صباح الثلاثاء الماضي، عقد الشهيد نمر الجمل العزم على أن يكون اصطفافه الصباحي المعتاد قُبيل الدخول إلى مستوطنة “هار أدار”، المقامة على أراضي قطنة وبيت سوريك وبدو شمال غرب القدس، مختلفاً هذه المرة. ثوانٍ معدودة كانت كفيلة بقلب المشهد رأساً على عقب؛ من روتين يومي خانق إلى ساحةٍ دموية لم تهدأ تداعياتها بعد.
بقتله ثلاثة من الجنود وحراس المستوطنات، أعادنا الشهيد الجمل إلى دهشة السؤال حول العامل الفلسطيني في المستوطنات الصهيونية، وحدود التعويل عليه من الطرف الآخر لكسر نطاقه المُقاوِم، إذ حمل فعل الشهيد مقولةً وطنيةً بامتياز؛ فلا حتميات تؤطّر آلية تفاعل العامل الفلسطيني مع مصدر “رزقه”، ولا انصياعَ نهائياً لسلطة المال الاستعمارية، ولا اندثارَ للفعل النضالي، مهما جُوبه بإغواءات التصاريح للعمال ونُسجت علاقات اجتماعية معهم.
هذه المستوطنة التي شهدت بصمة الجمل، يدخلها يومياً أكثر من 300 عامل فلسطيني للعمل في قطاعات مختلفة؛ أهمها قطاع البناء والخدمات. يفتح الحاجز بوابته الساعة السابعة صباحاً، ويصدّها ريثما يَفرُغ العمال من أعمالهم وينطلقون نحو بيوتهم في القرى المحيطة. يتضمن العمل هناك شروطاً متعددة؛ أهمها موافقة جهاز المخابرات، وتصريح عمل خاص. غير أن هذه الشروط لا تخوّل العامل للتجوّل في المستوطنة أو التعامل مع سكانها بحرية، كما أن التصريح لا يسمح للعامل سوى بدخول هذه المستوطنة، فلا يسمح له مثلاً بدخول مختلف الأراضي المحتلة عام 1948 أو القدس.
فرض الصهاينة قيوداً على العامل في تحركه داخل المستعمرة والتنقّل فيها، لتنتشر بذلك وسائل تنقل مغلقة ترتكز أساساً على سيارات النقل البيضاء والمغلقة من نوع “فورد”، والتي تحاول حجب ملامح العمال عن سكان المستوطنة. هذه المسألة من شأنها أن تعيدنا إلى النقاش الدائم حول العلاقة الاستغلالية الرأسمالية في السياق الاستيطاني، على اعتبارها علاقةً جدلية. فمن ناحية، تحتاج هذه المستوطنات مَن يشيّدها ويعمل في حدائقها الفارهة الخضراء بأجرٍ بخسٍ. ومن ناحية أخرى، لا يطمئن سكان هذه “القلاع” من يهود أوروبا الأشكناز لهذه الاعتمادية على العامل الفلسطيني ووجوده في عقر “دارهم”.
الاختراق ممكن ولو في “القلاع”
تلك المستعمرات هي في جوهرها قلاعٌ بنيت لتُقصي الفلسطيني خارج حيزها، فكيف لها أن تفتح أبوابها له، وتُحوّل معها الحاجز الذي شُيِّد للتغلّب على الهواجس الأمنية إلى هاجس أمني بحدّ ذاته؟ عدم الارتياح هذا نابع من الخوف والقلق الدائمين. ذلك القلق الذي يدفع الصهيونية نحو التحصين المستمر وبناء الجدران، هو ذاته الذي يحاصر العمال الفلسطينيين داخل سيارات نقل مغلقة ويمنعهم من المشي بحرية داخل تلك المستوطنة. وإذا ما تجرأ أحد العمال، وكسر سطوة تلك السلطة بالمشي داخل أسوار “القلعة” الاشكنازية، يتدخل حراس المستوطنة ويسحبون منه تصريح العمل فوراً.
ليست مستوطنة “هار أدار” بالمستوطنة العادية، إذ إنها من أكثر المستوطنات ثراءً، بل تقطن فيها العديد من الشخصيات العسكرية والأكاديمية والسياسية، من بينهم الجنرال يسرائيل زيف، ورئيس معهد السياسات والاستراتيجيات-هرتسليا الجنرال داني روتشيلد، والمستشار القانوني السابق لوزارة الخارجية آلان بيكر، إضافةً إلى ثلة من صناع القرار والمتنفذين في عوالم الأعمال والسياسة. كما يصوّت سكانها للأحزاب المحسوبة على اليسار الصهيوني، مثل “يش عتيد” وحزب “العمل”، و”ميرتس” كذلك.
