لطالما اعتبرت “أغاني أرض إسرائيل” ضرباً ثقافياً من كتابة التاريخ فوق تاريخ ماديّ فلسطيني، بل هي تشتمل على سلطة الإجهار والإسكات في الآن ذاته؛ الصمت والثرثرة، والرمز الاستعماري الطوباوي، وذاكرة المكان والبطل والضحية.
مقدمة
لطالما اعتبرت “أغاني أرض إسرائيل” ضرباً ثقافياً من كتابة التاريخ فوق تاريخ ماديّ فلسطيني، بل هي تشتمل على سلطة الإجهار والإسكات في الآن ذاته؛ الصمت والثرثرة، والرمز الاستعماري الطوباوي، وذاكرة المكان والبطل والضحية. يمكننا البدء في هذه الورقة البحثية على وقع الأسئلة التالية: هل الأغنية القومية بيان سياسي؟ كيف يكون الائتلاف بين السياسة والفن؟ وهل تقع على تخوم الأيديولوجيا السابقة للواقع، أم الواقع السابق للأيديولوجيا؟ وهل تتكدّس لتمثيل اليهودي الأشكنازي حصراً؟ وكيف للأدباء أن ينحتوا ذاكرةً من لحظة الصفر فيها؟ هل يمكن أن ندرسها ضمن الثابت والمتحوّل؟ وهل بظهور حدود اجتماعية جديدة، وهوّيات متجدّدة، باتت الأغنية القومية تستجيب لاستنساخ تواريخ وذكريات جماعية أبوية تحكي من جديد تاريخ الدولة بأكملها والجماعة ذاتها؟ وأخيراً، أين الفلسطيني من كل هذا، وما هي حدود تبيانه وشطبه؟
هذه الأسئلة الأوليّة- التي سنحاول الإجابة عليها قدر الإمكان في هذه الورقة- تدفعنا للقول إن الموسيقى ملوّثة بالسياسة، بل كما يدّعي Philip Bohlma إن “علم الموسيقى هو حقل مسيّس بامتياز”،[1] وقد تحمل الأغنية افتراضات ثقافية تكون في كثيرٍ من الأحيان غير مرئية.
لا شكّ أن الصهيونية باعتبارها حركة قومية- استعمارية جعلت أغنيتها القومية مختلفة تماماً عن الرائج في القوميات الأخرى، إذ إن ثقافتها الموسيقية منحوتة من الشوق الديني الكامن للعودة إلى “صهيون” بعد”التيه في المنافي”، وتأثير التنوير على اليهود الأوروبيين منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وما تبع ذلك من تبني مفهوم “الدولة القومية” كحلّ لـ”معاداة السامية الحديثة”. لذلك، كان لا مناص من “صناعة هوية وطنية علمانية، كإحلالٍ عن التقييد الديني كأساس وحيد للهوية اليهودية مع الحفاظ على أسسها “العرقية/العنصرية” الأساسية، مادّتها الخام “شخص عبري جديد” مجرّد من الشروط المادية والثقافية النمطية التي صادفت الأنتلجنسيا اليهودية، لنكون أمام رأس مال ثقافي مشكّل وفقًا للمفاهيم الرومانتيكية والشرقية المتأخّرة عن الأصالة والأصلنة”[2].
كانت الموسيقى باكورة تلك الفلسفة القومية، بجانب الملصق والشعر والمسرح، إذ كان عصرها الذهبي مؤطّراً بين 1920- 1960؛ أيّ في الفترة التي كانت الصهيونية تصارع وجودها، فالوجود اليهودي كان لا يزال هشَاً وسيالاً ومشتعلاً. وكانت الصهيونية بحاجة إلى الرمز والإيجاز والمجاز عبر الأغنية للذهاب نحو “أصلنتها” مع المكان، وحتمية الوجود لا التشكّك أو الريبة منه، ثم الحاجة إلى منظومة قيم وانتماء أشبه بـ”الصنمية الشاعرية” للهوية الصهيونية ما بعد “الدولة”، وتحديداً في التأريخ لإرث الحروب والمعارك الوجودية، وتحوّلات الوعي التي تحدثه. اللافت هنا أيضاً أنه على الرغم من الوعي النشط بضرورة الفصل بين الثقافة الصهيونية والمخزون اليهودي الشتاتي، إلا أن العلاقات بين تلك الثقافة والإرث اليهودي و”الشتات” لا تزال معقّدة حتى يومنا هذا.
سأسعى في هذه الورقة لقلب المنطق التقليدي نوعاً ما، بمعنى أنّني سأبدأ بأغنيات الذهاب والإياب حول الحرب والذاكرة، ثم أنهي بأغنيات المكان من واقع سلطة السيطرة عليه وترويضه، وأنّه أمّ البدايات والنهايات بالنسبة للصهيوني، وإن كان ذلك يعني البدء من زمن لاحق وصولاً إلى باكورة الزمن، وذلك عبر الاستفاضة في تحليل نماذج من الأغاني عكفت الباحثة على ترجمتها من العبرية.
أولًا: في البدء كان… بابُ الواد
من هنا أمرّ، واقفاً بجانب الصخرة/ طريق أسفلتي أسود، أحجار وجبال / ببطء تسقط الأمسية ويهبّ نسيم البحر/ عند سطوع أول نجمة فوق بيت محسير/باب الواد/ للأبد أذكرْ أسماءنا/ القوافل فتحت طريق المدينة/ وفي هوامش الطريق أمواتنا مرميون/ ويصمت هيكل المدرع الحديدي كرفيقي/ هنا تحت الشمس القطران والرصاص يغليان/ هنا مرّت ليالٍ من النار والسكاكين/ هنا تسكن معاً الحسرة والعزّة/ هيكل مدرع متفحّم واسم مقاتل مجهول/ باب الواد../ وأنا أتمشّى وأمرّ من هنا بصمت/ وأذكرهم تماماً واحداً واحداً/ هنا قاتلنا معاً على الأجراف والصخور/ هنا كنّا أسرة واحدة/ باب الواد…/ سوف يأتي يوم ربيعي ويزهر عصا الراعي/ ويملأ أحمر الشقائق الجبال والمنحدرات/ ومن ذهب على الطريق الذي تمشينا عليه/ يجب ألا ينسانا، نحن باب الواد.
هذه الأغنية هي ذاكرة الموتى الصهاينة التي يستعيدها المقاتلون الأحياء، ويوضّبونها في ذاكراتهم على هيئة أيديولوجيا، وذلك ارتباطاً بأنّ التذكّر والنسيان هما جزء من الهيمنة وبناء القومية. وبكلمات الباحث الإسرائيلي يتسحاق لاؤور، “فلقد أوجد أيديولوجيو الدولة القومية ذاكرة الموتى الذين يحمل رسالتهم ويواصل دربهم المقاتلون الأحياء: أي الأيديولوجيون.”[3] في أغنية “باب الواد” يتجاوز الفعل التذكري “الذاتي” نحو “الجمعي”، بل يحمل في طياته أبعاداً ثلاثة؛ وهي الماديّ والرمزي والوظيفي بحسب بيير نورا، خصوصاً أن الموت في المغناة ليس موتاً فردياً خاصاً وعينياً للمقاتل الصهيوني، بل هو مقدّم على مذبح القومية. إنّه الفناء والاحتراق من أجل المجموع الصهيوني، والخسارة التي لا بدّ منها؛ خسارة القدس وخسارة الإنسان، إذ قال رئيس الوزراء الصهيوني ديفيد بن غوريون، آنذاك: “لقد خسرنا في معركة باب الواد وحدها أمام الجيش الأردني ضعفي قتلانا في الحرب كاملة”[4]، إذ قُتِل المئات وجُرح الآلاف، فيما لم يخسر الجيش الأردني سوى 20 جندياً.
هنا، ينفتح حاييم غوري، كاتب المغناة، على الدمّ والنار والعزاء الكبير كي يقول للوعي الصهيوني إنّ التضحيّة هي المعادل الموضوعي لبقاء الدولة، بل إن الذاكرة الصهيونية يستوجب منها أن تنحت “باب الواد” بأسطورته إلى أجلٍ غير مسمى. المغناة أيضاً هي محاولة الاستئناف على الصمت الذي حلّ بالمكان بعد المعركة، واستنطاقه على لسان “الضحايا” المجهولين.
أدّت شوشونا دماراي هذه المغناة عام 1949، ولاحقاً يافا ياركوني الملقّبة بـ”مغنية الحروب الثلاثة”، إذ اعتبرت “أغنية أسطورية مرتبطة دائماً بالصهيونية والبطولة والاستقلال، وصورة اليهودية الجديدة، والهوية الصهيونية التي تحارب من أجل بلادها.”[5] كأنّ حاييم غوري كتب هذه القصيدة كي تكون أشبه بوخز دائم في الضمير للباقي الحيّ، حتى يكون أميناً على ذكراهم ومآلهم، خاصةً أن “باب الواد” كان الطريق الأقرب إلى خلاص اليهودي في القدس بمعناه الدنيوي المجازيّ، وذلك في ظلّ السيطرة عليه من قبل المقاتلين الأردنيين والمناضلين الفلسطينيين آنذاك، إذ كان من المستحيل الحصول على قوافل من الغذاء والماء والدواء لليهود في القدس دون تضحية ٍ صهيونيةٍ من حديدٍ ونار تنسكب على الطريق، خلال النصف الأول من “حرب الاستقلال”، خاصةً أن المقاتلين الفلسطينيين والأردنيين عكفوا، خلال شهر آذار من العام 1948، على تخريب الطرق وإتلاف الأنابيب التي تمدّ الأحياء اليهودية في القدس بمياه الشرب، كما أخذوا يتصدون للقوافل الصهيونية المحروسة التي تمرّ بباب الواد مرّةً في الأسبوع، ويوقعون بها الخسائر الفادحة، أو يمنعونها من متابعة طريقها.
