في مقابلة مطوّلة مع العميد “ليئور كرملي” (21 آب 2017، صحيفة “ميكور ريشون”)، قائد فرقة الضفة الغربية في الجيش الصهيوني، وصف كرملي السياسة القمعية الجديدة للجيش الصهيوني بكونها تحوّلاً من جزّ العشب إلى اقتلاع الجذور.
وقد أعلن كرملي عند استلامه لمنصبه الجديد قبل سنتين أنه يمتلك الحلّ المناسب للواقع الأمني المُعقد في الضفة الغربية، وتكمن في صلب هذا الواقع “العمليات الفردية”؛ وصولاً للمحافظة على استقرار الأوضاع الأمنية. والاستقرار -بحسب تعريفه- هو استمرار الحياة الطبيعية للمستوطنين، ولغالبية السكان الفلسطينيين، غير المنخرطين في “الأعمال العدائيّة”. وأما الحلّ لديه فهو سياسة قمعية شمولية مستمرة تعمل على المدى الطويل ولا تقوم على ردة الفعل.
يقول كرملي: (في سياسة “جزّ العشب” كنا نقوم بقص العشب باستمرار كلما نما، ولكن المعضلة تتمثل بكون هذا العشب لا يتوقف عن النمو؛ فبعد اعتقال أو قتل “المخرب” أو إحباط العمل تزداد وتيرة العمليات الفردية ويظهر “مخربون” جدد أكثر من الذين تم قتلهم. في المقابل فإن سياسة اقتلاع الجذور تهدف إلى الوصول إلى الردع وتفكيك البنى التحتية “للإرهاب” من أجل القضاء على “الإرهاب” والذي يعني: “مخربين” أقل وتحريضاً أقل وبنى تحتية وقدرات عدائية أقل.
وللوصول إلى ذلك يجب القيام بعمليات عسكرية مستمرة بحيث لا ينمو العشب من جديد مرة أخرى). ويضيف كرملي: (“اقتلاع الجذور” لا يعني إحباط العملية القادمة قبل وصولها إلى مرحلة التنفيذ، وإنما يعمل في مرحلة مبكرة؛ من خلال “استراتيجية الإحباط الشمولي الموسع”).
يدّعي كرملي بأن هذه الاستراتيجية تقوم على فهم أكثر نضجاً للسياقات الاجتماعية للعمليات ومنطقها؛ بحيث يمكن ضرب الحلقة الموسعة للمقاومين، اعتقال “المحرضين” قبل أن يتأثر بهم الفدائي المحتمل، استهداف كل من يقدم مساعدة لوجستية، سحب تصاريح العمل من أفراد العائلة، مصادرة الأموال، وإغلاق ومطاردة ورش الحدادة والمطابع، و تعطيل حركة وسائل النقل. كل ذلك بهدف الوصول إلى ردع الفدائي، الذي لا يردعه هدم بيته مع كونه إجراءً قاسياً.
هذا بالإضافة إلى ما يسميه كرملي “كسر سلسلة محاكاة الفعل المقاوم”؛ من خلال استهداف مجموعات الصداقة والأقارب الذين هم أكثر احتمالاً من غيرهم لتقليد المقاومين. وتحت عنوان محاربة التحريض يتم استهداف الفاعلين في تشكيل صورة المقاوم كبطل شعبي ونموذج للتقليد من خلال هدم النصب التذكارية وغيرها من الإجراءات.
تُكمل هذه الرؤية مجموعة من الإجراءات: تحصين مواقف الباصات بالأعمدة الصفراء، مع مراعاة تقليل وجود الجيش مباشرة على هذه المحطات؛ بهدف الحفاظ على الطابع المدني لهذه المرافق وبث الشعور بالحالة الطبيعية، بالإضافة إلى سياسة إنشاء مواقع عسكرية خارجية بالقرب من المحاور والقرى العدائية العشرين في الضفة، مثل قرى كوبر وسلواد ودير أبو مشعل، وعدم الاعتماد فقط على الأبراج العسكرية الإسمنتية.
بالرغم أن الاستراتيجية التي يشير إليها كرملي ترتكز على فكرة العمل الاستباقي، ولكن معظم الإجراءات العملية التي يذكرها هي ذات طبيعة عقابية أساساً. وبالنظر إلى العجز الصهيوني أمام العمل الفدائي “الفردي”، وبرغم مجموعة الإجراءات التي تحدّث عنها كرملي؛ فإن العدو يعمل شيئاً فشيئاً لتحويل الصراع ما بين المستعمِرين والمستعمَرين إلى صراع داخلي داخل المجتمع الفلسطيني نفسه ضمن دوائر متعددة، يبدأ ذلك بخلق صراع داخل الأسرة الفلسطينية ما بين الآباء والأبناء، ويدللُ على هذا بادعائه حدوث عشرات الحالات التي تَوجّه فيها الآباء إلى أجهزة السلطة الأمنية لتسليم أبنائهم، وصولاً إلى خلق صراعات داخل العائلة الممتدة والحمولة، وسحب التصاريح من الأقارب، والصراع على مستوى القرية، وكذلك تصنيف القرى إلى جيدة وشريرة يجري الضغط عليها وحصارها، وصولاً إلى صراع مجتمعي شامل. وهذا التصنيف للقرى يُشكّل استمرارية للإرث القمعي الإنجليزي في بلادنا، حيث صُنِّفَت القرى وعُومِلَت بحسب فاعليتها الثورية في الثورة الفلسطينية الكبرى.
ويتسق هذا مع التاريخ الطويل للحروب الأهلية التي جاءت نتيجةً (لمكافحة التمرد)، أي قمع المقاومة في المجتمعات الخاضعة للاحتلال من خلال استهداف البيئة المجتمعية الحاضنة لها ومحاولة كسبها وتحييدها، وهو ما يطلق عليه مكافحة التمرد المتمحورة حول السكان (Population Centric Counterinsurgency). وهنا يمكن فهم الدور المتعاظم للإدارة المدنية من خلال عمل المنسق وغيره، حيث يتم العمل على خلق انقسام مجتمعي: مقاوم – مسالم، من ينعمون بالحياة الطبيعية وبالتالي يساهم المنسق في تسهيل وصول الفنانين لترفيههم، ومن يُحاصرون وتُغلق طرقاتهم وتُسحب تصاريحهم.
على مدى أكثر من مئة عام من مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين، مرّ علينا قادة مستعمرون كثر، كل واحد منهم أعلن في بداية مشواره القمعي بأن لديه الحلّ السحري، وكلهم انصرفوا بعد أن أخذوا حصتهم من دمنا، وبعد أن أخذنا نصيبنا من دم مستعمرينا أيضاً.