بالمجمل، هذه المستوطنة هي محاولة فعالة لخلق الجنة الأشكنازية على هامش شارع 1، فضلاً عن أنها إحدى القلاع المتقدمة والأساسية في الفصل الجغرافي ما بين القدس وريفها الغربي. كما أنها تكتسب رمزية عسكرية بالنسبة للصهاينة، إذ فشلوا في احتلال الجبل المقامة عليه المستوطنة – جبل بطن السيدة – خلال معارك 1948، وبقي معسكراً للجيش الأردني على الحدود، حتى تم احتلاله في حرب 1967.
انطلق الشهيد الجمل بشكل فجائي بعد أن شك أحد الجنود في نواياه، مطلقاً رصاصاته بخفة وحزم من سلاحه المهترئ، ومُردياً ثلاثةً من الجنود أرضاً. ذاك الشك هو في حقيقته ملازم للصهيونية في بلادنا؛ الشك من كل شيء حتى من الأفق الهادئ والشارع الخاوي على عرشه. هذا الشك هو ذاته الذي دفع الصهاينة للارتباك من وجوه “أبناء جلدتهم”، وقتل بعضهم البعض في بداية الهبة الفلسطينية الحالية، ظناً منهم أن الذي أمامهم مقاومٌ فلسطينيٌ، ليتضح لاحقا أنه صهيوني من خلفية عربية، في إشارةٍ إلى أن الصهيوني يرى الفلسطيني في مرآته وأركان بيته، ويُقدم على “اصطياد شبحه” في كلّ مكان.
حمل الجمل مسدسه المسروق من الجيش الصهيوني في العام ٢٠٠٣، وأطلق نيرانه بدقة عالية وحرفية لتصيب رصاصته القليلة أجساد أربعة من حراس المستوطنة، ثلاثةٌ منهم قضوا على إثر الهجوم. براعة الشهيد هذه تثبت كيف أن كل النظريات الأمنية والإجراءات الاحترازية الاستباقية تسقط أمام عزم الشهيد في نهاية المطاف، وكيف نما أمام أعينهم مقاتل فذّ أصاب صدور الجنود من الطلقة الأولى دون أن يلحظوه.
ما سبق يأتي ضمن سياق محاولة خلق عامل فلسطيني “لامبالٍ” بما يجري حوله، بل وجعل توفير قوته اليومي جلّ همه. ورغم توصيف الشهيد بـ”اللامبالي” قبل قيامه بالعملية، فضلاً عن اشتغال العدوّ على تحويلنا إلى أشخاص لامبالين بعيدين عن المجال المقاوم، إلا أن “اللامبالاة” بعد فعل الشهيد الجمل باتت سلوكاً خارجياً لا يمكن التنبؤ بحقيقة حاملها داخلياً، خاصةً أنها صعبة القياس والكشف، وبالتالي يصبح تحييد أي شخص يمكن أن يُقدم على فعل مقاوم ضرباً من الجنون.
الاغتراب عند العامل الفلسطيني
كان كارل ماركس قد طوّر مفهوم الاغتراب، محاولاً تفسير حالة الاغتراب التي يشعر بها العامل تجاه إنتاجه، فالفلاح يزرع ويحصد ليأكل في نهاية المطاف، أما العامل فيساهم في عملية الإنتاج ولا يستهلك بالضرورة ما ينتجه. كل ذلك كان من شأنه أن يخلق شرخاً بين مشاركة العامل في عملية الإنتاج والمنتج النهائي؛ شرخٌ يولد حالةً من الاغتراب النفسي، ويُشعِر العامل أنه لا ينتج من أجل ذاته بل من أجل موظِّفه الرأسمالي، وكلّما أمضى معظم ساعات نهاره وهو يعمل من أجل هذا الموظف، يزداد لديه الشعور بالاغتراب، ليس فقط من الناحية الاقتصادية التقنية، وإنما من الناحية النفسية أيضاً.
إن خصوصية السياق الاستعماري الفلسطيني يضفي معنىً إضافياً على مفهوم الاغتراب لدى العامل الفلسطيني، إذ إنه لا يعمل فحسب عند موظِّف رأسمالي، بل عند العدو، وليس عند أي رأسمالي من مجتمع العدو، بل لدى من ينفذ ذات المشاريع التي تسلب أراضي أهله. بذلك، يتولد عند العامل الفلسطيني في المستوطنات الشعور الدائم بالعداء مع الإنتاج النابع من عمله، والتي لا يتقبّلها العامل إلا كحبل نجاة مادية له ولعائلته.
في الواقع، إن خيار العامل هو خيار العمل المأجور ذات الطابع المرهق جسدياً، إما في ورشات البناء في الضفة، أو في المناطق الصناعية المتناثرة، أو في ورشات البناء لدى العدو، غير أن الفرق هنا يكمُن أساساً بالسعر. لنا أن نتخيل طبقات العداء المتعددة والحقد المتولد من العلاقة الاقتصادية الاستغلالية المرفقة بالعلاقة الاستعمارية الإحلالية، ولو كانت في ظاهرها توفر طريقاً للنجاة المادية المُرضية والآنية للعامل.
