كما يُسمّيها البعض. وتأتي الثانية من جانب دُعاة الإغراق في تمجيد “الخصوصية” ومواجهة التنين عن طريق إدارة الظهر… وكلُّ ذلك بانتظار مواجهةٍ عقلانيةٍ متفائلةٍ، لا تستدرّ دموع “الرجل الأبيض”، ولا “الطبيب الأبيض”؛ لأنّها تصوغ مشروعها بطريقةٍ لا يمكن معها للدموع أن تكون، أصلاً، وسيلةَ تعبيرٍ.
****