كذلك، فإن مغناة “باب الواد” هي نوع من “السجود للحرب كمؤسسة طبيعية في الحياة الاجتماعية، ووسيلة إشعار الصهيوني بذكورته وشجاعته، وتحرر الإنسان من ذاتيته وانكفائه على نفسه، وتدفقه في غمرة من السمو بالنفس نحو الاندماج القومي.”[6] الحرب كعنصر تربوي ولاصقة قومية ومحرّك اقتصادي هي أمر ضروري يجب أن يدفع فاتورتها الجميع، بل تشغّل أيضاً طنجرة الضغط وبوتقة الصهر، بتعبير دان ياهاف[7].
كما يضطلع هنا غوري- شاعر جيل 1948 البارز- بفكرة أن “نطاقي الوعي التاريخي، وهما “التاريخ” و”الذاكرة” (بمفهوم الأسطورة) متشابكان ومجهودهما المتواتر للانفصال محكوم عليه بالسيزيفية”؛[8] بمعنى النسيان الآثم في “باب الواد”، مقابل التذكّر الأسمى غير المقتطع لإحدى الهوّيات المجهولة من القتلى (وأذكرهم تماماً واحداً واحداً)، وذلك على العكس تماماً من النسيان المنظّم، وفداحة التذكّر أو التذكّر المبتور من سياقه حينما يتعلّق الأمر بالفلسطيني، خوفاً على صورته – أي صورة الصهيوني – أمام مرآته حينما يجلد ذاته، ويطهّر نفسه من نافورة دمٍ/ مجزرة أوشكت أن تبتلع نقاءه واتزانه الداخليين، ليس إلاّ، وهو ما نلحظه كثيراً في الأدب الإسرائيلي الذي يعترف مؤلفوه ببعض جرائمهم إزاء الفلسطينيين، ليمنحوا أنفسهم براءة التائبين، خوفاً من العيش في صراعات نفسية على شخوصهم، وليس خوفاً على الضحيّة، وذلك مثل رواية “خزعة” ليزهار سميلانسكي
لا يمكن قراءة جماهيرية “باب الواد”، بمعزل عن شخصية كاتبها، إذ أنّه لطالما مثّل “الرقيب لبيت إسرائيل”[9]؛ يصوّب نظره تجاه شعبه، آخذاً من نفسه ومن شعره لساناً باسم “الدولة” والمجتمع القومي، ومنخرطاً في الحديث عن التحديات والأزمات والطوارئ القومية والممتدّة على شريط زمني طويل.
صحيحٌ أن مادّة شعر جوري- عامةً- من قماشة الحزن الدفين والحسرة على ضحايا الحرب “(للأسف لم نكن شاهدين على تلك الحادثة/ لم نرَ العظام اليابسة وهي تدنو- تحدّ بعضها البعض/ بعد طول مدّة تنبت الأوتار واللحم والجلد أمام ناظريها)”[10]- لكنها في الآن ذاته لا تخلو من فداحة القوّة والرغبة والأمل (سوف يأتي يوم ربيعي ويزهر عصا الراعي).
وصحيحٌ أيضاً أن غوري تحدّث عن الموت دون مواراة، وأشار إلى ذلك الطابور الطويل من القتلى الذي لقوا حتفهم في المعارك “(انظر هنا ملقاة جثثنا في طابورٍ طويل طويل/ تغيّرت وجوهنا، الموت يطلّ من أعيننا، لا نتنفس)”،[11] وذلك على العكس من كثير من شعر ناتان ألترمان الذي لجأ إلى أسلوب الصمت عن استنطاق ضحايا الحرب، غير أن غوري يعود ويستأنف على صورته بكونه شخصية المثقف القوميّ، حينما يغدق على الجنود القتلى بالحياة في دورةٍ جديدة، لكن عودتهم للحياة لن تكون بدورةٍ طبيعية وصورة مألوفة، بل في شكلٍ جديد من خلال قيام الدولة “(يوم جديد، لا تنسى، لا تنسى/ حيث حملنا اسمك حتى أغمض الموت أعيننا/ وولد الصبح وترنمت نضارة الكل/ نرجع ثانية، نلتقي، نعود كزهور حمراء).”[12]
اللافت أيضاً أن غوري، كما زملائه يزهار سميلانسكي وموشيه شامير وأمير جلبوع ويتسحاق شاليف وناتان يوناثان، كان قد قاتل في “البلماح” وتحديداً في “كتيبة النقب”. ويقول عن ذلك: “كل هذا خلق واقعاً معاشاً بالغ العنف، كنت جزءاً منه عندما تطوّعت للبلماح. وأنا في الثامنة عشرة، انضممت للعنف. كنت مقاتلاً، كنت مع الناس، لم أكن مراقباً حيادياً، أنا حرب أهلية”[13]، كما وصفه زعيم “البلماح” المعروف، يجآل يادين في كتابه “كتاب البلماح”: “تميّز جوري كشخصية جماهيرية رائدة بين أبناء جيله، غلام غضّ، رقيق، محارب، وممثّل للبلماح في الأدب الإسرائيلي، شاعر زهوره من نار، وناره من زهور”.[14] هذه الكلمات تذهب بنا إلى خُلاصة العزاء الكبير الجمعي التي نثرها في مغناته “باب الواد”، من واقع سُلطة الحاضر المشارك لا المتفرّج، خصوصاً أن المعركة كانت حاسمة ومركزية في مسار “حرب الاستقلال” عام 1948، وانتهت بالهزيمة أمام المناضلين الفلسطينيين والجيش الأردني الذين حرّروا القدس بأكملها آنذاك.
كما لا يمكن عزل مركزية هذه المغناة لدى الجمهور الصهيوني عن السياقين التاريخي والجغرافي لمعركة باب الواد، إذ إن الأخير لطالما اعتبر مفتاح القدس، وحلقة الوصل بين السهل الساحلي والمدينة المقدسة. وكان قد “فطن العرب والصهاينة إلى أهمية موقع باب الواد منذ اللحظات الأولى بعد صدور قرار التقسيم عام 1947. وتهيأ الصهاينة لغزوه من السهل الساحلي لضمان مرور قوافلهم إلى القدس، وعمل العرب بالمقابل على قطع الطريق عليهم، فتنادوا لشراء السلاح، وتجمع المقاتلون من قرى عمواس ويالو ودير أيوب، وبيت نوبا وبيت محسير وساريس”.
كما تكمن أهمية المغناة في كونها “نصاً مؤسساً في ثقافة الذاكرة الصهيونية وممارستها”،[15] على اعتبار أن الدولة منذ تأسيسها أصبحت محتكرة للذاكرة، وأفلحت فيما لم تنجح في إنجازه حينما كانت “دولة على الطريق”، فضلاً عن تأريخها لملحمة سيزيفية بتوقيع صهيوني من وجهة نظر غوري الذي لم يتنكّر للخسارة الكبيرة، فمع اقتراب شروق الشمس، كان جنود المعركة يعودون ويحملون رفاقهم القتلى والجرحى. كان في كل يوم ثمّة طابور جنائزي، قبل أن ينفجر المقاتلون مجدداً ويعودوا إلى دائرية القتال، إذ كان من الشائع أيضاً أن أعضاء “كريات عنافيم” – مستوطنة بالقرب من أبو غوش- كانوا يعملون باستمرار لمنح المقاتلين الدفن المناسب، وإعداد القبور مسبقاً كل يوم لمن سيقع تلك الليلة.
تقول سيلا، إحدى المقاتلات آنذاك: “إن صوت القبور التي تم حفرها يطنّ صداه في أذنيي لليوم. إنّه مؤلم للذاكرة إلى يومنا هذا”.[16]غير أن غوري التفّ على ذلك الفقدان، مغلّباً الغد على التحديق بالماضي بلا فعل. المثير كذلك هنا أن الأغنية القومية في الكيان الصهيوني لا تؤّرّخ لحقبة النصر فحسب، مثل مغناة “أورشليم الذهب”، بل أيضًا تؤرّخ للهزيمة لكن ليس من زاوية العيش في تلابيبها وفي ظلال رعبها، أو العتاب على الذات الصهيونية المقاتلة، بل هي استراتيجية “السياسة” في تخليد وتأبيد “العسكرة” وتضحياتها، مهما كان الثمن والمآل، وذلك على اعتبار أنّ “القومية الصهيونية غير منفصلة عن المصطلحات العسكرية التي يرى الصهاينة عالمهم من خلالها، والمفهوم ضمناً الصهيوني يُدرَك أولاً وقبل كل شيء بمفاهيم أمنية”[17].
اقرأ/ي المزيد هنا: عن مغنّاة “قدس الذهب”.
وفي مغناة أخرى تحمل عنوان “الأصدقاء” لحاييم غوري أيضاً، ومن تلحين ساشا أرجوف، يتم فرز سياسة النوستالجيا لساحة المعركة عام 1948 بوصفها ساحة اجتماعية أيضاً، يفعل فيها الجندي ما يفعله الإنسان العادي خارج حيّزها، من التوق للعلاقات الفريدة التي نشأت هناك، خصوصاً لانقضاء بعض المقاتلين. هذه الثيمة النوستالجية والتي شُيّدت بفعلها ذاكرةٌ بأكملها، فضلاً عن قصتها الرثائية جعلا المغناة رمزاً لروح جيل كامل من الصهاينة، إذ إن بثها المتكرر وأداءها في كل المناسبات الرسمية والأعياد في المدارس وحركات الشبيبة، تحديداً في “يوم الذكرى” أضفيا عليها شرعية شعبية إضافية، لتصبح هذه المغناة “مقياساً معيارياً للصهيوني خلال الفترة التي كانت تواجه فيه الهوية تحدياً خطيراً.”[18].