المقاتل النمر: إلهام واستلهام
لا يمكن إغفال أنه ومنذ انطلاق شرارة الهبّة، ثمّة محاولات محمومة لقولبة وتأطير الفعل لدى المقاوم الفلسطيني ضمن إطار نفسي ذاتي، بمعنى أن العمليات هي نتاج حالات فردية تعاني من آفة نفسية، وتحاول تحرير ذاتها والانعتاق الحتمي من بؤس حياتها الشخصية عبر فعل “الانتحار” الموجه نحو العدو. يهدف هذا الخطاب إلى التشكيك بأنّ رواد الهبة من الشهداء والأسرى هم عبارة عن نتاج مغلوب على أمره، وتجلٍّ لحالات ذاتية نفسية لم ترتبط يوماً بالهمّ الوطني الأوسع.
تنسحب هذه المقولة السابقة على الشهيد نمر محمود الجمل، في ظلّ ماكينة إعلامية نشطة تهدف إلى تشويه صورة الشهيد في المخيال الشعبي، منعاً للالتفاف حول فعله الذي بالضرورة سيُلهِم غيره من بعده، إذ انخرط الإعلام في الحديث عن علاقةٍ غير مستقرة بين الشهيد وزوجته كمسبب ودافع أساسي لما أقدم عليه الشهيد بحزم. وبعيداً عن كون هذا الخطاب وليد محاولة البعض اغتيال الشهيد معنوياً والتشكيك بالشهادة كفعل مولد للتضحية والمواجهة والبطولة، إلا أنه لا يمكن إنكار أنّ العامل النفسي متداخل في واقع الهبة، فتارةً نبحث عن الشهادة إيماناً بقناعة سياسية بعينها، وطوراً نبحث عن الموت بدمائنا ثأراً لمن سبقونا، وأحياناً أخرى نقدم على قرار الشهادة لأن الأخيرة بحد ذاتها نموذج لمن يأتون بعدنا.
إنّ تلك الدوافع المختلفة وانتقاء اللحظة المناسبة للعملية ورمزيتها هي عوامل مركبة ومتعددة؛ منها ما هو ذاتي-نفسي، ومنها ما هو بنيوي-نفسي، ومنها ما هو نابع من العداء الفطري لمستوطنة بنيت على أرضنا التي هي أغلى ما نملك. ولسنا هنا بصدد محاكمة دوافع الشهيد وإطلاق أحكام قيمية وأخلاقية على فعله وما قاده إليه، بل يفترض بنا الاحتفاء بهذا النموذج، محاولةً لبعثه من جديد على الدوام.
كلّ ما سبق لا يعني عزل ما هو أبعد من الذاتي عن تفكير كثيرين من رواد العمل النضالي اليوم، ولا يعني كذلك أن الواقع لا يفرض خيارات وجودية على الفرد؛ تلك الخيارات يملكها من يخطّ مسارها. وإن اتفقنا على أن الشهيد كان يملك دافعاً شخصياً لا يتعلق بكونه عاملاً، فذلك لا يفسر إصراره على أن تكون العملية التي قام بها مؤلمة للعدو، بل ويهيئ نفسه لقتل ثلاثة من الجنود الذين لربما اعتاد على رؤيتهم يومياً، بل وربما توطدت نوعٌ من أنواع العلاقة الاجتماعية معهم، علاقة ألفة حتى.
لا تنتهي القصة عند حدود الشهيد وأهله، بل لطالما استخدم العدوّ قضية العمال الفلسطينيين وتصاريحهم كورقة ضغط وابتزاز لبقية سكان القرية التي ينتمي لها الشهيد، إذ تحاول سياسة سحب التصاريح دفع العمال إلى لوم الفعل المقاوم والاختلاف حول حامله، خاصةً أن الزمن اللاحق للعملية والتفاف الفلسطينيين حولها هما أكثر ما يؤرّقان العدوّ، لينزع بذلك نحو تأليب المجتمع تحديداً على العملية. إجراءات ما-بعدية أخرى تسرع إعلانها القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية لطمأنة المجتمع الصهيوني، والقول له: نحن نقوم بعمل ما، لا يهم ما هو العمل ولكننا نحاول.
يبقى كل ذلك محلًا للنقاش المفتوح، غير أن الثابت هنا هو أن الفلسطيني يجد كرامته في المواجهة والتحدي والتغلّب الدائم على كل ما تفرضه تلك القوة الاستعمارية، بل ويجدها في الرصاص الذي يعي مرماه وهدفه، فرصاصاتٌ قليلةٌ تركت الجنة الاشكنازية “هآر أدار” تغوص في تناقضاتها، بل وجعلتها معرّاة من الأمن بفعل قرار الشهيد الصارم.