تهدف هذه العجالة إلى تقديم نموذج متواضع لمعرفة العدو بالاستناد إلى الوقائع المحددة ومن مصادره الأولية المتاحة، من أجل أخذ العبر والدروس في معركتنا الطويلة معه، وذلك بالنظر إلى محورية اكتشاف مكان الجثث الثلاث في الحدث.
في مساء الخميس الـ ١٢ حزيران من العام ٢٠١٤، قام الشهيدان عامر أبو عيشة ومروان القواسمي بتنفيذ عملية خطف لثلاثة مستوطنين مما يسمى مفرق “غوش عصيون”، بهدف تنفيذ عملية لتبادل الأسرى. وبسبب تعقيدات أثناء عملية الخطف قام الشهيدان بقتل المستوطنين الثلاثة. بعد عمليات بحث وتمشيط استمرت ١٨ يوماً عثر متطوعون صهاينة على الجثث الثلاث بالقرب من مغارة في بلدة حلحول شمال الخليل.
في ظهيرة يوم الخميس ٢٦/٦/٢٠١٤، وبعد مرور ١٤ يوماً على عملية الاختطاف، اجتمعت مجموعة من المتطوعين في المدرسة الحقلية في مستوطنة “كفار عصيون”، للتشاور في الطريقة الأمثل للمساهمة في عملية “أعيدوا الأخوة” التي أطلقها الجيش الصهيوني بحثاً عن المستوطنين الثلاثة.
كان “موشيه فينشتوك” الفاعل الأساسي في هذه المجموعة، و”فينشتوك” هذا هو ابن وتلميذ “دوف فينشتوك” مؤسس ما يسمى بـ “وحدة البحث عن المفقودين في صحراء يهودا”. قدّم “موشيه” في هذا الاجتماع نقداً لاستراتيجية البحث التي تقوم على المعلومات الاستخبارية المعتمدة عند الجيش، واصفاً هذه الطريقة بأنها غير عملية و”سيزيفية” على حدّ تعبيره. وأما الحل برأيه فهو: البحث بالاعتماد على معرفة الأرض.
كانت الاستراتيجية التي اقترحها “موشيه” تقوم على الاستعانة بفريق متعدد الاختصاصات: الجغرافيين، علماء الآثار، وخبراء التصوير الجوي ونظم المعلومات الجغرافية GIS، والأهم من ذلك كله مجموعة من محترفي التجوال الميداني في المنطقة، ذوي الدراية التفصيلية بالمكان وخباياه. يقوم الفريق بتحديد مئات النقاط المُحتملة في منطقة الخليل، بحيث تعطى نقطة ما درجة أولوية في البحث بناء على تقديرات الفريق متعدد الاختصاصات، وهكذا انطلقت عمليات البحث بقيادة “موشيه فينشتوك”.
وأما الجزء المكمل للقصة والذي يعطي قدراً معقولاً من المصداقية لرواية “موشيه فينشتوك”، فهو ما أورده “يؤاف رفا” في مقابلة مطوّلة معه حول تطبيق عمود السحاب للهواتف الذكية، الذي أسسه، والذي يُقدّم إرشاداً ملاحياً للصهاينة لمعرفة المكان في فلسطين، بحيث يمكن للمستخدمين إضافة مواقع على الخرائط التفصيلية الكنتورية بمقياس رسم ١:٢٥٠٠٠، والمواقع التي يمكن للمستخدمين إضافتها على نوعين، مواقع عامة يمكن لجميع مستخدمي التطبيق رؤيتها، ومواقع خاصة لا تظهر إلا للمستخدم ذاته وتبقى محجوبة عن الآخرين.
يقول “يؤاف رافا” في تلك المقابلة: “اتصل بي هاتفياً شخص غير معروف لي من قبل يُدعى “موشيه فينشتوك”، وأخبرني بأنه ومجموعة من المتطوعين في البحث عن المفقودين الثلاثة، بحاجة إلى مجموعة من التفاصيل حول استخدام التطبيق للاستعانة به أي التطبيق في عمليات البحث، وكان مهتماً خاصّةً بمعلومات حول خاصيٰة إضافة المواقع الخاصة على الخريطة”.