بيد أن هذه المغناة تحطّم بدورها أيّ سلطة استعمارية؛ بمعنى أنّ الصهيوني يحوّل نفسه هنا إلى مجرّد “وطني” في دولة مدنية حديثة، مدافع عن أرضه ووطنه من أي هجوم خارجي، وإن كان الفلسطيني الأصلي نفسه؛ أي أنه يسكب نفسه ضمن إطار دولة طبيعية لا محالة. يجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المغناة باتت مغناة الرثاء لإسحاق رابين بعد حادثة اغتياله في تسعينيات القرن الماضي. تقول الأغنية:
“تنحدر ليلةٌ خريفية في النقب[19]/ وبلطفٍ تضيء النجوم/ تمضي الغيوم في طريقها/انقضى عام، ولم نعد نلحظ /كيف مرّ الوقت في حقولنا/ انقضى عام، وقليلٌ منا تبقّى/ والكثير منهم لم يعودوا بيننا/ لكننا سنتذكّرهم جميعهم/ لأنّ صداقةً حميمةً من هذا القبيل لن تأذن لقلوبنا بالنسيان/ الحب مقدّس مع الدمّ/ سوف يزدهر مرّة أخرى بيننا……الصداقة، كما كل شبابِك/ مجدّدًا في حضرة اسمك، سوف نبتسم ونمضي قدمًا/ لأن الأصدقاء الذين سقطوا على سيوفهم/ تركوا حياتهم كنصبٍ تذكاري/وسنذكرهم جميعاً”.
أخي الصغير يهوذا/ هل تسمع؟/ هل تعلم؟/مزيدٌ من الشمس تشرق كل صباح/ والضوء الأبيض/ وفي وقت المساء ينتشر النسيم/ والمطر الأول/ سقط قبل يومين/ مساء الثلاثاء/ومرّة أخرى نرى السماء/منعكسة على الطريق الرئيسي/ أخي الصغير يهوذا/ هل تسمع؟/ هل تعلم؟/برياض أطفالك/ يتعلّمون لتوّهم أغنيةً جديدة/ وبثانوية التلاميذ يمارسون الرياضة في الساحة/ الرياح العربية/ عويلٌ على الشُرفة/ جميع أغاني الخريف/ وأمّي تنتظر سرًا/ فلربما يصلها مكتوبٌ/ أخي الصغير يهوذا/ هل تسمع؟/ هل تعلم؟/ كل أصدقائك الطيبين/ يقاسون صورتك معهم/ وفي جميع الدبابات على خطوط الحدود/ أنتَ كنت معهم/ أخي الطيب/ إنني أتذكّر عينيك الاثنتين/ إنهما يفكّان لغزًا/وابني جميلٌ مثلك/ سأدعوه نيابةً عنك- يهوذا![20]
وفي ذات السياق، هذه الأغنية أعلاه (1969) هي مرثية صهيونية خاصة لمن ذهب على الطريق في الحرب، خاصةً أنها استنزفت مؤلّفها ومؤدّيها إيهود مانور، كونها مهداة قبلاً إلى” شقيقه الصغير يهوذا الذي قضى في أيلول 1968، بالقرب من قناة السويس في سيناء، خلال حرب الاستنزاف حينما كان يبلغ 19 عاماً.” [21] لكن سرعان ما ألقت هذه المغناة بفقدها الذاتي وراء ظهرها، وتحوّلت إلى سيرة جماعية وفقدٍ عام في “يوم الذكرى/ “Yom Ha-Zekhron.
مانور هنا يندفع نحو التخيّل في الحوار مع شقيقه الميّت، رغم أنه غير ممكن، إذ إنه يفتتح الأغنية بجميع الأسئلة البلاغية “هل سمعت؟”، “هل تعلم؟”؛ الأسئلة التي تظلّ معلّقة بلا إجابة، وعلى الرغم من كابوس الحزن الثقيل لدى مانور، إلّا أنّه يؤكّد على كلّ مظاهر استمرارية الحياة من بعد شقيقه، قبل أن يختتم الأغنية بوعدٍ قطعه على نفسه، ليصبح ماثلاً للعيان في العام 1974، حينما ينجب ابنه ويطلق عليه “يهوذا”.
المثير هنا- وفي معظم الأغاني القومية الصهيونية حول ذاكرة الموتى- التوكيد على أنّ المقاتل الصهيوني من لحمٍ ودمٍ وشعورٍ دفّاق بالنهاية؛ أنسنته بشكل مفرط إلى حدّ التنكّر أنّه قاتل بالنهاية. لا يمكن لأحد أن يجافي فكرة أن الجندي بالمحصَلة ليس ضرباً من الخرافة أو الأسطورة التاريخية، مع ضرورة “تطبيع” الكيان الصهيوني وجنوده عامة؛ بمعنى التخلي عن فكرة أنها ما فوق الطبيعة والإنسان العادي وعصيٌ على الفلسطيني هزيمتها، لكن تغليب الأنسة هنا من التوكيد على مسألة عائلة وأصدقاء وذكريات الجندي وغرامياته مع زميلته في الجندية، مقابل نزع الإنسانية عن “الآخر” الفلسطيني، ليس إلا انتحاراً لصورة الجندي القاتل والمجرم بالضرورة.
ومن الأغاني القومية التي يتم إحياؤها أيضاً في “يوم الذكرى”، أغنية “كان رماديًا” لشوشانا دماراي، “هو لم يعرف اسمها” و”طبق الفضة”و”الحرب الأخيرة” ليهورام غاؤون، “هذا الرجل” لشلومو أرتسي، “وعلى طول البحر” لعوفرا عازا، و”الرمال تتذكّر” لحفا ألبرشطاين، و”تل الذخيرة” و”المطر الأخير” و“الشثاء الثالث والسبعون” للفرق الموسيقية العسكرية.[22]
بيد أن مغناة “طبق الفضة” (وتصمت الأرض، وتحمرّ عين السماء/ تعتم ببطء، على حدود الدخان/ والدولة تبدو، مكسورة القلب، ولكن تتنفس) هي محاولة من الشاعر ناتان ألترمان دحض مقولة “حاييم وايزمان” الشهيرة “ليست ثمّة دولة تُمنح لشعب على صينية من فضة”، بإثبات أن الدولة قد تحقّقت- حتماً- للشعب على طبق الفضة، بيد أن “هذا الطبق كان قد صنعها فتى وفتاة عبريان، وأن الشعب ظفر بالدولة بفعل تضحياتهما بأرواحهما.” [23]
الجدير بالذكر أن ألترمان كان أكثر الشعراء انخراطاً بشخصية المثقف القوميّ، لتحمّسه لفكرة أرض “إسرائيل” الكاملة ورئاسته كذلك لـ”حركة أرض إسرائيل الكاملة”، حتى أن الاستيطان العبري كان ينتظر عمله الشعري الأسبوعي بلهفة شديدة- حتى تلك الفترة التي منعت سلطات الانتداب البريطاني قصائده في “العمود السابع”- استحال شعره الممنوع إلى نوع من أدب المقاومة السرية لتلك الفترة. ومن أغاني الاستقلال أيضاً: “الأم الاستقلال” لرونيت أوفير، و”أرض إسرائيل جميلة” لدودو زكاي، و”هذه البلاد” لشمعون الإسرائيلي، و”أرضي وطني” لنعومي شيمر، و”كل البلاد أعلام” لشوشانا دماراي، و”سلامٌ على إسرائيل”.
أغنية “سلامٌ على إسرائيل”
ثانياً: “أورشليم من ذهب” بوجه “أورشليم من حجارة ثقيلة”
نسيم الجبال ينساب شفّافًا كالنبيذ/ ممتزجًا بأنفاس الغروب/ ورائحة الصنوبر/ وقرع الأجراس/ في سكون الشجر والحجر /سكنت حُلمها/ المدينة التي تقبع وحيدة/ ملتفة بأسوارها/ أورشليم من ذهب.. ومن نحاس ومن نور/لكل أغانيك أنا قيثارة/ كيف نضبت آبار الماء في البلدة القديمة/ ميدان السوق خالٍ/ وما من زائر لجبل الهيكل/ وفي الكهوف التي في الصخور عويل الريح/ ولا أحد ينزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا/ أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور/ لكل أغانيك أنا قيثارة/ ولكني من أجلك اليوم جئت أغني/ أنا أصغر من أصغر أبنائك ومن آخر المغنين/ لأن اسمك لاذع فوق شفتيّ كقبلة ملتهبة/ إن نسيتك أورشليم التي كلها ذهب/ أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور/ لكل أغانيك أنا قيثارة/ عدنا إلى آبار المياه/ للسوق والميدان/ مزمار يعلو في جبل الهيكل/ في البلدة القديمة/ وفي الكهوف التي في الصخر /آلاف الشموس تشرق/ ونعود للنزول في طريق أريحا إلى البحر الميت/ أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور/ لكل أغانيك أنا قيثارة[24]
تم تمثيل “أورشليم” في مطلع النص، وكأنّها مكان سرمدي، لا متغيّر، جوهراني، مكانٌ يكون شعرياَ بقدر ما هو حقيقي في المحسوسية الحغرافية. [25] إنّ القصيدة- في مقطعها الأول- هي نزيف الصمت والخواء في عتمةٍ مطبقة تشترط فاعلاً يهودياً ليكسر فجاجة الفراغ الذي تعيشه “أورشليم”، ويعيد إليها رمزيتها المسلوبة عقائدياً وسياسياً. يظلّ اليهودي يعبّئ ذاته في المكان من خلال ثقافة ضدية تجهد أن تكون وتحلّ في الجغرافيا، وذلك عبر إزاحات مستمرة للفلسطيني ابن البلاد. وذلك لأنّ “وجود الأمة وفاعليتها واستمرارها هي تمثيلات سلطوية لها فاعلية في إنتاج الحقيقة في سرديات ومرويات، وأن القوّة في ممارسة السرد، أو في منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة”.[26]
لا يمشي النصّ على خيطٍ واحدٍ من التصوّرات، بل يقبع بين ثلاثة أزمنة ومشهديات في تصاعدٍ خطيّ؛ بين ركودٍ وتدفّق وأبّهة دائمة؛ بين تشخيص حادّ وفُرجة محفّزة للحسرة على “أورشليم”قبل 1967. وبين تعبئة سياسية وتوراتية للوقوف بوجه التشظّي وضرورة نفي المنفى في القدس تحديداً، قبل أن تبسط فكرة البعث بعد الخراب جناحيها في المقطوعة الثالثة التي تبرز فيها شوفينية “العرق المتفوّق”.
وكانت شيمر، التي تمّكنت من تأبيد نفسها في الثقافة الوطنية والتجديد الساحق وكتبت كثيراً من الأغاني للجيش، قد كشفت في حوار تلفزيوني أجراه معها الكاتب الصهيوني “عاموس عوز” عن إهمال وجود العرب في القدس في قولها: “بالنسبة لي كل مكان لا يهود فيه هو مكان مهجور ومتروك. كل مكان لا وجود لليهود فيه هو مكان فارغ”.[27]
يمكنّنا القول إنّها نظرة الأنا إلى ذاتها، كما لو أنها جالسة في منطقة إقليمية خالية من السكان. “ميدان السوق خالٍ” هي بكل تأكيد الإجمال الأشد وضوحاً لهذه البلاد الخالية الذي صمّمته قصة الدولة. هذا المجال الخالي الذي يتعين على الدولة أن تملأه بسرعة، سَبَقَ أي شيء آخر: سبق جيل الصبّار كما سبق “جمع الشتات” الذي استعان أصلاً بالفراغ الجغرافي العذري لكي يستصرخ همم الطلائعيين (أي أن سردية الفراغ والأرض العذراء الخالية كانت سرديةً مؤسسةً لاستثارة همم الطلائعيين حتى قبل جيل الصبّار وجيل الرواد الأوائل). ومع ذلك، لا يمكن محاكمة المغناة من زاوية الحقيقة التاريخية، فهي بالنهاية تصنع الرواية وتفرضها كحقيقة صرفة على الصهاينة.
أمّا المقطع الأخير فَيُمثّل بالعودة الحتميّة لأورشليم؛ عودة قوامُها الحرب، ونتيجتها الاستملاك الفعلي والانفتاح على الشمس، بعيداً عن وضعية “الإنسان المقهور” لا على مستوى تشكيل النص الشعري فحسب، وإنما “اليهودي” الإنسان المجتمعي أيضاً. هذه الفكرة تذهب بنا نحو التشكّك الذي يمكن أن تصوغه تواريخ ومقولات سياسية وعقائدية حول الامتلاك الفعلي للأرض؛ بمعنى الهوّة بين ما كانه مكان معين (القدس عام 1967)، ويمكن أن يكونه، ويمكن أن يصيره، وبين واقع حاسم مختلف في المكان.
مقابل “أورشليم من ذهب” التي حازت على لقب “أغنية اليوبيل” عام 1998، يبرز نص “المطر” للشاعر حاييم غوري ليعبّر عن “لحظة انكشاف الذات أمام مرآتها الجوانية، حيث يظهر انبثاق “الذات المنسحبة” عبر تمثيلات سوداوية للمكان/ أورشليم تتأكّد فيها وضعية “الإنسان المقهور”،[28] وذلك على نحو تأملي لظاهرة المطر التي تشير مجازاً للصدام المستمر بين اليهودي والعربي الذي لا يمكن تجاوز وجوده.
“أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور” عند شيمر استحالت “أورشليم من حجارة ثقيلة ومن حلكة ومن زيتون” لدى غوري، تعبيراً عن حضورها البارد واللامقدس واللاإنساني. يقول “جوري”:
منذ تشرين
وها هي الرعود فوقك
وكما لو استحاب لابتهالك عاد واستفاق الرعد البعيد
تذكر وهو على وشك أن يكون ملكك
أورشليم من حجارة ثقيلة
من زيتون ومن حلكة[29]
وعلى عكس شيمر من الصعود الخطيّ من التعبئة نحو النتيجة، ومن المنفى القسري نحو “أورشليم” الوطن، فإن غوري يدور في زمن دائري متوقّف من الصمت والقهر والشتات. وكأنّ “الذات” المنسحبة في قيعانها العتمة تهمس بسرية “إننا نجد أنفسنا من اليهود محمولين مرجعين إلى القرن التاسع عشر”، وذلك بالطبع عائد إلى تراجع غوري عن دور “الرقيب لبيت إسرائيل” لصالح النقد اللاذع.
ومع ذلك، تبقى سلطة التوراة رجعاً مقدساً وصوتاً في “الذات” يصعب تجاوزه لدى جوري- والبارزة أيضاً في نص شيمر التي تعتبر السيدة الأولى للأغنية والشعر الصهيونيين، والتي شكّلت لها الحرب خبزاً أساسياً في شعرها مثل “جنديي عاد- 1967″، و”كلانا من نفس القرية- 1968″، و”مجّد تحصيناتنا-1973”. يقول غوري:
“أنّ أمامك تمرّ الأشياء التي لا يرقى إليها شك
التي كانت منذ الأزل، التي لن تموت فيك”.
وبالعودة إلى نص شيمر “أورشليم من ذهب”، نجد أن النص قد تحول لفعل اجتماعي بامتياز، واختزن في داخله أيضاً سلطة التاريخ والمجتمع المنطوية على “القوة” في موضع الاستخدام الفعلي، بل نجد أن الجانب الحاسم لنص الأغنية لا يتمثّل في وصفه شكلاً ثقافياً معززاً لسلطة الواقع الذي فرضه عام 1967 فقط، وإنما هو تعزيز لأشكال مختلفة للسلطة المتضمنة فيه، خاصةً حين يبرز هذا النص بوصفه معيارياً، أو بمعنى آخر مانحاً المصداقية لذاته في مجرى تطوّر مجموع التصورات والأفكار والمقولات الصهيونية، وقد صنعتها “الآلة الثقافية”.
يمكنّنا القول إن هذه المغناة هي استراتيجية السياسي في جعل المكان “القدس” جديداً ومحوّلاً ومعدّلاً على نحو ينفي هويته الأصلية. “إن أورشليم الرومانسية ماتت واندثرت، لكنها تُبعث من حيث تبنى مجدداً معرفة الحقائق الاجتماعية، والمؤسسات المختلفة التي تميز سيرورة اكتساب وترميز المعرفة المكانية، أناسها ومدنها وقراها ومعابدها وشوارعها ولغتها وثقافتها.”[30]
وانطلاقاً من أنّ اللغة والفكر والتمثيل والخطاب شيء واحد من وجهة نظر “فوكو”، وأنّ “لغة الثقافة تقوم على فكرتين أساسيتين: الأولى: الاعتقاد بأن اللغة لا تقول بالضبط ما تعنيه، والثانية: أنها تتجاوز صورتها اللفظية الصرفة، وأن هناك أشياء أخرى في العالم تتكلّم دون أن تكون لغة،”[31] فإنّه في بعض سكوت هذه الأغنية رمزية بليغة، إذ إن شيمر لم تنطق أيّاً من ادعاءاتها الأخلاقية بفجاجة مفرطة، ولم تمضِ نحو رغبتها الذاتية/ الجمعية في الحرب صراحةً، بل إن الفراغ المفقود بين المقطعين الثالث والرابع -بين الامتلاء بكلّ أسباب العودّة والعودة الحتمية- هو الترويج الضمني والحادّ لحرب “استعادة أورشليم” عام 1967 من الحكم الأردني، خاصةً أن المقطع الرابع أضافته شيمر بعد أن انتصر الصهاينة في حرب الأيام الستة عام 1967، وتمّ احتلال القدس.
هذه المغناة لم تكن فعلاً إبداعياً عفوياً، بل هي تكتيكٌ سياسيٌ تعبويٌ من أجل احتلال القدس، وبإيعاز من رئيس بلدية الاحتلال في القدس آنذاك “تيدي كوليك”. قبل ثلاثة أسابيع من اندلاع الحرب، احتفالاً بـ”عيد الاستقلال”، أدّت شولي ناتان هذه المغناة بملابسها الكهنوتية، لتستحيل “الأغنية التي غيّرت البلاد إلى الأبد”، بحسب تعبير دان ألماغور،[32] كونها حملت الروح المحطّمة البعيدة عن القدس وتساؤلات الحنين إليها إلى إجابة “النصر” الذي اعتبر حادثاً خارقاً مسيانياً، والرغبة الدائمة في “النصر” على الوجود الذي لا يعترف بهم.