ويضيف “رافا”، بأن “فينشتوك” قال له بأن استراتيجيته في البحث تقوم على البحث من داخل المكان، لا بالاعتماد على المعلومات الاستخباراتية كما هو الحال عند الجيش وأذرع الأمن الأخرى، يقول “رافا” بأنه في البداية اعتبر ما يطرحه “فينشتوك” غير جادّ ولا يمكن أن يكون عملياً لأن نطاق عمليات البحث تغطي مساحات شاسعة.
بعد عدة أيام اتصل “فينشتوك” مرة أخرى بـ”رافا” وأعلمه بأنهم قاموا بإنشاء حساب تحت اسم “أعيدوا الإخوة” على التطبيق، وهو نفس الاسم الذي أطلقه الجيش الصهيوني على عملية البحث عن الصهاينة الثلاثة، وأنهم قاموا بإضافة مئات النقاط على التطبيق مرتبة حسب الأولوية.
وهكذا بدأ الفريق الجوالة بعملية البحث حاملين معهم التطبيق على هواتفهم الذكية، وبعد ثلاثة أيام،وفي يوم الاثنين ٣٠ حزيران تمٰ العثور على الجثث الثلاثة على بعد بضعة أمتار من إحدى النقاط ذات الأولوية المرتفعة في البحث التي عُينت سلفاً على الخريطة.
استدراك أول:
تهدف هذه العجالة إلى تقديم نموذج متواضع لمعرفة العدو بالاستناد إلى الوقائع المحددة ومن مصادره الأولية المتاحة، من أجل أخذ العبر والدروس في معركتنا الطويلة معه، وذلك بالنظر إلى محورية اكتشاف مكان الجثث الثلاث في الحدث، والتي لا يجوز أن نكتفي بتوصيفها “بمحض الصدفة” للدلالة على فشل العدو استخباراتيّاً .
استدراك ثانٍ:
كان “دوف فينشتوك”، صاحب شعار “الأرض هي الجذر”، ومؤسس إرث الإنصات لأصحاب الأرض لمعرفة أسرارها في مدرسة “كفار عصيون” الحقلية، رائدة نشر ثقافة معرفة “أرض إسرائيل” في المجتمع الصهيوني، يحمل دائماً في جيبه خطبة سياتل زعيم قبيلة دواميش في شعبه والتي يقول في مطلعها:
بعث الرئيس من واشنطن رسالة يعلمنا فيها عن رغبته في شراء أرضنا.
ولكن كيف يمكنك شراء أو بيع السماء؟ أو الأرض؟
هذه الفكرة غريبة علينا.
كل جزء من هذه الأرض هو مقدس عند شعبي.
كل إبرة صنوبر وكل شاطئ وكل نقطة ندى في الغابات المظلمة وكل ينبوع ماء.
كلهم مقدسون في ذاكرة وخبرة شعبي.
نحن جزء من هذه الأرض وهي جزء منا…
رافقت كلمات الهندي الأحمر المستوطنَ الأبيضَ “دوف فينتشتوك” في معاشرته لرعاة الأغنام البدو، ليتعلم فن معرفة المكان من أسياد المكان، ولتهذيب حواسه فتصير في حدة حواسهم طليقة في البريّة. وشحذت الكلماتُ خياله في سعيه إلى ابتكار معنى يقابل معنى الصمود عند مزارعي العنب الفلسطينيين الذين أعجب بعلاقتهم بأرضهم، وتمنى مثلها على الطرف الثاني من “شيك” مستوطنات “غوش عصيون”.
كان “فينشتوك” على قناعة بأنه لكي تكون مستوطناً حقيقياً عليك أن تكون فلسطينياً بعلاقتك مع الأرض. عليك أن تكون عدوٰك لتكون ذاتك، وإن قَتَلَ عدوّك ابنكَ البكر، كما قُتِل اسحق ابنه البكر في عملية فدائية في العام ١٩٩٣.
استدراك ما قبل أخير:
بعد أن قبلت منظمة التحرير عرض بيع الأرض (أوسلو) أمام الرئيس الأمريكي في واشنطن كتب محمود درويش قصيدة “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض”، متوسلاً ببلاغة كلمات سياتل المُعتّقَة، الإعلان عن هزيمة الفلسطيني حقيقةً وانتصاره في عالم الأسطورة والمجاز، فلا يكون الفلسطيني على أرضه إلا شبحاً يُساكِن الغزاة.
فتدبّر…
استدراك أخير:
عامر ومروان: لسنا هنوداً حُمر.