اللافت هنا أيضاً أن هذه المغناة كانت “أولى الأغاني الصهيونية الحديثة حول القدس من وجهة نظر وطنية، وليست من منظور ديني تقليدي.”[33]كما أنّها “كانت أشبه بنبوءة سياسية، وكأنّ القصيدة أوجدت الحدث الذي يحتضنها ويساهم في نشرها وتبنيها.”[34] لدرجة أنها اعتبرت النشيد القومي غير الرسمي، واقترحها عضو الكنيست “أوري أفنيري” لأن تصبح النشيد الرسمي عام 1968، وأعاد الكَرّة ذاتها بعد 35 عاماً (ولكن اقتراحه لم يطبق)، فيما البعض يستدلّ على قوّة المغناة في إغلاق جمال عبد الناصر مضيق تيران، بعد 7 أيام من أدائها.
إن مغناة “أورشليم من ذهب” هي رمزيّة الانتقال من خطيئة القلق الوجودي إلى الإغاثة الهائلة التي وفّرها النصر، ورمزية تكثيف الاستجابة لنزعتين اجتماعيتين هامتين، وهما الروح العسكرية، والروح الدينية المسيانية التي حجزت لها مكاناً على خارطة الثقافة بعد 6 سنوات على الحرب.
وبحسب الناقدة داليا نوري، فإن “الطابع الديني المسياني للمغناة كان في جوهره منفصلاً عن السياق التاريخي المحدّد لتلك الحرب، كما تعتبر أنّ “النبيذ/ الهواء النقيّ/ عطر الصنوبر/ أجراس الصوت” هي مجاز الحواس ومشاعر النقاء والروحانية الدينية، محيلةّ كذلك “أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور” إلى مدينة سماوية، بدلاً من الكيان الماديّ، فضلاً عن أنّ “القُبلة” في النص هي لتطهير الذات من النسيان والذنب والتخلي عن الذات من أجل الخلاص.”[35]
“لكل أغانيك أنا قيثارة”، هي في جوهرها تناص مع قصيدة “صهيون، لماذا لا تسأل الخلاص لأسراك” لشاعر في القرون الوسطى يدعى يهودا هاليفي،[36]فضلاً عن أن النص ارتكز على مرجعية عقائدية تلمودية مهمة في “المدراش”، هي أسطورة “الحاخام عكيفا”، إذ إنه على الرغم من أن تفاصيل الأسطورة لا تظهر بشدة في النص، إلا أنها تتركز في جملة محورية طموحة جريئة غير متوقعة لها سلطة أن يكون الماضي حاضراً في قول “عكيفا” لزوجته “راحيل”، وهو ينزع التبن العالق في شعرها أثناء استلقائهما – نظراً لفقره الشديد – في متبنٍ، قوله: “لو كان الأمر بيدي، كنتُ أعطيتك أورشليم من ذهب”.[37]
تأسيساً على ما سبق، اعتبرت “المغناة التي أدّاها جيش المظليين أيضاً التوليفة الأكثر شمولية للتعاون بين النخب الفنية والعسكرية،”[38] كما اعتبرت ذروة أغاني “حرب الأيام الستة”، والتي يمكن النظر إليها على أنها آلة ثقافية تسترشد قرار الذهاب إلى الحرب، خاصةً أنها صنعت الأحداث المؤدية إلى الحرب حتماً.
ومن ضمن أغاني حرب 1967: “ناصر ينتظر رابين” و”معركة رفح” و”لن نذهب مرة أخرى” لأريك لافي، و”لا أغنيات أخرى” و”بعد البكاء والضحك” ليافا ياركوني، و”مضيق تيران”، “موعد في الاحتياطي”، “لماذا نهتم؟”، “حافظ على روحك عاليةً”. اللافت هنا الانزياحات في قراءة المغناة من قبل متلقين عدّة، فمنهم من قرأها من منظور ديني بحت، ومنهم من اعتبرها ترنيمة علمانية ،خاصةً اليهود خارج الكيان الصهيوني. كما كانت الموئل الأخير والأكثر صيتاً للصهيوني في ملاجئ القدس، إذ كتب أحد القراء إلى صحيفة “دفار” في ذروة الحرب: “لا شك أنّه خلال الحرب ومعاركها، كانت “أوشليم الذهب” السلاح الأكثر فتكاً وفعالية”[39]
أغنية “ناصر ينتظر رابين”
.
أمّا أغنية “كلانا من نفس القرية”[40]، والتي كتبتها وأدّتها نعومي شيمر، فكانت قد كُتبت على إثر الانتصار الصهيوني في حرب الأيام الستة، تحيّةً للجنود الذين قضوا في الحرب، وكمخزون ذاكراتي صهيوني. تقول الأغنية:
كلانا من القرية ذاتها/ الطول ذاته/ تصفيفة الشعر ذاتها/طريقة الحديث ذاتها/ما الذي يمكن البوح به؟ نعم، كلانا من القرية ذاتها/وفي ليالي الجمعة/ عندما يمرّ نسيم لطيف عبر قمم شجرة سوداء/ إنّني أتذكرك/ أتذكّر المعركة التي لم تنتهِ/ فجأةً، رأيتك تسقط/ عندما انبلج الفجر قبالة الجبل/ أحضرتك إلى القرية/أترى، كلانا هنا في القرية/ كل شيء لا يزال على حاله/ إنني أتمشّى في حقل أخضر/ وها أنت وراء السياج.
أغنية “كلانا من نفس القرية”
ثالثاً: كلّها.. أغانِ لـ”أرض إسرائيل”
يمكننا القول إن الأغاني التي تعرَضنا لها أعلاه هي “أغاني أرض إسرائيل” بالمجمل، بيد أنّ مصطلح “أرض إسرائيل” بحدّ ذاته مسكونٌ بمعانِ ومآلات مختلفة، فهو ضمن “المفهوم ضمناً إسرائيلياً” يشير إلى الجغرافيا التي حلّ فيها اليهود منذ العصور القديمة الغابرة، بمعنى الاستمرارية التاريخية. لكن مع ذلك، ليس ثمّة اتفاق بين الصهاينة حول ذلك، إذ إنّ “أرض إسرائيل” وفقًا للنطاق الجغرافي الحديث، تشير إلى مجال الاستيطان الصهيوني في فترتي الحكم العثماني والانتداب البريطاني، لتعود بعد ذلك- بحسب ريجيف- لتكون مرادفاً لـ”دولة إسرائيل”.
إنّنا بذلك أمام تصنيفات سيّالة من الأغاني حول ما تعرف بـ””Folk song، بين “أغاني أرض إسرائيل”- وهو مصطلح تم استخدامه مبكّراً عام 1942 من قبل الملحن يتسحاق أديل- و”الأغاني العبرية” و”الأغاني الإسرائيلية”، “فالأغنية العبرية هي الرمزيّة المبكّرة لــ”الإسرائيلية” خلال فترة اليشوف، والتي كانت تُعرف بـ” Hebrewism”؛”[41] والتي تتضمّن اتصالاً تاريخياً مع الماضي القومي، والنفي الجمالي والمعنوي للمنفى، بمعنى “التغلّب على الخنوع السلبي في المنفى، كتجربة وظرف مادي وحالة كينونة وجودية ووعي، بإثبات أن هذه الجماعة اليهودية هي غير قابلة للاستئصال، وبالتالي هي “أمّة ذات إقليم ترابي”، وفاعل مستقل ذاتياً وتاريخياً لا يعلو عليه شيء.”[42] أمّا الأغنية الإسرائيلية، فهي السيرورة المتقدّمة من الأغنية العبرية بعد تأسيس “الدولة”، والتي تم حشدها من قبل المؤسسة نفسها.
وانطلاقاً من أن الصهيونية تفترض بحكم الواقع تراتبية تعتبر فيها وجود اليهود في “أرض إسرائيل” في ظلّ سيادة يهودية هو ذروة التجربة اليهودية الجماعية، التي تتفوق على تجربة المنفى التي تعتبرها وفق منطق الضرورة غير مكتملة، وأنّ الغد في الأغاني القومية الصهيونية يظلّ يحتفظ بدهشته، بل إنّه مشروط بما افتقدوه في الماضي، وكأنّه شرط جماعي للاندفاع نحو القومية، دون أن تحيكه أنامل كل واحد منهم على انفراد، فإنّ “أغاني أرض إسرائيل” هي في أصلها أغانٍ بمحمول قومي “معبرن” مشتقّة من أنماط شعبية روسية وبولندية ويديشية وأحيانًا فرنسية، مع إيقاعات شرق أوروبية تؤدّى في الاحتفالات وعلى خشبات المسارح وبشكلٍ جماعي شفاهةً “”shirah be-tzibbur، استعادها طليعيو المجتمع اليهودي في أواخر القرن الثاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وبدعم من “الهستدروت” و”الصندوق القومي اليهودي” والكيبوتسات الزراعية، كأحد أشكال “السيرة الجماعية” التي تُبنى من لحظة العدم، وكمعادل موضوعي للقصة المستمدّة من الأرض والحراثة والعمل اليهودي الدؤوب أولاً وأخيراً، والحب غير المشروط للوطن، ونحته من زمنية العهد القديم، قبل أن تحمل الشعلة الفرق الموسيقية التابعة للجيش مثل فرقة نحال، وفرقة القيادة الشمالية، وفرقة القيادة الوسطى (من منتصف العقد الخامس حتى منتصف العقد السابع)، إذ كان يضطلع المجنّدون والمجنّدات بأداء أغانٍ قومية ونشرها ضمن النسق الأيديولوجي لـ”أغاني أرض إسرائيل”، وسنحاول لاحقاً في ورقة منفصلة الإسهاب عن تجربة الجيش في الغناء.
ومن جهة أخرى، وكون المنفى لا يمكن أن يكون تحقيقاً لروح الأمة. فطالما كان محكوماً على اليهود بـ”التيه في المنافي”، فهم أفراد وجماعات، “لم يكن ممكناً لهم في أفضل الأحوال سوى أن يعيشوا حياة جزئية ومؤقّتة، منتظرين خلاص “الصعود” مجدّدًا إلى “أرض إسرائيل” التي هي حصراً المكان الذي يمكن فيه للأمة أن تحقّق قدرها. بذلك، يعيش اليهود المنفيون حياة مؤقتة يكونون فيها صهيونيين محتملين أو سابقين للعودة ودخول التاريخ.”[43]
بذلك، تعدّ هذه الأغاني نوعاً من التحايل على التنظيرات الصهيونية الجامدة، ونمط من الإيجاز والمجاز حول تلك الأخيرة في قالب تبسيطي وشعبوي. ومن الأمثلة على العودة من المنفى أغنية “بلادنا الصغيرة”[44]:
بلادنا الصغيرة/بلادنا الصغيرة/ أرضي، أرضي/ روحي تتوق لك/وطننا الصغير/وطننا الصغير أمي/ أمي الصغيرة تحبين طفلك/ بعد ألفي سنة من المنفى/ عدت إليكَ/ عدت إليكَ/ وطننا الصغير/ وطننا الصغير/ سأخطبك للأبد/للأبد سوف تبقين/ بلادنا….
أغنية “بلادنا الصغيرة” نسخة 1940
من الواضح أن هذه الأغنية التي ظهرت عام 1940، ثم أعيد توسيعها وإحياؤها بعد طيّها عام 1981 على يد يورام تهار- لف والملحّن رامي كلينشتاين، تعتبر إحدى أغاني “أرض إسرائيل” المسكونة بالهاجس الميتافيزيقي واللاتاريخي الذي تميّزت به الهوّية الصهيونية ذات النزعة الحفرية الأسطورية؛ بمعنى أنّها ترجع إلى هويات ما فوق وما قبل تاريخية، وترسّخ بشكل جارف خرافة الحضور التاريخي منذ الأزل لـ”الأمة الإسرائيلية” حصراً، وتحيل إثر ذلك الصراع على أنه صراع ميثولوجي بين العبرانية والكنعانية[45]. كما تنتج بدورها هوّية صهيونية فانتازية أو فلكورية أحياناً بكل ما في الكلمة من معنى، وذلك على الرغم من أن الحقّ التاريخي لا يتحدّد بالضرورة بتشكيل عنصره الإنساني أمّة منذ آلاف السنين أو بدء التاريخ كما تصوّر الصهيونية على الدوام، ورغم كذلك أن الهوّية بحد ذاتها هي” نتاج أيديولوجي سياسي، مصنوعة وليست “مخلوقة”.[46]
أغنية “بلادنا الصغيرة” نسخة 1981
ورغم أن هذه الأغاني تعتبر مرساة الإنشاء للمجتمع الصهيوني و”دولة على الطريق”، بمعنى انفتاحها على “تحويل اليهودي إلى شخص منتج” والذي تطوّر كاستجابةٍ لمفهوم “اليهودي الكاره لذاته”،[47]وأن يكون اليهودي فاعلًا ومفعولاً به ضمن نطاق أمّة في آن؛ مثلما يقول المهندس الصهيوني، يوليوس بوسنر، مكرّراً مقطعاً من أغنية شعبية: “نحن أتينا إلى وطننا الأمّ من أجل أن نبنيه ونُبنى فيه… ما يخلقه اليهودي الجديد بيديه… (هو أيضًا) ما يعيد خلق كينونة ذلك اليهودي”، إلا أنها في الوقت ذاته تقوم على خراب غيرها؛ فتحتكر روايتها عن الأرض كموطئ قومي واجتماعي، وتهشّم رواية الأصلي الفلسطيني وتستملك لسانه، بل لا تضعه في الخلفية حتى أو كظّلٍ له، بل تعتبره كائناً غير مرئي بالتمام، خاصةً أن مثل هذه الأغاني، التي لا تطرح أسئلة سعياً للتفكير والحوار، بل تطرح حتميات وتتضمن دعوة إلى الفعل، وثرثرة كذلك حول جمال الصمت في كل ما يتعلق بالفلسطيني، لا ينتجها فنانون صرف، بل تقف من خلفها المؤسسة بأسرها.
تحوّل الأغنية القومية الحلم الصهيوني إلى واقع حقيقي وهوّية يمكن تعقّبها وذلك عبر آلية تحويل الواقع الفلسطيني إلى أسطورة وخرافة. وهذه بالطبع هي جدلية المحو والإنشاء في أيّ استعمار استيطاني حول العالم، إذ إنّ أصلنة “اليهودي” لا يمكن أن تتمّ إلا بـ”تغريب” الفلسطيني عن أرضه.
وبتعبير لاؤور، فإن الأغنية الوطنية في الكيان الصهيوني تتماهى مع كثيرٍ من الأدب الصهيوني، بمعنى تأثرها كذلك “بحركة الواقعية المتأخّرة، الركيكة، الحركة العكسية لحركة الحداثة، أيّ أنها لا تجيب على تساؤل “ماذا كانت القصة؟”، أو “ما هي الحقيقة؟” لكن “كيف يمكن سردها”،[48] وبالتالي تحويل الصياغة الذاهبة إلى “هكذا ينبغي تذكّر الأشياء” إلى “هكذا أنا أتذكّر الأشياء”؛ بمعنى التحوّل من “الموضوعية” إلى الذاتية العليا التي تمثّلها السلطة، خاصةً أن “الكيان الصهيوني هو مجتمع تم إنتاجه من طرف نخبته، ولهذا فإن قوة الدولة في خلق ذاكرة قومية عظيمة للغاية.”[49] هذه الأغاني كذلك لا تدخل الفلسطيني في القصة كي يتم الإجهاز عليه، بل هو ممحي خارج المشهدية دائماً.
“أغاني أرض إسرائيل” تتأرجح بين الهوية الغنائية “الخفيفة/ Light” والهوية الملأى بالكلمات “Lyrical Song”، على اعتبار أن كثيرًا من مؤلفيها هم شعراء مؤسسون في الأدب الصهيوني، مثل ناتان ألترمان، ونعومي شيمر، ويعقوب أورلاند، وناتان يوناثان، ويهيل مير، وحاييم حيفر، وإيهود مانور، ويورام تهار- لف، ودودو باراك، ومن أشهر الملحنين موشيه فيلنسكي وساشا أرجوف، وذلك للاحتفال بتجربة صهيونية قومية متجدّدة، والمثل العليا للاستيطان الصهيوني في “أرض إسرائيل”. [50].
إنّ “النحن” والهوية الجمعية التي كانت سائدة في هكذا أغانٍ، سرعان ما انسحبت إلى “الأنا” والجيوب الفرادنية، والذي مردّه إلى التحوّل من القيم شبه الاشتراكية إلى القيم الليبرالية الجديدة، وهو ما حوّلها لاحقاً- بحسب ريغيف- من “ folk song” إلى “popular song”. وبعد أن انسحب الحلم الصهيوني من دائرة الاحتمال إلى الواقع بتأسيس “الدولة”، وبات أمام تنوّع إثني وثقافي هائل، “انتقلت بدورها الموسيقى الشعبية من المستوطنات الزراعية إلى المراكز الحضرية، بل كسرت قبضة الصناديق الصهيونية والسهتدروت والجيش والكيبوتسات وحركات الشبيبة الصهيونية عليها، إذ توجّهت إلى صناعة الموسيقى المفتوحة الموجّهة نحو وسائل الإعلام التي يديرها القطاع الخاص.” [51]
اللافت هنا أن هذه الأغاني هي في جلّها عبارة عن استسلام لصورة أبناء الآلهة التي يريد الأشكنازيون احتكارها لأنفسهم، فهي كما تجاهلت وجود الفلسطيني وأثره تماماً، تغاضت عن تمثيلها لليهودي الشرقي لتخفّف من وطأة نسبتها إلى الشرق، وذلك بعد تأسيس “الدولة”، إذ اعتبرت هذه الأغاني بوجه الموسيقى المزراحية “حدوداً ثقافية متنازعاً عليها”، أي أنها كانت في حالة من الصراع والتنافس مع الأغاني المزراحية على أحقيّة تمثيل الصهيونية ومقولاتها التأسيسية. بذلك، تصبح حتى الخطابات والأساطير المؤسسة التي تحملها الأغنية من نفي المنفى، والعودة إلى الأرض والتاريخ، ليست إلا استبطاناً للتمييز على أساس إثني.
لكن هذه الصورة تبدّلت منذ الثمانينات، بعد منح ملك الغناء المزراحي (زوهر أرغوف) الشرعية للغناء المشرقي، تحديدًا بعد وفاته منتحرًا في السجن، إذ دخلت بعض أغانيه صنافية “أغاني أرض إسرائيل” على وقع أدائها في مناسبات الدولة الاحتفالية، خاصةً في ظلال مهرجان “الأغنية العبرية” الذي كانت تنظّمه سلطة الإذاعة والبث الصهيونية، خوفاً من اندثارها وطيّها في ظلّ ظهور جيل الروك الصهيوني الجديد.
لم يكن بطل “أغاني أرض إسرائيل” “مناحم مندل الذي يتجوّل مع بضاعته الحقيرة، ولكنه طليعي عبري يفلح أرضه ويأكل من عرق جبينه، إنه ليس اليهودي المتجوّل الذي ترمقه الشعوب الأخرى باحتقار، لكنه إنسان يلوذ بنفسه عن “بيته ووطنه” ويحرس ممتلكاته بأهدابه ويحارب من أجلها حتى آخر نقطة في دمه. اليهودي المعاصر ليس هو اليهودي المرابي الذي جسّده وليم شكسبير في مسرحيته الشهيرة “تاجر البندقية”؛الباحث عن الرشوة. إنّه عكس صور يهودي الشتات الذي حمل معه صورة المخادع الذي يجلب على نفسه حقد الآخرين. اليهودي المعاصر في تلك الأدبيات تم تصويره على أنه من نبت جديد في صورة مختلفة من يهودي الشتات، إنسان قوي البنية، مفتول العضلات.” [52] فيما لا ضير من أن ينطلق ليلاً بعد التفرّغ من عمله في الأرض، نحو تصفية الهنود الحمر الأعداء أو العرب. ومن ضمن هذه الأغاني:
أغنية الوطن/ الصباح (ناتان ألترمان)[53]
على الجبال، الشمس بالفعل تشتعل/ وفي الوادي الندى لا يزال يضيء/ نحبّك يا وطننا/ مع الفرح والأغنية والعمل الشاقّ/ من منحدرات لبنان حتى البحر الميت/ سوف نبنيك مع المحاريث/ سنغرسك ونبنيك ونجمّلك
إنّها مثال كلاسيكي على “أغاني أرض إسرائيل” في فترة اليشوف. ثمّة مهمة منوطة بها هنا، وهي إنتاج “الإسرائيلي” باعتباره صاحب البلاد في وعيه، ومن خلال محاولة أشد وأدهى، في وعي من لم يطرد، أو أفلح في العودة، أو حاول العودة على اعتبار أن عملية تهويد البلاد بأسرها تضمّنت كلاماً وثرثرة من الطقوس والنصوص والأغاني، وتضمنت الكثير من الصمت من جهة أخرى، فهذه الأغنية التي “كتبها ناتان ألترمان ولحّنها دانيال سامبورسكي عام 1934، والتي ظهرت في فيلم بروباغندي بعنوان “إلى حياة جديدة” بتكليف من “صندوق مؤسسة فلسطين؛ الذراع المالي للمنظمة الصهيونية العالمية”، [54]منوطة بفكرة العمل العبري، والاتساع الجغرافي،مقابل أخذ المحو إلى مداه الأقصى مع الفلسطيني، وكأنّ الأخير لم يمسس الأرض البتّة.
أغنية “الصباح”
من جهة أخرى، ومن واقع أنّ القومية الصهيونية الحديثة تتحوّل إلى الديانة لكي تؤسس نفسها، وتنكر أساسها الديني في الوقت ذاته وتتخيّل نفسها علمانية وحديثة؛ والذي مردّه إلى أنه لا يمكن النظر إلى الديانة والقومية إلّا في سلة واحدة، خصوصاً أن كلتيهما مارستا التهجين والتطهير، وهو ما نجده ماثلاً في المثال أدناه، وذلك على الرغم من أن المنظومة الموسيقية على اختلاف أنماطها واحتكاكاتها الإثنية يتم تصويرها على أنها علمانية في الدرجة الأولى.
أغنية “للسبت”
تعال يا حبيبي لنلبيَ العروس/ دعنا نرحّب بالسبت/ وأبي يرتعش صوته في أغاني السبت/ والحرية تسأل ابنه وابنته/ يُبسط مفرش المائدة وتضاء الشموع/كأنه صدى من الماضي/ تتكرّر الألحان/ فجأةً، امتلأ البيت بتلك الأغاني.
“دعونا نمشي”[55]
مرة أخرى، تضجّ وقع أقدامنا على الطريق/ والوادي ينتشّر بجانبنا/ وترتفع سلسلة الجبال فوقه/ لكنهم فرحون أولئك الذين يمشون معنا/ …. مرّة أخرى انفجرت جيوش الربيع في النقب والجليل/ السماوات البريئة زرقاء مرّةً أخرى/والجوقة على الطريق تشدو الأغنية مرةً تلو الأخرى/ وهم يمشون ويمشون ويمشون!
هذه الأغنية لإيفي نيتزر من نوع السهل الممتنع؛ بل هي عالم بلا فواصل أو وساطات بين الأرض والصهيوني وبدون خواتيم كذلك لهذا الفعل، فانطلاقاً من فكرة “تجوّل في الأرض تتملّكها وتتملكك”، وعلى اعتبار كذلك أن الأرض مكان اجتماعي وتفاعلي وليس أصمَ، تأتي الأغنية في سياق طقوسي مؤسسي للأنشطة التعليمية والترفيهية الصهيونية: التجوّل في “أرض إسرائيل” سيراً على الأقدام في مجموعات منظمّة (الرحلات المدرسية، حركات الشبيبة، وحدات الجيش، الجولات التي ترعاها جمعية الحفاظ على الطبيعة)، والتي مردّها إلى سياسة “معرفة الأرض” التي تعود طقوسها إلى العقد الثاني من القرن العشرين، والتي لا تزال موئلاً أساسياً للتربية الوطنية الصهيونية مع تقادم الزمن والجيل.
لحن الأغنية ينساب بوتيرة قوية، “لارتباطه الوثيق مع “هوارا” والرقص الشعبي الوطني الإسرائيلي”[56]. إن “الإطلال على المكان وتعريفه- كمشهد “نوف”- ممارسة استعمارية تقليدية، ترتبط بهوس السيطرة على المكان وترويضه، وكأنّ ما يقع تحت البصر يخضع فعلياً للناظر”،[57] بما في ذلك إعادة بناء الرواية الصهيونية ماديًا (المتاحف والنصب التذكارية، وقرية الفنانين في عين حوض،…). نتيجة ذلك اندفع عزمي بشارة للقول إن “الذاكرة الجماعية المهزومة تترك خيارين للمهزوم، فإما العودة إلى القرية التي لن تعود أبدًا، أو الانضمام إلى مدينة المنتصرين كهامش لا، كمحمية من محمياتها، لتصبح بديل المدينة العربية المريفة والرافضة للفلسطينيين ورفضها لبقية العرب، المدينة الإسرائيلية التي تقبل الفلسطينيين على هامشها وليس في داخله.”[58]
صعود معارضة موسيقية، والخاتمة
إن الثقافة الصهيونية لا يمكن أن تحيلنا إلى معنى الرتابة والجمود، بل تظل محمولة على فكرة التبدّل والتطوّر وفقًا للسياق والظرف؛ بيد أن ثمّة ثابتاً ومتحوّلاً هنا. “الثابت هي بنية الدولة ومشروعها القومي- استعماري، والمتحوّل الذي يحيل إلى القضايا غير المحسومة القائمة في لبّ النقاشات السياسية اليومية.”[59]
من بين هذه القضايا بنظري هي تمثّل الصراع الإثني الداخلي في ثقافة الدولة في ظلّ الانزياح نحو اليمين و”شرقنة” الصهيونية، وحدود الهوية والمواطنة بالنسبة للفلسطيني في الداخل. وبما أن الثابت هنا يرتبط بكل ما يمكن له أن يعزّز يهودية الدولة، و”قومنتها” الفاشية، فإن أغاني “أرض إسرائيل” تظلّ تدور في فلك الثابت، بل تتحوّل إلى رمز مفتاحي في ثقافة الدولة، بما يضمن بقاءها واستمرارها في التأثير والوعي لفترة طويلة، إذ تبقى على توأمة تأمة مع الدولة من واقع أدائها في جميع الاحتفالات الرسمية والمراسم التذكّرية، والاتئلاف الجارف بين الفن والسياسة والعسكرة كذلك.
لكن يبقى المحكّ هنا هو واقع أفولها خاصةً بعد الثمانينات، أي أنّها تحوّلت من جو يومي في فترة اليشوف والباكورة الزمنية لتأسيس “الدولة”، ومن كونها مرتبطة بمأساة وملهاة في آن، وكذلك فيما يطلق عليها ريجيف الفترة الكلاسيكية أو الذهبية 1920- 1960، إلى ما يشبه طقس احتفالي مجتزأ ومرتبط بيوم بعينه في هذه الأيام.
ربما مردّ ذلك يعود إلى أن تلك الفترة كانت ملأى بالتحديات والهواجس القومية، بل إنّها كانت في طور البناء والحشد، خاصةً أنها أضاءت على ثيمة الزراعة وحب الأرض والعودة من المنفى، لتدخل لاحقًا طور الحديث عن الذاكرة والبطولة إبان المعارك والحروب مع الفلسطينيين. أمّا اليوم، فتبدو هذه المسألة وكأنّها مفروغ من أمرها، روتينية في مجراها، ما استدعى بالمقابل صعود “الإسرائيلية المعولمة”، بمعنى انفتاح الموسيقى الصهيونية بشكل جارف على البوك والروك في منحاه العالمي، والبعيد عن موضوعات جامدة كالقومية.
توازياً مع ذلك، ثمّة صعودٌ لموسيقى تحمل بياناً سياسياً معارضاً، مثل أستار شامير التي غنّت عام 2003 “بعد مجموعات الشمس” التي كتبت فيها: “ربما ستغني أغنية سلام / بصوت قوي ورائع / ربما ستغني أغنية اليوم في حين أن ثمّة إطلاقاً للنار … هل لدينا جنة لأطفالنا / أو سوف نترك لهم الجحيم”، وكانت هذه الأغنية بمثابة رسالة اعتراض إلى النخبة السياسية في الدولة، والتي أدّت كذلك أغنية “لا تنسَ” على وقع مجزرة صبرا وشاتيلا للاجئين.
وكذلك شلومو أرتسي الذي كتب أغنية “أرض جديدة”، ومن ضمن كلماتها “لدينا أرض، لماذا نريد أخرى؟”. كما استعار فريق “تيبيكس” أغنية حاييم حيفر “أيام أخرى”، مع تحديث الكلمات على هذا النحو: “سنرى الأيام الأخرى مرة أخرى / المهاجرون المتسلقون من الوادي سينحدرون من التلال/ سنذهب إليهم مرة أخرى / من الملاجئ و الحقول السوداء / سوف نذهب على العكازات، من الأضواء المسببة للعمى / من هوائيات الحرب/ الغناء مثل ألف الطيور”. [60] وربما مقولة كوبي عوز تختزّل كل ما سبق: “لا يمكنك الهروب من الواقع. أعتقد أن الناس يبحثون عن وسيلة للهروب، ولكنهم سوف يبحثون أيضا عن الأمور التي تتعلق بالشؤون الجارية. بين المسلسلات، الناس يريدون سماع الأخبار، والموسيقى يمكن أن تساعدهم على هضم ذلك، وتمرير الرسائل. تيبكس هو السعادة أيضا، ولكنها سعادة تنبع من اليأس”.
إذًّا، هو يأس وخذلان كبير تعكسه الموسيقى تبعاً للحالة اليوم، وهي تتجه نحو التخفيف من حديّة الطرح وراديكاليته بخصوص إقصاء “الآخر” تماماً. لكنها مع ذلك، تبقى قوقعة نقدية محصورة في طبقة بعينها، وإن باتت تتجرأ على إخراج الاغتراب عن صورة الجندي “البطل” قليلاً، وتذريرها على السطح على هيئة “قاتل”، مثل أغنية “أخٌ آخر” لفرقة HaDag Nachash ، إذ تقول الأغنية: “يا رجل، لماذا قلبك باردٌ كالجليد؟/ هل تتلذذ بكونك قاتلًا؟ /الآذان تنصت لتهديداتك/ لماذا تتحدّت على هذا النحو؟/ أنا أخوك يا رجل!”.[61] هذه الأغاني النقدية لا تلغي بتاتاً كل الادعاءات التي تفرضها الأغنية القومية بالمجمل، والتي تستوجب منا النظر إليها كمحمول استعماري جارف، لا مادّة فنية محايدة أو عفوية. إنها جمال الصمت المطلق بخصوص الفلسطيني!
———————————————————————
الهوامش:
[1] Philip Bohlman, “Musicology as a Political Act,” The Journal of Musicology 11:4 (1993): 411-436.
[2] Edwin Serousii, “Music of Israel: Its Ethnic and Classical Modes”, http://hbjk.sbg.ac.at/kapitel/music-of-israel-its-ethnic-and-classical-modes/
[3] لاؤور، يتسحاق. 2002، “اللغة الممزقة”، ضمن كتاب “ذاكرة، دولة، وهوية”، إعداد وترجمة: أنطوان شلحت، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، ص 93
[4] معركة باب الواد، http://www.marefa.org/%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A8%D8%A7%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D8%AF
[5] Inspiring words, “Bab El- Wad”, http://www.jpost.com/Local-Israel/In-Jerusalem/Inspiring-words-Bab-el-Wad
[6] ياهاف، دان. “ما أروع هذه الحرب، نصوص ورموز عسكرية ظاهرة ومبطّنة في الأدب الإسرائيلي”، رام الله: مدار، ص 15
[7] نفس المصدر السابق، ص 84
[8] رام، أوري. 2002، “الذاكرة والهوية: سوسيولوجيا نقاش المؤرخين في إسرائيل”، ضمن كتاب: “ذاكرة، دولة وهوية”، إعداد وترجمة: أنطوان شلحت، رام الله: مدار، ص 29
[9] حيفر، حنان. 2015، “حاييم غوري محدّقًا”، مجلة “قضايا إسرائيلية”، رام الله: مدار، العدد 60، ص 37
[10] نفس المصدر السابق، ص 38
[11] الشيخ بدوي، زين العابدين. 2010، “الصراع العربي الإسرائيلي في الشعر العبري المعاصر حتى نهاية الموجة الواقعية”، عمان: مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، ص 231
[12] نفس المصدر السابق، ص 232
[13] حيفر، حنان. مصدر سابق، ص 41
[14] الشيخ، بدوي، زين العابدين. مصدر سابق، ص 230
[15] Drozdzewski, Danielle. De Nardi, Sarah. Seroussi, Edwin. 2016, “Memory, Place and Identity: Commemoration and Remembrance of War and Conflict”, New York: Routledge, PP. 77
[16]Bab El-Wad remembers us for eternity, https://www.eretz.com/wordpress/blog/2017/04/19/bab-el-wad-remember-us-for-eternity/
[17] لاؤور، يتسحاق، مصدر سابق. ص 102
[18] Regev, Motti and Seroussi, Edwin. 2004, “Popualr Music and National Culture in Israel”, Berkeley, Los Angeles, London. University of California, PP.50
[19]Ibid, PP.49
[20]ترجمة الباحثة عن: אחי הצעיר יהודה, http://shironet.mako.co.il/artist?type=lyrics&lang=1&prfid=58&wrkid=139
[21] אחי הצעיר יהודה https://he.wikipedia.org/wiki/%D7%90%D7%97%D7%99_%D7%94%D7%A6%D7%A2%D7%99%D7%A8_%D7%99%D7%94%D7%95%D7%93%D7%94
[22] http://shironet.mako.co.il/html/indexes/works/106.html
[23] الشيخ بدوي، زين العابدين. ص 220
[24] ترجمة مغناة قدس الذهب عن موقع “باب الواد”
[25] مهيدات، نهال. 2013، “القدس في الخطاب الشعري العربي والخطاب الشعري العبري الحديث 1967-2012″، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 100
[26] سعيد، إدوارد. الطبعة الرابعة 2014، “الثقافة والإمبريالية”، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع، ص 58
[27] נעמי שמר, כל השירים,כל המלים והמנגינות מאת נעמי שמר, נדפס בדפוס גרפולים, תל אביב, מספר השיר: 40 , ירושלים של דהב
[28] مهيدات، نهال. مصدر سابق، ص 104
[29] نفس المرجع السابق، ص 104
[30] نفس المرجع السابق، ص 60
[31] الزووي بغورة. 2001، “مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو”، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص 70
[32] Spagndo, Francesco, “A song of land, a song of war and a song of otherness: Jerusalem of gold”, 13 Oct.,2013, https://musicinisrael.wordpress.com/2013/10/13/a-song-of-the-land-of-israel-a-song-of-war-and-a-song-of-otherness-jerusalem-of-gold/
[33] [33] Regev, Motti and Seroussi, Ibid, PP.117
[34] https://www.babelwad.com/the-zionist-song-jerusalem-of-gold/ عن مغناة قدس الذهب
[35] Gavriely-Nuri, Dalia. Summer 2007, “The social construction of Jerusalem as Israel unofficial anthem”, Israel Studies, vol 12, No 2: Indiana University press, PP 102- 120
[36] Zion, wilt thou not ask if peace’s wing Shadows the captives that ensue thy peace.” Translation at http://en.wikipedia.org/wiki/Yehuda Halevi
[37] مهيدات، نهال. مصدر سابق، ص 99.
[38] Gavriely-Nuri, Dalia, Ibid, PP 104- 120
[39] Ibid, PP 104- 120
[40] ترجمة الباحثة عن موقع http://shironet.mako.co.il
[41] Regev, Motti and Seroussi, Ibid, PP.50
[42] بيتربيرغ، غابرييل. 2009، “المفاهيم الصهيونية للعودة: أساطير وسياسات ودراسات إسرائيلية”، ترجمة: سلافة حجاوي، رام الله: مدار، ص 120-121
[43] بيتربرغ، غابرييل، مرجع سابق. ص 120
[44] ترجمة الباحثة عن موقع http://shironet.mako.co.il
[45] الشيخ، عبد الرحيم. 2013، “التجمعات الفلسطينية وتمثلاتها ومستقبل القضية الفلسطينية”، رام الله: مركز مسارات، ص 81
[46] أندرسون، بندكت، ترجمة محمد الشرقاوي. 1999، “الجماعات المتخيّلة”، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة
[47] Wolf, Patrick. 2006, “Settler colonialism and the elimination of native”, Journal of Genocide Research, Vol 8, No 4, PP 387-409
[48] لاؤور، يتسحاق. مرجع سابق، ص 91
[49] نفس المرجع السابق، ص 91
[50] Regev, Motti and Seroussi, Ibid, PP. 57
[51] Ibid,PP. 59
[52] الشيخ بدوي، زين العابدين، مرجع سابق. ص131-132
[53] ترجمة الباحثة عن موقع http://shironet.mako.co.il
[54] Regev, Motti and Seroussi, Ibid, PP. 57- 58
[55] ترجمة الباحثة عن المرجع السابق، ص 62
[56] Ibid, PP 62
[57] عملية القدس: الزمن، السرعة، المسافة. 11.1.2017، https://www.babelwad.com/ar/jabal-al-mukabber
[58] بشارة، عزمي. 2003، “طروحات عن النهضة المعاقة”، رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية “مواطن”، ص 160
[59] غانم، هنيدة. 2017، “من العنف المؤسس إلى العنف الحافظ”، مجلة قضايا إسرائيلية، رام الله: مدار، العدد 65، ص 77
[60] Berzon, Corinne. Dec, 2014, “Love and song in the shadow of war and peace”, http://www.thetower.org/article/love-and-song-in-the-shadow-of-war/
[61] Ibid, http://www.thetower.org/article/love-and-song-in-the-shadow-of-war/